ثالثَ عَشَر: مَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ
الصَّبرُ وسَطٌ بَينِ خُلُقَينِ ذَميمَينِ:الصَّبرُ مُرَكَّب مِن أمرَينِ: دَفعُ الجَزَعِ، ومُحاولةُ طَردِه، ثُمَّ مُقاومةُ أثَرِه حتَّى لا يغلِبَ على النَّفسِ، وإنَّما يكونُ ذلك مَعَ الإحساسِ بألمِ المَكروهِ؛ فمَن لا يُحِسُّ به لا يُسَمَّى صابرًا، وإنَّما هو فاقِدٌ للإحساسِ، ويُسَمَّى بَليدًا، وفرقٌ بَينَ الصَّبرِ والبَلادةِ؛ فالصَّبرُ وسَطٌ بَينِ الجَزَعِ والبَلادةِ
[5682] ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/ 227). .
الخَلقُ بَعضُهم لبَعضٍ فِتنةٌ والمَطلوبُ الصَّبرُ:قال اللهُ تعالى:
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان: 20] فالرَّسولُ فِتنةٌ للمُرسَلِ إليهم، واختِبارٌ للمُطيعينَ مِنَ العاصينَ، والرُّسُلُ فتَنَّاهم بدَعوةِ الخَلقِ، والغَنيُّ فِتنةٌ للفقيرِ، والفقيرُ فِتنةٌ للغَنيِّ، وهَكذا سائِرُ أصنافِ الخَلقِ في هذه الدَّارِ دارِ الفِتَنِ والابتِلاءِ والاختِبارِ، والقَصدُ مِن تلك الفِتنةِ: أتصبِرونَ فتَقومونَ بما هو وظيفتُكم اللَّازِمةُ الرَّاتِبةُ، فيُثيبُكم مَولاكم، أم لا تَصبرونَ فتَستَحِقُّونَ المُعاقَبةَ
[5683] يُنظَر: ((تفسير السعدي)) (ص: 580). ؟
فكُلُّ مَن اتَّصَل بك من أهلِك وبَنيك، وأبيك وأُمِّك، وأصحابِك وعَشيرتِك، وقَومِك وكُلِّ مَن تَرتَبطُ به برِباطٍ مِن أبناءِ جِنسِك: هو فِتنةٌ وامتِحانٌ لك: هَل تَقومُ بواجِبك نَحوَه مِن جَلبِ خَيرٍ له، أو دَفعِ شَرٍّ عنه، أو جَلبِ خَيرٍ مِنه لغَيرِه، أو دَفعِ شَرِّه عن غَيرِه، وهَل تَكُفُّ يدَك عن شَيئِه، وتَكُفُّ بَصَرَك عَمَّا مُتِّعَ به، وتَسألُ اللهَ مِمَّا عِندَه مِن فضلِه؟ وإنَّما تَقومُ بواجِبك نَحوَه مِمَّا تَقدَّمُ، وتَكُفُّ يدَك وعَينَك عنه، وتَسألُ اللهَ مِمَّا عِندَه راضيًا بما قَسَمَ لك، مُعتَقِدًا الخَيرَ كُلَّ الخَيرِ في قَسْمِه؛ إذا تَدَرَّعتَ بالصَّبرِ على إتيانِه وإن كان عَليك ثَقيلًا، والكفِّ عَمَّا يُطلَبُ مِنك الانكِفافَ عنه وإن كان مِنك قَريبًا، وفي طَبعِك لذيذًا. وإنَّما يكونُ لك هذا الصَّبرُ إذا كُنتَ دائِمَ اليقينِ بعِلمِ اللهِ بك، واطِّلاعِه عليك، وأنَّه كان بك بَصيرًا. هذه الحَقائِقُ كُلُّها هَدَتنا هذه الآيةُ الكريمةُ إليها؛ هَدَتْنا إلى أنَّا امتُحِنَّا ببَعضِنا، وأنَّ الذي يُخَلِّصُنا في هذا الامتِحانِ ويُخرِجُنا سالمينَ هو الصَّبرُ
[5684] يُنظَر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 168). .
لماذا سُمِّيَ الصَّبرُ صَبرًا؟حَكى أبو بَكرِ بنُ الأنباريِّ عن بَعضِ العُلماءِ أنَّه قال: (إنَّما سُمِّي الصَّبرُ صَبرًا؛ لأنَّ تمَرُّرَه في القَلبِ وإزعاجَه للنَّفسِ كتَمَرُّرِ الصَّبرِ
[5685] الصَّبرُ: هو الدَّواءُ المُرُّ المعروفُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (4/317). في الفَمِ)
[5686] ((ذم الهوى)) لابن الجوزي (ص: 58). .
الباعِثُ على الصَّبرِ:يجِبُ أن يكونَ الباعِثُ على الصَّبرِ ابتِغاءَ وَجهِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والتَّقَرُّبَ إليه ورَجاءَ ثَوابِه، لا لإظهارِ الشَّجاعةِ وقوَّةِ النَّفسِ وغَيرِ ذلك مِنَ الأغراضِ؛ قال تعالى:
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [الرعد: 22] .
قال
السَّعديُّ في تَفسيرِه للآيةِ: ابتِغاءَ وَجهِ رَبِّهم (لا لغَيرِ ذلك مِنَ المَقاصِدِ والأغراضِ الفاسِدةِ؛ فإنَّ هذا هو الصَّبرُ النَّافِعُ الذي يحبسُ به العَبدُ نَفسَه طَلبًا لمَرضاةِ رَبِّه، ورَجاءً للقُربِ منه، والحُظوةِ بثَوابِه، وهو الصَّبرُ الذي مِن خَصائِصِ أهلِ الإيمانِ، وأمَّا الصَّبرُ المُشتَرَكُ الذي غايتُه التَّجَلُّدُ ومُنتَهاه الفَخرُ، فهذا يصدُرُ مِنَ البَرِّ والفاجِرِ، والمُؤمِنِ والكافِرِ؛ فليسَ هو المَمدوحَ على الحَقيقةِ)
[5687] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 416). .
وقال سُبحانَه:
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (أي: اجعَل صَبرَك على أذاهم لوَجهِ رَبِّك عَزَّ وجَلَّ)
[5688] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (8/264). .
شُروطُ الصَّبرِ:عن أبي مَيمونٍ قال: (إنَّ للصَّبرِ شُروطًا... أن تَعرِفَ كيف تَصبرُ؟ ولمَن تَصبرُ؟ وما تُريدُ بصَبرِك؟ وتَحتَسِبَ في ذلك وتُحسِنَ النِّيَّةَ فيه، لعَلَّك أن يَخلُصَ لك صَبرُك، وإلَّا فإنَّما أنت بمَنزِلةِ البَهيمةِ نزلَ بها البَلاءُ فاضطَرَبَت لذلك، ثُمَّ هَدَأ فهَدَأَت، فلا هي عَقَلَت ما نَزَل بها فاحتَسَبَت وصَبَرَت، ولا هي عَرَفت النِّعمةَ حينَ هَدَأ ما بها، فحَمِدَت اللهَ على ذلك وشَكرَت)
[5689] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الصبر والثواب عليه)) (ص: 52). .
ومِنهم مَن ذَكرَ أنَّ شُروطَ الصَّبرِ ثَلاثةٌ:1- الإخلاصُ.
2- عَدَمُ شَكوى اللهِ.
3- أن يكونَ الصَّبرُ في أوانِه
[5690] ((الصبر الجميل)) للهلالي (ص: 27). .
مَراتِبُ الصَّابرينَ:(قيل: مَراتِبُ الصَّابرينَ خَمسةٌ: صابرٌ، ومُصطَبرٌ، ومُتَصَبِّرٌ، وصَبورٌ، وصَبَّارٌ؛ فالصَّابرُ: أعَمُّها، والمُصطَبرُ: المُكتَسِبُ الصَّبرِ المَليءُ به. والمُتَصَبِّرُ: المُتَكلِّفُ حامِلُ نَفسِه عليه. والصَّبورُ: العَظيمُ الصَّبرِ الذي صَبرُه أشَدُّ مِن صَبرِ غَيرِه. والصَّبَّارُ: الكثيرُ الصَّبرِ. فهذا في القَدْرِ والكمِّ. والذي قَبلَه في الوصفِ والكَيفِ)
[5691] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 158). .
الصَّبرُ المَذمومُ:- قال المرُّوذيُّ: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ يقولُ: الصَّبرُ في كِتابِ اللهِ ثَمانونَ مَوضِعًا مَحمودٌ، ومَوضِعانِ مَذمومٌ:
سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم: 21] ،
أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص: 6] ، أو قال:
فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ المُرُّوذيُّ شَكَّ
[5692] ((بدائع الفوائد)) (3/ 115). .
زادُ الصَّابِرِ:قال
ابنُ الجَوزيِّ: (ليس في الوُجودِ شَيءٌ أصعَبَ مِنَ الصَّبرِ: إمَّا عنِ المَحبوبِ، أو على المَكروهاتِ، وخُصوصًا إذا امتَدَّ الزَّمانُ، أو تَوقَّعَ اليأسَ مِنَ الفرَجِ، وتلك المُدَّةُ تَحتاجُ إلى زادٍ يقطَعُ به سَفرَها.
والزَّادُ يتَنَوَّعُ مِن أجناسٍ: فمِنه: تَلمُّحُ مِقدارِ البَلاءِ، وقد يُمكِنُ أن يكونَ أكثَرَ، ومِنه: أنَّه في حالٍ فوقَها أعظَمُ مِنه، مِثلُ أن يُبتَلى بفقدِ وَلَدٍ، وعِندَه أعَزُّ مِنه. ومِن ذلك: رَجاءُ العِوَضِ في الدُّنيا، ومِنه: تَلمُّحُ الأجرِ في الآخِرةِ، ومِنه: التَّلذُّذُ بتَصويرِ المَدحِ والثَّناءِ مِنَ الخَلقِ فيما يمدَحونَ عليه، والأجرِ مِنَ الحَقِّ عَزَّ وجَلَّ.
ومِن ذلك أنَّ الجَزَعَ لا يُفيدُ، بَل يفضَحُ صاحِبَه... إلى غَيرِ ذلك مِنَ الأشياءِ التي يقدَحُها العَقلُ والفِكرُ؛ فليس في طَريقِ الصَّبرِ نَفقةٌ سِواها، فينبَغي للصَّابرِ أن يشغَلَ بها نَفسَه، ويقطَعَ بها ساعاتِ ابتِلائِه، وقد صَبَّحَ المَنزِلَ)
[5693] ((صيد الخاطر)) (ص: 170، 171). .
الصَّبرُ الجَميلُ:قال تعالى:
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج: 5] .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ اللهَ أمَرَ نَبيَّه بالهَجرِ الجَميلِ، والصَّفحِ الجَميلِ، والصَّبرِ الجَميلِ؛ "فالهَجرُ الجَميلُ" هَجرٌ بلا أذًى، و"الصَّفحُ الجَميلُ" صَفحٌ بلا عِتابٍ، و"الصَّبرُ الجَميلُ" صَبرٌ بلا شَكوى)
[5694] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 666). .
الصَّبرُ لازِمٌ لمَن يأمُرُ بالمَعروفِ وينهى عنِ المُنكَرِ:- قال
بِشرُ بنُ الحارِثِ: (لا ينبَغي أن يأمُرَ بالمَعروفِ وينهى عنِ المُنكَرِ إلَّا مَن يصبرُ على الأذى)
[5695] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (8/ 337). .
- وقال
ابنُ تيميَّةَ: (القيامُ بالواجِباتِ -مِنَ الدَّعوةِ الواجِبةِ وغَيرِها- يحتاجُ إلى شُروطٍ يُقامُ بها... فالفِقهُ قَبل الأمرِ ليَعرِفَ المَعروفَ ويُنكِرَ المُنكرَ، والرِّفقُ عِندَ الأمرِ ليسلُكَ أقرَبَ الطُّرُقِ إلى تَحصيلِ المَقصودِ، والحِلمُ بَعدَ الأمرِ ليَصبرَ على أذى المَأمورِ والمَنهيِّ؛ فإنَّه كثيرًا ما يحصُلُ له الأذى بذلك؛ ولهذا قال تعالى:
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان: 17] )
[5696] ((مجموع الفتاوى)) (15/ 167). .
- وعن أبي جَعفرٍ الخَطميِّ أنَّ جَدَّه عُمَيرَ بنَ حَبيبٍ -وكان قد بايعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أوصى بَنيه، فقال لهم: (إذا أرادَ أحَدُكم أن يأمُرَ بالمَعروفِ أو ينهى عنِ المُنكَرِ فليوطِّنْ نَفسَه قَبلَ ذلك على الأذى، وليوقِنْ بالثَّوابِ مِنَ اللهِ؛ فإنَّ مَن يوقِنُ بالثَّوابِ مِنَ اللهِ لا يجِدُ مَسَّ الأذى)
[5697] ((الزهد)) لأحمد بن حنبل (1031)، ((الحلم)) لابن أبي الدنيا (17)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (11/ 25). .
بالصَّبرِ تُدفَعُ فِتنةُ الشَّهَواتِ:قال
ابنُ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ: (أصلُ كُلِّ فِتنةٍ إنَّما هو مِن تَقديمِ الرَّأي على الشَّرعِ، والهَوى على العَقلِ.
فالأوَّلُ: أصلُ فِتنةِ الشُّبهةِ، والثَّاني: أصلُ فِتنةِ الشَّهوةِ.
ففِتنةُ الشُّبُهاتِ تُدفَعُ باليقينِ، وفِتنةُ الشَّهَواتِ تُدفَعُ بالصَّبرِ؛ ولذلك جَعَل سُبحانَه إمامةَ الدِّينِ مَنوطةً بهَذَين الأمرَينِ، فقال:
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24] ، فدَلَّ على أنَّه بالصَّبرِ واليقينِ تُنالُ الإمامةُ في الدِّينِ.
وجَمَعَ بَينَهما أيضًا في قَولِه:
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العَصر: 3] .
فتَواصَوا بالحَقِّ الذي يدفعُ الشُّبُهاتِ، وبالصَّبرِ الذى يكُفُّ عنِ الشَّهَواتِ، وجَمَعَ بَينَهما في قَولِه:
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص: 45] ، فالأيدي: القُوى والعَزائِمُ في ذاتِ اللهِ، والأبصارِ: البَصائِرُ في أمرِ اللهِ)
[5698] ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/ 167). .
التَّواصي بالصَّبرِ:قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1 – 3].
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فلا بُدَّ مِنَ التَّواصي بالحَقِّ والصَّبرِ؛ إذ إنَّ أهلَ الفسادِ والباطِل لا يقومُ باطِلُهم إلَّا بصَبرٍ عليه أيضًا، لكِنِ المُؤمِنونَ يتَواصَونَ بالحَقِّ والصَّبرِ، وأولئِك يتَواصَونَ بالصَّبرِ على باطِلِهم، كما قال قائِلهُم:
أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص: 6] .
فالتَّواصي بالحَقِّ بدونِ الصَّبرِ كما يفعَلُه الذين يقولونَ: آمَنَّا بالله، فإذا أوذيَ أحَدُهم في اللهِ جَعَل فِتنةَ النَّاسِ كعَذابِ اللهِ، والذين يعبُدونَ اللهَ على حَرفٍ، فإن أصابَ أحَدَهم خَيرٌ اطمَأنَّ به، وإن أصابَته فِتنةٌ انقَلبَ على وجهِه، خَسِرَ الدُّنيا والآخِرةَ.
والتَّواصي بالصَّبرِ بدونِ الحَقِّ، كقَولِ الذين قالوا:
أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ كِلاهما موجِبٌ للخُسرانِ، وإنَّما نَجا مِنَ الخُسرانِ الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحات وتَواصَوا بالحَقِّ وتَواصَوا بالصَّبرِ، وهذا مَوجودٌ في كُلِّ مَن خَرَجَ عن هؤلاء من أهلِ الشَّهَواتِ الفاسِدةِ وأهلِ الشُّبُهاتِ الفاسِدةِ؛ أهلِ الفُجورِ وأهلِ البدَعِ)
[5699] ((جامع الرسائل)) (2/ 394). .
الصَّبرُ عِندَ الصَّدمةِ الأولى:(لمَّا كان مَصيرُ كُلِّ مُصابٍ أن ينسى المُصيبةَ بَعد حينٍ ما لم يكُنْ ألمُها جاثِمًا مُتَجَدِّدًا، كان حِسابُ قيمةِ الصَّبرِ مُقدَّرًا عِندَ الصَّدمةِ الأولى لا بَعدَ أن يضمَحِلَّ أثَرُ المُصيبةِ بمُرورِ الزَّمَنِ، وهذا ما بَيَّنَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... فقال: "إنَّما الصَّبرُ عِندَ الصَّدمةِ الأولى")
[5700] ((الأخلاق الإسلامية)) للميداني (ص: 327). .
انتِظامُ الصَّبرِ للعَديدِ مِنَ الفضائِلِ:الصَّبرُ لفظٌ عامٌّ ينتَظِمُ جُملةً مِنَ الفضائِلِ، وقد يُسَمَّى بأسماءٍ كثيرةٍ؛ لكثرةِ مَواطِنِه ومَظاهرِه
[5701] ((أخلاق القرآن)) للشرباصي (1/192). .
قال
الغَزاليُّ: (إن كان صَبرًا على شَهوةِ البَطنِ والفَرجِ سُمِّي عِفَّةً، وإن كان على احتِمالِ مَكروهٍ اختَلفت أساميه عِندَ النَّاسِ باختِلافِ المَكروهِ الذي غَلبَ عليه الصَّبرُ؛ فإن كان في مُصيبةٍ اقتَصَرَ على اسمِ الصَّبرِ، وتُضادُّه حالةٌ تُسَمَّى الجَزَعَ والهَلَعَ، وهو إطلاقُ داعي الهَوى ليستَرسِلَ في رَفعِ الصَّوتِ وضَربِ الخُدودِ وشَقِّ الجُيوبِ وغَيرِهما، وإن كان في احتِمالِ الغِنى سُمِّي ضَبطَ النَّفسِ، وتُضادُّه حالةٌ تُسَمَّى البَطَرَ، وإن كان في حَربٍ ومُقاتلةٍ سُمِّيَ شَجاعةً، ويُضادُّه الجُبنُ، وإن كان في كظمِ الغَيظِ والغَضَبِ سُمِّي حِلمًا، ويُضادُّه التَّذَمُّرُ، وإن كان في نائِبةٍ مِن نَوائِبِ الزَّمانِ مُضجِرةٍ سُمِّي سَعةَ الصَّدرِ، ويُضادُّه الضَّجَرُ والتَّبَرُّمُ وضِيقُ الصَّدرِ، وإن كان في إخفاءِ كلامٍ سُمِّيَ كِتمانَ السِّرِّ، وسُمِّي صاحِبُه كَتومًا، وإن كان عن فُضولِ العَيشِ سُمِّي زُهدًا، ويُضادُّه الحِرصُ، وإن كان صَبرًا على قدَرٍ يسيرٍ مِنَ الحُظوظِ سُمِّي قَناعةً، ويُضادُّه الشَّرَهُ؛ فأكثَرُ أخلاقِ الإيمانِ داخِلٌ في الصَّبرِ)
[5702] ((إحياء علوم الدين)) (4/ 67). .
وقال الرَّاغِبُ: (فالصَّبرُ لفظٌ عامٌّ، ورُبَّما خولِفَ بَينَ أسمائِه بحَسَبِ اختِلافِ مَواقِعِه؛ فإن كان حَبسَ النَّفسِ لمُصيبةٍ سُمِّي صَبرًا لا غَيرُ، ويُضادُّه الجَزَعُ، وإن كان في مُحارَبةٍ سُمِّي شَجاعةً، ويُضادُّه الجُبنُ، وإن كان في نائِبةٍ مُضجِرةٍ سُمِّي رَحبَ الصَّدرِ، ويُضادُّه الضَّجَرُ، وإن كان في إمساكِ الكلامِ سُمِّي كِتمانًا، ويُضادُّه المَذْلُ
[5703] كُلُّ مَن قَلِق بسِرِّه حتَّى يذيعَه أو بمضجَعِه حتى يتحوَّلَ عنه فقد مَذَلَ به. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (30/ 400). ، سَمَّى اللهُ تعالى كُلَّ ذلك صَبرًا، ونَبَّهَ عليه بقَولِه:
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ[البقرة: 177] ،
وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ [الحج: 35] ،
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ [الأحزاب: 35] )
[5704] ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 474). .
تَفاوُتُ دَرَجاتِ الصَّبرِ:الصَّبرُ نَوعانِ: اختياريٌّ واضطِراريٌّ، والاختياريُّ أكمَلُ مِنَ الاضطِراريِّ؛ فإنَّ الاضطراريَّ يشتَرِكُ فيه النَّاسُ ويتَأتَّى مِمَّن لا يتَأتَّى مِنه الصَّبرُ الاختياريُّ؛ ولذلك كان صَبرُ يوسُفَ الصِّدِّيقِ عليه السَّلامُ عن مُطاوعةِ امرَأةِ العَزيزِ وصَبرُه على ما ناله في ذلك مِنَ الحَبسِ والمَكروهِ أعظَمَ مِن صَبرِه على ما ناله مِن إخوتِه لَمَّا ألقَوه في الجُبِّ، وفرَّقوا بَينَه وبَينَ أبيه، وباعوه بَيعَ العَبدِ، ومِنَ الصَّبرِ الثَّاني: إنشاءُ اللهِ سُبحانَه له ما أنشَأه مِنَ العِزِّ والرِّفعةِ والمُلكِ والتَّمكينِ في الأرضِ
[5705] ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 33). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (سَمِعتُ
شَيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ -قدَّسَ اللهُ روحَه- يقولُ: كان صَبرُ يوسُفَ عن مُطاوعةِ امرَأةِ العَزيزِ على شَأنِها أكمَلَ مِن صَبرِه على إلقاءِ إخوتِه له في الجُبِّ، وبَيعِه، وتَفريقِهم بَينَه وبَينَ أبيه؛ فإنَّ هذه أُمورٌ جَرَت عليه بغَيرِ اختيارِه، لا كَسْبَ له فيها، ليسَ للعَبدِ فيها حيلةٌ غَيرُ الصَّبرِ، وأمَّا صَبرُه عنِ المَعصيةِ فصَبرُ اختيارٍ ورِضًا ومُحارَبةٍ للنَّفسِ. ولا سيَّما مَعَ الأسبابِ التي تَقوى مَعَها دَواعي الموافقةِ؛ فإنَّه كان شابًّا، وداعيةُ الشَّبابِ إليها قَويَّةٌ. وعَزَبًا ليسَ له ما يُعَوِّضُه ويرُدُّ شَهوتَه. وغَريبًا، والغَريبُ لا يستَحي في بَلدِ غُربَتِه مِمَّا يستَحي مِنه مَن بَينَ أصحابِه ومَعارِفه وأهلِه. ومَملوكًا، والمَملوكُ أيضًا ليسَ وازِعُه كوازِعِ الحُرِّ. والمَرأةُ جَميلةٌ، وذاتُ مَنصِبٍ، وهي سَيِّدتُه، وقد غابَ الرَّقيبُ، وهي الدَّاعيةُ له إلى نَفسِها، والحَريصةُ على ذلك أشَدَّ الحِرصِ، ومَعَ ذلك تَوعَّدَته إن لم يفعَلْ بالسَّجنِ والصَّغارِ، ومَعَ هذه الدَّواعي كُلِّها صَبَرَ اختيارًا، وإيثارًا لِما عِندَ اللهِ، وأينَ هذا مِن صَبرِه في الجُبِّ على ما ليس مِن كسْبِه؟)
[5706] ((مدارج السالكين)) (2/ 156). .
وصفُ اللهِ بالصَّبرِ:يوصَفُ اللهُ عَزَّ وجَل بصِفةِ الصَّبرِ، كما هو ثابتٌ في السُّنَّةِ الصَّحيحةِ؛ فعن أبي موسى رَضيَ اللهُ عنه:
((ما أحَدٌ أصبرَ على أذًى سَمِعَه مِنَ اللهِ؛ يدعونَ له الوَلَدَ، ثُمَّ يُعافيهم ويَرزُقُهم)) [5707] أخرجه البخاري (7378)، ومسلم (49). .
(وصَبرُه تعالى يُفارِقُ صَبرَ المَخلوقِ ولا يُماثِلُه مِن وُجوهٍ مُتَعَدِّدةٍ؛ مِنها: أنَّه عن قُدرةٍ تامَّةٍ، ومِنها: أنَّه لا يخافُ الغَوثَ، والعَبدُ إنما يستَعجِلُ الخَوفَ بالغَوثِ، ومِنها: أنَّه لا يَلحَقُه بصَبرِه ألمٌ ولا حُزنٌ ولا نَقصٌ بوجهٍ ما)
[5708] ((عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين)) (ص: 276). .
مَفعولُ الصَّبر يُحذَفُ غالبًا:الصَّبرُ يكونُ عَميقًا مُثمِرًا إذا صارَ كالطَّبعِ للإنسانِ، وقد يُساعِدُ عِلَّةَ هذا الفهمِ أنَّنا نُلاحِظُ في حَديثِ القُرآنِ الكريمِ عنِ الصَّبرِ أنَّ مَفعولَ الصَّبرِ يُحذَفُ غالبًا؛ للدَّلالةِ على أنَّه صارَ كالطَّبعِ للفاعِلِ، ولم تَرِدْ مادَّةُ الصَّبرِ مَعَ ذِكرِ المَفعولِ إلَّا في آيةٍ واحِدةٍ، وهي قَولُه:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... [الكهف: 28] [5709] ((أخلاق القرآن)) للشرباصي (1/195). .
ما يُقالُ عِندَ المُصيبةِ:عن
أُمِّ سَلَمةَ أنَّها قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((ما مِن مُسلمٍ تُصيبُه مُصيبةٌ، فيقولُ ما أمَرَه اللهُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ، اللهمَّ أجُرْني في مُصيبتي، وأخلِفْ لي خَيرًا مِنها، إلَّا أخلَفَ اللهُ له خَيرًا مِنها)) [5710] أخرجه مسلم (918). .