الفرعُ الثَّالِثُ: المَعاني التي يُستَعمَلُ فيها الأمرُ
المَعاني التي يُستَعمَلُ فيها الأمرُ كَثيرةٌ، أوصَلَها المَرداويُّ إلى سِتَّةٍ وثَلاثينَ مَعنى
[688] يُنظر: ((التحبير)) (5/2184). ، وكَثيرٌ مِن هذه المَعاني قد يَكونُ متداخلًا مَعَ غَيرِه في بَعضِ الأحيانِ، وللقَرينةِ أثَرٌ كَبيرٌ في اعتِبارِ وَجهِ الاستِعمالِ وتَحديدِ المَعنى المُرادِ
[689] يُنظر: ((تفسير النصوص)) للصالح (2/239)، ((أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 299). .
وعَدَّها الغَزاليُّ سِتَّةَ عَشَرَ مَعنًى، ثُمَّ انتَقدَ الزِّيادةَ عليها، فقال: (وهذه الأوجُهُ عَدَّدَها الأُصوليُّونَ شَغَفًا مِنهم بالتَّكثيرِ، وبَعضُها كالمُتَداخِلِ؛ فإنَّ قَولَه: "كُلْ مِمَّا يَليك"
[690] أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022) من حديثِ عُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُ البخاريِّ: (كُنتُ غُلامًا في حَجرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت يَدي تَطيشُ في الصَّحفةِ، فقال لي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمينِكَ، وكُلْ مِمَّا يَليكَ، فما زالَت تلك طِعمَتي بَعدُ). جُعِلَ للتَّأديبِ، وهو داخِلٌ في النَّدَبِ، والآدابُ مَندوبٌ إليها، وقَولُه:
وَتَمَتَّعُوا للإنذارِ، قَريبٌ مِن قَولِه:
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ الذي هو للتَّهديدِ، ولا نُطَوِّلُ بتَفصيلِ ذلك وتَحصيلِه)
[691] ((المستصفى)) (ص: 205). .
ومِن أهَمِّ هذه المَعاني [692] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 204)، ((المحصول)) للرازي (2/39)، ((الإحكام)) للآمدي (2/142)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/241)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/274)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (3/152)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2194)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/31). :1- الوُجوبُ، كقَولِ اللهِ تعالى:
أَقِمِ الصَّلَاةَ [الإسراء: 78] .
2- النَّدبُ: كقَولِ اللهِ تعالى:
فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور: 33] .
3- الإباحةُ، كقَولِ اللهِ تعالى:
وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة: 2] .
4- التَّأديبُ: مِثلُ أكلِ الإنسانِ مِمَّا يَليه، كما في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ:
((يا غُلامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمينِك، وكُلْ مِمَّا يَليك)) [693] أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022) من حديثِ عُمَرَ بنِ أبي سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
والفرقُ بَينَ النَّدبِ والتَّأديبِ: هو الفرقُ ما بَينَ العامِّ والخاصِّ؛ لأنَّ الأدَبَ مُتَعَلِّقٌ بمَحاسِنِ الأخلاقِ، والمَندوبَ أعَمُّ
[694] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 160)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1154)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (3/147). .
5- الإرشادُ: كقَولِ اللهِ تعالى:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] ، وقَولِه:
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة: 282] .
والفرقُ بَينَ الإرشادِ والنَّدبِ: أنَّ المَندوبَ مَطلوبٌ لمَنافِعِ الآخِرةِ، والإرشادَ لمَنافِعِ الدُّنيا، فهو فِعلٌ مُتَعَلِّقٌ بغَرَضِ الفاعِلِ ومَصلَحةِ نَفسِه
[695] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 205)، ((المحصول)) للرازي (2/39)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1021)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/276). .
6- الإكرامُ: كقَولِ اللهِ تعالى:
ادْخُلُوها بِسَلَامٍ آمِنِينَ [الحجر: 46] .
7- التَّسخيرُ: كقَولِ اللهِ تعالى:
كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة: 65] .
8- التَّعجيزُ: كقَولِ اللهِ تعالى:
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا [الإسراء: 50] .
9- الامتِنانُ، كقَولِ اللهِ تعالى:
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [المائدة: 88] .
10- التَّهديدُ، كقَولِ اللهِ تعالى:
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] .
11- الإهانةُ، كقَولِ اللهِ تعالى:
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] .
12- الدُّعاءُ، كقَولِ: (اللهُمَّ اغفِرْ لي).
13- التَّمَنِّي، كقَولِ الشَّاعِرِ: ألَا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألَا انجلِ
[696] هذا صَدرُ بَيتٍ لامرِئِ القَيسِ في مُعَلَّقَتِه، وعَجُزُه: (بصُبحٍ وما الإصباحُ مِنك بأمثَلِ). يُنظر: ((ديوان امرئ القيس)) (ص: 49). .
14- الاعتِبارُ والتَّنبيهُ: كقَولِ اللهِ تعالى:
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا [النمل: 69] .
15- التَّحسيرُ: كقَولِه تعالى:
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران: 119] .
وصيغةُ (افعَلْ) تُستَعمَلُ في المَعاني السَّابِقةِ، لَكِنَّها لَيسَت حَقيقةً في جَميعِها. وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ فيما تُفيدُه الصِّيغةُ مِن هذه المَعاني حَقيقةً، فمَدارُ الخِلافِ بَينَهم هو المَعنى الحَقيقيُّ للأمرِ
[697] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/852)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/365)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/20)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1034)، ((تفسير النصوص)) للصالح (2/240). .