موسوعة الآداب الشرعية

سادسَ عشرَ: شُكرُ الله تعالى


مِن الأدبِ معَ الله: شكُرُه تعالى على نِعَمِه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى [206] قال ابنُ القَيِّمِ: (حَقيقةُ الشُّكرِ هو الثَّناءُ على المُنعِمِ ومَحَبَّتُه والعَمَلُ بطاعَتِه، كما قال:  أفادَتكُمُ النَّعماءُ عِندي ثَلاثةً ... يَدي ولساني والضَّميرَ المحجَّبا  فاليَدُ للطَّاعةِ، واللِّسانُ للثَّناءِ، والضَّميرُ للحُبِّ والتَّعظيمِ). ((طريق الهجرتين)) (ص: 95). فالشُّكرُ على النِّعَمِ مَبنيٌّ على ثَلاثةِ أركانٍ: الاعتِرافُ بهذه النِّعَمِ باطِنًا، والتَّحَدُّثُ بها ظاهرًا، وتَصريفُها في مَرضاةِ وليِّها ومُسديها ومُعطيها، فإذا فعَل ذلك فقد شَكَرَها مَعَ تَقصيرِه في شُكرِها. يُنظر: ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 11). قال ابنُ القَيِّمِ: (أصلُ الشُّكرِ هو الاعتِرافُ بإنعامِ المُنعِمِ على وَجهِ الخُضوعِ له والذُّلِّ والمَحَبَّةِ، فمَن لم يَعرِفِ النِّعمةَ بَل كان جاهلًا بها لم يَشكُرْها، ومَن عَرَفها ولم يَعرِفِ المُنعِمَ بها لم يَشكُرْها أيضًا، ومَن عَرَف النِّعمةَ والمُنعِمَ لكِن جَحَدَها كَما يَجحَدُ المُنكِرُ لنِعمةِ المُنعِمِ عليه بها فقد كَفَرَها، ومَن عَرَف النِّعمةَ والمُنعِمَ وأقَرَّ بها ولم يَجحَدْها، ولكِن لم يَخضَعْ له ويُحِبَّه ويَرضَ به وعنه لم يَشكُرْها أيضًا، ومَن عَرَفها وعَرَف المُنعِمَ بها وخَضَعَ للمُنعِمِ بها وأحَبَّه ورَضيَ به وعنه واستَعمَلها في مَحابِّه وطاعَتِه، فهذا هو الشَّاكِرُ لها، فلا بُدَّ في الشُّكرِ مِن عِلمِ القَلبِ، وعَمَلٍ يَتبَعُ العِلمَ، وهو المَيلُ إلى المُنعِمِ، ومَحَبَّتُه والخُضوعُ له). ((طَريق الهجرَتَينِ)) (ص: 168). وقال ابنُ كَثيرٍ: (وقَولُه: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ... فيه دَلالةٌ على أنَّ الشُّكرَ يَكونُ بالفِعلِ كَما يَكونُ بالقَولِ وبالنِّيَّةِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/ 500). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 32 - 34] .
2- قال تعالى في سورةِ النَّحلِ -وهيَ تُسَمَّى عِندَ بَعضِ السَّلَفِ بسورةِ (النِّعَمِ)؛ وذلك بسَبَبِ ما عَدَّدَ اللهُ فيها مِن نِعَمِه على عِبادِه- [207] يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 65)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (14/ 93). : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18] .
3- قال تعالى: وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 52 - 55] .
4- قال تعالى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17] .
5- قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152] .
6- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .
7- قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 114] .
8- قال تعالى: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان: 12] .
9- قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 7-8] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ لَيَرضى عنِ العَبدِ أن يَأكُلَ الأَكلةَ فيَحمَدَه عليها، أو يَشرَبَ الشَّربةَ فيَحمَدَه عليها)) [208] أخرجه مسلم (2734). .
2- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((أفضَلُ الذِّكرِ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وأفضَلُ الدُّعاءِ الحَمدُ للَّهِ)) [209] أخرجه الترمذي (3383)، وابن ماجه (3800).  صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (846)، وحسَّنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/63)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3383)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (1834)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (846). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (سَمَّى الحَمدَ للهِ دُعاءً، وهو ثناءٌ مَحضٌ؛ لأنَّ الحَمدَ مُتضَمِّنٌ الحُبَّ والثَّناءَ. والحُبُّ أعلى أنواعِ الطَّلَبِ؛ فالحامِدُ طالِبٌ للمحبوبِ، فهو أحَقُّ أن يُسمَّى داعيًا من السَّائِلِ الطَّالِبِ؛ فنَفْسُ الحمدِ والثَّناءِ متضَمِّنٌ لأعظَمِ الطَّلَبِ، فهو دعاءٌ حقيقةً، بل أحَقُّ أن يُسَمَّى دعاءً من غيرِه مِن أنواعِ الطَّلَبِ الذي هو دونَه) [210] ((مجموع الفتاوى)) (15/ 19). .
فوائِدُ:
1- عن مُطَرِّفٍ، قال: (قال لي عِمرانُ: إنِّي لأُحَدِّثُك بالحَديثِ اليَومَ ليَنفَعَك اللهُ به بَعدَ اليَومِ. اعلَمْ أنَّ خَيرَ عِبادِ اللهِ يَومَ القيامةِ الحَمَّادونَ...) [211] أخرجه أحمد (19895) واللفظ له، وابن أبي شيبة (35837)، والطبري في ((مسند عمر)) (1161) مختصرًا. صحَّح إسنادَه الطبري، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (4/113)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (19895). .
2- قال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا عُبوديَّةُ النِّعَمِ فمَعرِفتُها والاعتِرافُ بها أوَّلًا، ثُمَّ العِياذُ به أن يَقَعَ في قَلبِه نِسبَتُها وإضافتُها إلى سِواه، وإن كان سَبَبًا مِنَ الأسبابِ فهو مُسَبِّبُه ومُقيمُه، فالنِّعمةُ مِنه وَحدَه بكُلِّ وَجهٍ واعتِبارٍ، ثُمَّ الثَّناءُ بها عليه ومَحَبَّتُه عليها وشُكرُه بأن يَستَعمِلَها في طاعَتِه، ومِن لطائِفِ التَّعَبُّدِ بالنِّعَمِ أن يَكثُرَ قَليلُها عليه، ويَستَقِلَّ كَثيرَ شُكرِه عليها، ويَعلَمَ أنَّها وصَلَت إليه مِن سَيِّدِه مِن غَيرِ ثَمَنٍ بَذَله فيها ولا وسيلةٍ مِنه تَوسَّل بها إليه ولا استِحقاقٍ مِنه لها، وأنَّها للهِ في الحَقيقةِ لا للعَبدِ؛ فلا تَزيدُه النِّعَمُ إلَّا انكِسارًا وذُلًّا وتَواضُعًا ومَحَبَّةً للمُنعِمِ، وكُلَّما جَدَّدَ له نِعمةً أحدَث لها عُبوديَّةً ومحبَّةً وخُضوعًا وذُلًّا، وكُلَّما أحدَثَ له قَبضًا أحدَثَ له رِضًا، وكُلَّما أحدَثَ ذَنبًا أحدَثَ له تَوبةً وانكِسارًا واعتِذارًا؛ فهذا هو العَبدُ الكَيِّسُ. والعاجِزُ بمَعزِلٍ عن ذلك. وباللهِ التَّوفيقُ) [212] ((الفوائد)) (ص: 113، 114). .

انظر أيضا: