موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (52-55)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات:

أَتَوَاصَوْا بِهِ: أي: أَأَوصى بَعضُهم بعضًا بهذه المقالةِ، وتواطَؤوا عليها، وأصلُ (وصي): يدُلُّ على وَصْلِ شَيءٍ بشَيءٍ، ومنه الوصِيَّةُ، كأنَّه كلامٌ يُوصَى، أيْ: يُوصَلُ [474] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/550)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/116)، ((المفردات)) للراغب (ص: 874)، ((تفسير القرطبي)) (17/54)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425). .
طَاغُونَ: أي: مُتَجاوِزونَ حُدودَ اللهِ بالعِصيانِ، وأصلُ الطُّغيانِ: مُجاوَزةُ الحَدِّ [475] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/551)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((المفردات)) للراغب (ص: 520)،((التبيان)) لابن الهائم (ص: 52)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 587). .
فَتَوَلَّ: أي: فأعرِضْ؛ فالتَّولِّي إذا عُدِّيَ بـ (عن) لَفظًا أو تقديرًا اقتَضى معنى الإعراضِ [476] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 422)، ((تفسير ابن جرير)) (21/534)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885، 886)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
الذِّكْرَى: أي: التَّذكيرَ، وأصلُ (ذكر) هنا: يدُلُّ على خِلافِ النِّسيانِ [477] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/316) و(21/553)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/358)، ((المفردات)) للراغب (ص: 329)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 349). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى مواقفَ الكفَّارِ -في الأممِ السَّابقةِ- مِن رُسلِهم، مسلِّيًا رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا ناله مِن تكذيبٍ مِن المشركين، فيقولُ: كَذَّبَ كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ رُسُلَهم مِثلَ تَكذيبِ قُرَيشٍ نَبيَّها، فقالت كُلُّ أُمَّةٍ منهم لِرَسولِهم: هو ساحِرٌ أو مَجنونٌ! فهل أوصى الكُفَّارُ بَعضُهم بَعضًا بذلك القَولِ، فاتَّفَقت كَلِمتُهم على تَكذيبِ رُسُلِهم ووَصْفِهم بهذا الوَصفِ؟! بَلِ اتَّفَقَت أقوالُهم في هذا الشَّأنِ؛ لأنَّهم قَومٌ مُتعَدُّونَ أمْرَ اللهِ، مُتجاوِزونَ لحُدودِه.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى رسولَه بالإعراضِ عنهم، فيقولُ: فأَعرِضْ -يا محمَّدُ- عنهم؛ فلَسْتَ بمَلُومٍ مِنَ اللهِ؛ فقد بلَّغْتَ رِسالةَ رَبِّك، وذَكِّرْ؛ فإنَّ الذِّكْرى تنفَعُ المؤمِنينَ.

تفسير الآيات:

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى قَولَهم المُختَلِفَ الَّذي منه تَكذيبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونِسبتُه إلى السِّحرِ والجُنونِ وغَيرِ ذلك مِنَ الفُنونِ، ومنه الإشراكُ مع اعترافِهم بأنَّه لا خالِقَ إلَّا اللهُ، ولا كاشِفَ ضُرٍّ غَيرُه، إلى غَيرِ ذلك مِن أنواعِ الاضطِرابِ، وأخبَرَ بهلاكِهم على ذلك، وحَذَّرهم منه، ودَلَّ عليه إلى أنْ خَتَم بإنذارِ مَنِ اتَّخَذ إلهًا غَيرَه- قال مُسَلِّيًا [478] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/478). :
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52).
أي: مِثْلَ ما كذَّبَتْ قُرَيشٌ نَبِيَّها ووصَفَتْه بأوصافٍ باطِلةٍ كَذَّبَ كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ مِن قبْلِ قُرَيشٍ رُسُلَهم، فقالت كُلُّ أُمَّةٍ منهم لِرَسولِهم: هو ساحِرٌ أو مَجنونٌ [479] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/550)، ((تفسير القرطبي)) (17/54)، ((النبوات)) لابن تيمية (2/1042)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 163، 164). !
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53).
أَتَوَاصَوْا بِهِ.
أي: هل أوصَى الكُفَّارُ بَعضُهم بَعضًا بذلك القَولِ، فاتَّفَقت كَلِمتُهم على تَكذيبِ رُسُلِهم، ووَصْفِهم بالسِّحرِ أو الجُنونِ [480] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/550)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 164). ؟!
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ.
أي: لم يُوصِ الكُفَّارُ بَعضُهم بَعضًا بذلك، وإنَّما اتَّفَقَت أقوالُهم في هذا الشَّأنِ؛ لاشتِراكِهم في صِفةِ الطُّغيانِ، فجَميعُهم مُتعَدُّونَ أمْرَ اللهِ، مُتجاوِزونَ لحُدودِه، لا يأتَمِرونَ بأَمْرِه، ولا يَنتَهُونَ عن نَهْيِه [481] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/551)، ((تفسير القرطبي)) (17/54)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/22، 23)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/442، 443)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 165). .
كما قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118] .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هذه تَسليةٌ أُخرى؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان مِن كَرَمِ الأخلاقِ يَنسُبُ نَفْسَه إلى تَقصيرٍ، ويقولُ: إنَّ عَدَمَ إيمانِهم لِتَقصيري في التَّبليغِ! فيَجتَهِدُ في الإنذارِ والتَّبليغِ، فلَمَّا كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يكادُ يُتلِفُ نفْسَه الشَّريفةَ؛ غَمًّا عليهم، وأسَفًا لتخَلُّفِهم عن الإسلامِ، وخَوفًا ألَّا يكونَ وَفَى بما عليه مِنَ التَّنبيهِ والإعلامِ- سَبَّب تعالى عن حالِهم قَولَه [482] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/191)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/479). :
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ.
أي: فأعرِضْ -يا محمَّدُ- عن هؤلاء المكَذِّبينَ المُعانِدينَ للحَقِّ رَغْمَ ظُهورِه، وقيامِ الحُجَّةِ عليهم [483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/551)، ((تفسير القرطبي)) (17/54)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 165). قال ابنُ تيميَّةَ: (كُلُّ مَن لم يُصْغِ إليه [أي: النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم] ولم يَستَمِعْ لِقَولِه فإنَّه يُعرضُ عنه، كما قال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ، ثمَّ قال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ؛ فهو إذا بلَّغ قَومًا الرِّسالةَ فقامت الحُجَّةُ عليهم، ثمَّ امتَنَعوا مِن سَماعِ كَلامِه، أعرَضَ عنهم؛ فإنَّ الذِّكرى حينَئِذٍ لا تَنفَعُ أحَدًا، وكذلك مَن أظهَرَ أنَّ الحُجَّةَ قامت عليه، وأنَّه لا يَهتَدي، فإنَّه لا يُكَرَّرُ التَّبليغُ عليه). ((مجموع الفتاوى)) (16/163). وقال ابنُ عاشور: (أي: أعرِضْ عن الإلحاحِ في جِدالِهم؛ فقد كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم شَديدَ الحِرصِ على إيمانِهم، ويَغتَمُّ مِن أجْلِ عِنادِهم في كُفرِهم، فكان اللهُ يُعاوِدُ تَسليتَه الفَينةَ بعدَ الفَينةِ، كما قال تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3]، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/23). .
كما قال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [الصافات: 174] .
فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ.
أي: فلَسْتَ بمَلُومٍ مِنَ اللهِ؛ فقد بلَّغْتَهم رِسالةَ رَبِّهم، ونصَحْتَ لهم، ولم يقَعْ مِنك تَفريطٌ في دَعوتِهم [484] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/551)، ((تفسير القرطبي)) (17/54)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 812)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/443)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 165). .
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55).
أي: وذكِّرْ -يا محمَّدُ- فإنَّ التَّذكيرَ يَنفَعُ حَقًّا أهلَ الإيمانِ [485] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/553)، ((تفسير الماوردي)) (5/374)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 165). قال السعدي: (التَّذكيرُ نَوعانِ: تَذكيرٌ بما لم يُعرَفْ تَفصيلُه مِمَّا عُرِف مُجمَلُه بالفِطَرِ والعُقولِ؛ فإنَّ اللهَ فَطَر العُقولَ على محبَّةِ الخَيرِ وإيثارِه، وكراهةِ الشَّرِّ والزُّهدِ فيه، وشَرْعُه مُوافِقٌ لذلك، فكُلُّ أمرٍ ونَهيٍ مِنَ الشَّرعِ فإنَّه مِنَ التَّذكيرِ، وتمامُ التَّذكيرِ أن يُذكَّرَ بما في المأمورِ به مِنَ الخَيرِ والحُسنِ والمصالِحِ، وما في المنهيِّ عنه مِنَ المَضارِّ. والنَّوعُ الثَّاني مِنَ التَّذكيرِ: تذكيرٌ بما هو معلومٌ للمُؤمِنينَ، ولكِنِ انسحَبَت عليه الغَفلةُ والذُّهولُ، فيُذَكَّرونَ بذلك، ويُكَرَّرُ عليهم؛ لِيَرسَخَ في أذهانِهم، ويَنتَبِهوا ويَعمَلوا بما تذَكَّروه مِن ذلك، ولِيُحدِثَ لهم نشاطًا وهِمَّةً تُوجِبُ لهم الانتِفاعَ والارتِفاعَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 812). .
كما قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى: 9، 10].

الفوائد التربوية:

1- أنَّ الدَّاعيةَ لا بُدَّ أنْ يكونَ صابِرًا على ما يَعتَرِضُه مِن الأذى؛ لأنَّ الدَّاعيةَ لا بُدَّ أنْ يُؤذَى إمَّا بالقَولِ وإمَّا بالفِعلِ، وهاهُم الرُّسُلُ -صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم- أُوذُوا بالقَولِ، وأُوذوا بالفِعلِ، اقرأْ قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، ومع هذا فالرُّسُلُ صَبَروا على ما أُوذوا [486] يُنظر: ((زاد الداعية إلى الله)) لابن عثيمين (ص: 14). .
2- قَولُه تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ هذه الآيةُ الكَريمةُ تضَمَّنَتْ واحِدةً مِن حِكَمِ التَّذكيرِ، وهي رَجاءُ انتِفاعِ المذَكَّرِ به؛ لأنَّه تعالى قال هنا: وَذَكِّرْ، ورَتَّب عليه قَولَه: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ.
ومِن حِكَمِ التَّذكيرِ أيضًا: خُروجُ المُذَكِّرِ مِن عُهدةِ التَّكليفِ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وقد جمَعَ اللهُ هاتينِ الحِكمَتينِ في قَولِه تعالى: قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف: 164] .
ومن حِكَمِ ذلك أيضًا النِّيابةُ عن الرُّسُلِ في إقامةِ حُجَّةِ اللهِ على خَلْقِه في أرضِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] ، وقد بَيَّنَ هذه الحُجَّةَ في آخرِ سُورةِ (طه) في قَولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ [طه: 134] ، وأشار لها في (القَصَصِ) في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [487] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/443). [القصص: 47] .
3- في قَولِه تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ دَليلٌ على أنَّه كُلَّما كان الإيمانُ أقوى كان الانتِفاعُ بالذِّكرى أعظَمَ وأشَدَّ، وذلك مِن قاعدةٍ مَعروفةٍ عندَ العُلَماءِ، وهي: «أنَّ الحُكمَ إذا عُلِّقَ بوَصفٍ ازداد بزيادتِه، ونَقَصَ بنُقصانِه» [488] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 166). .
4- في قَولِه تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أنَّ التَّذكيرَ واجبٌ [489] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 224). .
5- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أنَّ الذِّكرى لا ينتَفِعُ بها كُلُّ النَّاسِ؛ فغَيرُ المؤمنِ الذِّكرى تُقيمُ عليه الحُجَّةَ لكِنْ لا تَنفَعُه؛ لا تنفَعُ الذِّكرى إلَّا المؤمنَ [490] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: جزء عم)) (ص: 181). ، فهذه آيةٌ غَليظةٌ على مَن لا يَنتفِعُ بالموعِظةِ؛ لِمَا يُخشَى عليه مِنَ النِّفاقِ إذا زالت عنه مَنافِعُ المواعِظِ [491] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/198). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ دَليلٌ على أنَّ المُكَذِّبينَ للرُّسُلِ طريقتُهم واحِدةٌ ولو تباعدَتْ أزمانُهم، ولو تباعدَتْ أقطارُهم؛ لأنَّ المُجرِمَ أخو المُجرمِ؛ فالطَّريقةُ واحِدةٌ [492] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 164). .
2- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ سُؤالٌ: أنَّ مِن الأنبياءِ مَن قَرَّر دينَ النَّبيِّ الَّذي كان قَبْلَه، وبَقِيَ القَومُ على ما كانوا عليه، كأنبياءِ بني إسرائيلَ، وكيف وآدَمُ لَمَّا أُرسِلَ لم يُكَذَّبْ؟!
 الجوابُ: أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ المُقَرِّرَ رَسولٌ، بل هو نَبيٌّ على دينِ رَسولٍ، ومَن كَذَّب رَسولَه فهو يُكَذِّبُه أيضًا ضَرورةً [493] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/190)، ((تفسير ابن عادل)) (18/104). . وأمَّا آدمُ فنبيٌّ، وليس برسولٍ، والدليلُ قولُه تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة: 213] ، وفي حديثِ الشَّفاعةِ [494] أخرجه البخاري (3340) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. : ((فيَأْتونَ نُوحًا، فيَقولونَ: يا نوحُ، أنت أوَّلُ الرُّسُلِ إلى أهلِ الأرضِ )) [495] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (1/316). .
3- في قَولِه تعالى: إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ سُؤالٌ: أنَّ هذا يدُلُّ على أنَّهم كُلَّهم قالوا: «ساحِرٌ»، والأمرُ ليس كذلك؛ لأنَّه ما مِن رَسولٍ إلَّا وآمنَ به قَومٌ، وهم ما قالوا ذلك!
الجوابُ: أنَّ ذلك ليس بعامٍّ؛ فإنَّه لم يَقُلْ: «إلَّا قال كُلُّهم»، وإنَّما قال: إِلَّا قَالُوا [496] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/190)، ((تفسير ابن عادل)) (18/104). ؛ فهو إسنادٌ باعتِبارِ أنَّه قَولُ أكثَرِهم؛ فإنَّ الأُمورَ الَّتي تُنسَبُ إلى الأقوامِ والقبائِلِ تجري على اعتِبارِ الغالِبِ [497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/22). .
4- في قَولِه تعالى: إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ سُؤالٌ: لِمَ لَمْ يَذكُرِ المصَدِّقِينَ كما ذَكَر المُكَذِّبينَ، وقال: إلَّا بَعضُهم صَدَّق، وبَعضُهم كَذَّب؟
الجوابُ: لأنَّ المقصودَ التَّسليةُ، وهي على التَّكذيبِ؛ فكأنَّه تعالى قال: لا تَأْسَ على تَكذيبِ قَومِك؛ فإنَّ أقوامًا قَبْلَك كَذَّبوا، ورُسُلًا كُذِّبوا [498] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/104). .
5- في قَولِه تعالى: إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أنَّ الهوَى هو الَّذي أوجبَ لهم هذا التَّناقُضَ الظَّاهِرَ، سواءٌ كانت «أو» للتَّفصيلِ بأنَّ بَعضَهم قال واحِدًا، وبَعْضَهم قال آخَرَ، أو كانت للشَّكِّ؛ لأنَّ السَّاحِرَ يكونُ لَبيبًا فَطِنًا آتيًا بما يَعجِزُ عنه كثيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ والمَجنونُ بالضِّدِّ مِن ذلك [499] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/479). ! فتارةً يَصِفونه بغايةِ الحِذْقِ، والخِبرةِ، والمعرفةِ؛ فيَقولون: ساحرٌ، وتارةً بغايةِ الجهلِ، والغَباوةِ، والحُمقِ؛ فيَقولون: مجنونٌ [500] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/834). !
6- ما جاء رسولٌ صادِقٌ قَطُّ إلَّا قيل فيه: إنَّه ساحِرٌ أو مجنونٌ، كما قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ؛ وذلك أنَّ الرَّسولَ يأتي بما يخالِفُ عاداتِهم، ويَفعَلُ ما يَرَونَه غَيرَ نافِعٍ، ويَترُكُ ما يَرَونَه نافِعًا. وهذا فِعلُ المجنونِ؛ فإنَّ المجنونَ فاسِدُ العِلمِ والقَصدِ. ومَن كان مَبلَغُه مِنَ العِلمِ إرادةَ الحياةِ الدُّنيا، كان عندَه مَن تَرَك ذلك وطَلَب ما لا يَعلَمُه: مجنونًا!
ثمَّ الرَّسولُ مع هذا يأتي بأمورٍ خارجةٍ عن قُدرةِ النَّاسِ؛ مِن إعلامٍ بالغُيوبِ، وأمورٍ خارقةٍ لعاداتِهم، فيقولونَ: هو ساحِرٌ، وأيضًا فالسَّاحرُ لَمَّا كان يَتصرَّفُ في العقولِ والنُّفوسِ بما يُغَيِّرُها، وكان مَن سَمِع القُرآنَ وكلامَ الرَّسولِ خضَع له عقلُه ولُبُّه، وانقادتْ له نفْسُه وقلبُه؛ صاروا يقولون: ساحرٌ، وشَتَّانَ [501] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/834، 1042). . فقالوا: سَاحِرٌ باعتِبارِ تأثيرِه وبيانِه وبلاغتِه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا )) [502] رواه البخاري (5767) مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عمَرَ رضيَ الله عنهما. ، أَوْ مَجْنُونٌ باعتبارِ تصَرُّفاتِه؛ لأنَّ هذا التَّصَرُّفَ في نظَرِ هؤلاء المكَذِّبينَ جُنونٌ. نسألُ اللهَ العافيةَ [503] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 164). .
7- في قَولِه تعالى: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أنَّ قُلوبَ الكُفَّارِ مُتشابِهةٌ؛ فكانت أعمالُهم مُتشابِهةً، كما قال تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [504] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/113). [البقرة: 118] .
8- قال اللهُ تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ نَفْيُه جلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكَريمةِ لِلَّومِ عن نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يدُلُّ على أنَّه أدَّى الأمانةَ، ونَصَح للأمَّةِ، وقد أوضَحَ تعالى هذا المعنى في غيرِ هذا الموضِعِ؛ كقَولِه تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، وقَولِه تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [505] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/443). [الرعد: 40] .
9- قال اللهُ تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ النَّفعُ الحاصِلُ مِنَ الذِّكرى هو رُسوخُ العِلمِ بإعادةِ التَّذكيرِ لِمَا سَمِعوه، واستِفادةُ عِلمٍ جَديدٍ فيما لم يَسمَعوه أو غَفَلوا عنه، وظُهورُ حُجَّةِ المُؤمِنينَ على الكافِرينَ يَومًا فيَومًا، وتكَرُّرُ عَجزِ المُشرِكينَ عن المعارَضةِ، ووَفرةُ الكلامِ المُعجِزِ [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/24). .
10- أنَّ اللهَ تعالى نَصَبَ مِن الأدِلَّةِ على وُجودِه ووَحدانيَّتِه وصِفاتِ كَمالِه الأدِلَّةَ على اختِلافِ أنواعِها، ولا يُطيقُ حَصْرَها إلَّا اللهُ، ثمَّ رَكَز ذلك في الفِطرةِ، ووَضَعَه في العَقلِ جُملةً، ثمَّ بَعَثَ الرُّسُلَ مُذَكِّرِينَ به؛ ولهذا يقولُ تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [507] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/280). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
- كلمةُ كَذَلِكَ فصْلُ خِطابٍ تدُلُّ على انتهاءِ حديثٍ والشُّروعِ في غَيرِه، أو الرُّجوعِ إلى حَديثٍ قبْلَه أتَى عليه الحديثُ الأخيرُ، والتَّقديرُ: الأمْرُ كذلك، والإشارةُ إلى ما مَضى مِن الحديثِ، ثمَّ يُورَدُ بعْدَه حديثٌ آخَرُ، والسَّامعُ يَرُدُّ كُلًّا إلى ما يُناسِبُه، فيكونُ ما بعْدَ اسمِ الإشارةِ مُتَّصلًا بأخبارِ الأُمَمِ الَّتي تَقدَّمَ ذِكرُها مِن قَومٍ لوطٍ ومَن عُطِفَ عليهم؛ أُعقِبَ تَهديدُ المشرِكين بأنْ يَحُلَّ بهم ما حلَّ بالأُمَمِ المُكذِّبين لرُسلِ اللهِ مِن قبْلِهم بتَنظيرِهم بهم في مَقالِهم، فقولُه: كَذَلِكَ فصْلٌ، وجُملةُ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ ... الآيةَ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا. ويُمكِنُ أنْ يكونَ قولُه: كَذَلِكَ مَبدأَ استِئنافٍ، عَودًا إلى الإنحاءِ على المشركين في قَولِهم المُختلِفِ بأنواعِ التَّكذيبِ في التَّوحيدِ والبَعثِ وما يَتفرَّعُ على ذلك [508] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/20). .
- وفي قولِه: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا ... أُوثِرَ استخدامُ حرْفِ (مَا) على (لَمْ)؛ ليُؤذِنَ بانفصالِ ما صدَرَ بها على ما قبْلَه، واتِّصالِه بقَولِه: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ إلى آخِرِ القصصِ، فلمَّا وُسِّطَ بيْنَهما الحديثُ في بَيانِ الآياتِ الدَّالَّةِ على التَّوحيدِ، ونفْيِ الشِّركِ والفِرارِ إلى اللهِ تعالى عمَّا سِواه؛ جِيءَ بقولِه: كَذَلِكَ فصْلًا للخِطابِ؛ ليُتخلَّصَ منه إلى ما سِيقَ له الكلامُ، ولو أُتِيَ بحرفِ (لَمْ) لَاختلَّ النَّظْمُ [509] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/35، 36). .
- وزِيادةُ (مِنْ) في قَولِه: مِنْ رَسُولٍ للتَّنصيصِ على إرادةِ العُمومِ، أي: أنَّ كلَّ رسولٍ قال فيه فريقٌ مِن قَومِه: هو ساحرٌ، أو مَجنونٌ، أي قال بعضُهم: ساحرٌ، وقال بعضُهم: مَجنونٌ، وهذا العُمومُ يُفيدُ أنَّه لم يَخْلُ قَومٌ مِن الأقوامِ المذكورينَ إلَّا قالوا لرَسولِهم أحَدَ القولَينِ، أو جمَعوا القولَينِ لهم [510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/21). .
- قولُه: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ القصْرُ المُستفادُ مِن الاسِتثناءِ بـ (ما .. إلَّا) قصْرٌ ادِّعائيٌّ [511] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لأنَّ للأُمَمِ أقوالًا غيرَ ذلك وأحوالًا أُخرى، وإنَّما قُصِروا على هذا اهتِمامًا بذِكرِ هذه الحالةِ العجيبةِ مِن البُهتانِ؛ إذ يَرْمُون أعقَلَ النَّاسِ بالجُنوِن، وأقوَمَهم بالسِّحرِ [512] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/22). !
- وإسنادُ القولِ إلى ضَميرِ الَّذين مِن قبْلِ مُشْركي العرَبِ الحاضرينَ إسنادٌ باعتبارِ أنَّه قولُ أكثَرِهم؛ فإنَّ الأمورَ الَّتي تُنسَبُ إلى الأقوامِ والقبائلِ تَجْري على اعتبارِ الغالِبِ [513] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/22). .
2- قولُه تعالَى: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
- قولُه: أَتَوَاصَوْا بِهِ الاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ مِن تَواطُئِهم على هذا القولِ على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ، أي: كأنَّهم أَوصَى بعضُهم بعضًا بأنْ يَقولوهُ؛ فالاستِفهامُ هنا كِنايةٌ عن لازِمِه، وهو التَّعجيبُ؛ لأنَّ شأْنَ الأمْرِ العجيبِ أنْ يُسأَلَ عنه، والجُملةُ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ تَماثُلَ هؤلاء الأُمَمِ في مَقالةِ التَّكذيبِ يُثيرُ سُؤالَ سائلٍ عن مَنشَأِ هذا التَّشابُهِ. أو الاستِفهامُ لإنكارِ إجماعِهم على تلكَ الكلمةِ الشَّنيعةِ الَّتي لا تَكادُ تَخطُرُ ببالِ أحدٍ مِن العُقلاءِ، فضْلًا عن التَّفوُّهِ بها [514] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/36)، ((تفسير أبي حيان)) (9/561)، ((تفسير أبي السعود)) (8/144)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/22). .
- وقولُه: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ إضرابٌ عن مُفادِ الاستفهامِ مِن التَّشبيهِ، أو عن التَّواصي به، ببَيانِ سَببِ التَّواطؤِ على هذا القولِ؛ فإنَّه إذا ظهَرَ السَّببُ بطَلَ العجَبُ، أي: ما هو بتَواصٍ، ولكنَّه تَماثُلٌ في مَنشَأِ ذلك القولِ، أي سبَبُ تَماثُلِ المَقالةِ تَماثُلُ التَّفكيرِ والدَّواعي للمَقالةِ؛ إذ جَميعُهم قومٌ طاغونَ، فالجامعُ لهم على هذا القولِ مُشارَكتُهم في الطُّغيانِ الحاملِ عليه، وأنَّ طُغيانَهم وكِبرياءَهم يَصُدُّهم عن اتِّباعِ رسولٍ يَحسَبون أنفُسَهم أعظَمَ منه، وإذ لا يَجِدون وَصمةً يَصِمونه بها اختَلَقوا لتَنقيصِه عِلَلًا لا تَدخُلُ تحت الضَّبْطِ، وهي ادِّعاءُ أنَّه مَجنونٌ، أو أنَّه ساحرٌ، فاستَوَوا في ذلك بعِلَّةِ استوائِهم في أسبابِه ومَعاذيرِه [515] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/151)، ((تفسير أبي حيان)) (9/561)، ((تفسير أبي السعود)) (8/144)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/22، 23). .
- وفي إقحامِ كَلمةِ قَوْمٌ في قولِه: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ إيذانٌ بأنَّ الطُّغيانَ راسخٌ في نُفوسِهم، بحيثُ يكونُ مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم [516] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/23). .
3- قولُه تعالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ تَفريعٌ على قَولِه: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلى قولِه: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذَّارِيات: 52، 53]، وهو مُشعِرٌ بأنَّهم بُعَداءُ عن أنْ تُقنِعَهم الآياتُ والنُّذُرُ، أي: أعرِضْ عن الإلحاحِ في جِدالِهم؛ فقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَديدَ الحرْصِ على إيمانِهم، ويَغتَمُّ مِن أجْلِ عِنادِهم في كُفْرِهم، فكان اللهُ يُعاوِدُ تَسليتَه الفَينةَ بعْدَ الفَينةِ [517] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/23). .
- وفي قولِه: فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ فُرِّعَ على أمْرِه بالتَّولِّي عنهم إخبارُه بأنَّه لا لَومَ عليه في إعراضِهم عنه. وصِيغَ الكَلامُ في صِيغةِ الجُملةِ الاسميَّةِ دونَ (لا نَلومُك)؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ مَضمونِ الجُملةِ في النَّفيِ [518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/23). .
- وجِيءَ بضَميرِ المُخاطَبِ مُسنَدًا إليه، فقال: فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ دونَ أنْ يقولَ: (فلا ملامَ عليك) أو نَحوَه؛ للاهتِمامِ بالتَّنويهِ بشأْنِ المُخاطَبِ وتَعظيمِه [519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/23، 24). .
- وزِيدَت الباءُ في الخبَرِ المَنفيِّ بِمَلُومٍ؛ لتَوكيدِ نفْيِ أنْ يكونَ مَلومًا [520] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/24). .
4- قولُه تعالَى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
- عطْفُ وَذَكِّرْ على فَتَوَلَّ عَنْهُمْ احتراسٌ؛ كيْ لا يَتوهَّمَ أحدٌ أنَّ الإعراضَ إبطالٌ للتَّذكيرِ، بل التَّذكيرُ باقٍ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذكَّرَ النَّاسَ بعْدَ أمْثالِ هذه الآياتِ، فآمَنَ بعضُ مَن لم يكُنْ آمَنَ مِن قبْلُ، ولِيَكونَ الاستِمرارُ على التَّذكيرِ زِيادةً في إقامةِ الحُجَّةِ على المُعرِضين، ولئلَّا يَزدادوا طُغيانًا فيَقولوا: ها نحن أُولاءِ قد أفحَمْناهُ، فكفَّ عمَّا يَقولُه [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/24). .
- والأمْرُ في وَذَكِّرْ مُرادٌ به الدَّوامُ على التَّذكيرِ وتَجديدُه [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/24). .
- وفي قولِه: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ اقتُصِرَ في تَعليلِ الأمْرِ بالتَّذكيرِ على علَّةٍ واحدةٍ، وهي انتفاعُ المؤمنينَ بالتَّذكيرِ؛ لأنَّ فائدةَ ذلك مُحقَّقةٌ، ولإظهارِ العِنايةِ بالمؤمنينَ في المَقامِ الَّذي أُظهِرَت فيه قِلَّةُ الاكتِراثِ بالكافرين، ولذلك فوَصْفُ المؤمنينَ يُرادُ به المتَّصِفون بالإيمانِ في الحالِ كما هو شأْنُ اسمِ الفاعِلِ، وأمَّا مَن سيُؤمِنُ فعلَّتُه مَطويَّةٌ [523] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/24). .
- وخَصَّ المُؤمِنينَ؛ لأنَّهم المُنتَفِعونَ بها [524] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/55). .