موسوعة الآداب الشرعية

تاسعًا: حِفظُ أسرارِ المَرضى


يَجِبُ على الطَّبيبِ أن يَحفظَ أسرارَ المَرضى، ويَحرُمُ عليه إفشاؤُها [2234] قال أبو بَكرٍ الرَّازيُّ في رِسالتِه إلى بَعضِ تَلامِذَتِه: (اعلَمْ يا بُنَيَّ أنَّه يَنبَغي للطَّبيبِ أن يَكونَ رَفيقًا بالنَّاسِ، حافِظًا لغيبِهم، كتومًا لأسرارِهم -لا سيَّما أسرارِ مَخدومِه-؛ فإنَّه رُبَّما يَكونُ ببَعضِ النَّاسِ مِنَ المَرَضِ ما يَكتُمُه مِن أخَصِّ النَّاسِ به، مِثلُ أبيه وأمِّه وولَدِه، وإنَّما يَكتُمونَه خواصَّهم ويُفشونَه إلى الطَّبيبِ ضَرورةً). ((أخلاق الطبيب)) (ص: 27، 28). ويُنظر: ((معالم القربة في طلب الحسبة)) لابن الأخوة (ص: 168). وفي ((فتاوى اللجنة الدائمة)): (يَجِبُ على جَميعِ العامِلينَ في المُستَشفياتِ عَدَمُ إفشاءِ أسرارِ المَرضى، ولُزومُ الكِتمانِ في هذه الأمور؛ فإنَّ إفشاءَها -مَعَ أنَّه خيانةٌ للأمانةِ وهَتكٌ للأسرارِ- فإنَّه يَجُرُّ مِنَ الشُّرورِ ما لا يَخفى). ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (24/ 404). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] .
قَولُه تعالى: وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ أي: ولا تَخونوا أماناتِكُم فيما بينَكُم وبينَ أولياءِ أمورِكُم مِنَ الشُّؤونِ السِّياسيَّةِ، ولا سيَّما الحَربيَّةِ، وفيما بينَكُم بَعضِكُم مَعَ بَعضٍ مِنَ المُعامَلاتِ الماليَّةِ وغيرِها حتَّى الاجتِماعيَّةِ والأدَبيَّةِ؛ فإفشاءُ السِّرِّ خيانةٌ مُحَرَّمةٌ، ويَكفي في العِلمِ بكونِه سِرًّا القَرينةُ القَوليَّةُ، كقَولِ مُحَدِّثِك: هل يَسمَعُنا أحَدٌ؟ أو للفِعليَّةِ، كالالتِفاتِ لرُؤيةِ مَن عَساه يَجيءُ.
والخيانةُ مِن صِفاتِ المُنافِقينَ، والأمانةُ مِن صِفاتِ المُؤمِنينَ، ورَوى الشّيخانِ وغيرُهما عن أبي هُرَيرةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((آيةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كذَب، وإذا وعَدَ أخلَف، وإذا اؤتُمِنَ خانَ)) [2235] أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59). ، زادَ مُسلِمٌ: ((وإن صامَ وصَلَّى، وزَعَمَ أنَّه مُسلِمٌ)) [2236] أخرجه مسلم (59). . وقد ورَدَ في الأحاديثِ إطلاقُ الأمانةِ على الطَّاعةِ والعِبادةِ والوديعةِ والثِّقةِ والأمانِ، وليس المُرادُ بهذا الحَصرَ، بَل كُلُّ ما يَجِبُ حِفظُه فهو أمانةٌ، وكُلُّ حَقٍّ مادِّيٍّ أو مَعنَويٍّ يَجِبُ عليك أداؤُه إلى أهلِه فهو أمانةٌ؛ قال اللهُ تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة: 283] ، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] .
والأمانةُ مِنَ الصِّفاتِ الدِّينيَّةِ التي قامَ عليها بناءُ المَدَنيَّةِ، وبها حِفظُ العُمرانِ، وإصلاحُ حالِ الأمَّةِ، ولا بَقاءَ لدَولةٍ بدونِها؛ لأنَّ عليها مَدارَ الثِّقةِ في جَميعِ المُعامَلاتِ. وناهيك بما عَظَّمَ اللهُ مِن أمرِ الأمانةِ في قَولِه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] .
وأمَّا قَولُه: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] ، فمَعناه: والحالُ أنَّكُم تَعلمونَ مَفاسِدَ الخيانةِ، وتَحريمَ اللهِ تعالى إيَّاها، وسوءَ عاقِبةِ تلك المَفاسِدِ في الدُّنيا والآخِرةِ، أو تَعلمونَ أنَّ ما فعَلتُموه خيانةٌ؛ لظُهورِه، وأمَّا ما خَفِي عَنكُم حُكمُه فالجَهلُ له عُذرٌ إذا لم يَكُنْ مِمَّا عُلمَ مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، أو مِمَّا يُعلَمُ ببَداهةِ العَقلِ، أوِ استِفتاءِ القَلبِ [2237] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/ 534-536). .
2-قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8] ، أي: قائِمونَ بالحِفظِ والإصلاحِ، وأصلُ (رعي): يَدُلُّ على مُراقَبةٍ وحِفظٍ، وهذا عامٌّ في جَميعِ الأماناتِ التي هيَ حَقٌّ للَّهِ، والتي هيَ حَقٌّ للعِبادِ؛ فجَميعُ ما أوجَبَه اللهُ على عَبدِه أمانةٌ على العَبدِ حِفظُها بالقيامِ التَّامِّ بها، وكذلك يَدخُلُ في ذلك أماناتُ الآدَميِّينَ، كَأماناتِ الأموالِ والأسرارِ ونَحوِهما؛ فعلى العَبدِ مُراعاةُ الأمرَينِ، وأداءُ الأمانَتَينِ، وكذلك العَهدُ يَشمَلُ العَهدَ الذي بَينَهم وبَينَ رَبِّهم، والذي بَينَهم وبَينَ العِبادِ، وهيَ الالتِزاماتُ والعُقودُ التي يَعقِدُها العَبدُ؛ فعليه مُراعاتُها والوفاءُ بها، ويَحرُمُ عليه التَّفريطُ فيها وإهمالُها [2238] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (17/ 13)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/ 408)، ((المفردات)) للراغب (ص: 357)، ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 547). .
3-قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] .
قال الرَّازيُّ: (يَدخُلُ فيه جَميعُ أنواعِ الأماناتِ، واعلَمْ أنَّ مُعامَلةَ الإنسانِ إمَّا أن تَكونَ مَعَ رَبِّه أو مَعَ سائِرِ العِبادِ، أو مَعَ نَفسِه، ولا بُدَّ مِن رِعايةِ الأمانةِ في جَميعِ هذه الأقسامِ الثَّلاثةِ.
أمَّا رِعايةُ الأمانةِ مَعَ الرَّبِّ: فهيَ في فِعلِ المَأموراتِ وتَركِ المَنهيَّاتِ، وهذا بحرٌ لا ساحِلَ له...
وأمَّا القِسمُ الثَّاني: وهو رِعايةُ الأمانةِ مَعَ سائِرِ الخَلقِ، فيَدخُلُ فيها رَدُّ الودائِعِ، ويَدخُلُ فيه تَركُ التَّطفيفِ في الكَيلِ والوزنِ، ويَدخُلُ فيه أن لا يُفشيَ على النَّاسِ عُيوبَهم... ويَدخُلُ فيه أمانةُ الزَّوجةِ للزَّوجِ في حِفظِ فَرجِها، وفي أن لا تُلحِقَ بالزَّوجِ ولدًا يولَدُ مِن غَيرِه. وفي إخبارِها عنِ انقِضاءِ عِدَّتِها.
وأمَّا القِسمُ الثَّالثُ: وهو أمانةُ الإنسانِ مَعَ نَفسِه، فهو أن لا يَختارَ لنَفسِه إلَّا ما هو الأنفعُ والأصلحُ له في الدِّينِ والدُّنيا، وأن لا يُقدِمَ بسَبَبِ الشَّهوةِ والغَضَبِ على ما يَضُرُّه في الآخِرةِ؛ ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «كُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعيَّتِه» [2239] أخرجه البخاري (5200)، ومسلم (1829) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
فقَولُه: يَأمُرُكُم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها يَدخُلُ فيه الكُلُّ) [2240] ((مفاتيح الغيب)) (10/ 109). .
والسِّرُّ أمانةٌ عِندَ المُحدَّثِ أودَعَه إيَّاها، فإن حَدَّث بها غَيرَه فقد خالف أمرَ اللهِ؛ حَيثُ أدَّى الأمانةَ إلى غَيرِ أهلِها، فيَكونُ مِنَ الظَّالمينَ، فيَجِبُ عليه كَتمُها [2241] يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 329). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((آيةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كذَب، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خانَ)) [2242] أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59). .
2- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصلةٌ مِنهنَّ كانت فيه خَصلةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها: إذا اؤتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كذَب، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَرَ)) [2243] أخرجه البخاري (34) واللَّفظ له، ومسلم (58). .
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا اؤتُمِنَ خانَ)) يَعني: إذا ائتَمَنَه النَّاسُ على أموالِهم أو على أسرارِهم أو على أولادِهم، أو على أيِّ شيءٍ مِن هذه الأشياءِ؛ فإنَّه يَخونُ، والعياذُ باللهِ [2244] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/ 48). .
فوائِدُ:
اطلاعُ غيرِ الطَّبيبِ على شكوَى المريضِ
قال ابنُ الحاجِّ: (يَنبَغي أن لا يَقعُدَ مَعَ الطَّبيبِ غيرُه مِمَّن يُظَنُّ به أنَّ المَريضَ لا يُريدُ أن يَطَّلِعَ على حالِه؛ لأنَّه قَد تَكونُ به أمراضٌ لا يُريدُ أن يُطلِعَ عليها أحَدًا، سيَّما العُلماءِ والأولياءِ... فإذا اضطُرُّوا إلى ذِكرِ ما نَزَل بهمُ اقتَصَروا فيه على الطَّبيبِ خاصَّةً، وذلك ليس بمَكروهٍ؛ لأنَّه مِنَ السُّنَّةِ الماضيةِ بينَ الأمَّةِ.
وقد قال الشَّيخُ الإمامُ أبو عَبدِ الرَّحمَنِ الصِّقِلِّيُّ رَحِمَه اللهُ: الشَّكوى كُلُّها مَذمومةٌ إلَّا لثَلاثٍ: طالبُ عِلمٍ يَشكو إلى عالمٍ داءَ فَهمِه، ومُريدٌ يَشكو إلى شيخِه داءَ قَلبِه، وعليلٌ يَشكو إلى طَبيبٍ داءَ بَدَنِه.
فعلى هذا، فغيرُ الطَّبيبِ لا مَعنى لاطِّلاعِه على شيءٍ مِن ذلك. اللهُمَّ إلَّا أن يَكونَ مَعَ الطَّبيبِ مَن هو مُباشِرٌ للمَريضِ وعالمٌ بحالِ مَرَضِه، والمَريضُ لا يَستَحي أن يَذكُرَ ذلك بحَضرَتِه فلا بَأسَ إذَنْ.
ويَنبَغي أن يَكونَ الطَّبيبُ أمينًا على أسرارِ المَرضى، فلا يُطلِعَ أحَدًا على ما ذَكرَه المَريضُ؛ إذ إنَّه لم يَأذَنْ له في اطِّلاعِ غيرِه على ذلك، ولو أذِنَ فيَنبَغي أن لا يَفعَلَ ذلك مَعَه، اللهُمَّ إلَّا أن يَعلمَ مِنَ المَريضِ في أمرِه بذلك استِجلابَ خَواطِر ِالإخوانِ ومَن يَتَبَرَّكُ بدُعائِه له بظَهرِ الغيبِ، فهذا مُستَثنًى مِمَّا تقَدَّم) [2245] ((المدخل)) (4/ 134، 135). ويُنظر منه: (4/ 146). .
سرُّ المهنةِ
(أمَرَتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ بحِفظِ الأسرارِ وكِتمانِها وعَدَمِ إفشائِها؛ لدَوامِ الأُلفةِ، ولصَونِ حُقوقِ الإنسانِ.
و«سِرُّ المِهنةِ» أصلٌ عَميقُ الجُذورِ مَن أصولِ المِهنةِ الطِّبِّيَّةِ، وقيمةٌ مِن قِيَمِها المُطلَقةِ التي لم تُترَكْ لتَقديرِ الطَّبيبِ أو لاجتِهادِه، أوِ استِحسانِه في كُلِّ حالةٍ على حِدةٍ، وهي تَلتَقي تَمامًا مَعَ تَعاليمِ الإسلامِ؛ فهي بالإسلامِ تَتَقَوَّى وتَزدادُ رُسوخًا.
والتَّفريطُ فيها يُقَوِّضُ صَلاحَ المِهنةِ الطِّبِّيَّةِ، فيَحرِمُ الإنسانيَّةَ مِمَّا لا غِنى لها عَنه، وفي هذا بَلاءٌ خَطيرٌ وشَرٌّ مُستَطيرٌ وخَسارةٌ فادِحةٌ.
إنَّ قُدسيَّةَ سِرِّ المِهنةِ الطِّبِّيَّةِ تُراثٌ موغِلٌ في القِدَمِ، حَصَّلته المِهنةُ حتَّى في أدوارِها الباكِرةِ، وما زالت تَحرِصُ عليه حتَّى الآنَ.
كان الطَّبيبُ «أمحوتِب» في مِصرَ القَديمةِ يَأخُذُ العَهدَ والقَسَمَ على طُلَّابِه ألَّا يُذيعوا لمَريضٍ سِرًّا، وجاءَ مِن بَعدِه «أَبُقْراط» اليونانيُّ [2246] جاءَ في قَسَم ِأَبُقْراط: (وكُلُّ المَنازِلِ التي أدخُلُها إنَّما أدخُلُ إليها لمَنفَعةِ المَرضى، وأنا بحالٍ خارِجةٍ عَن كُلِّ جَورٍ وظُلمٍ وفسادٍ إراديٍّ مَقصودٍ إليه في سائِرِ الأشياءِ... وأمَّا الأشياءُ التي أعايِنُها في أوقاتِ عِلاجِ المَرضى أو أسمَعُها في غيرِ أوقاتِ عِلاجِهم في تَصَرُّفِ النَّاسِ مِنَ الأشياءِ التي لا يُنطَقُ بها خارِجًا، فأُمسِكُ عَنها وأرى أنَّ أمثالهَا لا يُنطَقُ به. فمَن أكمَل هذه اليَمينَ ولم يُفسِدْ شيئًا، كان له أن يُكمِلَ تَدبيرَه وصِناعَتَه على أفضَلِ الأحوالِ وأجمَلِها، وأن يَحمَدَه جَميعُ النَّاسِ فيما يَأتي مِنَ الزَّمانِ دائِمًا، ومَن تَجاوزَ ذلك كان بضِدِّه). ((عيون الأنباء في طبقات الأطباء)) لابن أبي أصيبعة (ص: 45). ، وما زال قَسَمُه ساريًا على الخِرِّيجينَ مِن مُعظَمِ كُلِّيَّاتِ الطِّبِّ حتَّى الآنَ [2247] جاءَ في لائِحةِ آدابِ المِهنةِ الصَّادِرةِ بقَرارِ وزيرِ الصِّحَّةِ والسُّكَّانِ رقم: (238) لسنة 2003م بتاريخ 5 سبتمبر 2003م، بَعدَ العَرضِ والموافقةِ مِنَ الجَمعيَّةِ العُموميَّةِ المُنعَقِدةِ في 21/3/2003م، ومُؤتَمَرِ النِّقاباتِ الفرعيَّةِ لأطِبَّاءِ مِصرَ في الفترةِ مِن 4 - 6/7/2003: (يَجِبُ على كُلِّ طَبيبٍ قَبل مُزاولتِه المِهنةَ أن يُؤَدِّيَ القَسَمَ التَّاليَ أمامَ نَقيبِ الأطِبَّاءِ أو مَن يَنوبُ عنه: «أقسِمُ باللهِ العَظيمِ أن أراقِبَ اللَّهَ في مِهنَتي، وأن أصونَ حياةَ الإنسانِ في كافَّةِ أدوارِها في كُلِّ الظُّروفِ والأحوالِ، باذِلًا وُسْعي في استِنقاذِها مِنَ الهلاكِ والمَرَضِ والألمِ والقَلَقِ، وأن أحفَظَ للنَّاسِ كرامَتَهم، وأستُرَ عَورَتَهم، وأكتُمَ سِرَّهم، وأن أكونَ على الدَّوامِ مِن وسائِلِ رَحمةِ اللهِ، باذِلًا رِعايَتي الطِّبِّيَّةَ للقَريبِ والبَعيدِ، للصَّالحِ والخاطِئِ، والصَّديقِ والعَدوِّ، وأن أثابرَ على طَلَبِ العِلمِ أسَخِّرُه لنَفعِ الإنسانِ لا لآذاه، وأن أوقِّرَ مَن عَلَّمَني وأُعَلِّمَ مَن يَصغُرُني، وأكونَ أخًا لكُلِّ زَميلٍ في المِهنةِ الطِّبِّيَّةِ، مُتَعاوِنينَ على البرِّ والتَّقوى، وأن تَكونَ حياتي مِصداقَ إيماني في سِرِّي وعلانِيَتى نَقيَّةً مِمَّا يَشينُها تِجاهَ اللهِ ورُسُلِه والمُؤمِنينَ، واللَّهُ على ما أقولُ شَهيدٌ»). وفيها أيضًا: (لا يَجوزُ للطَّبيبِ إفشاءُ أسرارِ مَريضِه التي اطَّلعَ عليها بحُكمِ مِهنَتِه...). ، وفيه أنَّ كُلَّ مَعلوماتٍ حَصَل عليها الطَّبيبُ خِلالَ أدائِه مُهمَّتَه، سَواءٌ أكانتِ المَعلوماتُ طِبِّيَّةً أم غيرَ طِبِّيَّةٍ، سَواءٌ أعرَفَها سَماعًا أم مُشاهَدةً أم مُجَرَّدَ استِنتاجٍ، فهو سِرٌّ لا يُفشى، مُغَطًّى بسِرِّ المِهنةِ، حتَّى أشرَقَت على العالمِ شَمسُ الإسلامِ عَقيدةً فشَريعةً فدَولةً فدَعوةً فحَضارةً، فإذا أمَّةُ الإسلامِ خيرُ أُمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاسِ، وإذا حَضارتُه خيرُ حَضارةٍ استَظَلُّوا بها.
وإذا الإسلامُ يُثبِتُ مِمَّا سَبَقَه مِنَ الأعرافِ -ولو نَشَأت في وِعاءِ الجاهليَّةِ- ما يَراه غيرَ مُجافٍ للشَّريعةِ أوِ العَقيدةِ، ويَعتَبرُه مِن فضائِلِ الإنسانيَّةِ التي اكتَسَبَتها على مَدى التَّاريخِ... خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] .
فكان مِن جَرَّاءِ ذلك أنِ ازدادَ «سِرُّ المِهنةِ» في مُزاولةِ الطِّبِّ ثَباتًا واستِقرارًا، ذَكَرَ ذلك ابنُ أُصَيبعةَ في كِتابِه «طَبَقاتُ الأطِبَّاءِ»، وأكَّدَه عليُّ بنُ رِضوانٍ كبيرُ أطِبَّاءِ مِصرَ (453هـ)، وأوصى بالقَسَمِ على حِفظِ السِّرِّ مُهَذَّبُ الدِّينِ بنُ هبلٍ البَغداديُّ، وكان مِن وظائِفِ المُحتَسِبِ أنَّه يَأخُذُ على الأطِبَّاءِ قَسَمَ «أَبُقْراط» في حِفظِ السِّرِّ.
ولا نَودُّ أن يُفهَمَ أنَّ الإسلامَ أوصى الأطِبَّاءَ وحدَهم بصيانةِ الأسرارِ، بَل أوصى بذلك أمَّتَه كُلَّها؛ لأنَّ الشَّريعةَ الإسلاميَّةَ تَأمُرُ النَّاسَ بأن يَحفظوا الأسرارَ، فيَجِبُ على المُسلمِ أن يَلتَزِمَ بها، وأن يُحافِظَ عليها، وإنَّ الشَّخصَ إذا عَلِمَ سِرًّا أوِ اؤتُمِنَ عليه أو عَرَفه بحُكمِ مِهنَتِه، فعليه ألَّا يُفشيَ السِّرَّ.
والقاعِدةُ في الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ هي حُرمةُ الإفشاءِ مَتى كان مِن شَأنِ ذُيوعِ السِّرِّ أن يُلحِقَ الضَّرَرَ بصاحِبِه وهو على قَيدِ الحياةِ أو بَعدَ مَوتِه، وقد سُئِل أديبٌ: كيف تَحفظُ السِّرَّ؟ قال: أنا قَبرُه، وقالوا: صُدورُ الأحرارِ قُبورُ الأسرارِ، وقال آخَرُ: أستُرُه وأستُرُ أنِّي أستُرُه!
فدينُ الإسلامِ هو الدِّينُ الذي رَعى الإنسانَ ورَسَمَ له طَريقَ الحياةِ الآمِنةِ المُستَقِرَّةِ، رَعاه في ظاهرِه وباطِنِه، رَعاه في رُوحِه وجَسَدِه، رَعاه في يَقَظَتِه وغَفلتِه، رَعاه في كُلِّ أمورِه، فشَرَعَ له ما يُحافِظُ على مُقَوِّماتِ إنسانيَّتِه؛ فحَفِظَ له دينَه، ونَفسَه وعِرضَه، ومالَه، وعَقلَه مِن أن يُمَسَّ إلَّا بحَقٍّ، حتَّى يَسيرَ آمِنًا مُطَمئِنًّا مُستَقِرًّا، مُؤَدِّيًا حَقَّ اللهِ عليه وحُقوقَ العِبادِ، دونَ تَقصيرٍ أو تَهاوُنٍ؛ فيَسعَدَ وتَسعَدَ بسَعادَتِه الإنسانيَّةُ جَمعاءُ.
فالإسلامُ أوصى بصيانةِ الأسرارِ للأمَّةِ كُلِّها، وإنَّما كان الأطِبَّاءُ على رَأسِ الهَرَمِ في ذلك؛ نَظَرًا لأنَّ مُهمَّتَهم ذاتُ مِساسٍ مُباشِرٍ بكِيانِ الإنسانِ ذاتِه، وهي لا تَقومُ قائِمَتُها إلَّا إنِ استَقَرَّت لدى الطَّبيبِ والمَريضِ أنَّ ما بينَهما غيرُ مُعَرَّضٍ للإفشاءِ أوِ الإفضاءِ، يَستَوي في ذلك ما كان خيرًا أو شَرًّا، أو قَبيحًا أو حَسَنًا، أو مُشَرِّفًا أو مُخجِلًا، وبغيرِ هذا تَهتَزُّ المِهنةُ الطِّبِّيَّةُ وتُزَلزَلُ زِلزالًا عَنيفًا.
وقد يَظُنُّ البَعضُ أنَّ السِّرَّ الجَديرَ بالصِّيانةِ هو ما يَنطَوي على مَعلوماتٍ سيِّئةٍ أو مُهينةٍ أو مَشينةٍ بالنِّسبةِ للمَريضِ، وهو ظَنٌّ خَطَأٌ وإن شاعَ؛ فحِفظُ المَعلوماتِ الخاصَّةِ بالمَريضِ هو حِفظٌ مُطلَقٌ ومَقصودٌ لذاتِه، ولا يَلزَمُ إطلاقًا أن يَكونَ المَريضُ قَد طَلبَ مِنَ الطَّبيبِ صَراحةً ألَّا يُدليَ بهذه المَعلوماتِ، بَل هو سِرٌّ بطَبيعَتِه وبطَبيعةِ المِهنةِ، ولو لم يَطلُبِ المَريضُ ذلك...
فالشَّريعةُ الإسلاميَّةُ قَد عُنيَت أشَدَّ العِنايةِ بحِمايةِ الآدابِ العامَّةِ، والأخلاقِ الكريمةِ، وذلك ابتِغاءَ إيجادِ أمَّةٍ كريمةٍ، ومُجتَمَعٍ فاضِلٍ، وشَعبٍ مِثاليٍّ بَعيدٍ كُلَّ البُعدِ عَنِ المُيوعةِ والتَّخَنُّثِ، واللَّهوِ والعَبَثِ، ومِن أجلِ ذلك تَرَكتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ المَجالَ يَتَّسِعُ ويَمتَدُّ حتَّى يَشمَلَ كُلَّ الصُّورِ التي يَتَراءى فيها الأذى والضَّرَرُ، وأوجَبَتِ التَّعزيرَ على جَميعِ الأعمالِ الموجَّهةِ ضِدَّ الأخلاقِ والآدابِ العامَّةِ، ومِنها: إفشاءُ السِّرِّ المَصونِ، والحَديثِ المَكتومِ، وخُصوصًا السِّرَّ بينَ الطَّبيبِ المُعالجِ وبينَ مَرضاه، فلا يَجوزُ للطَّبيبِ إفشاؤُه، ولا إذاعةُ أيِّ شيءٍ مِنَ المَعلوماتِ التي يَحصُلُ عليها مِنَ المَريضِ في أثناءِ عِلاجِه، فالسِّرُّ حِجابٌ مَستورٌ لا يَجوزُ هَتكُه، وجانِبٌ مِن حياةِ المَريضِ مُقَدَّسٌ لا يَنبَغي كشفُه، وإنَّ الطَّبيبَ الذي يُذيعُ الأسرارَ، فيَجرَحُ عِرْضَ مَريضٍ يُشَهِّرُ به، ويُسيءُ إلى سُمعَتِه، أو عِرضِ امرَأةٍ يَكشِفُ سِرَّها ويَفضَحُ أمرَها ويُلحِقُ بها سُبَّةً تَشينُها وتَشينَ ذُرِّيَّتها وذَويها مِن حَولِها: هو مَمقوتٌ عِندَ اللهِ تعالى، ويَنبَغي أن يَكونَ مَمقوتًا مِن كُلِّ نَفسٍ فاضِلةٍ، وكُلِّ قَلبٍ مُؤمِنٍ رَشيدٍ، وكما قيل: «كما تَدينُ تُدانُ، والجَزاءُ مِن جِنسِ العَمَلِ».
ومِن هذا نَستَطيعُ أن نَخلُصَ ونُفضيَ إلى أنَّ الطَّبيبَ الذي يُذيعُ أسرارَ مَرضاه -ولا سيَّما الأسرارِ الخاصَّة بينَه وبينَهم بحُكمِ مِهنَتِه الطِّبِّيَّةِ- يُعتَبَرُ مِنَ الذينَ يُؤذونَ المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ، ويُلحِقُ الضَّرَرَ بهم وبأُسَرِهم، ويَشينُ سُمعَتَهم؛ فيَجِبُ تَعزيرُه وتَأديبُه والتَّنكيلُ به ومَنعُه مِن مُعاودةِ هذا الخُلُقِ الذَّميمِ المَمقوتِ) [2248] يُنظر: ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) العدد الثامن - الجزء الثالث (ص: 17-44). .
لماذا تُحفَظُ الأسرارُ؟
(إن كان السِّرُّ مِمَّا يَقبُحُ ظُهورُه للنَّاسِ فهو عَورةٌ، وفي حِفظِه فَضلُ سَترِ العَورةِ على المُسلمِ، وفي الحَديثِ: ((مَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتره اللَّهُ في الدُّنيا والآخِرةِ)) [2249] أخرجه مسلم (2699) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وهو حَقٌّ مِن حُقوقِ كُلِّ مُسلِمٍ على أخيه.
وإن لم يكُنِ السِّرُّ عَورةً، فإنَّ المُحافظةَ عليه مِن كمالِ المُروءةِ، وكمالِ الأمانةِ، وقوَّةِ الإرادةِ.
ومِن هنا الحِكمةُ المَأثورةُ: «صُدورُ الأحرارِ قُبورُ الأسرارِ»، فالحُرُّ المُسيطِرُ على إرادَتِه يَموتُ السِّرُّ في صَدرِه، أمَّا الذي هو عَبدٌ لهَواه فإنَّ السِّرَّ لا يَزالُ يَختَلجُ في صَدرِه ويَضطَرِبُ حتَّى يَفِرَّ هارِبًا.
وحِفظُ الأسرارِ على أهلِ الإيمانِ مِن كمالِ الإيمانِ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفسِه)) [2250] أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) مِن حَديثِ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ قال الغَزاليُّ: لا شَكَّ أنَّك تَنتَظِرُ مِن أخيك أن يَستُرَ عَورَتَك، ويَسكُتَ عن مَساوِئِك وعُيوبِك، ولو أنَّك ظَهَرَ لك مِن أخيك نَقيضُ ما تَنتَظِرُه إنِ اشتَدَّ غيظُك وغَضَبُك عليه، فما أبعَدَك إذا كُنت تَنتَظِرُ مِنه ما لا تُضمِرُه له ولا تَعزِمُ عليه لأجلِه! وويلٌ لمَن يَفعَلُ ذلك في نَصِّ كِتابِ اللهِ؛ حيثُ يَقولُ في سورة المُطَفِّفينَ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1 - 3] [2251] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/ 178). .
وفَضلُ حِفظِ الأسرارِ التي في كَشفِها قُبحٌ ومَساءةٌ يَكونُ فيه أحيانًا مَعنى إقالةِ العَثرةِ، والمَعونةِ على استِقامةِ مَن وقَعَت مِنه الزَّلَّةُ.
والأَولى بمَن حَمَل السِّرَّ لغيرِه أن يَمحوَه مِن قَلبِه، وأن يوحيَ إلى نَفسِه أنَّه قَد أماتَ ذلك السِّرَّ، حتَّى كأنَّه لم يَسمَعْ به، أو سَمِعَ به ونَسيَه؛ فذلك أدعى إلى أن يُخفيَه مِن أن يَرى أنَّه سيَبُثُّه في فُرصةٍ آتيةٍ...
لماذا حِفظُ الأسرارِ؟
أوَّلًا: لِما في كشفِ السِّرِّ مِنَ الأضرارِ في أغلَبِ الأحوالِ، ولا يَنبَغي لمُسلِمٍ أن يَسعى فيما فيه ضَرَرُ أخيه المُسلمِ، ولا يَحِلُّ لمُسلِمٍ أن يَتَعَمَّدَ الإضرارَ بأخيه بغيرِ حَقٍّ، ولا أن يَسعى في أمرٍ يَكونُ سَبَبًا في إيقاعِ الضَّرَرِ بأخيه؛ لقَولِ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58] .
والأضرارُ التي قَد يُسَبِّبُها إفشاءُ الأسرارِ مُختَلِفةٌ؛ فمِنها:
أ- الأضرارُ النَّفسيَّةُ والمَعنَويَّةُ:
وذلك إن كان السِّرُّ عَورةً يَستُرُها أخوك على نَفسِه؛ مِن إثمٍ ارتَكبَه، أو فِعلٍ شائِنٍ زَلَّت قَدَمُه، فأقدَمَ عليه، ثُمَّ استَتَرَ بسَترِ اللهِ تعالى، فإن كشَفتَه عَنه آلمتَه ألمًا شَديدًا، فاستاءَ وحَزِنَ، وقد تَسقُطُ شَهادَتُه، وقد تَسقُطُ بذلك كرامَتُه، ويَجفوه بَعضُ مَن كان يَألفُه، ويَحقِرُه مَن كان يُعَظِّمُه، وقد يُفسِدُ ذلك ما بينَه وبينَ أهلِه، فيَكونُ في ذلك تَحطيمُ الرَّوابطِ الأسَريَّةِ والعَلاقاتِ الاجتِماعيَّةِ.
وقال الحليميُّ: في هَتكِ سِترِ أصحابِ القُروفِ تَخفيفُ أمرِ الفاحِشةِ على قَلبِ مَن يُشاعُ فيه؛ لأنَّه رُبَّما كان يَخشى أن يُعرَفَ أمرُه، فلا يَرجِعُ إلى ما قارَفه أو يَستَتِرُ مِنه. فإذا هُتِك سِترُه اجتَرَأ وأقدَم، واتَّخَذَ ما وقَعَ مِنه عادةً يَعسُرُ بَعدَها عليه النَّزعُ عَنها، وهذا إضرارٌ به [2252] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (3/ 361، 362). .
وقد نَهى اللهُ تعالى عَنِ التَّجَسُّسِ، وهو تَتبُّعُ ما يُخفيه النَّاسُ مِن أمورِهم؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنه: «إنَّك إنِ اتَّبَعت عَوراتِ المُسلمينَ أفسَدتَهم، أو كِدتَ تُفسِدُهم». فقال أبو الدَّرداءِ: كلمةٌ سَمِعَها مُعاويةُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَفعَه اللَّهُ بها [2253] أخرجه أبو داود (4888) واللفظ له، وابن حبان (5760)، والطبراني (19/379) (890). صَحَّحه ابنُ حبان، والنووي في ((رياض الصالحين)) (508)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4888)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1133)، وصحح إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/250). ، يَعني: استَقامَ له شَأنُ خِلافتِه مَعَ النَّاسِ.
ب- الأضرارُ البَدَنيَّةُ:
فقَد يَلزَمُه بكشفِ سِرِّه حَدٌّ أو عُقوبةٌ.
ج- الأضرارُ المِهنيَّةُ:
فإنَّ المُتَعامِلينَ مَعَ أصحابِ الصَّنائِعِ -كالطَّبيبِ والمُحامي- إذا شَعَروا بأنَّ أسرارَهم في خَطَرٍ يُحجِمونَ عَنِ التَّعامُلِ مَعَهم، أو لا يُطلِعونَهم بالقَدرِ الكافي على ما يُريدونَ الاطِّلاعَ عليه ليَنجَحوا في مُهمَّاتِهم، وبذلك يَفقِدونَ وتَفقِدُ المِهنةُ ككُلٍّ نِسبةً كبيرةً مِن فُرَصِ النَّجاحِ، وهَكذا المِهَنُ الأخرى، حتَّى السَّائِقُ والخادِمُ إذا كان حافِظًا للأسرارِ التي يَطَّلعُ عليها تَزيدُ الثِّقةُ به، فإن كان عَكسُ ذلك فقَدَ نِسبةً كبيرةً مِن فُرَصِ العَمَلِ، وخَسِرَ غالبًا ما بيَدِه مِنها.
د- الأضرارُ الماليَّةُ:
فرُبَّما أفقَدَه إفشاءُ السِّرِّ فُرصةَ كَسبٍ يَنتَظِرُه، أو مَصلحةً خَطَّط لتَحصيلِها، ورُبَّما أدَّى كشفُ أسرارِ النَّاسِ الماليَّةِ إلى تَسَلُّطِ اللُّصوصِ وأشباهِ اللُّصوصِ، حتَّى يعودَ الغَنيُّ فقيرًا، وتَؤولَ الثَّرَواتُ التي جُمِعَت بالكَدحِ الدَّؤوبِ والعَمَلِ الشَّريفِ إلى الأيدي الظَّالِمةِ تَعبَثُ بها يَمينًا وشِمالًا، ورُبَّما لزِمَته بكشفِ سِرِّه غَراماتٌ وتَكاليفُ ماليَّةٌ كان عَنها في عافيةٍ، ورُبَّما أفقَدَه فَضحُ السِّرَّ مَنصِبًا يَكتَسِبُ به رِزقَه، وكم قَد ثَلَّتِ الفضائِحُ عُروشًا، وأوهَنَت حُكوماتٍ، وأتلفَت أُمَمًا!
ثانيًا: لأنَّه قَد يَكونُ في إفشاءِ السِّرِّ خيانةً للأمانةِ، وذلك في أحوالٍ:
أ- أن يَكونَ بينَ المَرءِ وزَوجَتِه.
ب- أن يَكونَ أخوك قَد طَلبَ مِنك كِتمانَ سِرِّه قَبلَ أن يُفضيَ إليك به، فالتَزَمتَ له بذلك، فإن أفشيتَه كُنتَ قَد خُنتَ الأمانةَ ونَقَضت العَهدَ؛ فكُنتَ ظَلومًا جَهولًا، شَأنُ المُنافِقينَ الذينَ يَظهَرُ نِفاقُهم ويُعلَمُ بمِثل ِهذا الفِعلِ الذَّميمِ.
وقد يَستَكتِمُ الأخُ أخاه سِرًّا في حالٍ دونَ حالٍ أو وقتٍ دونَ وقتٍ، فيَقبَلُ، فتَكونُ الأمانةُ بحَسَبِ ذلك، كأن يَقولَ: لا تُفشِ عَنِّي هذا الخَبَرَ إلى ثَلاثةِ أيَّامٍ، أو ما دامَ فُلانٌ حيًّا، أو ما دُمتُ حيًّا، أو نَحوَ ذلك.
ج- أن يَكونَ أخوك قَد فاتَحَك في أمرٍ خاصٍّ مِمَّا شَأنُه أن يُكتَمَ عَنِ النَّاسِ، ولو لم يستكتِمْك، وخاصَّةً إن كان يَستَشيرُك في أمرٍ مِمَّا يَنويه أو أمرٍ يَعزِمُ عليه، فذلك أمانةٌ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المُستَشارُ مُؤتَمَنٌ» [2254] أخرجه أبو داود (5128)، والترمذي (2822)، وابن ماجه (3745) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5128)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1419)، وحَسَّنه الترمذي، وقال ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (6/157): لا بَأسَ بإسنادِه، فهو صَحيحٌ وهو جيِّدٌ ، ويَكونُ كَشفُ خَبايا ذلك الحَديثِ خيانةً لتلك الأمانةِ.
وفيما رُويَ مِنَ الحِكمةِ أنَّ رَجُلًا وشى بأديبٍ لدى بَعضِ الخُلفاءِ، فأرادَ الخَليفةُ الانتِقامَ مِنه، فقال: اجمَع بيني وبينَ هذا الواشي، فلمَّا جاءَ قال له:
وأنتَ امرُؤٌ إمَّا ائتَمَنتُك خاليًا
فخُنتَ وإمَّا قُلتَ قَولًا بلا عِلمِ
فأنتَ مِنَ الأمرِ الذي كان بينَنا
بمَنزِلةٍ بينَ الخيانةِ والإثمِ
كأنَّه يَقولُ للخَليفةِ: كيف تَأخُذُ فيَّ بقَولِ مَن لا يَخرُجُ عن أن يَكونَ خائِنًا أو كاذِبًا؟!
د- أن يَكونَ السِّرُّ كلامًا صَدَرَ في مَجلسٍ خاصٍّ، يَثِقُ الحاضِرونَ فيه بَعضُهم ببَعضٍ، فالحَديثُ الذي قالوه بمُقتَضى الثِّقةِ هو أمانةٌ.
هـ- أن تَقضيَ الضَّرورةُ أوِ الحاجةُ بالإنسانَ إلى أن يَكشِفَ عَمَّا يَسوءُه أو يَضُرُّه إظهارُه، وما كان ليُظهِرَه لولا حاجَتُه إلى المَعونةِ، كمَن يَذهَبُ إلى المُفتي ليسألَه عن حُكمِ الشَّرعِ في أمرٍ قَد فعَله، فإن لم يَشرَحِ الواقِعةَ بالقَدرِ الذي يُبيِّنُ به الحُكمَ فيها لم يَتَمَكَّنِ المُفتي مِن إجابَتِه والبيانِ له، فيَكونُ الحَديثُ الذي وصَف به فِعلَه -إن كان مِمَّا يَسوءُ إظهارُه- أمانةً عِندَ المُفتي، فإن كَشَفَه كان خائِنًا للأمانةِ، فلو شَهدَ المُفتي بَعدَ ذلك أمامَ القَضاءِ بما سَمِعَه مِنَ الإقرارِ لم تُقبَلْ شَهادَتُه ولا عِبرةَ بها؛ لأنَّ الخائِنَ للأمانةِ فاسِقٌ غيرُ عادِلٍ، وهذا عِندَ المالكيَّةِ هو المُعتَمَدُ مِن قَولينِ لم يُروَيا عن مالكٍ، وعليه العَمَلُ.
ومِثلُ ذلك الطَّبيبُ إذا أفضى إليه المَريضُ بسَبَبِ مَرَضِه، وقد يَكونُ فِعلًا شائِنًا، أو كشَفَ للطَّبيبِ مِن بَدَنِه ما يَحتاجُ إلى كشفِه للعِلاجِ، ويَكونُ فيه تَشويهٌ أو مَرَضٌ مُنَفِّرٌ.
ورُبَّما أفضى إلى الطَّبيبِ النَّفسانيِّ بأوضاعٍ خاصَّةٍ به في حياتِه السَّابقةِ، أو أوضاعِ أسرَتِه؛ ليَتَمَكَّنَ مِن تَشخيصِ المَرَضِ ومَعرِفةِ أسبابِه وعِلاجِه، فيَكونُ ذلك كُلُّه أمانةً لدى الطَّبيبِ، ومِنَ الخيانةِ أن يُفشيَها.
وكذلك المُكلَّفونَ بالأبحاثِ الاجتِماعيَّةِ الذينَ يُطلَبُ مِنهمُ التَّحَقُّقُ مِنَ الأوضاعِ المَعيشيَّةِ للمُتَقَدِّمينَ بطَلَبِ المَعوناتِ الاجتِماعيَّةِ، أو مَعونةِ الزَّكاةِ والصَّدَقاتِ، فإنَّ ما يُفضى إليهم به مِنَ الشُّؤونِ الخاصَّةِ التي مِن شَأنِها أن تُكتَمَ هي أماناتٌ لديهم ليس لهم تَضييعُها ولا بَثُّها إلَّا بإيصالِها لمَن شَأنُه تَقريرُ تلك المَعونةِ.
غيرَ أنَّ هذا لا يَمنَعُ استِخدامَ وقائِعَ أوِ الوقائِعِ الطِّبِّيَّةِ أو نَحوِ ذلك في الأبحاثِ العِلميَّةِ، والاستِشهادَ بها في تَأييدِ النَّظَريَّاتِ أو تَزييفِها، غيرَ أنَّها إن كانت مِن قَبيلِ الأسرارِ فلا يَذكُرُ أسماءَ أصحابِها، ولا ما يَكشِفُ شَخصيَّاتِهم، بَل تُستَخدَمُ الألفاظُ المُبهَمةُ.
وسائِرُ أمَناءِ السِّرِّ والموظَّفونَ في الدَّوائِرِ الحُكوميَّةِ أوِ الأهليَّةِ حُمِّلوا الأمانةَ بحُكمِ وظيفتِهم، فعليهم كِتمانُ كُلِّ ما يَعلمونَ أنَّ في إظهارِه ضَرَرًا حِسِّيًّا أو مَعنَويًّا للجِهةِ التي قَلَّدَتهم تلك المُهمَّاتِ، ومِنَ الخيانةِ أن يَكشِفوا مِن ذلك شيئًا.
ثالثًا: لأنَّ البَوحَ بالأسرارِ فيه غالبًا اتِّباعٌ لهَوى النَّفسِ مِمَّن يَفعَلُه، وقد قال تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] ، فإنَّ الذي يَدعو النَّاسَ إلى فضحِ أسرارِ غيرِهم أو كَشفِ معايبِهم أكثَرُها راجِعٌ إلى الهَوى) [2255] يُنظر: ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) العدد الثامن - الجزء الثالث (ص: 25-32). .

انظر أيضا: