موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (31-37)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ

غريب الكلمات:

خَطْبُكُمْ: أي: أمرُكم وشأنُكم المُهِمُّ، وأصلُ (خطب) هنا: يدُلُّ على الكلامِ بيْنَ اثنَينِ، وسُمِّيَ بذلك لِمَا يَقَعُ فيه مِن التَّخاطُبِ والمُراجَعةِ [291] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/86)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/198)، ((المفردات)) للراغب (ص: 286). .
مُسَوَّمَةً: أي: مُعلَّمةً؛ مِن السِّيماءِ: أي: العلَامةِ [292] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 102)، ((تفسير ابن جرير)) (5/265)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 434)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/118)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 43). .
لِلْمُسْرِفِينَ: أي: المُتعَدِّينَ حُدودَ اللهِ، والسَّرَفُ: تجاوُزُ الحدِّ في كلِّ فِعلٍ يَفعَلُه الإنسانُ، وأصلُه: يدُلُّ على تعدِّي الحَدِّ [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/532)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /153)، ((المفردات)) للراغب (ص: 407)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لَمَّا عرَف حقيقةَ ضيوفِه، وأنَّهم ملائكةٌ؛ أخَذ يسألُهم: قال لهم: فما الشَّأنُ الخَطيرُ الَّذي أرسَلَكم اللهُ مِن أجْلِه؟ قالوا له: إنَّا أُرسِلْنا إلى قَومٍ كافِرينَ -وهم قَومُ لُوطٍ عليه السَّلامُ-؛ لِنُمطِرَ عليهم حِجارةً مِن طينٍ، مُعلَّمةً عندَ ربِّك لِلَّذين تعَدَّوا حُدودَ اللهِ.
ثمَّ يقولُ تعالى: فأخرَجْنا مَن كان في هذه القَريةِ مِنَ المُؤمِنينَ، فما وَجَدْنا في تلك القَريةِ غَيرَ أهلِ بَيتٍ واحِدٍ مِن المُسلِمينَ، وأبقَيْنا في تلك القَريةِ عَلامةً دالَّةً على سُوءِ عاقِبةِ أهلِها، للَّذين يَخافونَ عَذابَ اللهِ؛ لِيَتَّعِظوا.

تفسير الآيات:

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عَلِمَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ مِن مُحاورَتِهم فيما ذُكِرَ في هذه الآيةِ، وما ورَدَ ذِكْرُه في آياتٍ أُخرى أنَّهم مَلائكةٌ مُرسَلونَ مِن عندِ اللهِ؛ سأَلَهم عن الشَّأنِ الَّذي أُرسِلوا مِن أجْلِه [294] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/402)، ((تفسير البيضاوي)) (5/149)، ((تفسير أبي السعود)) (8/141)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/5). .
وأيضًا لَمَّا كان الخَليلُ عليه السَّلامُ أعلَمَ أهلِ زَمانِه بالأُمورِ الإلهيَّةِ؛ عَلِمَ أنَّ اجتِماعَ الملائِكةِ على تلك الهَيئةِ الَّتي يَراهم فيها ليس لهذه البِشارةِ فقط؛ فلذلك استأنفَ تعالى الجوابَ لِمَن كان كأنَّه قال: ما كان مِن حالِه وحالِهم بعدَ هذا؛ بقَولِه [295] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/465). :
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31).
أي: قال إبراهيمُ للمَلائكةِ بعدَ تَلقِّي بِشارتِهم له بالوَلَدِ: فما الشَّأنُ الخَطيرُ الَّذي أرسَلَكم اللهُ مِن أجْلِه [296] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/531)، ((تفسير القرطبي)) (17/48)، ((تفسير ابن كثير)) (7/422)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810). قال ابنُ عطية: (الخَطبُ: الأمرُ المُهِمُّ، وقَلَّما يُعبَّرُ به إلَّا عن الشَّدائدِ والمكارِهِ، حتَّى قالوا: خُطوبُ الزَّمانِ، ونحوُ هذا، فكأنَّه يقولُ لهم: ما هذه الطَّامَّةُ الَّتي جِئتُم لها؟). ((تفسير ابن عطية)) (5/178). وقال ابنُ عاشور: (قد عَلِمَ إبراهيمُ أنَّ نُزولَ الملائِكةِ بتلك الصُّورةِ لا يكونُ لمجَرَّدِ بِشارتِه بابنٍ يُولَدُ له ولِزَوجِه؛ إذْ كانت البِشارةُ تَحصُلُ له بالوَحيِ؛ فكان مِن عِلمِ النُّبُوَّةِ أنَّ إرسالَ الملائكةِ إلى الأرضِ بتلك الصُّورةِ لا يكونُ إلَّا لخَطبٍ! قال تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [الحجر: 8] ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/6). ؟
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32).
أي: قالوا له: إنَّا أرسَلَنا اللهُ إلى قَومٍ كافِرينَ فاسِدينَ، وهم قَومُ لُوطٍ عليه السَّلامُ [297] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/531)، ((تفسير القرطبي)) (17/48)، ((تفسير ابن كثير)) (7/422)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 147). .
كما قال تعالى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 80 - 84] .
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33).
أي: لنُمطِرَ عليهم مِنَ السَّماءِ حِجارةً أصلُها مِن طينٍ، فنَرجُمَهم بها [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/532)، ((تفسير القرطبي)) (17/48)، ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 494)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 149). .
كما قال تعالى: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 34] .
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34).
أي: حِجارةً مُعلَّمةً عندَ اللهِ تعالى، قد أُعِدَّت لأولئك القَومِ الَّذين تعَدَّوا حُدودَ اللهِ [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/532)، ((تفسير ابن عطية)) (5/178، 179)، ((تفسير القرطبي)) (17/48). قال القرطبي: (مُسَوَّمَةً أي: مُعَلَّمةً. قيل: كانت مُخطَّطةً بسَوادٍ وبَياضٍ. وقيل: بسَوادٍ وحُمرةٍ. وقيل: مُسَوَّمَةً أي: مَعروفةً بأنَّها حِجارةُ العذابِ. وقيل: على كُلِّ حَجَرٍ اسمُ مَن يَهلِكُ به. وقيل: عليها أمثالُ الخواتيمِ). ((تفسير القرطبي)) (17/48). وقد ذهب ابنُ كثير، والسعديُّ، وابنُ عثيمين: إلى أنَّ المعنى أنَّ كلَّ حجرٍ عليه اسمُ صاحِبِه. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/422)، ((تفسير السعدي)) (ص: 5)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 150). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الرَّبيعُ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/394). وقال ابنُ عطيَّة: (ويحتَمِلُ أن يكونَ المعنى: أنَّها بجُملتِها مَعلومةٌ عندَ رَبِّك لهذا المعنى، مُعَلَّمةٌ له، لا أنَّ كُلَّ واحدٍ منها له علامةٌ خاصَّةٌ به). ((تفسير ابن عطية)) (5/179). .
كما قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82، 83].
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أراد اللهُ تعالى أن يُهلِكَ المُجرِمينَ، مَيَّزَ المؤمِنينَ بقَولِه تعالى [300] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/102). :
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35).
أي: فلَمَّا أرَدْنا إهلاكَ قَومِ لُوطٍ أخرَجْنا مَن كان في بَلَدِهم مِنَ المُؤمِنينَ باللهِ تعالى [301] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/532)، ((تفسير ابن كثير)) (7/422)، ((تفسير القاسمي)) (9/42)، ((تفسير السعدي)) (ص: 5). .
كما قال تعالى: إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [الحجر: 59، 60].
وقال سُبحانَه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65].
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36).
أي: فما وَجَدْنا في تلك القَريةِ غَيرَ أهلِ بَيتٍ واحِدٍ مِن أهلِ الإسلامِ [302] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/131)، ((تفسير القرطبي)) (17/48)، ((تفسير الشوكاني)) (5/106). قال الواحدي: (قال مجاهِدٌ ومُقاتِلٌ والمفَسِّرونَ: يعني: لوطًا وبِنتَيه). ((البسيط)) (20/453). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/131)، ((تفسير ابن جرير)) (21/532). .
وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان إبقاءُ آثارِ المُهلَكينَ أدَلَّ على قُدرةِ مَن أهلَكَهم؛ قال [303] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/467). :
وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37).
أي: وأبقَيْنا في تلك القَريةِ عَلامةً دالَّةً على سُوءِ عاقِبةِ أهلِها، للَّذين يخافونَ عَذابَ اللهِ المُؤلِمَ المُوجِعَ، فيَستَدِلُّونَ بذلك على قُدرةِ اللهِ تعالى وانتِقامِه مِن المُجرِمينَ، ويَعتَبِرونَ ويتَّعِظونَ [304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/533)، ((تفسير ابن عطية)) (5/179)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/119)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/8)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 151). قال ابن كثير: (أي: جعَلْناها عِبرةً لِمَا أنزَلْنا بهم مِنَ العَذابِ والنَّكالِ، وحِجارةِ السِّجِّيلِ، وجعَلْنا مَحَلَّتَهم بُحيرةً مُنتِنةً خَبيثةً؛ ففي ذلك عِبرةٌ للمُؤمِنينَ). ((تفسير ابن كثير)) (7/422). وقال ابنُ عاشور: (معنى وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً: أنَّ القَريةَ بَقِيَتْ خرابًا لم تَعمُرْ، فكان ما فيها مِن آثارِ الخَرابِ آيةً للَّذين يخافونَ عَذابَ اللهِ؛ قال تعالى في سورةِ «الحِجْرِ»: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الحجر: 76] ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/8). .
كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 75 - 77] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 35] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أنَّه إنَّما سألَهم بعدَ أنْ قَراهم؛ جَريًا على سُنَّةِ الضِّيافةِ: ألَّا يُسألَ الضَّيفُ عن الغَرَضِ الَّذي أورَدَه ذلك المَنزِلَ إلَّا بعدَ استِعدادِه للرَّحيلِ؛ كيلا يَتوهَّمَ سآمةَ مُضَيِّفِه مِن نُزولِه به، ولِيُعينَه على أمرِه إن كان مُستطيعًا [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/5). !
2- في قَولِه تعالى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أتَى الملائِكةُ هنا بما هو مِن آدابِ الصَّديقِ الَّذي لا يُسِرُّ عن الصَّديقِ شيئًا، لا سيَّما وكان ذلك بإذنِ اللهِ تعالى لهم في إطلاعِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ على إهلاكِهم، وجَبْرِ قَلْبِه بتَقديمِ البِشارةِ بأبي الأنبياءِ إسحاقَ عليه السَّلامُ [306] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/178)، ((تفسير ابن عادل)) (18/87). .
3- في قَولِه تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنَّه ينبغي للدَّاعيةِ ألَّا يَجزَعَ إذا دَعَا فلم يَستجِبْ لدعوتِه إلَّا القليلُ؛ فالرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ قد يَبقَونَ في أُمَمِهم دُهورًا كثيرةً ولا يَتَّبِعُهم إلَّا القَليلُ، هذا لوطٌ عليه السَّلامُ ظلَّ يدعو قَريةً كامِلةً إلى توحيدِ اللهِ وإلى تَركِ الفاحشةِ فما اتَّبَعَه مِن القَريةِ أحَدٌ، وتَخَلَّفَ عن دَعوتِه مَن تَخَلَّفَ، حتَّى أهلُ بيتِه لم يخلصوا؛ فيهم مَن لم يؤمِنْ به عليه السَّلامُ! قال تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 150). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أنَّ الغَيبَ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ تعالى؛ فهذا نبيُّ اللهِ إبراهيمُ -وهو مَن هو- ذبَحَ عِجْلَه، وتَعِبَ هو وامرأتُه بإنضاجِ العِجلِ وحَمْلِه -وذلك على أنَّه هُيِّئ بعدَ مجيئِهم-، كما قال اللهُ تعالى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] ، ولم يَدْرِ أنَّ الَّذين يُنضِجُ لهم عِجْلَه مَلائِكةٌ كِرامٌ لا يأكُلونَ! ومِن أجْلِ عَدَمِ عِلمِه بذلك لَمَّا لم يأكُلوا خاف منهم فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: 70] ، وما هذا إلَّا لأنَّه لا يَعلَمُ بحَقيقتِهم، وما درَى عن الأمرِ حتَّى أخبَروه، فسألَهم: فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [308] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/388). .
2- في قَولِه تعالى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ سُؤالٌ: أنَّه إذا كانت الحِجارةُ مُسَوَّمةً للمُسرِفينَ، فكيف قالوا: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ ... مع أنَّ المُسرِفَ غيرُ المُجرِمِ في اللُّغةِ؟
الجوابُ: المُجرِمُ هو الآتي بالذَّنْبِ العَظيمِ؛ لأنَّ الجُرمَ فيه دَلالةٌ على العِظَمِ، ومنه: جِرْمُ الشَّيءِ؛ لعَظَمةِ مِقدارِه، والمُسرِفُ هو الآتي بالكَبيرةِ، ومَن أسرف ولو في الصَّغائِرِ يَصيرُ مُجرِمًا؛ لأنَّ الصَّغيرَ إلى الصَّغيرِ إذا انضَمَّ صار كبيرًا، ومَن أجرَمَ فقد أسرَفَ؛ لأنَّه أتى بالكَبيرةِ ولو دَفعةً واحِدةً؛ فالوَصفانِ اجتَمَعا فيهم [309] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/180). .
3- في قَولِه تعالى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ سُؤالٌ: أيُّ حاجةٍ إلى قَومٍ مِن الملائِكةِ، وواحِدٌ منهم كان يَقلِبُ المدائِنَ برِيشةٍ مِن جَناحِه؟!
الجوابُ مِن جِهتَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ المَلِكَ القادِرَ قد يأمُرُ الحَقيرَ بإهلاكِ الرَّجُلِ الخَطيرِ، ويأمُرُ الرَّجُلَ الخَطيرَ بخِدمةِ الشَّخصِ الحَقيرِ؛ إظهارًا لِنَفاذِ أمْرِه، فحيث أهلَكَ الخَلقَ الكَثيرَ بالقُمَّلِ والجَرادِ والبَعوضِ، بل بالرِّيحِ الَّتي بها الحياةُ؛ كان أظهَرَ في القُدرةِ، وحيث أمَرَ آلافًا مِنَ الملائكةِ بإهلاكِ أهلِ بَدرٍ مع قِلَّتِهم، كان أظهَرَ في نفاذِ الأمرِ.
الثَّاني: أنَّ مَن يكونُ تحتَ طاعةِ مَلِكٍ عَظيمٍ، ويَظهَرُ له عَدُوٌّ، ويَستعينُ بالمَلِكِ فيُعينُه بأكابِرِ عَسكَرِه؛ يكونُ ذلك تعظيمًا منه له، وكُلَّما كان العَدُوُّ أكثَرَ، والمَدَدُ أوفَرَ؛ كان التَّعظيمُ أتَمَّ [310] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/179). .
4- قَولُه تعالى: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ استُدِلَّ به على رَجْمِ اللَّائِطِ [311] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/179)، ((تفسير ابن عادل)) (18/88). قال الشنقيطي: (وحجَّةُ مَن قال: إنَّ قتلَه بالرَّجمِ هو ... روايةُ سعيدِ بنِ جُبيرٍ، ومجاهدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّه يُرجَمُ، وما ذكَره البَيْهَقيُّ وغيرُه عن عليٍّ أنَّه رجَم لوطيًّا، ويُستأنَسُ لذلك بأنَّ الله رمَى أهلَ تلك الفاحشةِ بحجارةِ السِّجِّيلِ). ((أضواء البيان)) (2/195). ويُنظر: ((السنن الكبرى)) للبيهقي (8/404). وقال ابن كثير: (وقد ذهَب الإمامُ أبو حنيفةَ رحمه الله إلى أنَّ اللَّائطَ يُلْقى مِن شاهِقٍ، ويُتبَعُ بالحجارةِ، كما فُعِل بقَومِ لوطٍ. وذهب آخَرون مِن العلماءِ إلى أنَّه يُرجَمُ، سواءٌ كان مُحصَنًا أو غيرَ مُحصَنٍ. وهو أحدُ قَولَيِ الشَّافِعيِّ رحمه الله... وقال آخَرون: هو كالزَّاني؛ فإن كان مُحصَنًا رُجِم، وإن لم يكُنْ مُحصَنًا جُلِد مِئةَ جَلْدةٍ. وهو القولُ الآخَرُ للشَّافِعيِّ). ((تفسير ابن كثير)) (3/446). .
5- قَولُه تعالى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ متى اتَّصَلت «أَرسَلَ» بـ «على» فهي بمعنى المُبالَغةِ في المُباشَرةِ والعَذابِ، ومتى اتَّصَلت بـ «إلى» فهي أخَفُّ، وانظُرْ ذلك تَجِدْه مُطَّرِدًا [312] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/178). .
6- في قَولِه تعالى: مِنْ طِينٍ سُؤالٌ: ما الفائِدةُ في تأكيدِ الحِجارةِ بكَونِها مِن طِينٍ؟
الجوابُ: لأنَّ بَعضَ النَّاسِ يُسَمِّي البَرَدَ حِجارةً؛ فقَولُه: مِنْ طِينٍ يَدفَعُ ذلك التَّوهُّمَ [313] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/180). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (5/258)، ((تفسير ابن عطية)) (5/178). .
7- قال اللهُ تعالى: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ لَمَّا كانوا قد رأَوُا اهتِمامَه عليه السَّلامُ بالعِلمِ بخَبَرِهم؛ خَشيةً مِن أن يَكونوا أُرسِلوا لِعَذابِ أحَدٍ يَعِزُّ عليه أمْرُه؛ أمَّنوا خَوفَه بوَصفِ الإحسانِ، فقالوا: عِنْدَ رَبِّكَ، أي: المُحسِنِ إليك بهذه البِشارةِ وغَيرِها [314] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/465). .
8- في قَولِه تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بيانُ أنَّه ببَركةِ المُحسِنِ ينجو المُسيءُ؛ فإنَّ القَريةَ ما دام فيها المؤمِنُ لم تَهلِكْ [315] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/181). .
9- في قَولِه تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَبَّرَ عنهم بـ الْمُؤْمِنِينَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ إيمانَهم هو سَبَبُ نَجاتِهم [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/7). .
10- قال اللهُ تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فُرِّقَ بيْنَ الإسلامِ والإيمانِ هنا لِسِرٍّ اقتضاه الكلامُ؛ فإنَّ الإخراجَ هنا عبارةٌ عن النَّجاةِ، فهو إخراجُ نجاةٍ مِن العذابِ، ولا ريبَ أنَّ هذا مختَصٌّ بالمؤمِنينَ المتَّبِعينَ للرُّسُلِ ظاهِرًا وباطنًا، وقولُه تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا كان الموجودونَ مِن المخرَجِينَ أوقَعَ اسمَ الإسلامِ عليهم؛ لأنَّ امرأةَ لوطٍ كانت مِن أهلِ هذا البيتِ، وهي مُسلِمةٌ في الظَّاهرِ؛ فكانت في البيتِ بينَ الموجودينَ، لا في القَومِ النَّاجِينَ، وقد أخبَر سُبحانَه عن خيانةِ امرأةِ لوطٍ، وخيانتُها أنَّها كانت تدُلُّ قومَها على أضيافِه وقلْبُها معهم، وليست خيانةَ فاحشةٍ؛ فكانت مِن أهلِ البيتِ المُسلِمينَ ظاهرًا، وليست مِن المؤمِنينَ النَّاجِينَ، وبهذا خَرَج الجوابُ عن السُّؤالِ المشهورِ وهو: أنَّ الإسلامَ أعمُّ مِن الإيمانِ، فكيفَ استثنَى الأعمَّ مِن الأخصِّ، وقاعدةُ الاستثناءِ تقتضي العَكسَ [317] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 71). ؟ والمقصودُ أنَّ امرأةَ لوطٍ لم تكُنْ مؤمنةً، ولم تكُنْ مِن النَّاجينَ المخرَجينَ، فلم تدخُلْ في قولِه: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وكانت مِن أهلِ البيتِ المسلمينَ، وممَّن وُجِد فيه، ولهذا قال تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وبهذا تظهَرُ حِكمةُ القرآنِ حيثُ ذكَر الإيمانَ لمَّا أخبَر بالإخراجِ، وذكَر الإسلامَ لما أخبَر بالوجودِ [318] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/474). .
11- الإسلامُ والإيمانُ: تارةً يُرادُ بالإسلامِ كُلُّ الدِّينِ فيَدخُلُ فيه الإيمانُ، مِثلُ قَولِه تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3] ؛ فهذا يَشملُ الإسلامَ الَّذي هو الشَّرائِعُ الظَّاهِرةَ، والإيمانَ الَّذي هو أعمالُ القُلوبِ وأقوالُ القُلوبِ، وكذلك إذا أُطلِقَ الإيمانُ، مِثلُ قَولِه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة:223] يَشملُ حتَّى المُسلِمينَ، أمَّا إذا قيل: مُؤمِنٌ ومُسلِمٌ؛ فالإيمانُ في القَلبِ، والإسلامُ في الجوارحِ، والإيمانُ أكمَلُ مِن الإسلامِ، والدَّليلُ على ذلك قَولُه تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، ويدُلُّ عليه أيضًا قَولُ الله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأنَّ اللهَ أنجى لوطًا وأهلَه إلَّا امرأتَه، وكانت امرأتُه معه في البَيتِ مُسلِمةً، ظاهِرُها أنَّها مُؤمِنةٌ باللهِ ورَسولِه، لكِنَّها تُبطِنُ الكُفرَ؛ فسَمَّى اللهَ البَيتَ بَيتَ إسلامٍ، سَمَّى اللهُ أهلَه مُسلِمينَ كُلَّهم، ولكِنَّه لم يَنجُ منه إلَّا المُؤمِنُ؛ لأنَّ امرأةَ لُوطٍ -كما ذكَرَ اللهُ في القُرآنِ- قد خانَتْه، فكَفَرَت كُفرًا لم يَعلَمْ به؛ فصارتْ بذلك مِنَ المُنافِقينَ.
وعلى هذا فنَقولُ: كُلُّ مُؤمِنٍ مُسلِمٌ دونَ عَكسٍ، وليس كُلُّ مُسلِمٍ مُؤمِنًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [319] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 76). [الحجرات:14] .
12- في قَولِه تعالى: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إشارةٌ إلى أنَّ الكُفرَ إذا غَلَب، والفِسقَ إذا فشا؛ لا تَنفَعُ معه عِبادةُ المُؤمِنينَ، بخِلافِ ما لو كان أكثَرُ الخَلقِ على الطَّريقةِ المُستَقيمةِ، وفيهم شِرْذِمةٌ يَسيرةٌ يَسرِقونَ ويَزنُونَ [320] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/181). .
13- في قَولِه تعالى: وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ أنَّ اللهَ تعالى أبقَى آياتٍ -وهي: العَلاماتُ والدَّلالاتُ- فدَلَّ ذلك على أنَّ ما يَخُصُّه مِن أخبارِ المؤمِنينَ، وحُسْنِ عاقبتِهم في الدُّنيا، وأخبارِ الكُفَّارِ، وسُوءِ عاقبتِهم في الدُّنيا: هو مِن بابِ الآياتِ والدَّلالاتِ الَّتي يُستدَلُّ بها ويُعتبَرُ بها عِلمًا ووَعظًا؛ فيُفيدُ مَعرِفةَ صِحَّةِ ما أخبَرَتْ به الرُّسُلُ، ويُفيدُ التَّرغيبَ والتَّرهيبَ، ويدُلُّ ذلك على أنَّ اللهَ تعالى يرضَى عن أهلِ طاعتِه ويُكرِمُهم، ويَغضَبُ على أهلِ مَعصيتِه ويُعاقِبُهم [321] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/119). .
14- في قَولِه تعالى: وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ دَليلٌ على أنَّ آياتِ اللهِ سُبحانَه، وعَجائِبَه الَّتي فَعَلَها في هذا العالَمِ، وأبقَى آثارَها دالَّةً عليه وعلى صِدْقِ رُسُلِه: إنَّما يَنتفِعُ بها مَن يُؤمِنُ بالمَعادِ، ويخشَى عذابَ اللهِ تعالى [322] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 72). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
- حُكِيَ فِعلُ القولِ قَالَ بدُونِ عاطفٍ؛ لأنَّه في مُقاوَلةِ مُحاوَرةٍ بيْنَه وبيْنَ ضَيفِه [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/5). .
- الفاءُ فيما حُكِيَ مِن كَلامِ إبراهيمَ في قولِه: فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ فَصيحةٌ مُؤْذِنةٌ بكلامٍ مَحذوفٍ ناشئٍ عن المُحاوَرةِ الواقعةِ بيْنَه وبيْنَ ضَيفِه، وهو مِن عطْفِ كَلامٍ على كَلامِ مُتكلِّمٍ آخَرَ؛ فإبراهيمُ خاطَبَ الملائكةَ بلُغتِه ما يُؤدَّى مِثلُه بفَصيحِ الكلامِ العربيِّ بعِبارةِ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، وتَقديرُ المَحذوفِ: إذ كُنتُم مُرسَلينَ مِن جانبِ اللهِ تعالى، فما خطْبُكم الَّذي أُرسِلْتُم مِن أجْلِه [324] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/5)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/314). ؟
- وخاطَبَهم بقولِه: أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ؛ لأنَّه لا يَعرِفُ ما يُسمِّيهم به إلَّا وصْفَ أنَّهم المُرسَلون، والمُرسَلون مِن صِفاتِ الملائكةِ [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/6). .
2- قولُه تعالَى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
- الإرسالُ الَّذي في قَولِه: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُستعمَلٌ في الرَّمْيِ، كما يُقال: أرسَلَ سَهمَه على الصَّيدِ [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/6). .
- قولُه: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ عبَّرَ بالرِّبِّ إشارةً إلى كثرةِ إحسانِه إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه إنَّما أمَرَه بالإنذارِ رحمةً لأمَّتِه التي جعَلَها خيرَ الأُمَم، وسيجعَلُها أكثَرَ الأمَمِ، ولا يُهلِكُها كما أهلَكَهم [327] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/346). .
- قولُه: لِلْمُسْرِفِينَ المسرِفون: المُفرِطون في العِصيانِ، وذلك بكُفْرِهم وشُيوعِ الفاحشةِ فيهم؛ فالمُسرِفون القومُ المُجرِمون، وعُدِلَ عن ضَميرِهم إلى الوصْفِ الظَّاهِرِ لِلْمُسْرِفِينَ؛ لتَسجيلِ إفراطِهم في الإجرامِ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/7). .
- وسمَّاهم مُسرِفينَ، كما سمَّاهم عادِينَ في قولِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء: 166] ؛ لإسْرافِهم وعُدوانِهم في عَمَلِهم، حيثُ لم يَقنَعوا بما أُبِيحَ لهم [329] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/402). .
3- قولُه تعالَى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هذه الجُملةُ ليستْ مِن حِكايةِ كَلامِ الملائكةِ، بلْ هي تَذييلٌ لقصَّةِ مُحاوَرةِ الملائكةِ مع إبراهيمَ عليه السَّلامُ [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/7). .
- والفاءُ في فَأَخْرَجْنَا فَصيحةٌ؛ لأنَّها تُفصِحُ عن كَلامٍ مُقدَّرٍ هو ما ذُكِرَ في سُورةِ (هُودٍ) مِن مَجيءِ الملائكةِ إلى لُوطٍ عليه السَّلامُ وما حدَثَ بيْنه وبيْن قَومِه، فالتَّقديرُ: فحَلُّوا بقَرْيةِ لُوطٍ، فأمَرْناهم بإخراجِ مَن كان فيها مِن المؤمنينَ، فأخْرَجوهم [331] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/141)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/7). .
- وضَميرُ فَأَخْرَجْنَا ضَميرُ عظَمةِ الجَلالةِ. وإسنادُ الإخراجِ إلى اللهِ؛ لأنَّه أمَرَ به الملائكةَ أنْ يُبلِّغوه لُوطًا عليه السَّلامُ، ولأنَّ اللهَ يسَّرَ إخراجَ المؤمنينَ ونَجاتَهم؛ إذ أخَّرَ نُزولَ الحجارةِ إلى أنْ خرَجَ المؤمنِون [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/7). .
- قولُه: مَنْ كَانَ فِيهَا أيْ: في قُرى قَومِ لُوطٍ عليه السَّلامُ، وأضْمَرَها بغَيرِ ذِكرٍ؛ لشُهْرتِها، ولكَونِها مَعلومةً مِن آياتٍ أُخرى، كقولِه: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [333] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/402)، ((تفسير البيضاوي)) (5/149)، ((تفسير أبي السعود)) (8/141)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/7). [الفرقان: 40] .
- و(مِن) في فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ صِلةٌ؛ لتأْكيدِ النَّفيِ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/7). .
- قولُه: وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ التَّرْكُ: مُفارَقةُ شَخصٍ شيئًا حصَلَ معه في مكانٍ، ففارَقَ ذلك المكانَ، وأبْقَى منه ما كان معه، والتَّرْكُ في الآيةِ كِنايةٌ عن إبقاءِ الشَّيءِ في مَوضعٍ دونَ مُفارَقةِ التَّارِكِ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/8، 9). .
- وقال: لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ هم المؤمِنونَ بالبَعثِ والجزاءِ مِن أهلِ الإسلامِ وأهلِ الكتابِ دونَ المُشرِكين؛ فإنَّهم لَمَّا لمْ يَنتفِعوا بدَلالةِ مَواقعِ الاستِئصالِ على أسبابِ ذلك الاستئصالِ، نُزِّلَت دَلالةُ آيتِه بالنِّسبةِ إليهم مَنزِلةَ ما ليس بآيةٍ، والمعنى: أنَّ الَّذين يَخافون اتَّعَظوا بآيةِ قَومِ لوطٍ، فاجتَنَبوا مِثلَ أسبابِ إهلاكِهم، وأنَّ الَّذين أشْرَكوا لا يتَّعِظون فيُوشِكُ أنْ يَنزِلَ عليهم عذابٌ أليمٌ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/9). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وقال في سُورةِ (العَنكبوتِ): وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت: 35] ، وبيْنَهما في اللَّفظِ فرْقٌ؛ قال هاهنا: آَيَةً، وقال هناك: آَيَةً بَيِّنَةً، وقال هناك: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وقال هاهنا: لِلَّذِينَ يَخَافُونَ؛ وذلك لأنَّ آيةَ سُورةِ (العنكبوتِ) مَذْكورةٌ بأبلَغِ وَجْهٍ، يدُلُّ على ذلك قولُه تعالى: آَيَةً بَيِّنَةً حيثُ وصَفَها بالظُّهورِ، وكذلك مِنْهَا وفِيهَا؛ فإنَّ (مِن) للتَّبعيضِ؛ فكأنَّه تعالى قال: مِن نفْسِها لكمْ آيةً باقيةً، وكذلك قال: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ فإنَّ العاقلَ أعمُّ مِن الخائفِ؛ فكانت الآيةُ هناك أظهَرَ، وسَببُه: أنَّ القصْدَ هناك تَخويفُ القَومِ، وهاهنا تَسليةُ القلْبِ [337] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/181). .