موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (38-46)

ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات:

بِسُلْطَانٍ: أي: حُجَّةٍ، وأصلُ السُّلطانِ: يدُلُّ على القُوَّةِ والقَهرِ والتَّسلُّطِ [338] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247، 420، 724). .
فَتَوَلَّى: أي: فأدبَرَ وأعرَضَ؛ فـ (التَّولِّي) إذا عُدِّيَ بـ (عن) لَفظًا، أو تقديرًا -كما هنا- اقتَضى معنى الإعراضِ [339] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 422)، ((تفسير ابن جرير)) (21/534)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885، 886)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
بِرُكْنِهِ: أي: بجانِبِه، وبما يَركَنُ إليه مِنَ القُوَّةِ في نَفْسِه وأعوانِه وجُنودِه، وأصلُ (ركن): يدُلُّ على قُوَّةٍ [340] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 422)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/430)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 370)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/469). .
فَنَبَذْنَاهُمْ: أي: طرَحْناهم وألقَيْناهم، والنَّبذُ: إلقاءُ الشَّيءِ وطَرحُه؛ لقِلَّةِ الاعتِدادِ به [341] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/536)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/380)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788). .
الْيَمِّ: أي: البَحرِ [342] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 171)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 465)، ((المفردات)) للراغب (ص: 893). .
مُلِيمٌ: أي: مُسيءٌ، مُذنِبٌ، آتٍ بما يُلامُ عليه، وأصلُ (لوم): يدُلُّ على عَتْبٍ [343] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 448)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/222)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 355)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 879). .
الْعَقِيمَ: أي: الَّتي لا خَيرَ فيها؛ فلا تأتي بمطرٍ ولا سحابٍ، ولا تُلقِحُ شجرًا، إنَّما هي للإهلاكِ، وأصلُ (عقم): يدُلُّ على غُمُوضٍ وضِيقٍ وشِدَّةٍ [344] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/537)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/75)، ((البسيط)) للواحدي (15/474-477)، ((المفردات)) للراغب (ص: 579)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 370)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (3/109). .
تَذَرُ: أي: تَترُكُ وتَدَعُ، يُقالُ: فُلانٌ يَذَرُ الشَّيءَ، أي: يَقذِفُه؛ لقِلَّةِ اعتِدادِه به [345] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 862)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 978). .
كَالرَّمِيمِ: أي: كالشَّيءِ الهالِكِ البالي. والرَّميمُ: ما يَبِسَ مِن نَباتِ الأرضِ وتفَتَّتَ ودِيسَ، وأصلُ (رمم) هنا: يدُلُّ على بَلاءِ الشَّيءِ [346] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/540)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/378)، ((البسيط)) للواحدي (20/457)، ((المفردات)) للراغب (ص: 365)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 370). .
فَعَتَوْا: أي: تكَبَّروا وتجَبَّروا، والعُتُوُّ: الخُروجُ عن الطَّاعةِ، وأصلُه يدُلُّ على استِكبارٍ [347] يُنظر: ((العين)) للخليل (2/226)، ((تفسير ابن جرير)) (21/541)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 332)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/225)، ((المفردات)) للراغب (ص: 546). .
الصَّاعِقَةُ: أي: الصَّيحةُ الَّتي يموتُ مَن يَسمعُها، أو يُغشَى عليه. وقيل: كُلُّ عَذابٍ مُهلِكٍ. وقيل: الصَّاعِقةُ: الصَّوتُ الشَّديدُ مِنَ الرَّعدِ، يَسقُطُ معها قِطعةُ نارٍ، وأصلُ (صعق): يدُلُّ على شِدَّة الصَّوتِ [348] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 49)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/285)، ((البسيط)) للواحدي (2/205)، ((المفردات)) للراغب (ص: 484، 485)، ((تفسير البغوي)) (1/91)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 55)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 543). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصصِ موسى وهودٍ وصالحٍ ونوحٍ -عليهم السَّلامُ- معَ أقوامِهم، فيقولُ: وفي قِصَّةِ مُوسى آيةٌ وعِبرةٌ حينَ أرسَلْناه إلى فِرعَونَ بحُجَّةٍ ظاهِرةٍ، فأعرَضَ فِرعَونُ مُستَقْوِيًا بجُنْدِه، وقال لموسى: أنت ساحِرٌ أو مَجنونٌ!
فأخَذَ اللهُ فِرعَونَ وجُنودَه، فطَرَحَهم في البَحرِ، فغَرِقوا والحالُ أنَّ فِرعَونَ قد أتَى بما يُلامُ عليه مِنَ الكُفرِ والظُّلمِ.
وفي قِصَّةِ عادٍ آيةٌ وعِبرةٌ حينَ أرسَلْنا عليهم الرِّيحَ العقيمَ الَّتي لا خَيرَ فيها، فما تَركَت تلك الرِّيحُ شَيئًا ممَّا مَرَّت عليه إلَّا صَيَّرَتْه باليًا مُفتَّتًا!
وفي قِصَّةِ ثَمودَ آيةٌ وعِبرةٌ حينَ قال لهم نَبيُّهم صالحٌ: تَمتَّعوا في الدُّنيا إلى وَقتِ انتِهاءِ آجالِكم، فأعرَضوا عن أمرِ اللهِ وتكَبَّروا، فأخَذَتْهم صاعِقةُ العَذابِ، وهم يَنظُرونَ إلى عُقوبةِ اللهِ النَّازِلةِ بهم، فما استَطاعوا أن يَفِرُّوا مِن عَذابِ اللهِ، ولا أنْ يَدفَعوه عن أنفُسِهم، وما كانوا مُنتَصِرينَ!
وأهلَكْنا قَومَ نُوحٍ مِن قَبلِ تلك الأُمَمِ؛ إنَّهم كانوا قَومًا كافِرينَ، خارِجينَ عن طاعةِ اللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38).
أي: وفي قِصَّةِ مُوسى آيةٌ وعِبرةٌ حينَ أرسَلْناه إلى فِرعَونَ بحُجَّةٍ واضِحةٍ ظاهِرةٍ دالَّةٍ على صِدقِه [349] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/534)، ((تفسير السمرقندي)) (3/346)، ((تفسير القرطبي)) (17/49)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/42)، ((تفسير أبي حيان)) (9/557، 558)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/53)، ((تفسير ابن كثير)) (7/422)، ((تفسير الشوكاني)) (5/107)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/9، 10)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 152). قال ابنُ تيميَّةَ: (أي: في قِصَّةِ موسى آيةٌ أيضًا. هذا قَولُ الأكثَرينَ، ومنهم مَن لم يذكُرْ غَيرَه، كأبي الفَرَجِ [ابن الجوزي]. وقيل: هو عَطفٌ على قَولِه: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات: 20] وَفِي مُوسَى، وهو ضَعيفٌ). ((مجموع الفتاوى)) (8/42). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/171). وقال الشَّوكاني: (قوله: وَفِي مُوسَى مَعطوفٌ على «فيها» مِن قَولِه وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً [الذاريات: 37] بإعادةِ الخافِضِ، والتَّقديرُ: وترَكْنا في قِصَّةِ موسى آيةً، أو معطوفٌ على وَفِي الْأَرْضِ [الذاريات: 20] والتَّقديرُ: وفي الأرضِ وفي موسى آياتٌ. قاله الفرَّاءُ وابنُ عطيَّةَ والزمخشريُّ. قال أبو حيَّانَ: وهو بَعيدٌ جِدًّا، يُنَزَّهُ القرآنُ عن مِثْلِه... والوَجهُ الأوَّلُ هو الأَوْلى). ((تفسير الشوكاني)) (5/107). ويُنظر: ((تفسير ابنُ عطيَّةَ)) (5/179)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 403)، ((تفسير أبي حيان)) (9/557، 558). وقال السَّمينُ الحلبي تعليقًا على كلامِ أبي حيان: (ووَجْهُ استِبعادِه له: بُعْدُ ما بَيْنَهما). ((الدر المصون)) (10/53). قال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّ في قِصَّةِ موسى وفِرعونَ آيةً للَّذين يَخافونَ العذابَ الأليمَ، فيَجتَنِبونَ مِثلَ أسبابِ ما حَلَّ بفِرعَونَ وقَومِه مِن العذابِ، وهي الأسبابُ الَّتي ظهرَت في مُكابَرةِ فِرعَونَ عن تصديقِ الرَّسولِ الَّذي أُرسِلَ إليه). ((تفسير ابن عاشور)) (27/10). .
كما قال الله تبارك وتعالى: قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف: 106 - 108] .
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39).
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ.
أي: فأعرَضَ فِرعَونُ بجانبِه عن الحقِّ واتِّباعِه، مُستَقْوِيًا بجُنْدِه الَّذين يَعتمِدُ عليهم، ويَركَنُ إليهم في شَدائِدِه [350] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/534، 535)، ((تفسير ابن عطية)) (5/179، 180)، ((تفسير القرطبي)) (17/49)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 153). قال ابن عثيمين: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي: بقوَّتِه وسُلطانِه وجُندِه). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 153). وقال البِقاعي: (بِرُكْنِهِ أي: بسَبَبِ ما يَركَنُ إليه مِنَ القُوَّةِ في نَفْسِه، وبأعوانِه وجُنودِه، أو بجَميعِ جُنودِه؛ كنايةً عن المبالَغةِ في الإعراضِ). ((نظم الدرر)) (18/469). وقيل: المعنى: أعرَض بجانبِه عن الحَقِّ رَفضًا له وعِنادًا وكِبرًا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ كثير، والسعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/422، 423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/10). قال الواحدي: (وقولُه: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ ومقاتِلٌ: أي: بجَمْعِه وجُنْدِه ورَهْطِه. وعلى هذا سَمَّى جَمْعَه رُكنًا له؛ لأنَّه يَتقَوَّى بهم، كالبُنْيانِ يتقَوَّى برُكنِه. والباءُ يكونُ في بِرُكْنِهِ للتَّعْديةِ، أي: جعَلَهم يَتولَّونَ. ويجوزُ أن يكونَ المعنى: تولَّى هو بسَبَبِ جُنْدِه، أي: بقُوَّتِهم وشَوكَتِهم، كما تقولُ: فعَلتُ هذا بقُوَّةِ فُلانٍ. وقال الفَرَّاءُ: أعرَضَ بقُوَّتِه في نَفْسِه، وعلى هذا رُكْنُه: قُوَّتُه. وهذا راجِعٌ إلى الأوَّلِ؛ لأنَّ قُوَّتَه بجُنْدِه. وقال أبو عُبَيدةَ: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وبجانِبِه: سَواءٌ، إنَّما هي ناحيتُه. وهو اختيارُ ابنِ قُتَيْبةَ، قال: فتَوَلَّى برُكْنِه، ونأَى بجانِبِه: سَواءٌ. وعلى هذا رُكْنُه: نَفْسُه. وهو قَولُ المؤَرِّجُ، قال: برُكْنِه: بجانِبِه). ((البسيط)) (20/455). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/87)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/227)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 422). قال الألوسي: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فأعرَضَ عن الإيمانِ بموسى عليه السَّلامُ، على أنَّ رُكنَه جانِبُ بدَنِه وعِطْفه... والباءُ للتَّعديةِ؛ لأنَّ معناه: ثَنى عِطْفَه، أو للمُلابَسةِ. وقال قَتادةُ: تَولَّى بقَومِه، على أنَّ الرُّكنَ بمعنَى القَومِ؛ لأنَّه يَركَنُ إليهم، ويَتقوَّى بهم، والباءُ للمُصاحَبةِ أو المُلابَسةِ، وكَوْنُها للسَّببيَّةِ غيرُ وجيهٍ. وقيل: تولَّى بقوَّتِه وسُلطانِه). ((تفسير الألوسي)) (14/16). ويُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (8/97). .
كما قال الله تبارك وتعالى: فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى [النازعات: 20 - 22] .
وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.
أي: وقال فِرعَونُ: إمَّا أنَّ موسى ساحِرٌ يَسحَرُ النَّاسَ، أو هو مَجنونٌ لا عَقْلَ له [351] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/535)، ((تفسير ابن كثير)) (7/423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811). !
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40).
أي: فأخَذْنا فِرعَونَ وجُنودَه، فطَرَحْناهم في البَحرِ، فغَرِقوا والحالُ أنَّ فِرعَونَ قد أتَى بما يُلامُ عليه مِنَ الكُفرِ والظُّلمِ، فاستحقَّ عذابَ اللهِ تعالى [352] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/536)، ((تفسير القرطبي)) (17/50)، ((تفسير ابن كثير)) (7/423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/10). قال ابن عثيمين: (البَحرُ الَّذي هَلَك فيه فِرعَونُ هو البَحرُ الأحمرُ، الَّذي بيْنَ آسيا وأفريقيا). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 153). .
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
انتِقالٌ إلى العِبرةِ بأُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ العَربيَّةِ -وهم عادٌ-، وهم أشهَرُ العَرَبِ البائِدةِ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/11). ؛ تَسليةً لِنبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [354] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/104). .
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41).
أي: وفي قِصَّةِ عادٍ آيةٌ وعِبرةٌ حينَ أرسَلْنا عليهم الرِّيحَ الشَّديدةَ الَّتي لا خَيرَ ولا بَرَكةَ فيها؛ فلا تُلقِحُ شَجَرًا، ولا تَسوقُ مَطَرًا [355] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/537)، ((تفسير ابن عطية)) (5/180)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/42)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/118)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 63)، ((تفسير ابن كثير)) (7/423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/11)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 155). .
كما قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [فصلت: 16] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((نُصِرْتُ بالصَّبَا [356] الصَّبا: هي الرِّيحُ الشَّرقيَّةُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/198). ، وأُهلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ [357] الدَّبُور: هي الرِّيحُ الغَربيَّةُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/198). ) [358] أخرجه البخاري (1035)، ومسلم (900). .
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42).
أي: ما تَترُكُ تلك الرِّيحُ العَقيمُ شَيئًا ممَّا تمُرُّ عليه إلَّا صَيَّرَتْه كالشَّيءِ البالي اليابِسِ المُفتَّتِ [359] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/540)، ((تفسير القرطبي)) (17/50، 51)، ((تفسير ابن كثير)) (7/423)، ((تفسير ابن عرفة)) (4/71)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/12). قال ابنُ عاشور: (هذا العُمومُ مُخَصَّصٌ بدليلِ العَقلِ؛ لأنَّ الرِّيحَ إنَّما تُبلِي الأشياءَ الَّتي تمُرُّ عليها إذا كان شأنُها أن يتطَرَّقَ إليها البِلَى؛ فإنَّ الرِّيحَ لا تُبلي الجبالَ ولا البِحارَ ولا الأوديةَ وهي تمُرُّ عليها، وإنَّما تُبلي الدِّيارَ والأشجارَ والنَّاسَ والبَهائِمَ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/11). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (ومعروفٌ مِن كلامِ العرَبِ الإتيانُ بلَفظِ العُمومِ والمرادُ به الخُصوصُ، ألَا ترى إلى قولِ الله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران: 173] ، وهذه الإشارةُ في النَّاسِ إنَّما هي إلى رجُلٍ واحدٍ أخبَر أصحابَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ قُرَيْشًا جمعَتْ لهم، وجاء اللَّفظُ كما ترى على العُمومِ. ومِثلُه: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف: 25] ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ، ومِثلُ هذا كثيرٌ لا يَجهَلُه إلَّا مَن لا عنايةَ له بالعِلمِ). ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) (21/265). !
كما قال الله سبحانَه وتعالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] .
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43).
أي: وفي قِصَّةِ ثَمودَ آيةٌ وعِبرةٌ حينَ قال لهم نَبيُّهم صالحٌ: تَمتَّعوا في الدُّنيا إلى وَقتِ انتِهاءِ آجالِكم [360] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/132)، ((تفسير ابن جرير)) (21/541)، ((تفسير القرطبي)) (17/51). ممَّن اختار المعنى المذكورَ لقولِه تعالى: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والثعلبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/132)، ((تفسير ابن جرير)) (21/541)، ((تفسير السمرقندي)) (3/346)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/289)، ((تفسير الثعلبي)) (9/118). قال السمرقندي: (قال لهم نبيُّهم صالحٌ عليه السَّلامُ: عِيشوا إلى مُنتهى آجالِكم، ولا تَعصوا أمْرَ اللهِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/346). وقال ابنُ أبي زَمَنين: (إلى آجالِكم بغيرِ عذابٍ إن آمَنْتُم، وإن عصَيْتُم عُذِّبْتُم). ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/289). وقد ذهب الفرَّاءُ، والواحديُّ، والقرطبي، والشوكاني، وابنُ عثيمين: إلى أنَّ المرادَ بالتَّمَتُّعِ المذكورِ هنا: التَّمتُّعُ في ديارِهم ثلاثةَ أيَّامٍ بعدَ أنْ عَقَروا النَّاقةَ، كما قال تعالى: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: 65] . وضعَّف هذا القَولَ: الرَّازيُّ وأبو حيَّانَ وابنُ عاشور؛ لأنَّ قَولَه تعالى بَعْدَها: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ [الذاريات: 44] بحَرفِ (الفاء) يدُلُّ على أنَّ العُتُوَّ كان بعدَ قَولِه: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/88)، ((الوسيط)) للواحدي (4/179)، ((تفسير الرازي)) (28/185)، ((تفسير القرطبي)) (17/51)، ((تفسير أبي حيان)) (9/559)، ((تفسير الشوكاني)) (5/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/13)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 157). قال ابنُ عاشور: (المرادُ بـ حِينٍ زَمَنٌ مُبهَمٌ، جُعِلَ نِهايةً لِما مُتِّعوا به مِنَ النِّعَمِ؛ فإنَّ نِعَمَ الدُّنيا زائلةٌ، وذلك الأجَلُ: إمَّا أنْ يُرادَ به أجَلُ كُلِّ واحدٍ منهم الَّذي تَنتهي إليه حياتُه، وإمَّا أن يُرادَ به أجَلُ الأُمَّةِ الَّذي يَنتهي إليه بقاؤُها، وهذا نحوُ قَولِه تعالى: يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [هود: 3] ، فكما قاله اللهُ للنَّاسِ على لسانِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَلَّه قاله لِثَمودَ على لسانِ صالحٍ عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/13). قال ابن جُزَي: (حَتَّى حِينٍ فيه قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّ الحِينَ هي الثَّلاثةُ الأيَّامُ بعدَ عَقْرِهم النَّاقةَ. والآخَرُ. أنَّ الحينَ مِن بَعدِ ما بُعِث صالحٌ عليه السَّلامُ إلى حينِ هَلاكِهم، وعلى هذا يكونُ فَعَتَوْا مُترتِّبًا بعدَ تمتُّعِهم، وأمَّا على الأوَّلِ فيَكونُ إخبارًا عن حالِهم، غيرَ مرتَّبٍ على ما قبْلَه). ((تفسير ابن جزي)) (2/309). !
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44).
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ.
أي: فتَرَك كُفَّارُ ثَمودَ أمْرَ اللهِ، وأعرَضوا عن امتِثالِه؛ تكَبُّرًا منهم [361] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/541)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/289)، ((تفسير الشوكاني)) (5/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/13). .
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [الشمس: 11 - 14] .
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.
أي: فأخَذَتْهم صاعِقةُ العَذابِ والحالُ أنَّهم يَنظُرونَ إلى عُقوبةِ اللهِ النَّازِلةِ بهم [362] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/541)، ((تفسير القرطبي)) (17/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/13، 14). قال ابن عطيَّة: (قَولُه: وَهُمْ يَنْظُرُونَ يحتَمِلُ أن يريدَ: فَجأةً وهم يُبصِرونَ بعُيونِهم حالَهم...، ويحتَمِلُ أن يريدَ: وهم يَنتظِرونَ ذلك في تلك الأيَّامِ الثَّلاثةِ الَّتي أُعلِموا به فيها، ورَأَوا علاماتِه في تلَوُّنِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/180). ممَّن اختار أنَّ المعنى: يَرَوْنَ ذلك ويُبصِرونَه ويُعايِنونَه: السمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والثعلبي، والسمعاني، والبغوي، والزمخشري، وابن جُزَي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/347)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/289)، ((تفسير الثعلبي)) (9/118)، ((تفسير السمعاني)) (5/261)، ((تفسير البغوي)) (4/287)، ((تفسير الزمخشري)) (4/404)، ((تفسير ابن جزي)) (2/310)، ((تفسير الشوكاني)) (5/109)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 157). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: يَنتظِرون: مكِّي. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7102). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/542). وقال البِقاعي: (فَأَخَذَتْهُمُ بسَبَبِ عُتُوِّهم أخْذَ قَهرٍ وعَذابٍ الصَّاعِقَةُ أي: الصَّيحةُ العَظيمةُ الَّتي حمَلَتْها الرِّيحُ، فأوصَلَتْها إلى مَسامِعِهم بغايةِ العَظَمةِ، ورَجَّت ديارَهم رَجَّةً أزالت أرواحَهم بالصَّعْقِ، وقَولُه: وَهُمْ يَنْظُرُونَ دالٌّ على أنَّها كانت في غَمامٍ، وكان فيها نارٌ، ويجوزُ -مع كَونِه مِنَ النَّظَرِ- أنْ يكونَ أيضًا مِنَ الانتِظارِ؛ فإنَّهم وُعِدوا نُزولَ العذابِ بعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ، وجُعِلَ لهم في كُلِّ يومٍ عَلامةٌ وَقَعت بهم، فتحَقَّقوا وُقوعَه اليومَ الرَّابِعَ!). ((نظم الدرر)) (18/472). !
كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [فصلت: 17] .
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45).
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ.
أي: فما استَطاعوا أن يَفِرُّوا مِن عَذابِ اللهِ، ولا أن يَدفَعوه عن أنفُسِهم [363] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/543)، ((تفسير القرطبي)) (17/51، 52)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/14). قال الرازي: (قَولُه تعالى: فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ يحتَمِلُ وَجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّه لِبَيانِ عَجْزِهم عن الهَربِ والفِرارِ على سَبيلِ المُبالَغةِ؛ فإنَّ مَن لا يَقدِرُ على قيامٍ كيف يَمشي فضلًا عن أن يَهرُبَ... الوجهُ الثَّاني: هو أنَّ المرادَ مِنْ قِيَامٍ القيامُ بالأمرِ، أي: ما استطاعوا مِن قيامٍ به). ((تفسير الرازي)) (28/185). وقال القرطبي: (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ قيل: معناه: مِن نُهوضٍ. وقيل: ما أطاقوا أن يَستَقِلُّوا بعذابِ اللهِ، وأنْ يتحَمَّلوه ويَقوموا به، ويَدفَعوه عن أنفُسِهم، تقولُ: لا أقومُ لهذا الأمرِ، أي: لا أُطيقُه). ((تفسير القرطبي)) (17/51). ممَّن اختار أنَّ قولَه: فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ عِبارةٌ عن جُثومِهم، وأنَّه كقولِه تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ: الزمخشريُّ، والبيضاوي، وأبو حيَّان، والنيسابوري، وأبو السعود، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/404)، ((تفسير البيضاوي)) (5/150)، ((تفسير أبي حيان)) (9/559)، ((تفسير النيسابوري)) (6/189)، ((تفسير أبي السعود)) (8/142)، ((تفسير الألوسي)) (14/17). وقال جلال الدين المحلي: (ما قَدَروا على النُّهوضِ حِينَ نُزولِ العذابِ). ((تفسير الجلالين)) (ص: 695)، وذكر نحوَه: الرَّسْعَني، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/427)، ((تفسير العليمي)) (6/409). وقال السمعاني: (وَقَعوا وُقوعًا لم يَستطيعوا بعدَه القيامَ). ((تفسير السمعاني)) (5/261). وقال الشوكاني: (فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ أي: لم يَقدِروا على القيامِ. قال قَتادةُ: مِن نُهوضٍ، يعني: لم يَنهَضوا مِن تلك الصَّرْعةِ، والمعنى: أنَّهم عَجَزوا عن القيامِ، فضْلًا عن الهَرَبِ، ومِثلُه قَولُه: فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/109). وقال ابنُ جرير: (فما استَطاعوا مِن دِفاع لِما نزَل بهم مِن عذابِ الله، ولا قدَروا على نُهوضٍ به). ((تفسير ابن جرير)) (21/543). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/14). وممَّن اختار أنَّ المعنى: ما استَطاعوا أن يَقوموا لعذابِ الله: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والسَّمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/132)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 422)، ((تفسير السمرقندي)) (3/347). وممَّن اختار أنَّ المعنى: فما قاموا بعدَ نُزولِ العذابِ بهم، ولا قدَروا على نُهوضٍ به ولا دفاعٍ: الثعلبيُّ، والبغويُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/118)، ((تفسير البغوي)) (4/287). !
وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الإنسانُ قد لا يَتمَكَّنُ مِن القِيامِ؛ لعارِضٍ في رِجْلَيه، ويَنتَصِفُ مِن عَدُوِّه بما يُرَتِّبُه مِن عَقْلِه، ويُدَبِّرُه برَأيه- قال [364] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/472). :
وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ.
أي: وما كان كُفَّارُ ثَمودَ قادِرينَ على الانتِصارِ بأيِّ وَسيلةٍ كانت [365] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/543)، ((تفسير الثعلبي)) (9/118)، ((تفسير القرطبي)) (17/52)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/472). !
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أتَمَّ قِصَّةَ مَن أُهلِكوا بما مِن شَأنِه الإهلاكُ -وهو الصَّاعِقةُ-؛ أتْبَعَهم قِصَّةَ مَن أُهلِكوا بما مِن شأنِه الإحياءُ، وهو الماءُ [366] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/472). .
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: وَقَوْمَ قِراءتانِ:
1- قِراءةُ وَقَوْمِ بكَسر ِالميمِ، على معنى: وفي قَومِ نُوحٍ آيةٌ وعِبرةٌ [367] قرأ بها أبو عَمرٍو، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وخَلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/377). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 332)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/31)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 680، 681). .
2- قِراءةُ وَقَوْمَ بفَتحِ الميمِ، على معنى: أهلَكْنا قَومَ نُوحٍ، أو أغرَقْناهم، أو اذكُرْ قَومَ نوحٍ [368] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/377). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 332)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/31)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 681). .
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ.
أي: وأهلَكْنا قَومَ نُوحٍ مِن قَبلِ تلك الأُمَمِ؛ فهم أوَّلُ مَن كذَّبوا بالحَقِّ [369] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/544)، ((تفسير القرطبي)) (17/52)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/473)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/14). .
كما قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الفرقان: 37] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت: 14] .
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.
أي: إنَّهم كانوا قومًا كافِرينَ عُصاةً، خارِجينَ عن طاعةِ اللهِ تعالى [370] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/545)، ((الوسيط)) للواحدي (4/179)، ((تفسير البيضاوي)) (5/150). .
كما قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى [النجم: 52] .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ عزَّ وجلَّ: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ في قَولِه تعالى: وَهُوَ مُلِيمٌ بِشارةُ المُؤمِنينَ. وَجهُه: أنَّ مَن التقَمَه الحوتُ وهو مُليمٌ، نجَّاه اللهُ تعالى بتَسبيحِه [371] كما في قولِه تعالى عن يونسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 139 - 144] . ، ومَن أهلَكَه اللهُ بتَعذيبِه لم ينفَعْه إيمانُه حينَ قال: آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ [372] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/183). [يونس: 90] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فيه دَلالةٌ على غايةِ عِظَمِ شأنِ القُدرةِ الرَّبَّانيَّةِ، ونِهايةِ ذِلَّةِ فِرعونَ وقَومِه [373] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/142). .
2- أنَّ الشَّيءَ الواحِدَ قد يكونُ خيرًا وقد يكونُ شَرًّا بحَسَبِ آثارِه ونتائِجِه؛ فالرِّياحُ في موضعٍ هي: بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [النمل: 63] ، وعلى عادٍ ونَحوِهم عذابٌ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، والكلُّ مِن فِعلِه تبارك وتعالى [374] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النمل)) (ص: 376). .
3- في قَولِه تعالى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ دَليلٌ على أنَّ سائِرَ الرِّياحِ تُلَقِّحُ الأشجارَ، وتُودِعُها الثِّمارَ بإذنِ الجبَّارِ؛ فكانت تلك وَحْدَها عَقيمًا أُثيرَتْ للعَذابِ لا لمنافِعِ العِبادِ في أشجارِهم وزُروعِهم [375] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/197). .
4- ذُكرتِ الرِّياحُ في القُرآنِ جَمعًا ومُفرَدةً؛ فحيث كانت في سياقِ الرَّحمةِ أتتْ مجموعةً، وحيثُ وقَعَتْ في سياقِ العَذابِ أتتْ مُفرَدةً؛ وسِرُّ ذلك أنَّ رياحَ الرَّحمةِ مُختَلِفةُ الصِّفاتِ والمهابِّ والمَنافِعِ، وأمَّا في العذابِ فإنَّها تأتي مِن وجهٍ واحدٍ وصِمَامٍ واحدٍ لا يقومُ لها شَيءٌ، ولا يعارِضُها غيرُها حتَّى تنتهيَ إلى حيث أُمِرَتْ؛ ولهذا وَصَفَ سُبحانَه الرِّيحَ الَّتي أَرسلَها على عادٍ بأنَّها عقيمٌ، فقال سُبحانَه: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، وهي الَّتي لا تُلقِحُ [376] أي: لا تُلقِحُ شَجرًا، ولا تُنشِئُ سَحابًا، ولا تَحمِلُ مطرًا، إنَّما هي ريحُ الإهلاكِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (1/189)، ((لسان العرب)) لابن منظور (12/413). ، ولا خيرَ فيها [377] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/118). قال ابن عطية: (الرِّياحُ جَمعُ رِيحٍ، وجاءت في القُرآنِ مَجموعةً مع الرَّحمةِ، مُفرَدةً مع العذابِ، إلَّا في «يُونُسَ» في قَولِه تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22] ، وهذا أغلَبُ وُقوعِها في الكَلامِ). ((تفسير ابن عطية)) (1/233). وقال ابنُ القيِّمِ في توجيهِ إفرادِ الرَّحمةِ في سورةِ «يونس»: (ذكَرَ ريحَ الرَّحمةِ الطَّيِّبةَ بلِفظِ الإفرادِ؛ لأنَّ تمامَ الرَّحمةِ هناك إنَّما تَحصُلُ بوَحدةِ الرِّيحِ، لا باختِلافِها؛ فإنَّ السَّفينةَ لا تَسيرُ إلَّا بريحٍ واحدةٍ مِن وجهٍ واحدٍ تُسَيِّرُها، فإذا اختلفَتْ عليها الرِّياحُ وتصادمَتْ وتقابلَتْ فهو سببُ الهلاكِ، فالمطلوبُ هناك ريحٌ واحدةٌ لا رياحٌ، وأُكِّد هذا المعنى بوصفِها بالطِّيبِ؛ دفْعًا لِتَوهُّمِ أن تكونَ ريحًا عاصفةً، بل هي ممَّا يُفرَحُ بها؛ لِطِيبِها). ((بدائع الفوائد)) (1/119). وقال ابنُ عاشور: (الرِّياحُ حيثُما وقَعَت في القُرآنِ فهي مُقتَرِنةٌ بالرَّحمةِ، كقَولِه: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر: 22] . وأكثَرُ ذِكرِ الرِّيحِ المُفرَدةِ أن تكونَ مُقتَرِنةً بالعَذابِ، كقَولِه: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24] ، ونحوِ ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/179). .
5- في قَولِه تعالى: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ سؤالٌ: هل في هذا تخصيصٌ، كما في قَولِه تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: 25] ؟
الجوابُ: أنَّ المرادَ به المُبالَغةُ؛ لأنَّ قَولَه: أَتَتْ عَلَيْهِ وصْفٌ لِقَولِه: شَيْءٍ، كأنَّه قال: كُلَّ شَيءٍ أتت عليه، أو كُلَّ شَيءٍ تأتي عليه. ولا يدخُلُ فيه السَّمَواتُ؛ لأنَّها ما أتت عليه، وإنَّما يَدخُلُ فيه الأجسامُ الَّتي تَهَبُّ عليها الرِّياحُ [378] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/184)، ((تفسير ابن عادل)) (18/97). .
فإن قيل أنَّ الجِبالَ والصُّخورَ أتتْ عليه وما جعَلَتْه كالرَّميمِ.
فالجوابُ: أنَّ المرادَ: أتتْ عليه قاصِدةً له، وهو عادٌ وأبنِيتُهم وعُروشُهم؛ لأنَّها كانت مأمورةً بأمرٍ مِن عندِ اللهِ، فكأنَّها كانت قاصِدةً لهم، فما ترَكَت شَيئًا مِن تلك الأشياءِ إلَّا جعَلَتْه كالرَّميمِ [379] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/184)، ((تفسير ابن عادل)) (18/97). .
6- قال تعالى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ تأمَّلِ الآيةَ؛ كيف أنَّ قَومَ عادٍ قَومٌ أقوياءُ أشِدَّاءُ، حتى إنَّهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: 15] ! فقال اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15] ، فهَلَكوا بهذه الرِّيحِ اللَّطيفةِ الَّتي لا تَرى لها جِسمًا، وإنَّما تُحِسُّ بها بدون أنْ ترى شيئًا! ومع ذلك قَضَتْ عليهم بأمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال تعالى: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ، فهذا فيه آياتٌ مِن آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أَرسلَ اللهُ عليهم هذه الرِّيحَ فأهلكَتْهم عن آخِرِهم [380] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 155). !
7- في قَولِه تعالى: فَمَا اسْتَطَاعُوا لطيفةٌ لَفظيةٌ؛ فإنَّ الاستِطاعةَ دونَ القُدرةِ؛ لأنَّ في الاستِطاعةِ دَلالةَ الطَّلَبِ، وهو يُنبِئُ عن عَدَمِ القُدرةِ والاستِقلالِ، فمَنِ استَطاع شيئًا كان دونَ مَن يَقدِرُ عليه [381] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/185). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ عطْفٌ على وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ [الذَّارِيات: 20] -على قولٍ-؛ وذلك أنَّه تعالى لَمَّا ذمَّ الخَرَّاصينَ الأفَّاكينَ، ووصَفَهم بما به أوقَعوا أنفُسَهم في تلك الوَرَطاتِ، وهو أنَّهم في غَمَراتِ الجَهلِ، وسَكراتِ السَّهوِ، يَتورَّطون فيما لا يَعنِيهم مِن السُّؤالِ عن أيَّانِ السَّاعةِ، مع إنْكارِ مَجيئِها، والامتناعِ مِن الاستعدادِ لها، وأوعَدَهم على ذلك بقولِه: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذَّارِيات: 14]، وجعَلَه مُخلِّصًا إلى ذِكرِ أضْدادِهم، وذِكرِ ما به فازَوا إلى النَّعيمِ المُقيمِ؛ مِن أخْذِ التَّأهُّبِ للمَعادِ، والتَّهيُّؤِ لاستعدادِ زاد يومِ التَّنادِ -أتَى بعْدَ ذلك بدَليلٍ للآفاقِ والأنفُسِ؛ تنْبيهًا لهم، وإيقاظًا مِن سِنةِ الغفْلةِ، وعُطِفَ عليه قصَّةُ مُوسى وفِرعونَ اتِّعاظًا وتَخويفًا، وأمَّا قصَّةُ إبراهيمَ ولوطٍ عليهما السَّلامُ، فمُعترِضَتانِ بيْنَ المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ تَسليةً لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَكذيبِهم، ووعْدًا له بإهلاكِ أعدائِه الأفَّاكينَ كما أُهلِكَ قومُ لُوطٍ [382] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/403)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/27، 28). .
أو قولُه: وَفِي مُوسَى ... عطْفٌ على قَولِه: فِيهَا آَيَةً [الذَّارِيات: 37]، والتَّقديرُ: وترَكْنا في مُوسى آيةً؛ فهذا العطْفُ مِن عطْفِ جُملةٍ على جُملةٍ، لتَقديرِ فِعْلِ: (ترَكْنا) بعدَ واوِ العطْفِ، والكلامُ على حذْفِ مُضافٍ، أي: في قصَّةِ مُوسى حينَ أرسَلْناهُ إلى فِرعونَ بسُلطانٍ مُبينٍ فتَولَّى... إلخ، فيكونُ التَّرْكُ المُقدَّرُ في حرْفِ العطْفِ مُرادًا به جَعْلُ الدَّلالةِ باقيةً، فكأنَّها مَتروكةٌ في الموضعِ لا تُنقَلُ منه [383] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/9). .
- قيل: أُعقِبَتْ قصَّةُ قَومِ لوطٍ بقصَّةِ مُوسى وفِرعونَ؛ لشُهرةِ أمْرِ مُوسى وشَريعتِه، ولِما بيْنَهما مِن تَناسُبٍ في أنَّ العذابَ الَّذي عُذِّبَ به الأُمَّتانِ عَذابٌ أرضيٌّ؛ إذ عُذِّبَ قومُ لوطٍ بالحِجارةِ الَّتي هي مِن طِينٍ، وعُذِّبَ قومُ فِرعونَ بالغرَقِ في البحْرِ، ثمَّ ذُكِرَ عادٌ وثمودُ، وكان عذابُهما سَماويًّا؛ إذ عُذِّبَت عادٌ بالرِّيحُ، وثمودُ بالصَّاعقةِ [384] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/9، 10). .
2- قولُه تعالَى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
- قولُه: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ تَمثيلٌ لهَيئةِ رفْضِ فِرعونَ دَعوةَ مُوسى بهَيئةِ المُنصرِفِ عن شخْصٍ، وبإيرادِ قولِه: بِرُكْنِهِ تمَّ التَّمثيلُ، والمعنى: أنَّ في قصَّةِ مُوسى وفِرعونَ آيةً للَّذين يَخافونَ العذابَ الأليمَ، فيَجتنِبونَ مِثلَ أسبابِ ما حلَّ بفِرعونَ وقَومِه مِن العَذابِ، وهي الأسبابُ الَّتي ظهَرَتْ في مُكابَرةِ فِرعونَ عن تَصديقِ الرَّسولِ الَّذي أُرسِلَ إليه، وأنَّ الَّذين لا يَخافون العذابَ ولا يُؤمنون بالبَعثِ والجَزاءِ لا يتَّعِظون بذلك؛ لأنَّهم لا يُصدِّقون بالنَّواميسِ الإلهيَّةِ، ولا يَتدبَّرون في دَعوةِ أهلِ الحقِّ، فهمْ لا يَزالون مُعرِضينَ ساخِرينَ عن دَعوةِ رَسولِهم، مُتكبِّرين عليه، مُكابِرينَ في دَلائلِ صِدْقِه، فيُوشِكُ أنْ يَحُلَّ بهم مِن مِثلِ ما حلَّ بفِرعونَ وقَومِه؛ لأنَّ ما جاز على المِثلِ يَجوزُ على المُماثِلِ [385] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/10، 11). .
3- قولُه تعالَى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ عطْفٌ على قَولِه: فِيهَا آَيَةً [الذَّارِيات: 37]، والتَّقديرُ: وترَكْنا في عادٍ آيةً، فهذا العطْفُ مِن عطْفِ جُملةٍ على جُملةٍ؛ لتَقديرِ فِعْلِ: (ترَكْنا) بعدَ واوِ العطْفِ، والكلامُ على حذْفِ مُضافٍ، أي: في قصَّةِ عادٍ حِينَ أرسَلْنا عليهمُ الرِّيحَ العقيمَ... إلخ؛ فيكونُ التَّرْكُ المُقدَّرُ في حرْفِ العطْفِ مُرادًا به جَعلُ الدَّلالةِ باقيةً، فكأنَّها مَتْروكةٌ في الموضعِ لا تُنقَلُ منه [386] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/11). .
- قولُه: إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وُصِفتْ الرِّيحُ بالعُقْمِ؛ لأنَّها أهلكَتْهم، وقطَعَتْ دابِرَهم، أوْ لأنَّها لم تَتضمَّنْ خيرًا ما؛ مِنْ إنشاءِ مطَرٍ، أو إلْقاحِ شجَرٍ. والعرَبُ يَكرَهونَ العُقْمَ في مَواشِيهم، فالرِّيحُ كالنَّاقةِ العَقيمِ لا تُثمِرُ نسْلًا ولا دَرًّا؛ فوصْفُ الرِّيحِ بالعَقيمِ تَشبيهٌ بَليغٌ في الشُّؤمِ [387] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/150)، ((تفسير أبي السعود)) (8/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/11). .
- وجُملةُ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ صِفةٌ ثانيةٌ، أو حالٌ، فهو ارتقاءٌ في مَضرَّةِ هذه الرِّيحِ؛ فإنَّها لا تَنفَعُ، وأنَّها تضُرُّ أضرارًا عظيمةً [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/11). .
- وصِيغَ تَذَرُ بصِيغةِ المُضارِعِ؛ لاستِحضارِ الحالةِ العَجيبةِ، وشَيْءٍ في مَعنى المفعولِ لـ تَذَرُ؛ فإنَّ (مِن) لتأْكيدِ النَّفيِ، والنَّكرةُ المجرورةُ بـ (مِن) هذه نصٌّ في نفْيِ الجِنسِ، ولذلك كانت عامَّةً، إلَّا أنَّ هذا العُمومَ مُخصَّصٌ بدَليلِ العقْلِ [389] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/11). .
4- قولُه تعالَى: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ أُتبِعَتْ قصَّةُ عادٍ بقصَّةِ ثَمودَ؛ لتَقارُنِهما غالبًا في القرآنِ؛ مِن أجْلِ أنَّ ثَمودَ عاصَرَت عادًا وخلَفَتْها في عَظَمةِ الأُمَمِ؛ قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف: 74] ، ولاشتِهارِهما بيْنَ العرَبِ، وَفِي ثَمُودَ عطْفٌ على (فِي عَادٍ) [الذَّارِيات: 41]، أو على (تَرَكْنَا فِيهَا آيَةً) [الذَّارِيات: 37]، والمعنى: وترَكْنا آيةً للمؤمنينَ في ثَمودَ في حالِ قدْ أخذَتْهم الصَّاعقةُ، أي: في دَلالةِ أخْذِ الصَّاعقةِ إيَّاهم، على أنَّ سَبَبَه هو إشراكُهم وتَكذيبُهم وعُتوُّهم عن أمْرِ ربِّهم، فالمؤمِنونَ اعتَبَروا بتلك فسَلَكوا مَسلكَ النَّجاةِ مِن عَواقِبِها، وأمَّا المُشرِكون فإصْرارُهم على كُفرِهم سيُوقِعُهم في عَذابٍ مِن جِنسِ ما وقَعَت فيه ثَمودُ [390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/12). .
- وهذا القولُ الَّذي ذُكِر هنا تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ هو كَلامٌ جامعٌ لِمَا أنذَرَهم به صالحٌ رسولُهم، وذكَّرَهم به، مِن نحْوِ قَولِه: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا [الأعراف: 74] ، وقولِه: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [الشعراء: 146 - 148] ، وقولِه: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود: 61] ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّهم أُعْطُوا ما هو مَتاعٌ، أي: نفْعٌ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنافعَ الدُّنيا زائلةٌ، فكانتْ الأقوالُ الَّتي قالَها رسولُهم -تَذكيرًا بنِعمةِ اللهِ عليهم- يَجمَعُها تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ، على أنَّه يَجوزُ أنْ يكونَ رَسولُهم قال لهم هذه الكلمةَ الجامعةَ، ولم تُحْكَ في القرآنِ إلَّا في هذا الموضعِ؛ فإنَّ أخبارَ الأُمَمِ تأْتي مُوزَّعةً على قصَصِهم في القرآنِ؛ فقولُه: تَمَتَّعُوا أمْرٌ مُستعمَلٌ في إباحةِ المَتاعِ [391] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/12، 13). .
- والمُرادُ بلفظِ حِينٍ زمَنٌ مُبْهمٌ، جُعِلَ نِهايةً لِما مُتِّعوا به مِن النِّعَمِ؛ فإنَّ نِعَمَ الدُّنيا زائلةٌ [392] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/13). .
- وليس قولُه: إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ بمُشيرٍ إلى قولِه في الآيةِ الأخرى: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] ونحوِه؛ لأنَّ ذلك الأمْرَ مُستعمَلٌ في الإنذارِ والتَّأييسِ مِن النَّجاةِ بعْدَ ثَلاثةِ أيَّامٍ؛ فلا يكونُ لقولِه بعْدَه: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ مُناسَبةٌ لتَعقيبِه به بالفاءِ؛ لأنَّ التَّرتيبَ الَّذي تُفِيدُه الفاءُ يَقْتضي أنَّ ما بعْدَها مُرتَّبٌ في الوُجودِ على ما قبْلَها [393] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/13). .
5- قولُه تعالَى: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
- قولُه: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ جاء العطْفُ بالفاءِ المُقتضيةِ تأخُّرَ العُتوِّ عمَّا أُمِروا به، فهو مُطابِقٌ لفْظًا ووُجودًا [394] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/559). .
- وضُمِّنَ (عَتَوا) معنى (أعرَضُوا)، فعُدِّيَ بـ (عن)، أي: فأعْرَضوا عمَّا أمَرَهم اللهُ على لِسانِ رَسولِه صالحٍ عليه السَّلامُ [395] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/13). . وقيل: عُدِّيَ فِعلُ «عتا» بـ «عن»؛ لأنَّ فيه معنى الاستِكبارِ، كقَولِه: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [396] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/98). [الأنبياء: 19] .
- قولُه: وَهُمْ يَنْظُرُونَ حالٌ مِن ضَميرِ النَّصبِ في فَأَخَذَتْهُمُ، أي: أخذَتْهم في حالِ نَظَرِهم إلى نُزولِها -على قولٍ-؛ لأنَّهم لَمَّا رَأَوا بَوارِقَها الشَّديدةَ، عَلِموا أنَّها غيرُ مُعتادةٍ، فاستَشْرَفوا يَنظُرون إلى السَّحابِ، فنزَلَت عليهم الصَّاعقةُ وهم يَنظُرون، وذلك هولٌ عظيمٌ عندَ الصَّاعقةِ زِيادةً في العذابِ؛ فإنَّ النَّظرَ إلى النِّقمةِ يَزيدُ صاحبَها ألَمًا، كما أنَّ النَّظرَ إلى النِّعمةِ يَزيدُ المُنعَّمَ مَسرَّةً [397] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/13، 14). .
6- قولُه تعالَى: فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ
- عبَّر بقولِه: فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ ولم يقُلْ: (فما قَدَروا)؛ لأنَّ نفْيَ الاستطاعةِ أبلَغُ مِن نفْيِ القُدْرةِ [398] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/559). .
- وأيضًا قولُه: وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ أبلَغُ مِن نفْيِ الانتِصارِ، أي: فما قَدَروا على الهرَبِ، ولا كانوا ممَّن يَنتصِرُ لنفْسِه، فيَدفَعَ ما حلَّ به [399] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/559). .
7- قولُه تعالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (قومَ) مَنصوبٌ بتَقديرِ (اذكُرْ)، أو بفِعلٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه ما ذُكِرَ مِن القصصِ قبْلَه، تَقديرُه: وأهلَكْنا قومَ نُوحٍ، وهذا مِن عطْفِ الجُمَلِ، وليس مِن عطْفِ المُفرَداتِ [400] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/404)، ((تفسير البيضاوي)) (5/150)، ((تفسير أبي حيان)) (9/559)، ((تفسير أبي السعود)) (8/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/14)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/319). .
- وجُملةُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ تَعليلٌ لِما تَضمَّنَه قولُه: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، وتَقدير كَونِهم آيةً للَّذين يَخافون العذابَ مِن كَونِهم عُوقِبوا، وأنَّ عِقابَهم لأنَّهم كانوا قومًا فاسقينَ [401] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/14). .
- وأُخِّر الكلامُ على قَومِ نُوحٍ لِمَا عَرَضَ مِن تَجاذُبِ المُناسَباتِ فيما أُورِدَ مِن آياتِ العذابِ للأُمَمِ المذكورةِ آنفًا؛ ولذلك كان قولُه: مِنْ قَبْلُ تنْبيهًا على وجْهِ مُخالَفةِ عادةِ القُرآنِ في تَرتيبِ حِكايةِ أحوالِ الأُمَمِ على حسَبِ تَرتيبِهم في الوجودِ، وقد أومَأَ قولُه: مِنْ قَبْلُ إلى هذا [402] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/15). .
- قيل: ذكَرَ الأُمَمَ الأربعَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ اللهَ عذَّبَهم بما هو مِن أسبابِ وُجودِهم، وهو التُّرابُ والماءُ والهواءُ والنَّارُ، وهي عناصرُ الوُجودِ، فأهلَكَ قَومَ لُوطٍ بالحِجارةِ، وهي مِن طِينٍ، وأهلَكَ قومَ فِرعونَ بالماءِ، وأهلَكَ عادًا بالرِّيحِ، وهو هواءٌ، وأهلَكَ ثمودَ بالنَّارِ [403] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/16). .