موسوعة التفسير

سُورةُ القَمَرِ
الآيات (18-22)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ

غريب الكلمات:

صَرْصَرًا: أي: شَديدةَ البَردِ والصَّوتِ، والصَّرصَرُ: الرِّيحُ العاصِفةُ الَّتي يكونُ لها صَرصَرةٌ، أي: دَوِيٌّ في هُبوبِها؛ مِن شِدَّةِ سُرعةِ تنقُّلِها، والتَّضعيفُ فيه للمُبالَغةِ في شِدَّتِها، مأخوذٌ مِن الصِّرِّ: وهو البَردُ الَّذي يَصُرُّ، أي: يَجمَعُ ويَقبِضُ [193] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 388)، ((تفسير ابن جرير)) (20/397-399)، ((المفردات)) للراغب (ص: 482)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 368). .
نَحْسٍ: أي: شُؤْمٍ وشَرٍّ، وأصلُه يدُلُّ على خِلافِ السَّعدِ [194] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 432)، ((تفسير ابن جرير)) (10/278)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 467)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/401). .
تَنْزِعُ النَّاسَ: أي: تقلَعُهم مِن مَواضعِهم، ونَزَعَ الشَّيءَ: جَذَبه مِن مقرِّه، وأصلُ (نزع): يدُلُّ على قَلْعِ شَيءٍ [195] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 433)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/415)، ((تفسير السمعاني)) (5/312)، ((المفردات)) للراغب (ص: 798). .
أَعْجَازُ: أي: أُصولُ، وأصلُ (عجز) هنا: يدُلُّ على مُؤَخَّرِ الشَّيءِ [196] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 433)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/232)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 380)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 398)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 151). .
مُنْقَعِرٍ: أي: مُنقَطِعٍ مِن أصولِه، ساقِطٍ على الأرضِ، يُقالُ: قَعَرتُ النَّخلةَ: إذا قلَعْتَها مِن أصْلِها حتَّى تَسقُطَ، وقَعرُ الشَّيءِ: نِهايةُ أسفَلِه [197] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 433)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 82)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/109)، ((البسيط)) للواحدي (21/105)، ((المفردات)) للراغب (ص: 679)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 380). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا موقفَ عادٍ مِن نبيِّهم هودٍ عليه السَّلامُ، وما نزَل بهم مِن العِقابِ: كذَّبت عادٌ رَسولَهم هُودًا، فكيف كان عذابي لهم؟ وكيف كان إنذاري بتلك العُقوبةِ مَن نَهَج نَهْجَهم؟! إنَّا بَعَثْنا عليهم رِيحًا بارِدةً شَديدةَ الهُبوبِ، في يَومِ شُؤمٍ مُستَمِرٍّ بهم عَذابُه، تَقتَلِعُ تلك الرِّيحُ كُفَّارَ عادٍ، فتَرْفعُهم، ثمَّ تَرْمي بهم وتَطرحُهم إلى الأرضِ فتَصرَعُهم، فتَذَرُهم بعدَ هَلاكِهم كأنَّهم أُصولُ نَخلٍ مُنقَلِعٍ مِن أصلِه! فكيف كان عذابي لهم؟ وكيف كان إنذاري؟!
 ثمَّ ختَم الله تعالى هذه القصَّةَ بالدَّعوةِ إلى الاعتِبارِ بالقرآنِ وما فيه مِن قصصٍ وعِبَرٍ إلى غيرِ ذلك، فقال: ولقد سهَّلْنا القُرآنَ للتَّذَكُّرِ به، والاتِّعاظِ، فهل مِن مُتذَكِّرٍ؟

تفسير الآيات:

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا انقَضَت قِصَّةُ نوحٍ عليه السَّلامُ على هذا الهَولِ العَظيمِ؛ ذَكَر قِصَّةَ عادٍ؛ لأنَّها أعظَمُ قِصَّةٍ جَرَتْ بعدَ قَومِ نُوحٍ فيما تَعرِفُه العَرَبُ [198] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/146). .
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18).
أي: كذَّبت قَبيلةُ عادٍ رَسولَهم هُودًا، فكيف كان عذابي لهم جزاءَ تَكذيبِهم؟ وكيف كان إنذاري [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/132)، ((تفسير ابن كثير)) (7/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 826). قال ابن عثيمين: (الجوابُ: كان شَديدًا عَظيمًا واقِعًا مَوقِعَه؛ فالاستِفهامُ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ والتَّقريرِ، وهو أنَّ عذابَ اللهِ كان عظيمًا، وكان واقِعًا مَوقِعَه، وَنُذُرِ يعني: آياتِه، كذلك كانت عَظيمةً واقِعةً مَوقِعَها). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 274). ؟
كما قال تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هود: 59] .
وقال سُبحانَه: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] .
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19).
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا.
أي: إنَّا بَعَثْنا عليهم حينَ أصَرُّوا على كُفرِهم رِيحًا بارِدةً شَديدةَ الهُبوبِ، لِصَوتِها صَريرٌ [200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/132)، ((تفسير القرطبي)) (17/135)، ((تفسير ابن كثير)) (7/479). .
فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ.
أي: في يَومِ شُؤمٍ وشَرٍّ دائمٍ على عادٍ، استمرَّ عليهم بنُحوسِه [201] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/135)، ((تفسير الشوكاني)) (5/150)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/192). قال ابنُ القيِّم: (كان اليَومُ نَحسًا عليهم؛ لإرسالِ العَذابِ عليهم، أي: لا يُقلِعُ عنهم كما تُقلِعُ مَصائِبُ الدُّنيا عن أهلِها، بل هذا النَّحسُ دائِمٌ على هؤلاء المكَذِّبينَ للرُّسُلِ، و مُسْتَمِرٍّ صِفةٌ للنَّحسِ لا لليَومِ، ومَن ظَنَّ أنَّه صِفةٌ لليَومِ، وأنَّه كان يومَ أربِعاءَ آخِرَ الشَّهرِ، وأنَّ هذا اليومَ نَحسٌ أبدًا؛ فقد غَلِطَ، وأخطأَ فَهْمَ القُرآنِ؛ فإنَّ اليومَ المذكورَ بحَسَبِ ما يقَعُ فيه، وكم للهِ مِن نِعمةٍ على أوليائِه في هذا اليَومِ، وإن كان له فيه بلايا ونِقَمٌ على أعدائِه! كما يقَعُ ذلك في غيرِه مِن الأيَّامِ). ((مفتاح دار السعادة)) (2/194). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/216)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (1/299). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: مُسْتَمِرٍّ: أنَّ العذابَ استمَرَّ عليهم في الدنُّيا سَبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّامٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السمعاني، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 826)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/192). وقيل: المرادُ بالاستِمرارِ: اتِّصالُ عَذابِهم الدُّنيويِّ بالأُخْرويِّ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، وابن كثير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/135)، ((تفسير ابن كثير)) (7/479)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/18). قال البِقاعي: (وحَقَّق -لأنَّ المرادَ باليَومِ الِجنسُ لا الواحِدُ- بالوَصفِ، فقال: مُسْتَمِرٍّ). ((نظم الدرر)) (19/115). وقال ابنُ عاشور: (أُريدَ بـ يَوْمِ نَحْسٍ أوَّلُ أيَّامِ الرِّيحِ الَّتي أُرسِلَت على عادٍ؛ إذ كانت سَبعةَ أيَّامٍ... والنَّحسُ: سوءُ الحالِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/192). .
كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [فصلت: 16] .
وقال سُبحانَه: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة: 7] .
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20).
أي: تَقتَلِعُ الرِّيحُ كُفَّارَ عادٍ بعُنفٍ وشِدَّةٍ، فتَرْفعُهم ثمَّ تَرْمي بهم وتَطرَحُهم إلى الأرضِ فتَصرَعُهم، وتكونُ جُثَثُهم بعدَ هَلاكِهم مِثلَ أُصولِ نَخلٍ مُنقَلِعٍ مِن مَنْبِتِه [202] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/135، 138)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/89)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1047)، ((تفسير ابن عطية)) (5/216)، ((تفسير القرطبي)) (17/136)، ((تفسير ابن كثير)) (7/479)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/115، 116)، ((تفسير السعدي)) (ص: 826)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/193، 194)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/507)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 275). قال ابن جُزَي: (شبَّهَ اللهُ عادًا لَمَّا هلَكوا بذلك؛ لأنَّهم طِوالٌ عِظامُ الأجسادِ كالنَّخلِ. وقيل: كانت الرِّيحُ تَقطَعُ رؤوسَهم، فتبقى أجسادًا بلا رُؤوسٍ، فشبَّههم بأعجازِ النَّخلِ؛ لأنَّها دونَ أغصانٍ. وقيل: كانوا حفَروا حُفَرًا يَمتَنِعون بها مِن الرِّيحِ، فهلَكوا فيها، فشبَّههم بأعجازِ النَّخلِ إذا كانت في حُفَرِها). ((تفسير ابن جزي)) (2/324). وقال الواحدي: (شَبَّههم في طولِ قاماتِهم حينَ صَرَعتْهم الرِّيحُ وكَبَّتْهم على وُجوهِهم، بالنَّخيلِ السَّاقِطةِ على الأرضِ الَّتي ليست لها رُؤوسٌ؛ وذلك أنَّ الرِّيحَ قَلَعت رُؤوسَهم أوَّلًا، ثمَّ كَبَّتْهم على وُجوهِهم!). ((الوسيط)) (4/210). وقال الرَّسْعَني: (كَأَنَّهُمْ وقد بانتْ رُؤوسُهم عن أجسادِهم، أو مالَتْ على أكتافِهم، صَرْعَى على الأرضِ، وهم جُثَثٌ طِوالٌ عِظامٌ أَعْجَازُ نَخْلٍ قُطعتْ فُروعُها مُنْقَعِرٍ مُنقلِعٍ عن مَغارِسِها). ((تفسير الرسعني)) (7/522). !
كما قال تعالى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة: 7] .
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21).
أي: فكيف كان عَذابي لعادٍ على كُفرِهم؟ وكيف كان إنذاري [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/139)، ((الهداية)) لمكي (11/7190)، ((الوسيط)) للواحدي (4/209)، ((تفسير ابن عطية)) (5/215)، ((تفسير القرطبي)) (17/133)، ((تفسير ابن كثير)) (7/478). ؟!
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22).
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ.
أي: ولقد سهَّلْنا القُرآنَ للتَّذَكُّرِ به، وحُصولِ الفَهمِ والاتِّعاظِ به [204] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 432)، ((تفسير ابن جرير)) (22/139)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1047)، ((تفسير ابن عطية)) (5/215)، ((تفسير القرطبي)) (17/134)، ((تفسير ابن كثير)) (7/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/189، 190)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 273، 276). .
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
أي: فهل مِن مُتذَكِّرٍ؛ فيَتَّعِظَ ويَعتَبِرَ بما في القُرآنِ الكريمِ [205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/139)، ((تفسير القرطبي)) (17/134)، ((تفسير ابن كثير)) (7/478). ؟

الفوائد التربوية:

قَولُه تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَرَّرَ اللهُ تعالى هذا عندَ آخرِ كلِّ قصَّةٍ؛ مِن أجْلِ أنْ نَحرِصَ على التَّذكُّرِ بالقُرآنِ، وتدبُّرِ القُرآنِ، وتفَهُّمِ القُرآنِ؛ لأنه مُيَسَّرٌ، والجملةُ مؤكَّدةٌ بمؤكِّداتٍ ثلاثةٍ: القَسَمِ، واللَّامِ، و«قد»؛ ممَّا يدُلُّ على التَّرغيبِ في تَذَكُّرِ القُرآنِ، والتَّذَكُّرِ به، فهل مِن مُدَّكِرٍ [206] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 276). ؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ سؤالٌ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: «فكَذَّبوا هُودًا»، كما قال تعالى في قِصَّةِ نُوحٍ: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا [القمر: 9]؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ تَكذيبَ قَومِ نُوحٍ أبلَغُ؛ لِطُولِ مُقامِه فيهم، وكَثرةِ عِنادِهم.
الثَّاني: أنَّ قِصَّةَ عادٍ ذُكِرَت مُختَصَرةً [207] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/301)، ((تفسير ابن عادل)) (18/254)، ((تفسير الشربيني)) (4/146). .
2- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ أنَّ قَولَ: «هذا يومُ النَّحْسِ» لا بأسَ به إذا لم يُقصَدِ السَّبُّ والعَيبُ، وإنَّما قُصِدَ الإخبارُ [208] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/682). .
3- في قَولِه تعالى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ إضافةُ اليَومِ إلى النَّحْسِ باعتِبارِ المنحوسِ؛ فهو يومُ نَحسٍ للمُعَذَّبينَ، ويَومُ نَصرٍ للمُؤمِنينَ، ومَصائِبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُ، وليس في الأيَّامِ يَومٌ يُوصَفُ بنَحسٍ أو بسَعْدٍ؛ لأنَّ كُلَّ يَومٍ تَحدُثُ فيه نُحوسٌ لِقَومٍ وسُعُودٌ لآخَرِينَ، وما يُروَى مِن أخبارٍ في تعيينِ بَعضِ أيَّامِ السَّنةِ للنَّحسِ هو مِن أغلاطِ القَصَّاصِينَ! فلا يُلْقي المُسلِمُ الحَقُّ إليها سَمْعَه. واشتَهَر بيْنَ كثيرٍ مِن المُسلِمينَ التَّشاؤُمُ بيَومِ الأربِعاءِ، وأصلُ ذلك انجَرَّ لهم مِن عقائِدِ مَجوسِ الفُرسِ، ويُسَمُّونَ الأربِعاءَ الَّتي في آخِرِ الشَّهرِ: «الأربِعاءَ الَّتي لا تَدورُ» أي: لا تعودُ، أرادوا بهذا الوَصفِ ضبْطَ مَعنَى كَونِها آخِرَ الشَّهرِ؛ لئَلَّا يُظَنَّ أنَّه جَميعُ النِّصفِ الأخيرِ منه، وإلَّا فأيَّةُ مُناسَبةٍ بيْن عَدَمِ الدَّوَرانِ وبيْن الشُّؤمِ؟! وما مِن يَومٍ إلَّا وهو يقَعُ في الأُسبوعِ الأخيرِ مِنَ الشَّهرِ، ولا يدورُ في ذلك الشَّهرِ [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/192). ! فسُعُودُ الأيَّامِ ونُحوسُها إنَّما هو بسُعُودِ الأعمالِ ومُوافَقتِها لِمَرضاةِ الرَّبِّ تعالى، ونُحوسُ الأعمالِ مُخالَفتُها لِمَا جاءتْ به الرُّسُلُ، واليومُ الواحِدُ يكونُ يومَ سَعدٍ لطائفةٍ، ونَحْسٍ لطائفةٍ، كما كان يَومُ بدرٍ يومَ سَعْدٍ للمُؤمِنينَ، ويَومَ نَحْسٍ على الكافِرينَ [210] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/194). ، فمَن أرادَ أنْ يعرِفَ النَّحسَ والشُّؤمَ والنَّكدَ والبَلاءَ والشَّقاءَ على الحقيقةِ، فليتحقَّقْ أنَّ ذلك كلَّه في معصيةِ الله، وعدمِ امتثالِ أمرِه [211] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/19). .
4- دَلَّ قَولُه تعالى: نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ على أنَّه سُبحانَه أبادهم؛ إذ لو نَجَوا لَما كان النَّحسُ مُستَمِرًّا [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/193). .
5- في قَولِه تعالى: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أنَّ الرِّيحَ تَنزِعُهم بعُنفٍ كأنَّهم أعجازُ نَخلٍ مُنقَعِرٍ، فيَنقَعِرونَ! وهذا إشارةٌ إلى عِظَمِ أجسادِهم، أو إلى ثَباتِهم في الأرضِ، فكأنَّهم كانوا يَجعَلونَ أرجُلَهم في الأرضِ، ويَقصِدونَ المَنْعَ به على الرِّيحِ [213] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/304)، ((تفسير ابن عادل)) (18/257). !
6- في قَولِه تعالى: عَذَابِي وَنُذُرِ لطيفةٌ: في أنَّه لو قال القائِلُ: أكثَرُ المفَسِّرينَ على أنَّ «النُّذُر» في هذا الموضِعِ جَمعُ «نَذيرٍ» الَّذي هو مَصدَرٌ معناه: «إنذارٌ»، فما الحِكمةُ في توحيدِ العَذابِ؛ حيثُ لم يَقُلْ: «فكيف كان أنواعُ عذابي، ووَبالُ إنذاري»؟
 الجوابُ: فيه إشارةٌ إلى غَلَبةِ الرَّحمةِ للغَضَبِ؛ وذلك لأنَّ الإنذارَ إشفاقٌ ورَحمةٌ، فقال: الإنذاراتُ الَّتي هي نِعَمٌ ورَحمةٌ تواتَرَت، فلمَّا لم تَنفَعْ وَقَع العذابُ دَفعةً واحِدةً؛ فكانت النِّعَمُ كَثيرةً، والنِّقمةُ واحِدةً [214] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/305). .
7- يُستفادُ مِن تَكرارِ قَولِه تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فائِدتانِ:
الأُولى: رَحمةُ اللهِ بعِبادِه، وعِنايتُه بهم؛ حيث دعاهم إلى ما يُصلِحُ دُنياهم وأُخراهم [215] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 826). .
الثَّانيةُ: الإيذانُ بأنَّ تيسيرَ القُرآنِ -مع إعجازِه- لا يكونُ إلَّا بعَظَمةٍ تَفُوتُ قُوى البَشَرِ، وتَعجِزُ عنها منهم القُدَرُ [216] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/116)، ((تفسير الشربيني)) (4/147). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ مَوقعُ هذه الجُملةِ كمَوقعِ جُملةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: 9]؛ فكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ تُعطَفَ عليها، وإنَّما فُصِلَتْ عنها؛ ليَكونَ في الكلامِ تَكريرُ التَّوبيخِ والتَّهديدِ والنَّعْيِ عليهم عقِبَ قولِه: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 4، 5]، ومَقامُ التَّوبيخِ والنَّعْيِ يَقْتضي التَّكريرَ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/191). .
- قولُه: كَذَّبَتْ عَادٌ أي: كذَّبَت رَسولَها هودًا عليه السَّلامُ، ولم يُتعرَّضْ لكَيفيَّةِ تَكذيبِهم له؛ رَوْمًا للاختِصارِ، ومُسارَعةً إلى بَيانِ ما فيه الازدجارُ [218] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/170). .
- وفي مَفعولِ كَذَّبَتْ المَحذوفِ إشعارٌ برَسولِهم الَّذي كذَّبوه، وبعْثُ الرَّسولِ وتَكذيبُهم إيَّاه يَتضمَّنُ الإنذارَ؛ لأنَّهم لَمَّا كذَّبوه حقَّ عليه إنذارُهم [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/192). .
- والحُكْمُ على عادٍ بالتَّكذيبِ عُمومٌ عُرْفيٌّ، بِناءً على أنَّ مُعظَمَهم كذَّبوه، وما آمَنَ به إلَّا نفَرٌ قليلٌ؛ قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/191). [هود: 58].
- ولَمَّا كانت عادٌ عَلَمًا لقَومِ هُودٍ، ذُكِرَ العَلَمُ؛ لأنَّه أبلَغُ في الذِّكرِ مِن التَّعريفِ بالإضافةِ [221] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/301)، ((تفسير أبي حيان)) (10/41). .
- وفُرِّعَ على التَّذكيرِ بتَكذيبِ عادٍ قولُه: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ قبْلَ أنْ يُذكَرَ في الكلامِ ما يُشعِرُ بأنَّ اللهَ عذَّبَهم، فضْلًا عن وصْفِ عَذابِهم، فالاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّشويقِ للخبَرِ الواردِ بعْدَه؛ لأنَّ الاستِفهامَ يَستلزِمُ طلَبَ الجوابِ، والجوابُ يَتوقَّفُ على صِفةِ العَذابِ، وهي لَمَّا تُذكَرْ. وهو أيضًا مُكنًّى به عن تَهويلِ ذلك العذابِ. وفي هذا الاستِفهامِ إجمالٌ لحالِ العَذابِ، وهو إجمالٌ يَزيدُ التَّشويقَ إلى ما يُبيِّنُه بعْدَه مِن قولِه: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا الآيةَ [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/191). .
- قولُه: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ قيل: هو لتَوجيهِ قُلوبِ السَّامِعينَ نحْوَ الإصْغاءِ إلى ما يُلْقى إليهم قبْلَ ذِكرِه، لا لتَهويلِه وتَعظيمِه وتَعجيبِهم مِن حالِه بعْدَ بَيانِه كما قَبْلَه وما بَعْدَه؛ كأنَّه قِيلَ: كذَّبتْ عادٌ، فهلْ سمِعْتُم -أو فاسْمَعُوا- كيفَ كان عذابي وإنْذاراتي لهم [223] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/170). ؟ وقيل: هو للتَّهويلِ؛ لغَرابةِ ما عُذِّبوا به مِن الرِّيحِ، وانفِرادِه بهذا النَّوعِ مِن العَذابِ [224] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/84). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الشوكاني)) (5/149). .
- وهذه ليست تكريرًا لنَظيرِها السَّابِقِ في خَبَرِ قَومِ نُوحٍ، ولا اللَّاحِقِ في آخِرِ قِصَّةِ عادٍ؛ للاختِلافِ بيْنَ مُفادِها ومُفادِ مُماثِلَتِها وإن اتَّحَدَت ألفاظُهما. والبَليغُ يَتفَطَّنُ للتَّغايُرِ بيْنَهما فيَصرِفُه عن توَهُّمِ أن تكونَ هذه تكريرًا؛ فإنَّه لَمَّا لم يَسبِقْ وصْفُ عذابِ عادٍ، لم يَستَقِمْ أن يكونَ قَولُه: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي تعجيبًا مِن حالةِ عَذابِهم [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/191، 192). .
- قولُه: وَنُذُرِ عطْفٌ على عَذَابِي بتَقديرِ مُضافٍ دلَّ عليه المَقامُ، والتَّقديرُ: وعاقِبةُ نُذُري، أي: إنْذاراتي لهم، أي: كيف كان تَحقيقُ الوعيدِ الَّذي أنْذَرَهم، وهو مَوعِظةٌ مِن تَحقُّقِ وَعيدِ اللهِ إيَّاهم [226] يُنظر: ((المصدر السابق)). واستدلَّ أبو الحسنِ المجاشِعيُّ على أنَّ الواوَ لا تقتضي الترتيبَ بهذه الآيةِ، قال: (والنُّذُرُ قبلَ العذابِ). ((النكت)) (ص: 180). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ بَيانٌ للإجمالِ الَّذي في قولِه: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، وهو في صُورةِ جَوابٍ للاستِفهامِ الصُّوريِّ، وكِلْتا الجُملتينِ يُفيدُ تَعريضًا بتَهديدِ المُشرِكين بعَذابٍ على تَكذيبِهم، وجُملةُ البَيانِ إنَّما تَصِفُ حالَ العَذابِ دونَ حالِ الإنذارِ، أو حالِ رَسولِهم، وهو اكتِفاءٌ [227] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ على سبيلِ الاكتفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تَقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). ؛ لأنَّ التَّكذيبَ يَتضمَّنُ مَجيءَ نَذيرٍ إليهم [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/192). .
- وتَعديةُ إرسالِ الرِّيحِ إلى ضَميرِهم هي كإسنادِ التَّكذيبِ إليهم؛ بِناءً على الغالِبِ، وقد أنْجَى اللهُ هودًا والَّذين معه، أو هو عائدٌ إلى المُكذِّبين، بقَرينةِ قولِه: كَذَّبَتْ عَادٌ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/192). [القمر: 18].
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا، وفي (الذَّارياتِ) قال: إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41]، فعرَّفَ الرِّيحَ هناك، ونكَّرَها هاهنا؛ قيل: وَجْهُ ذلك: أنَّ العُقْمَ في الرِّيحِ أظهَرُ مِن البَرْدِ الَّذي يَضُرُّ النَّباتَ، أو الشِّدَّةِ الَّتي تَعصِفُ الأشجارَ؛ لأنَّ الرِّيحَ العقيمَ هي الَّتي لا تُنشِئُ سَحابًا، ولا تُلقِّحُ شَجَرًا -وهي كَثيرةُ الوُقوعِ-؛ وأمَّا الرِّيحُ المُهلِكةُ الباردةُ فقَلَّما تُوجَدُ؛ فقال: الرِّيحَ الْعَقِيمَ، أي: هذا الجِنسَ المعروفَ، ثمَّ زادَهُ بَيانًا بقولِه: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 42]، فتَميَّزَت عن الرِّيحِ العقيمِ، وأمَّا الصَّرصرُ فقَليلةُ الوُقوعِ، فلا تَكونُ مَشهورةً؛ فنكَّرَها [230] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/303). .
- وأيضًا قال تعالَى هنا: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، وقال في سُورةِ (فُصِّلت): فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت: 16] ، وقال في (الحاقةِ): سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة: 7] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ المُرادَ مِن اليَومِ هنا الوقتُ والزَّمانُ، كما في قولِه: يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 33] ، وقولُه: مُسْتَمِرٍّ يُفيدُ ما يُفيدُه «الأيَّام»؛ لأنَّ الاستِمرارَ يُنبِئُ عن امتِدادِ الزَّمانِ كما تُنبِئُ عنه الأيَّامُ، والحكايةُ هنا مَذكورةٌ على سَبيلِ الاختِصارِ؛ فذُكِرَ الزَّمانُ، ولم يُذكَرْ مِقدارُه على سَبيلِ الإيجازِ [231] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/303)، ((تفسير ابن عادل)) (18/256). .
3- قولُه تعالَى: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ
- قولُه: تَنْزِعُ النَّاسَ يَجوزُ أنْ يكونَ صِفةً للرِّيحِ، وأنْ يكونَ حالًا منها؛ لأنَّها وُصِفَت فقَرُبَت مِن المعْرفةِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ تَنْزِعُ مُستأنَفًا [232] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/42). .
- وفي قولِه: تَنْزِعُ النَّاسَ وضْعُ الظَّاهرِ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ وذلك لإفادةِ العُمومِ، أي: إنَّ النَّزْعَ يعُمُّ الذُّكورَ والإناثَ جَميعًا، وإلَّا فالأصلُ: تَنزِعُهم [233] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/42)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/381). .
- في قولِه: تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ شبَّهَهم بأعجازِ النَّخلِ المُنقَعِرِ؛ إذ تَساقَطوا على الأرضِ أمواتًا، وهم جُثَثٌ عِظامٌ طِوالٌ، والأعجازُ: الأصولُ بلا فُروعٍ قد انقَلَعَت مِن مَغارِسِها. وقيل: كانتِ الرِّيحُ تَقطَعُ رُؤوسَهم، فتَبْقَى أجسادًا بلا رُؤوسٍ، فأَشْبَهَت أعجازَ النَّخلِ الَّتي انقلَعَتْ مِن مَغرِسِها [234] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/436)، ((تفسير البيضاوي)) (5/166)، ((تفسير أبي حيان)) (10/42)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/194)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/381). .
- ومُنقعِرٌ: وصْفُ النَّخلِ، رُوعِيَ في إفرادِه وتَذكيرِه صُورةُ لَفظِ (نخْل) دونَ عدَدِ مَدلولِه، خِلافًا لِما في قولِه تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة: 7] ، وقولِه: وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/194). [الرحمن: 11].
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تَعالى هاهنا: مُنْقَعِرٍ، فذكَّرَ النَّخلَ، وقال في (الحاقةِ): كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة: 7] ، فأنَّثَها؛ ووَجْهُ ذلك أمْرانِ:
الأوَّلُ: في تلك السُّورةِ كانتْ أواخرُ الآياتِ تَقْتضي ذلك؛ لقولِه: مُسْتَمِرٍّ ومُنْهَمِرٍ ومُنْتَشِرٌ؛ فإنَّ الكلامَ كما يُزيَّنُ بحُسْنِ المعْنى يُزيَّنُ بحُسْنِ اللَّفظِ.
 الثَّاني: أنَّ «النَّخلَ» لَفظُه لَفظُ الواحدِ -كالبَقلِ والنَّملِ- ومعْناهُ معْنى الجَمْعِ؛ فيَجوزُ أنْ يُقالَ فيه: نَخْلٌ مُنقَعِرٌ، ومُنقَعِرةٌ، ومُنقَعِراتٌ، ونخْلٌ خاوٍ، وخاويةٌ، وخاوياتٌ، ونخْلٌ باسِقٌ، وباسِقةٌ، وباسِقاتٌ.
 فإذا قال قائلٌ: «مُنقعِرٌ، أو: خاوٍ، أو: باسقٌ»؛ جرَّدَ النَّظرَ إلى اللَّفظِ، ولم يُراعِ جانبَ المعْنى، وإذا قال: «مُنقعِراتٌ، أو: خاوِياتٌ، أو: باسِقاتٌ»؛ جرَّدَ النَّظرَ إلى المعْنى، ولم يُراعِ جانبَ اللَّفظِ، وإذا قال: «مُنقعِرةٌ، أو: خاويةٌ، أو: باسقةٌ»؛ جمَعَ بيْنَ الاعتِبارينِ مِن حيثُ وَحْدةُ اللَّفظِ، ورُبَّما قال: «مُنقَعِرةٌ» -على الإفرادِ مِن حيث اللَّفظُ- وألْحَقَ به تاءَ التَّأنيثِ الَّتي في الجَماعةِ. إذا تقرَّرَ هذا، فنقولُ: ذكَرَ اللهُ تَعالى لَفظَ «النَّخلِ» في مَواضِعَ ثلاثةٍ، ووَصَفها على الوُجوهِ الثَّلاثةِ؛ فقال: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ [ق: 10] ؛ فإنَّها حالٌ منها وهي كالوصْفِ، وقال: نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة: 7] ، وقال: نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، فحيثُ قال: مُنْقَعِرٍ كان المختارُ ذلك؛ لأنَّ «المُنقعِرَ» في حَقيقةِ الأمرِ كالمفعولِ؛ لأنَّ الَّذي وَرَدَ عليه القعرُ فهو مَقعورٌ، والخاوِ والباسِقُ فاعلٌ، ومعناهُ إخلاءُ ما هو مَفعولٌ مِن عَلامةِ التَّأنيثِ أوَّلًا، كما تقولُ: امرأةٌ كفيلٌ، وامرأةٌ كَفيلةٌ، وامرأةٌ كبيرٌ، وامرأةٌ كبيرةٌ. وأمَّا «الباسِقاتُ» فهي فاعِلاتٌ حقيقةً؛ لأنَّ البُسوقَ أمْرٌ قام بها. وأمَّا «الخاويةُ» فهي مِن بابِ «حسن الوجْه»؛ لأنَّ الخاويَ مَوضِعُها؛ فكأنَّه قال: «نخْلٌ خاويةُ المَواضِعِ»، وهذا غايةُ الإعجازِ؛ حيثُ أتَى بلَفظٍ مُناسِبٍ للألفاظِ السَّابقةِ واللَّاحقةِ مِن حيثُ اللَّفظُ؛ فكان الدَّليلُ يَقْتضي ذلك، وهذا بخِلافِ الشَّاعرِ الَّذي يَختارُ اللَّفظَ على المذهبِ الضَّعيفِ مِن أجْلِ الوزنِ والقافيةِ [236] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/304). وقدْ قال القُرطبيُّ في ((تفسيره)) (17/137): (وقال أبو بَكرِ بنُ الأنباريِّ: سُئِلَ المُبَرِّدُ بحَضرةِ إسماعيلَ القاضي عن ألْفِ مَسألةٍ، هذه مِن جُملتِها، فقيل له: ما الفرقُ بيْنَ قولِه تعالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً [الأنبياء: 81] وجَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ [يونس: 22] ، وقولِه: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ [الحاقة: 7] وأَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20]؟ فقال: كلَّما ورَدَ عليك مِن هذا البابِ، فإنْ شِئتَ رَدَدْتَه إلى اللَّفظِ تذكيرًا، أو إلى المعنَى تأنيثًا). .
4- قولُه تعالَى: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ.
- في إعادةِ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ في قصَّةِ عادٍ عدَّةُ أوجُهٍ:
منها: أنَّ الأوَّلَ لتَحذيرِهم قبْلَ إهلاكِهم، والثَّاني لتَحذيرِ غَيرِهم بهم بعْدَ هَلاكِهم [237] يُنظر: ((أسرار التَّكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 230). .
ومنها: أنَّ الأوَّلَ سُؤالٌ؛ كقولِ المعلِّمِ للمُتعلِّمِ: كيفَ المسألةُ الفُلانيَّةُ؟ ثُمَّ بيَّنَ فقال: إِنَّا أَرْسَلْنَا، وأمَّا في المَرَّةِ الثَّانيةِ فاستَفهَم للتَّعظيمِ والتَّهويلِ، كما يقولُ القائلُ للعارفِ المشاهِدِ: كيف فَعلتُ وصَنعتُ؟ فيقولُ: نِعْمَ ما فَعلْتَ، ويقولُ: أتيْتُ بعَجيبةٍ، فيُحقِّقُ عَظَمةَ الفِعلِ بالاستِفهامِ [238] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/301)، ((تفسير ابن عادل)) (18/253). .
ومنها: تَكرَّرَ التَّهويلُ بالاستِفهامِ قبْلَ ذِكرِ ما حلَّ بهم وبَعْدَه؛ لغَرابةِ ما عُذِّبوا به مِن الرِّيحِ، وانفِرادِهِم بهذا النَّوعِ مِن العذابِ، ولأنَّ الاختصارَ داعيةُ الاعتبارِ والتَّدبُّرِ [239] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/41). .
ومنها: أنَّ مَقامَ التَّهويلِ والتَّهديدِ يَقْتضي تَكريرَ ما يُفِيدُهما [240] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/166)، ((تفسير أبي السعود)) (8/171)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/191). .
- و(كيف) هنا استِفهامٌ عن حالةِ العَذابِ المَوصوفةِ في قولِه: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا إلى مُنْقَعِرٍ [القمر: 19، 20]، والاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/195). .