موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (47-51)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ

غريب الكلمات:

بِأَيْدٍ: أي: بقُوَّةٍ وَقُدرةٍ، وأصلُ (أيد): يدُلُّ على القُوَّةِ والحِفظِ [404] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/163)، ((المفردات)) للراغب (ص: 97)، ((تفسير البغوي)) (7/379)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326). .
لَمُوسِعُونَ: أي: قادِرونَ، مُطيقونَ، ذَوُو سَعةٍ، يقال: أوسَعَ الرَّجُلُ، أي: صار ذا سَعةٍ وغِنًى، وأصلُ (وسع): يدُلُّ على خِلافِ الضِّيقِ والعُسرِ [405] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 422)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/109)، ((المفردات)) للراغب (ص: 870)، ((تفسير البغوي)) (7/379)، ((تفسير القرطبي)) (17/52). .
الْمَاهِدُونَ: المُهَيِّئُونَ المُوَطِّئُونَ، يقالُ: مَهَدْتُ الفِراشَ مَهْدًا: أي: بَسطْتُه ووطَّأْتُه، وتمهيدُ الأمورِ: تَسويتُها وإصلاحُها، ومنه المِهادُ: أي: الفِراشُ والمكانُ الممهَّدُ المُوطَّأُ [406] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 117، 342)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 280)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780)، ((تفسير ابن عطية)) (5/181)، ((تفسير القرطبي)) (17/53)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا مظاهرَ قدرتِه، وسَعةَ رحمتِه، ومُنَبِّهًا على خَلقِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفليِّ: وبَنَيْنا السَّماءَ بقوَّةٍ وقُدرةٍ عَظيمةٍ، وإنَّا لَموسِعونَ لأرجاءِ السَّماءِ، موسِعونَ على خَلقِنا بالرِّزقِ، قادِرونَ على خَلقِ ما نشاءُ خَلْقَه، وبَسَطْنا الأرضَ وجعَلْناها كالفِراشِ؛ لِيَسهُلَ على الخَلْقِ الانتِفاعُ بها، فنِعْمَ الماهِدونَ نحنُ؛ حيثُ سَوَّيْنا الأرضَ وأصلَحْناها! وخَلَقْنا مِن كُلِّ شَيءٍ صِنفَينِ؛ لعَلَّكم تَتذَكَّرونَ.
ثمَّ يقولُ الله تعالى: فقُلْ لِقَومِك -يا محمَّدُ- اهرُبوا إلى اللهِ تعالى؛ بالإيمانِ به، والعَمَلِ بطاعتِه، والتَّوبةِ إليه؛ إنِّي لكم مِنَ اللهِ نَذيرٌ واضِحُ النِّذارةِ، ولا تَجعَلوا مع اللهِ مَعبودًا آخَرَ، بل أخْلِصوا العِبادةَ له؛ إنِّي لكم مِنَ اللهِ نَذيرٌ واضِحُ النِّذارةِ.

تفسير الآيات:

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت شُبهةُ نُفاةِ البَعثِ قائِمةً على توَهُّمِ استِحالةِ إعادةِ الأجسامِ بعدَ فَنائِها؛ أُعقِبَ تَهديدُهم بما يُقَوِّضُ توَهُّمَهم، فوُجِّهَ إليهم الخِطابُ يُذَكِّرُهم بأنَّ اللهَ خَلَق أعظَمَ المخلوقاتِ، ولم تكُنْ شَيئًا، فلا تُعَدُّ إعادةُ الأشياءِ الفانيةِ بالنِّسبةِ إليها إلَّا شَيئًا يَسيرًا، كما قال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [407] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/15). [غافر: 57] .
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ.
أي: وبَنَيْنا السَّماءَ بقوَّةٍ وقُدرةٍ عَظيمةٍ [408] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/545)، ((الوسيط)) للواحدي (4/180)، ((تفسير القرطبي)) (17/52)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 811)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/16)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 159). قال الشنقيطي: (قَولُه تعالى في هذه الآية الكريمةِ: بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ليس مِن آياتِ الصِّفاتِ المعروفةِ بهذا الاسمِ؛ لأنَّ قَولَه: بِأَيْدٍ ليس جَمعَ يَدٍ، وإنَّما الأيْدُ: القُوَّةُ، فوَزْنُ قَولِه هنا بِأَيْدٍ فَعْلٌ، ووَزْنُ الأيدي: أَفْعُلٌ؛ فالهمزةُ في قَولِه: بِأَيْدٍ في مكانِ الفاءِ، والياءُ في مكانِ العَينِ، والدَّالُ في مكانِ اللَّامِ، ولو كان قَولُه تعالى: بِأَيْدٍ جمعَ يَدٍ، لَكان وزنُه أَفْعُلًا، فتكونُ الهمزةُ زائدةً، والياءُ في مكانِ الفاءِ، والدَّالُ في مكانِ العَينِ، والياءُ المحذوفةُ -لِكَونِه مَنقوصًا- هي اللَّامَ. والأيْدُ والآدُ في لغةِ العرَبِ، بمعنى: القُوَّةِ، ورَجُلٌ أيِّدٌ: قَوِيٌّ، ومنه قولُه تعالى: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 87] ، أي: قَوَّيْناه به، فمَن ظَنَّ أنَّها جَمعُ يدٍ في هذه الآيةِ فقد غَلِطَ غَلَطًا فاحِشًا). ((أضواء البيان)) (7/442). ويُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (3/342، 343)، ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (1/84). .
كما قال تعالى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [النبأ: 12] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات: 27، 28].
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ.
أي: وإنَّا لَموسِعونَ لأرجاءِ السَّماءِ، موسِعونَ على خَلقِنا بالرِّزقِ، قادِرونَ على خَلقِ ما نشاءُ خَلْقَه [409] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/474)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 160). قال ابن القيِّم: (قال تعالى: ... وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي: ذَوو سَعةٍ وقدرةٍ وملكٍ). ((مدارج السالكين)) (3/383). وقال الرازي: (قَولُه تعالى: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فيه وُجوهٌ؛ أحَدُها: أنَّه مِنَ السَّعَةِ، أي: أوسَعْناها بحيثُ صارت الأرضُ وما يُحيطُ بها مِنَ الماءِ والهواءِ بالنِّسبةِ إلى السَّماءِ وسَعَتِها كحَلْقةٍ في فَلاةٍ، والبِناءُ الواسِعُ الفَضاءِ عَجيبٌ؛ فإنَّ القُبَّةَ الواسِعةَ لا يَقدِرُ عليها البَنَّاؤونَ؛ لأنَّهم يَحتاجونَ إلى إقامةِ آلةٍ يَصِحُّ بها استدارتُها، ويُثبَّتُ بها تماسُكُ أجزائِها إلى أن يتَّصِلَ بَعضُها ببعضٍ. ثانيها: قَولُه: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي: لَقادِرونَ، ومنه قَولُه تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] أي: قُدْرَتَها، والمُناسَبةُ حينَئذٍ ظاهِرةٌ، ويحتَمِلُ أن يُقالَ بأنَّ ذلك حينَئذٍ إشارةٌ إلى المقصودِ الآخَرِ، وهو الحَشرُ، كأنَّه يقولُ: بَنَيْنا السَّماءَ وإنَّا لَقادِرونَ على أن نَخلُقَ أمثالَها، كما في قَولِه تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] . ثالِثُها: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ الرِّزقَ على الخَلْقِ). ((تفسير الرازي)) (28/188). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: أنَّها مِنَ السَّعةِ، أي: أنَّه جَعَل بيْنَ السَّماءِ والأرضِ سَعَةً، ووَسَّعَ أرجاءَها: الزَّجَّاجُ، وأبو حيَّان، وابنُ كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/ 57)، ((تفسير أبي حيان)) (9/560)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 160). قال أبو حيان: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ: أي: بِناءَها، فالجُملةُ حاليَّةٌ، أي: بَنَيْناها مُوسِعِيها، كقَولِه: جاء زَيدٌ وإنَّه لَمُسرِعٌ، أي: مُسرِعًا، فهي بحيثُ إنَّ الأرضَ وما يحيطُ مِنَ الماءِ والهواءِ كالنُّقطةِ وسَطَ الدَّائِرةِ. وقال ابنُ زَيدٍ قريبًا مِن هذا، وهو: أنَّ الوُسعَ راجِعٌ إلى السَّماءِ). ((تفسير أبي حيان)) (9/560). ومِمَّن اختار في الجُملةِ أنَّ المعنى: لَذُو سَعَةٍ لِخَلْقِنا، أي: قادِرونَ على رزْقِهم: الفَرَّاءُ، وابنُ أبي زَمَنين، والواحديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/89)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/ 290)، ((الوسيط)) للواحدي (4/180). ومِمَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ السَّابِقَينِ: السعديُّ، فقال: (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ لأرجائِها وأنحائِها، وإنَّا لَمُوسِعونَ أيضًا على عبادِنا، بالرِّزقِ الَّذي ما تَرَك اللهُ دابَّةً في مَهامِهِ القِفارِ، ولُجَجِ البِحارِ، وأقطارِ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ، إلَّا وأوصَلَ إليها من الرِّزقِ ما يَكفيها، وساق إليها من الإحسانِ ما يُغنِيها. فسُبْحانَ مَن عَمَّ بجُودِه جميعَ المخلوقاتِ، وتبارَكَ الَّذي وَسِعَت رَحمتُه جميعَ البَرِيَّاتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 812). ومِمَّن اختار أنَّ المعنى: لَذو سَعَةٍ بخَلْقِها وخَلْقِ ما شاء أن يَخْلُقَه، وقُدرةٍ عليه: ابنُ جرير، ومكِّي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/546)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/ 7104)، ((تفسير الشوكاني)) (5/109). ومِمَّن اختار أنَّ المعنى: نحن قادِرونَ على أن نُوسِعَها كما نُريدُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/132)، ((تفسير السمرقندي)) (3/347). ومِمَّن اختار العُمومَ: البِقاعي، فقال: (لَمُوسِعُونَ أي: أغنياءُ وقادِرونَ ذَوو سَعةٍ لا تَتناهى، أي: قُدرةٍ، مِنَ الوُسعِ، وهو اللَّطافةُ، وكذلك أوسَعْنا مِقدارَ جِرْمِها وما فيها مِنَ الرِّزقِ على أهلِها، فالأرضُ كُلُّها على اتِّساعِها كالنُّقطةِ في وَسَطِ دائرةِ السَّماءِ بما اقتضَتْه صِفةُ الإلهيَّةِ الَّتي لا يَصِحُّ فيها الشَّرِكةُ أصلًا، ومُطيقون لِما لا يُحصى من أمثالِ ذلك، ومِمَّا هو أعظَمُ منه مِمَّا لا يتناهى، ومحيطون بكُلِّ شَيءٍ قُدرةً وعِلمًا، وجَديرون وحَقيقون بأن يكونَ ذلك مِن أوصافِنا، فنُوصَفُ به لِما يُشاهَدُ لنا مِن القُوَّةِ على كُلِّ ما نريدُ؛ فلَسْنا كمَنْ يُعرَفون مِن الملوكِ؛ لأنَّهم إذا فَعَلوا لا يَقدِرونَ على أعظَمَ منه، وإن قَدَروا كان ذلك منهم بكُلفةٍ ومشَقَّةٍ، ... ومِنِ اتِّساعِنا جَعْلُها بلا عَمَدٍ، معَ ما هي عليه مِن العَظَمةِ، إلى غيرِ ذلك مِن الأُمورِ الخارقةِ للعوائِدِ). ((نظم الدرر)) (18/474). .
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48).
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا.
أي: وبَسَطْنا الأرضَ وجعَلْناها كالفِراشِ؛ لِيَسهُلَ على الخَلْقِ الانتِفاعُ بها [410] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/547)، ((الوسيط)) للواحدي (4/180)، ((تفسير القرطبي)) (17/53)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 160). .
كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22] .
وقال سُبحانَه: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 20] .
فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الفِراشُ قد يكونُ صالِحًا للانتِفاعِ مِن كُلِّ وَجهٍ، وقد يكونُ مِن وَجهٍ دونَ وَجهٍ؛ أخبَرَ تعالى أنَّه مَهَّدَها أحسَنَ مِهادٍ، على أكمَلِ الوُجوهِ وأحسَنِها، وأثنَى على نَفْسِه بذلك؛ تذكيرًا بعَظَمتِه ونِعمتِه [411] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/17). .
فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ.
أي: فنِعْمَ الماهِدونَ نحنُ؛ حيث جعَلْنا الأرضَ مَهْدًا لأهْلِها، بتَسويتِها وإصلاحِها [412] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/547)، ((تفسير القرطبي)) (17/53)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/17). !
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أشعَرَ قولُه: فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذَّارِيات: 48] بأنَّ في ذلك نِعمةً على الموجوداتِ الَّتي على الأرضِ؛ أُتبِعَ ذلك بصِفةِ خلْقِ تلك الموجوداتِ؛ لِمَا فيه مِن دَلالةٍ على تَفرُّدِ اللهِ تعالى بالخلْقِ المُستلزِمِ لتَفرُّدِه بالإلهيَّةِ، فقال [413] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/17). :
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49).
أي: وخَلَقْنا مِن كُلِّ شَيءٍ صِنفَينِ؛ لعَلَّكم تَتذَكَّرونَ بذلك وَحدانيَّةَ اللهِ تعالى، وكَمالَ قُدرتِه على بَعثِ عِبادِه، أو غيرِ ذلك [414] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/547- 549)، ((الوسيط)) للواحدي (4/180)، ((تفسير ابن عطية)) (5/181)، ((تفسير القرطبي)) (17/53)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 55)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/35، 439)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/17-18). قيل: المرادُ بالزَّوجَينِ هنا: الشَّيئانِ المُتقابِلانِ؛ كالذَّكَرِ والأُنثى، والشَّمسِ والقَمَرِ، والحَرِّ والبَردِ، والحُلوِ والحامِضِ، والسَّعادةِ والشَّقاوةِ، وغيرِ ذلك. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابن عطية، والقرطبي، وابن تيميَّة، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/548، 549)، ((الوسيط)) للواحدي (4/180)، ((تفسير ابن عطية)) (5/181)، ((تفسير القرطبي)) (17/53)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/35، 439)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 160، 161). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/547). وقيل: المرادُ: الذَّكَرُ والأُنثى. وممَّن قال بهذا القولِ: الزَّجَّاجُ، والسعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/17، 18). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ زَيدٍ، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/548)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/290). .
كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الرعد: 3] .
وقال سُبحانَه: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [النجم: 45] .
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا دعا العِبادَ إلى النَّظَرِ لآياتِه المُوجِبةِ لخَشيتِه، والإنابةِ إليه؛ أمَرَ بما هو المقصودُ مِن ذلك، وهو الفِرارُ إليه، فقال [415] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 812). :
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِقَومِك: فاهرُبوا إلى اللهِ تعالى؛ بالإيمانِ به، والعَمَلِ بطاعتِه، والتَّوبةِ إليه، والتَّوكُّلِ عليه [416] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/549)، ((الوسيط)) للواحدي (4/180)، ((تفسير القرطبي)) (17/53)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 161، 162). .
عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((إذا أخَذْتَ مَضجَعَك فتَوَضَّأْ وُضوءَك للصَّلاةِ، ثمَّ اضطَجِعْ على شِقِّك الأيمنِ، ثمَّ قُلْ: اللَّهمَّ إنِّي أسلَمتُ وَجهي إليكَ، وفوَّضتُ أمري إليكَ، وألجأتُ ظَهري إليكَ؛ رَغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلْجأَ ولا مَنجَى مِنكَ إلَّا إليكَ، آمَنْتُ بكِتابِك الَّذي أنزَلْتَ، وبنَبِيِّكَ الَّذي أرسَلْتَ، واجعَلْهُنَّ مِن آخِرِ كَلامِك؛ فإنْ مِتَّ مِن لَيلتِكَ مِتَّ وأنت على الفِطرةِ )) [417] أخرجه البخاريُّ (247)، ومسلمٌ (2710) واللَّفظُ له. .
إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أي: إنِّي لكم مِنَ اللهِ نَذيرٌ واضِحُ النِّذارةِ، فأُحَذِّرُكم وأخَوِّفُكم عِقابَه على الكُفرِ به ومَعصيتِه [418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/549)، ((الوسيط)) للواحدي (4/180)، ((تفسير القرطبي)) (17/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 162). !
كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الحج: 49] .
ثمَّ ذَكَر اللهُ تعالى أعظَمَ ما يَجِبُ أن يَفِرَّ المرءُ منه، وهو الشِّرْكُ، فقال تعالى [419] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (27/10). :
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51).
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ.
أي: ولا تَجعَلوا مع اللهِ مَعبودًا آخَرَ، بل أخْلِصوا له العِبادةَ، ولا تُشرِكوا به شَيئًا [420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/549)، ((تفسير القرطبي)) (17/54)، ((تفسير ابن كثير)) (7/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812). .
كما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء: 36] .
إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أي: إنِّي لكم مِنَ اللهِ نَذيرٌ واضِحُ النِّذارةِ، فأُحَذِّرُكم وأُخَوِّفُكم مِن عِبادتِكم غَيرَه [421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/549)، ((الوسيط)) للواحدي (4/180)، ((تفسير القرطبي)) (17/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 162، 163). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ كُلُّ ما يُصيبُ الإنسانَ مِن مِحَنِ الدُّنيا ومَصائِبِها، وأمراضِها وخُصوماتِها، ومِن جَميعِ بَلائِها: لا يُنْجِيه مِن شَيءٍ منه إلَّا فِرارُه إلى اللهِ؛ ففي العَدالةِ الشَّرعيَّةِ ما يَقطَعُ كُلَّ نِزاعٍ، وفي المواعِظِ الدِّينيَّةِ ما يُهَوِّنُ كُلَّ مُصابٍ، وفي الهِدايةِ القُرآنيَّةِ والسِّيرةِ النَّبَويَّةِ ما يُنيرُ كُلَّ سَبيلٍ مِن سُبُلِ النَّجاةِ والسَّعادةِ في الحياةِ، يَعرِفُ ذلك الفُقَهاءُ القُرآنيُّونَ السُّنِّيُّونَ، واسألوا أهلَ الذِّكرِ إنْ كُنتُم لا تَعلَمونَ [422] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 362). .
2- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ليس الفِرارُ مِن الأمراضِ بمُعالجتِها، ومِن المصائِبِ بمقاوَمتِها فِرارًا مِنَ اللهِ؛ لأنَّ الأمراضَ هو قَدَّرَها، والأدويةَ هو وَضَعَها، ودعا إلى استِعمالِها والتَّعالُجِ بها، وكذلك المصائِبُ وما شُرِعَ مِن أسبابِ مُقاومتِها، فكُلُّها منه بقَدَرِه، والإنسانُ مأمورٌ منه بأن يُعالِجَ ويُقاوِمَ، فما فَرَّ مِن قَدَرِه إلَّا إلى قَدَرِه؛ ولهذا لَمَّا قال أبو عُبَيدةَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما -في قِصَّةِ الوَباءِ: (أفِرارًا مِن قَدَرِ اللهِ يا عُمَرُ؟! قال عُمَرُ: نَعَمْ، نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ!) [423] أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219) مطوَّلًا. ، وفي الحقيقةِ كان الفِرارُ مِن شَرٍّ في مخلوقٍ إلى اللهِ يرجو منه الخَيرَ في غَيرِه [424] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 362). .
3- أنَّ العبدَ لا يَعصِمُه مِن اللهِ أحدٌ إنْ أراد به سُوءًا أو أراد به رَحمةً، وليس له مِن دونِ اللهِ وليٌّ ولا نَصيرٌ، فأين نَفِرُّ مِن أمْرِه وحُكْمِه ولا مَلْجأَ منه إلَّا إليه؟! قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وهذا أمرٌ يَعرفُه النَّاسُ مِن أهلِ طاعةِ اللهِ وأهلِ مَعصيتِه [425] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/336). .
4- قَولُه تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الفِرارُ إليه سُبحانَه، أي: الفِرارُ مِمَّا يَكرَهُه اللهُ ظاهِرًا وباطِنًا إلى ما يُحِبُّه ظاهِرًا وباطِنًا؛ فِرارٌ مِنَ الجَهلِ إلى العِلمِ، ومِنَ الكُفرِ إلى الإيمانِ، ومِنَ المَعصيةِ إلى الطَّاعةِ، ومِنَ الغَفلةِ إلى ذِكرِ اللهِ؛ فمَنِ استكمَلَ هذه الأُمورَ فقد استكمَلَ الدِّينَ كُلَّه، وقد زال عنه المرهوبُ، وحصَلَ له نِهايةُ المرادِ والمَطلوبِ [426] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 812). .
5- قال اللهُ تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ليس المقصودُ بالفِرارِ مِنَ الدُّنيا تَرْكَ السَّعيِ والعَمَلِ وتعاطي الأسبابِ المشروعةِ لِتَحصيلِ القُوتِ، ورَغَدِ العَيشِ، وتَوسيعِ العُمرانِ، وتَشييدِ المَدَنيَّةِ!
بل المقصودُ: الفِرارُ مِن شُرورِها وفِتنتِها. وتناوُلُ ذلك كُلِّه على الوَجهِ المَشروعِ هو مِنَ الفِرارِ إليه، والدُّخولِ تحتَ شَرعِه، وقد ضَلَّ قَومٌ فزَعَموا ذلك طاعةً وعِبادةً؛ فعَطَّلوا الأسبابَ، وخالَفوا الشَّريعةَ، وحادوا عمَّا ثَبَت مِنَ السُّنَّةِ! وفيهم سُئِلَ إمامُ الحديثِ والسُّنَّةِ أحمدُ بنُ حَنبلٍ رَحِمه اللهُ؛ سُئِلَ عن القائِلِ: أجلِسُ لا أعمَلُ شَيئًا حتَّى يأتيَني رِزقي! فقال: «هذا رجُلٌ جَهِلَ العِلمَ؛ أمَا سَمِعَ قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم...: ((تَغدو خِماصًا، وتَروحُ بِطانًا [427] أي: تَغْدو بُكرةً وهي جِياعٌ، وتَروحُ عِشاءً وهي مُمتَلِئةُ الأجوافِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/80). ) [428] أخرجه مِن طُرقٍ مطوَّلًا: الترمذيُّ (2344)، وابنُ ماجه (4164)، وأحمدُ (370) مِن حديثِ عمَرَ بنِ الخطَّابِ رضيَ الله عنه. قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ لا نَعرِفُه إلَّا مِن هذا الوجهِ)، وصحَّح الحديثَ ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (730)، وابنُ العربي في ((أحكام القرآن)) (2/471)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4164)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1/438). ، وكان الصَّحابةُ يَتَّجِرونَ في البَرِّ والبَحرِ، ويَعمَلونَ في نَخيلِهم، وبهم القُدوةُ [429] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 362). .
6- قال اللهُ تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ حَقيقةُ الفِرارِ: الهَرَبُ مِن شَيءٍ إلى شَيءٍ، وهو نَوعانِ: فِرارُ السُّعَداءِ، وفِرارُ الأشقياءِ؛ ففِرارُ السُّعَداءِ: الفِرارُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وفِرارُ الأشقياءِ: الفِرارُ منه لا إليه [430] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/466، 467). .
7- في قَولِه تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّه سَمَّى اللهُ تعالى الرُّجوعَ إليه فِرارًا؛ لأنَّ في الرُّجوعِ لِغَيرِه أنواعَ المَخاوِفِ والمَكارِهِ، وفي الرُّجوعِ إليه أنواعَ المحابِّ، والأمنَ والسُّرورَ، والسَّعادةَ والفَوزَ؛ فيَفِرُّ العَبدُ مِن قَضائِه وقَدَرِه إلى قَضائِه وقَدَرِه، وكُلُّ مَن خِفْتَ منه فرَرْتَ منه إلَّا الله تعالى؛ فإنَّه بحَسَبِ الخَوفِ منه يكونُ الفِرارُ إليه [431] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 812). !
8- قال عزَّ وجلَّ: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ في قَولِه تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ هذا مِنَ الفِرارِ إلى اللهِ تعالى، بل هذا أصلُ الفِرارِ إليه؛ أن يَفِرَّ العَبدُ مِنِ اتِّخاذِ آلِهةٍ غَيرِ اللهِ؛ مِنَ الأوثانِ والأندادِ والقُبورِ، وغَيرِها مِمَّا عُبِدَ مِن دونِ اللهِ، ويُخلِصَ العَبدُ لرَبِّه العِبادةَ، والخَوفَ والرَّجاءَ، والدُّعاءَ والإنابةَ [432] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 812). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا فيه أنَّ السَّماءَ مَبْنِيَّةٌ، إذًا هي أجرامٌ، ولا شكَّ في هذا [433] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة غافر)) (ص: 439). . وفيه دَلالةٌ واضِحةٌ على أنَّ ما يَزعُمُه مَلاحِدةُ الكَفَرةِ، ومَن قَلَّدَهم مِن مَطموسي البَصائِرِ مِمَّن يَدَّعونَ الإسلامَ: أنَّ السَّماءَ فَضاءٌ لا جِرْمٌ مَبنيٌّ- أنَّه كُفرٌ وإلحادٌ وزَندَقةٌ، وتكذيبٌ لِنُصوصِ القُرآنِ العَظيمِ [434] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/297). !
2- قال اللهُ تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا كَرَّر عزَّ وجلَّ ذِكرَ البِناءِ في السَّمَواتِ، قال تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس: 5] ، وقال تعالى: أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا [النازعات: 27] ، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [غافر: 64] ، فما الحِكمةُ فيه؟
الجَوابُ مِن وُجوهٍ:
منها: أنَّ البِناءَ باقٍ إلى قيامِ القيامةِ لم يَسقُطْ منه شَيءٌ، ولم يَعدَمْ منه جزءٌ، وأمَّا الأرضُ فهي في التَّبَدُّلِ والتَّغَيُّرِ، فهي كالفَرشِ الَّذي يُبسَطُ ويُطوى ويُنقَلُ، والسَّماءُ كالبِناءِ المبنيِّ الثَّابِتِ، وإليه الإشارةُ بقَولِه تعالى: سَبْعًا شِدَادًا [النبأ: 12] ، وأمَّا الأراضي فكَمْ منها ما صار بحرًا وعاد أرضًا مِن وَقتِ حُدوثِها.
ومنها: أنَّ السَّماءَ تُرى كالقُبَّةِ المَبنيَّةِ فوقَ الرُّؤوسِ، والأرضُ مَبسوطةٌ مَدْحُوَّةٌ، والبِناءُ بالمَرفوعِ أليَقُ، كما قال تعالى: رَفَعَ سَمْكَهَا [435] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/187). [النازعات: 28] .
3- قال اللهُ تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ إذا كان المقصودُ إثباتَ التَّوحيدِ، فكيف قال: بَنَيْنَاهَا، ولم يَقُلْ: «بَنَيتُها» أو «بَناها اللهُ»؟
والجوابُ: أنَّ قَولَه: «بَنَيْنا» أدَلُّ على عَدَمِ الشَّريكِ في التَّصَرُّفِ والتَّدبيرِ، وقَولُه: «بَنَيتُها» يُمكِنُ أن يكونَ فيه تشريكٌ، وتمامُ التَّقريرِ: هو أنَّ قَولَه تعالى: بَنَيْنَاهَا لا يُورِثُ إيهامًا بأنَّ الآلهةَ الَّتي كانوا يَعبُدونَها هي الَّتي يَرجِعُ إليها الضَّميرُ في بَنَيْنَاهَا؛ لأنَّ تلك إمَّا أصنامٌ مَنحوتةٌ، وإمَّا كواكِبُ جَعَلوا الأصنامَ على صُوَرِها وطبائِعِها؛ فأمَّا الأصنامُ المنحوتةُ فلا يَشُكُّونَ أنَّها ما بَنَت مِنَ السَّماءِ شَيئًا، وأمَّا الكواكِبُ فهي في السَّماءِ مُحتاجةٌ إليها؛ فلا تكونُ هي بانِيتَها، وإنَّما يمكِنُ أن يُقالَ: إنَّما بُنِيَت لها، وجُعِلَت أماكِنَها، فلمَّا لم يُتوَهَّمْ ما قالوا، قال: بَنَيْنا نحنُ، ونحن غيرُ ما يقولونَ ويَدَّعونَه، فلا يَصلُحونَ لنا شُرَكاءَ؛ لأنَّ كُلَّ ما هو غيرُ السَّماءِ ودونَ السَّماءِ في المَرتبةِ: لا يكونُ خالِقَ السَّماءِ وبانيَها؛ فإذَنْ عُلِمَ أنَّ المرادَ جَمعُ التَّعظيمِ، وأفاد النَّصُّ عَظَمتَه، فالعَظَمةُ أنفى للشَّريكِ؛ فثَبَت أنَّ قَولَه: بَنَيْنَاهَا أدَلُّ على نَفيِ الشَّريكِ مِن «بَنَيتُها» و«بناها اللهُ» [436] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/187). .
4- في قَولِه تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ، وقَولِه: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ، وقَولِه: خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ مُناسَباتٌ في كُلٍّ منها؛ فإنَّه لَمَّا كانت السَّماءُ مُتلاحِمةَ الأجزاءِ في العَلاءِ، ثابِتةً على حالةٍ مُستَمِرَّةٍ في هذه الدُّنيا على البَقاءِ؛ ناسبَها لفظُ البِناءِ، ولَمَّا كانت مَظهَرَ العَظَمةِ والجَلالِ ناسبها لَفظُ القُوَّةِ، ولَمَّا كانت الأرضُ يَطرَأُ عليها التَّبديلُ والتَّغييرُ بما يَنقُصُ البَحرُ مِن أطرافِها، وبما قد يتحَوَّلُ مِن سُهولِها وجِبالِها، وبما يَتعاقَبُ عليها مِن حَرثٍ وغِراسةٍ، وخِصْبٍ وجَدْبٍ؛ ناسَبَها لَفظُ الفِراشِ الَّذي يُبسَطُ ويُطوَى، ويُبدَّلُ ويُغَيَّرُ، ولَمَّا كانت أسبابُ الانتِفاعِ بها المُيَسَّرةُ ضَروريَّةً للحياةِ عليها، وكُلُّها مُهَيَّأةٌ، وكَثيرٌ منها مُشاهَدٌ، وغَيرُه مُعَدٌّ يُتوصَّلُ إليه بالبَحثِ والاستِنباطِ؛ ناسَبَ ذِكرُ التَّمهيدِ، ولَمَّا كانت الأزواجُ مُكَوَّنًا بَعضُها مِن بَعضٍ ناسَبَها لَفظُ الخَلقِ، ولَمَّا كان النَّظَرُ في الزَّوجَينِ هو نَظَرٌ في أساسِ التَّكوينِ لتلك المذكوراتِ السَّابِقةِ، وهو مُحَصِّلٌ للعِلمِ الَّذي يَحصُلُ مِنَ النَّظَرِ فيها- قُرِنَ بلَفظِ التَّذَكُّرِ [437] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 360). .
5- قال تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ المقصودُ الأساسيُّ مِن الآياتِ هو تحذيرُ الخَلقِ مِن الهَلاكِ، وتَرغيبُهم في النَّجاةِ، ولا سَبيلَ إلى ذلك إلَّا بالفِرارِ إلى اللهِ تعالى؛ فمَهَّد لذلك بالآياتِ الثَّلاثِ الأُوَلِ؛ للتَّرغيبِ فيه، وخَتَم بالخامِسةِ؛ لبيانِ الفِرارِ الصَّحيحِ المُنَجِّي عندَ اللهِ [438] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 356). .
قَولُه تعالى: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ استُدِلَّ به على أنَّ السَّماءَ كُرةٌ لا سَطحيَّةٌ؛ وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ قَولَه: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ يقتضي المُبالَغةَ في الاتِّساعِ؛ لأنَّه في مَقامِ الفَخرِ والامتِنانِ؛ والشَّكلُ الكُرويُّ أوسَعُ مِنَ المُسَطَّحِ [439] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 247). ، فالسَّمَواتُ طِباقٌ؛ واحِدةٌ فَوقَ الأُخرى، وإذا كانت واحِدةٌ فَوقَ الأُخرى لَزِمَ أن تكونَ السَّماءُ الثَّانيةُ أوسَعَ مِنَ الأُولى؛ لأنَّها دائِرةٌ، والثَّالِثةُ أوسَعَ مِنَ الثَّانيةِ... وهَلُمَّ جَرًّا؛ ولهذا قال عزَّ وجلَّ: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، كُلَّما ارتفَعْتَ في السَّمَواتِ اتَّسَعَت السَّمَواتُ [440] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الزخرف)) (ص: 63). .
6- قولُه تعالَى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ هذا استِدلالٌ بأثَرِ الخلْقِ الَّذي عايَنوا أثَرَه ولم يَشْهَدوا كَيفيَّتَه؛ لأنَّ أثَرَه يُنبِئُ عن عَظيمِ كَيفيَّتِه، وأنَّها أعظَمُ ممَّا يُتصوَّرُ في كَيفيَّةِ إعادةِ الأجسامِ الباليةِ [441] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/15). .
7- في قَولِه تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ إلى آخِرِ السِّياقِ لَطيفةٌ: أنَّ اللهَ تعالى بَيَّن عَظَمتَه بقَولِه: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا، وهَيْبتَه بقَولِه: فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [الذَّارِيات: 40]، وقَولِه تعالى: أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذَّارِيات: 41]، وقَولِه: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ [442] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/189). [الذَّارِيات: 44].
8- في قَولِه تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا دَقيقةٌ كَونيَّةٌ؛ فإنَّ شأنَ الفِراشِ أن يكونَ ما تحتَه لا يَصلُحُ للجُلوسِ والنَّومِ عليه، وما تحتَ وَجهِ الأرضِ هو كذلك لا يَصلُحُ للحَياةِ فيه؛ فإنَّ تحتَ القِشرةِ العُليا مِنَ الأرضِ الموادَّ المصهورةَ، والمياهَ المَعدنيَّةَ، والأبخِرةَ الحارَّةَ؛ مِمَّا تَنطِقُ به البَراكينُ المُنتَشِرةُ على وَجهِ الأرضِ في أماكِنَ عَديدةٍ؛ فكانت القِشرةُ العُليا مِنَ الأرضِ مِثلَ الفِراشِ تمامًا [443] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 358). .
9- في قَولِه تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ دَليلٌ على أنَّ دَحْوَ الأرضِ هو بعدَ خَلقِ السَّماءِ؛ لأنَّ بِناءَ البَيتِ يكونُ في العادةِ قبْلَ الفَرشِ [444] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/188). وآيةُ سورةِ (النَّازِعَاتِ) تدُلُّ على أنَّ دَحْوَ الأرضِ بعدَ خَلْقِ السَّماءِ؛ لأنَّ الله تعالى قال فيها: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا [النازعات: 27] ، ثُمَّ قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات: 30] ، لكنَّ خَلْقَ الأرضِ قبْلَ خَلْقِ السَّماءِ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/14). .
10- في قَولِه تعالى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ دَلالةٌ على قُدرةِ اللهِ تعالى وحِكمتِه؛ إذ جَعَل الأرضَ مَبسوطةً -فيما يبدو للنَّاسِ مِن سطحِها، دونَ تعرُّضٍ إلى تكويرِها- لَمَّا أراد أن يَجعَلَ على سَطحِها أنواعَ الحَيوانِ يمشي عليها ويَتوسَّدُها ويَضطَجِعُ عليها، ولو لم تكُنْ كذلك لَكانت مُحدَودِبةً تُؤلِمُ الماشيَ بَلْهَ المتوَسِّدَ والمُضطَجِعَ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/17). .
11- في قَولِه تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ رَدٌّ على الفلاسِفةِ في قَولِهم: «لا يَنشَأُ عن الواحِدِ إلَّا واحِدٌ» [446] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/475). !
12- تكوينُ هذه الخليقةِ هو مِن زَوجَينِ، كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ؛ فكلُّ شيءٍ مِن الخليقةِ فلا بُدَّ لِتَركيبِه مِن زَوجَينِ، حتَّى المياهُ، وحتَّى الهواءُ، وكلُّ شَيءٍ [447] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الزمر)) (ص: 62). .
13- قال اللهُ تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّوجُ يُرادُ به النَّظيرُ المُماثِلُ، والضِّدُّ المخالِفُ، وهو النِّدُّ؛ فما مِن مخلوقٍ إلَّا له شَريكٌ ونِدٌّ، والرَّبُّ سُبحانَه وَحْدَه هو الَّذي لا شَريكَ له ولا نِدَّ، بل ما شاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكُنْ [448] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/35). .
14- قَولُه تعالى: فَفِرُّوا فيه إنباءٌ عن سُرعةِ الإهلاكِ، كأنَّه يقولُ: الإهلاكُ والعَذابُ أسرَعُ وأقرَبُ مِن أن يَحتَمِلَ الحالُ الإبطاءَ في الرُّجوعِ؛ فافزَعوا إلى اللهِ سَريعًا وفِرُّوا [449] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/189). !
15- قَولُه تعالى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ في الرِّسالةِ أُمورٌ ثلاثةٌ: المُرسِلُ، والرَّسولُ، والمُرسَلُ إليه، وهاهنا ذَكَر الكُلَّ؛ فقَولُه: لَكُمْ إشارةٌ إلى المُرسَلِ إليهم، وقَولُه: مِنْهُ إشارةٌ إلى المُرسِلِ، وقَولُه: نَذِيرٌ بيانٌ للرَّسولِ [450] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/189). .
16- قال تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ في أمْرِه تعالَى للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يَأمُرَهم بالهرَبِ إليهِ تعالَى مِنْ عِقابِه، وتَعليلِه بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُنذِرُهم مِنْ جهتِه تعالَى لا مِنْ تِلْقاءِ نفْسِه: وعْدٌ كَريمٌ بنَجاتِهم مِن المَهروبِ، وفَوزِهم بالمطلوبِ [451] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/143). .
17- في قَولِه تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ التَّحذيرُ مِن دُعاءِ إلهٍ مع اللهِ [452] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/364). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
- هذه الجُملةُ والجُمَلُ المعطوفةُ عليها إلى قَولِه: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذَّارِيات: 51] مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ... [الذَّارِيات: 46] إلخ، وجُملةِ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ ... [الذَّارِيات: 52] الآيةَ. وابتُدِئَ بخلْقِ السَّماءِ؛ لأنَّ السَّماءَ أعظَمُ مَخلوقٍ يُشاهِدُه النَّاسُ، وعُطِفَ عليه خلْقُ الأرضِ عطْفَ الشَّيءِ على مُخالِفِه؛ لاقترانِ المُتخالفَينِ في الجامعِ الخياليِّ، وعُطِفَ عليها خلْقُ أجناسِ الحيوانِ؛ لأنَّها قريبةٌ للأنظارِ، لا يُكلِّفُ النَّظرُ فيها والتَّدبُّرُ في أحوالِها ما يُرهِقُ الأذهانَ [453] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/15). .
- وتَقديمُ (السَّمَاءَ) على عامِلِه بَنَيْنَاهَا؛ للاهتِمامِ به، ثمَّ بسُلوكِ طَريقةِ الاشتِغالِ [454] الاشتغالُ في مصطلَحِ النُّحاةِ معناه: إذا تَقدَّم اسمٌ على فِعلٍ صالحٍ لأنْ يَنصِبَه لفظًا أو محلًّا، وشُغِلَ الفِعلُ عن عمِله فيه بعمَله في ضميرِه، صحَّ في الاسمِ أنْ يُنصَب بفِعلٍ لا يَظهَرُ، مماثلٍ للظاهِرِ أو مُقَارِبِه. وله أحوالٌ في إعرابِه. يُنظر: ((شرح ألفية ابن مالك)) لابن الناظم (ص: 172)، ((شرح التصريح على التوضيح)) لخالد الأزهري (1/441). زادَه تَقويةً؛ ليَتعلَّقَ المَفعولُ بفِعلِه مرَّتينِ: مرَّةً بنفْسِه، ومرَّةً بضَميرِه؛ فإنَّ الاشتِغالَ في قُوَّةِ تَكرُّرِ الجُملةِ، وزِيدَ تأْكيدُه بالتَّذييلِ بقَولِه: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [455] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/16). .
- وفي قولِه: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أُكِّدَ الخبَرُ بحرْفِ (إنَّ)؛ لتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ سَعةَ قُدْرةِ اللهِ تعالى؛ إذ أحالوا إعادةَ المَخلوقاتِ بعْدَ بِلاها [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/16). .
2- قولُه تعالَى: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ
- فيه تَقديمُ المفعولِ به وَالْأَرْضَ على عامِلِه فَرَشْنَاهَا؛ للاهتِمامِ به، ثمَّ بسُلوكِ طَريقةِ الاشتغالِ زادَه تَقويةً؛ ليَتعلَّقَ المَفعولُ بفِعلِه مرَّتينِ: مرَّةً بنفْسِه، ومرَّةً بضَميرِه؛ فإنَّ الاشتغالَ في قُوَّةِ تَكرُّرِ الجُملةِ، وزِيدَ تأْكيدُه بالتَّذييلِ بقَولِه: فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [457] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/16). .
- واستُغْنيَ هنا عن إعادةِ بِأَيْدٍ [الذَّارِيات: 47]؛ لدَلالةِ ما قبْلَه عليه [458] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/17). .
- قولُه: فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ لَمَّا كان في فرْشِها إرادةُ جَعلِها مَهدًا لِمَن عليها مِن الإنسانِ، أُتبِعَ فَرَشْنَاهَا بتَفريعِ ثَناءِ اللهِ على نفْسِه على إجادةِ تَمْهيدِها فقال: فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ؛ تذْكيرًا بعَظَمتِه ونِعمتِه، أي: فنِعمَ الماهِدون نحنُ. وصِيغةُ الجمْعِ الْمَاهِدُونَ للتَّعظيمِ [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/17). .
- وكذلِك رُوعِيَ في وصْفِ خلْقِ الأرضِ ما يَبْدو للنَّاسِ مِن سطْحِها؛ لأنَّه الَّذي يَهُمُّ النَّاسَ في الاستِدلالِ على قُدْرةِ اللهِ تعالى، وفي الامتِنانِ عليهم بما فيه لُطْفُهم والرِّفقُ بهم، دونَ تَعرُّضٍ إلى تَكويرِها؛ إذ لا يَبلُغون إلى إدراكِه، كما رُوعِيَ في ذِكرِ السَّماءِ ما يَبْدو مِن قُبَّةِ أجْوائِها دونَ بحْثٍ عن تَرامي أطْرافِها، وتَعدُّدِ عَوالِمِها لِمِثلِ ذلك؛ ولذلك أُتبِعَ الاعتِراضُ بالتَّذييلِ بقَولِه: فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ المُرادِ منه تَلقينُ النَّاسِ الثَّناءَ على اللهِ فيما صنَعَ لهم فيها مِن مِنَّةٍ؛ ليَشكُروه بذلك الثَّناءِ [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/17). .
3- قولُه تعالَى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
- هذا استِدلالٌ عليهم بخلْقٍ يُشاهِدونَ كَيفيَّاتِه وأطوارَه كلَّما لَفَتوا أبصارَهم، وقَدَحوا أفكارَهم، وهو خلْقُ الذَّكَرِ والأُنثى -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ لِيَكونَ منهما إنشاءُ خلْقٍ جديدٍ يَخلُفُ ما سلَفَه، وذلك أقرَبُ تَمثيلٍ لإنشاءِ الخلْقِ بعْدَ الفَناءِ، وهو البَعثُ الَّذي أنْكَروه؛ لأنَّ الأشياءَ تُقرَّبُ بما هو واضحٌ مِن أحوالِ أمْثالِها، ولذلك أتْبَعَه بقولِه: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أي: تَتفكَّرون في الفُروقِ بيْنَ المُمكناتِ والمُستحيلاتِ، وتَتفكَّرون في مَراتبِ الإمكانِ؛ فلا يَختلِطُ عليكم الاستبعادُ وقِلَّةُ الاعتيادِ بالاستِحالةِ، فتَتوهَّموا الغريبَ مُحالًا؛ فالتَّذكُّرُ مُستعمَلٌ في إعادةِ التَّفكُّرِ في الأشياءِ ومُراجَعةِ أنفُسِهم فيما أحالوه؛ ليَعلَموا بعدَ إعادةِ النَّظرِ أنَّ ما أحالُوه مُمكِنٌ، ولكنَّهم لم يأْلَفوه، فاشتَبَه عليهم الغريبُ بالمُحالِ فأحالُوه، فلمَّا كان تَجديدُ التَّفكُّرِ المَغفولِ عنه شَبيهًا بتَذكُّرِ الشَّيءِ المَنْسيِّ، أُطلِق عليه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وهذا في معنى قَولِه تعالى: وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [الواقعة: 60-62] ؛ فقد ذُيِّلَ هنالك بالحثِّ على التَّذكُّرِ، كما ذُيِّلَ هنا برَجاءِ التَّذكُّرِ، فأفادَ أنَّ خلْقَ الذَّكَرِ والأُنثى مِن نُطفةٍ هو النَّشأةُ الأُولى، وأنَّها الدَّالَّةُ على النَّشأةِ الآخرةِ [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/18). .
- وجُملةُ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تَعليلٌ لجُملةِ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ، أي: رَجاءَ أنْ يكونَ في الزَّوجَينِ تذَكُّرٌ لكم، أي: دَلالةٌ مَغفولٌ عنها [462] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/18). .
4- قولُه تعالَى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ لَمَّا فرَغَ مِن التَّعريضِ بالمكذِّبينَ الخرَّاصينَ في قولِه: وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ [الذَّارِيات: 20، 21]، وَفِي مُوسَى [الذَّارِيات: 38]، والتَّذكيرِ بشِدَّةِ سَطوتِه وكَمالِ قُدْرتِه في قَولِه: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذَّارِيات: 47]؛ أمَرَ رسولَه صَلواتُ اللهِ عليه وسَلامُه بأنْ يقولَ لقَومِه: إذا ظهَرَ لكم شِدَّةُ قَهرِه وكَمالُ سَطوتِه، وما فعَلَ بالأُمَمِ المكذِّبةِ، وعرَفْتم كلَّ ذلك، وأنَّه إذا أخَذَ لا يُبْقي ولا يذَرُ؛ ففِرُّوا إلى اللهِ مِن اللهِ، واتْرُكوا العِنادَ، وخافُوا سُوءَ مَغبَّةِ تَكذيبِكم؛ يدُلُّ عليه قولُه: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وتكريرُه إظهارًا للنَّصيحةِ، وأنَّه النَّذيرُ العُريانُ [463] هذا مَثَلٌ يُضرَبُ مبالغةً في صِدقِ النِّذارةِ؛ لأنَّه إذا كان عريانًا كان أبينَ، وأصلُه أنَّ الرَّجلَ إذا أراد إنذارَ قومِه وإعلامَهم بما يُوجِبُ المخافةَ نزَع ثوبَه، وأشار به إليهم إذا كان بعيدًا منهم؛ ليخبرَهم بما دهَمهم، وأكثرُ ما يفعَلُ هذا طليعةُ القومِ ورقيبُهم، قالوا: وإنَّما يفعلُ ذلك؛ لأنَّه أبينُ للنَّاظرِ وأغربُ وأشنعُ منظرًا، فهو أبلغُ في استحثاثِهم في التأهُّبِ للعدوِّ. وقيل: معناه النَّذيرُ الذي أدرَكه جيشُ العدوِّ، فأخَذ ثيابَه، فهو يُنذِرُهم عريانًا. يُنظر: (( مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (4/418)، ((شرح النووي على مسلم)) (15/48). ، وقولُه بعْدَ ذلك: مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ.
ويجوزُ تعليقُ الفاءِ في فَفِرُّوا بقولِه: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49]، وتقريرُ ذلك: أنَّه تعالى لَمَّا أظْهَرَ القَهَّاريَّةَ بإهلاكِ الأُمَمِ الماضيةِ، وبيَّن الفَرْدانيَّةَ بقَولِه: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذَّارِيات: 49]، ونبَّه على ذلك بقولِه: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، ورَتَّبَ عليه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، ووضَعَ الاسمَ الجامعَ مَوضعَ الضَّميرِ، يعني: إذا تَفكَّرْتُم واعتبَرْتُم وتذكَّرْتُم، وتَبيَّن لكم أنَّه هو القهَّارُ الصَّمَدُ، وإليه المَرجِعُ والملْجأُ؛ فلُوذوا إليه، وتَوكَّلوا عليه، ولا تُشرِكوا به شيئًا، والعبادةُ مِن لَوازِمِ ذلك؛ ولذلك عقَّبَه بقَولِه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيات: 56]، وحينَ لم يكُنْ يَنجَعُ في المشركين تلك المواعظُ والتَّخويفُ والتَّذكيرُ، رجَعَ عَودًا إلى بَدْءٍ بقولِه: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الذَّارِيات: 52] إلى آخِرِه، مُسلِّيًا رسولَه صَلواتُ اللهِ عليه، وجُعِلَ التَّخلُّصُ إلى المَقصودِ مِن الخلْقِ قولُه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [464] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/34)، ((تفسير أبي السعود)) (8/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/18، 19). [الذَّارِيات: 55].
فبعْدَ أنْ بُيِّنَ ضَلالُ هؤلاء في تَكذيبِهم بالبَعثِ بَيانًا بالبُرهانِ السَّاطعِ، ومُثِّلَ حالُهم بحالِ الأُمَمِ الَّذين سَلَفوهم في التَّكذيبِ بالرُّسلِ وما جاؤوا به، جمْعًا بيْنَ الموعظةِ للضَّالِّينَ وتَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ، وكانتْ فيما مَضى مِن الاستدلالِ دَلالةٌ على أنَّ اللهَ مُتفرِّدٌ بخلْقِ العالَمِ، وفي ذلك إبطالُ إشراكِهم مع اللهِ آلهةً أُخرى -أقبَلَ اللهُ على تَلقينِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يَستخلِصُه لهم عقِبَ ذلك؛ بأنْ يَدعُوهم إلى الرُّجوعِ إلى الحقِّ بقَولِه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ؛ فالجُملةُ المُفرَّعةُ بالفاءِ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ، والتَّقديرُ: فقُلْ: فِرُّوا، دلَّ عليه قولُه: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ؛ فإنَّه كلامٌ لا يَصدُرُ إلَّا مِن قائلٍ، ولا يَستقيمُ أنْ يكونَ كَلامَ مُبلِّغٍ. وحذْفُ القولِ كَثيرُ الوُرودِ في القرآنِ، وهو مِن ضُروبِ إيجازِه، فالفاءُ مِن الكلامِ الَّذي يَقولُه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُفادُها التَّفريعُ، وليست مُفرِّعةً فِعلَ الأمْرِ المحذوفَ؛ لأنَّ المُفرَّعَ بالفاءِ هو ما يُذكَرُ بعْدَها، فقولُه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ مقدرٌ لقولٍ خُوطِبَ بهِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بطريقِ التَّلوينِ، والفاءُ إمَّا لترتيبِ الأمرِ على ما حُكِيَ من آثارِ غضَبِه الموجِبةِ للفرارِ منها، ومِن أحكامِ رحمتِه المستدعيةِ للفرارِ إليها، كأنَّه قيلَ: قُلْ لهم: إذا كانَ الأمرُ كذلكَ فاهرُبوا إلى اللهِ الَّذي هذه شُؤونُه بالإيمانِ والطَّاعةِ؛ كيْ تَنجوا من عِقابِه، وتَفوزُوا بثَوابِه، وإمَّا للعَطفِ على جملةٍ مقدَّرةٍ مترتِّبةٍ على قولِه تعالَى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، كأنَّه قيلَ: قُلْ لهم: فتَذكَّروا، ففِرُّوا إلى اللهِ... إلخ [465] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/18، 19). .
- وقد غُيِّر أُسلوبُ الموعظةِ إلى تَوجيهِ الخِطابِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يقولَ لهم هذه الموعظةَ؛ لأنَّ لتَعدُّدِ الواعظينَ تأثيرًا على نُفوسِ المُخاطَبينَ بالمَوعظةِ [466] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/19). ، فجاءت هذه الآيةُ كما يكونُ قَولُها مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تنويعًا للخِطابِ وتفَنُّنًا؛ فإنَّه لَمَّا كان في هذه الآيةِ هو المقصودَ حوَّل أُسلوبَ الكلامِ مِنَ الإخبارِ إلى الأمرِ؛ تَجديدًا لنَشاطِ السَّامِعِ، وبَعْثًا لاهتِمامِ المُخاطَبينَ، وحَثًّا لهم، وتوكيدًا عليهم. وفيه تنبيهٌ على أنَّ ما يَقولُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم مِثلُ ما يَقولُه اللهُ، في وُجوبِ الإيمانِ والامتثالِ [467] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 361). .
- وقولُه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أمْرٌ بالدُّخولِ في الإيمانِ وطاعةِ اللهِ، وجُعِلَ الأمْرُ بذلك بلَفظِ الفِرارِ؛ ليُنبِّهَ على أنَّ وَراءَ الناسِ عِقابًا وعذابًا، وأمْرًا حقُّه أنْ يُفَرَّ منه، فجمَعَت لَفظةُ فَفِرُّوا بيْنَ التَّحذيرِ والاستِدعاءِ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/181)، ((تفسير أبي حيان)) (9/560). .
- وجُملةُ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تَعليلٌ للأمْرِ بـ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ باعتبارِ أنَّ الغايةَ مِن الإنذارِ قصْدُ السَّلامةِ مِن العِقابِ؛ فصار الإنذارُ بهذا الاعتبارِ تَعليلًا للأمْرِ بالفِرارِ إلى اللهِ، أي: التَّوجُّهِ إليه وحْدَه. أو تَعليلٌ لوُجوبِ الامتثالِ بِالفرارِ؛ فإنَّ كَونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُنذِرًا منهُ تعالَى مُوجِبٌ عليهِ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنْ يأمُرَهُم بالفرارِ إليهِ، وعليهم أنْ يَمتثِلُوا به [469] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/19). .
5- قولُه تعالَى: وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ عطْفُ قولِه: وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ على فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ نهْيٌ عن نِسبةِ الإلهيَّةِ إلى أحدٍ غَيرِ اللهِ؛ فجُمِعَ بيْنَ الأمْرِ والنَّهيِ مُبالَغةً في التَّأكيدِ بنفْيِ الضِّدِّ لإثباتِ ضِدِّه [470] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/20). .
- وكُرِّرَ قولُه: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ للتَّأكيدِ، أو الأوَّلُ مُرتَّبٌ على ترْكِ الإِيمانِ والطَّاعةِ، والثَّاني على الإِشراكِ. وقِيل: فائدةُ التَّكرارِ: التَّنبيهُ على أنَّه لا تَنفَعُ العِبادةُ مع الإشراكِ؛ إذ حُكْمُ المشرِكِ حكْمُ الجاحِدِ المُعطِّلِ، أو المأمورُ به في الأوَّلِ الطَّاعةُ المُوظَّفةُ بعْدَ الإيمانِ، فتُوُعِّدَ تارِكُها بالوعيدِ المعروفِ دونَ الخُلودِ، فيكونُ وَعيدًا مُختلِفًا لا تَكرارًا [471] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 229)، ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنير)) (4/404)، ((تفسير البيضاوي)) (5/150)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/33). .
أو فيه تأكيدٌ لِما قبْلَه مِنَ الأمْرِ بالفِرارِ مِن العِقابِ إليه تعالَى، لكنْ لا بطَريقِ التَّكريرِ كما قِيل، بل بالنَّهيِ عن سَببِه، وإيجابِ الفرارِ منه [472] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/143). .
وقيل: أعادها هنا؛ لِيُبيِّنَ لهم أنَّ عِبادةَ اللهِ مع الإشراكِ به كتَعطيلِ عِبادتِه؛ فهَلاكُ المُشرِكِ كهَلاكِ الجاحِدِ، والنَّجاةُ أن تَعبُدوا اللهَ ولا تُشرِكوا به شَيئًا لا في رُبوبيَّتِه ولا في أُلوهيَّتِه [473] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 363). .