موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (56-60)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ

غريب الكلمات:

الْمَتِينُ: أي: الشَّديدُ القَوِيُّ، وأصلُ (متن): يدُلُّ على صَلابةٍ [525] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 423)، ((تفسير ابن جرير)) (21/556)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/294)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 371)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 880). .
ذَنُوبًا: أي: نَصيبًا وحَظًّا مِنَ العَذابِ، مَأخوذٌ مِن مُقاسَمةِ السُّقاةِ الماءَ بالذَّنُوبِ، والذَّنُوبُ في كَلامِ العَرَبِ: الدَّلْوُ العَظيمةُ، ولا تُسَمَّى ذَنُوبًا إلَّا إذا كانت مَلْأَى، وأصلُ (ذنب) هنا: يدُلُّ على الحَظِّ والنَّصيبِ [526] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/557)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 230)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/361)، ((المفردات)) للراغب (ص: 331)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 371)، ((تفسير أبي السعود)) (8/145). .
فَوَيْلٌ: أي: عَذابٌ وهَلاكٌ. وقيلَ: وَيْلٌ: وادٍ في جَهنَّمَ [527] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/164)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 888). قال الراغب: (ومَن قال: «ويْلٌ»: وادٍ في جهنَّمَ، فإنَّه لم يُرِدْ أنَّ «ويْلًا» في اللُّغةِ هو موضوعٌ لهذا، وإنَّما أراد مَن قال الله تعالى ذلك فيه فقد استحَقَّ مقرًّا مِن النَّارِ، وثبَت ذلك له). ((المفردات)) (ص: 888). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مُبيِّنًا الغايةَ الَّتي خلَق الجنَّ والإنسَ مِن أجْلِها: وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلَّا مِن أجْلِ عِبادتي وَحْدي، ما أُريدُ مِنهم مِنْ رِزقٍ؛ لا لي، ولا لأنفُسِهم، ولا لغيرِهم، وما أريدُ منهم أن يُطعِموني، ولا أن يُطعموا أنفُسَهم ولا غيرَهم، إنَّ اللهَ وَحْدَه هو الرَّزَّاقُ لجَميعِ خَلْقِه، صاحِبُ القُوَّةِ التَّامَّةِ، الشَّديدُ القُوَّةِ.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه سوءَ عاقِبةِ الظَّالِمينَ، فيقولُ: فإنَّ للَّذينَ ظَلَموا أنفُسَهم بالشِّركِ نَصيبًا وافِرًا مِن عذابِ اللهِ تعالى مِثلَ نَصيبِ أمثالِهم مِن كُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ؛ فلا يَستعجِلوني بالعَذابِ.
فعَذابٌ وهَلاكٌ للَّذينَ كَفَروا مِنَ اليَومِ الَّذي يُوعَدونَ بنُزولِ العَذابِ عليهم فيه!

تفسير الآيات:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
في تعَلُّقِ الآيةِ بما قَبْلَها وُجوهٌ:
منها: أنَّه تعالى لَمَّا قال: وَذَكِّرْ [الذَّارِيات: 55] يعني: أقصى غايةِ التَّذكيرِ، وهو أنَّ الخَلْقَ ليس إلَّا للعبادةِ، فالمقصودُ مِن إيجادِ الإنسانِ العبادةُ، فذَكِّرْهم به، وأعلِمْهم أنَّ كُلَّ ما عَدَاه تضييعٌ للزَّمانِ.
ومنها: أنَّه لَمَّا بَيَّنَ حالَ مَن قَبْلَه مِنَ التَّكذيبِ؛ ذكَرَ هذه الآيةَ؛ لِيُبَيِّنَ سُوءَ صَنيعِهم حيثُ تَرَكوا عبادةَ اللهِ، فما كان خَلْقُهم إلَّا للعِبادةِ [528] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/192). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (27/25). .
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56).
أي: وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلَّا مِن أجْلِ عِبادتي وَحْدي؛ لِيَتذلَّلوا ويَخضَعوا لي بطاعتي [529] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/56)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/468، 473، 481)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/41، 51)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 813)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/25، 26)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/445، 446)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 166). .
كما قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 115 - 117] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] .
وقال تبارك وتعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة: 36] .
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حَصَر سُبحانَه خَلْقَهم في إرادةِ العِبادةِ؛ صَرَّح بهذا المفهومِ بقَولِه [530] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/481). :
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57).
أي: ما أُريدُ مِن الجِنِّ والإنسِ أيَّ رِزقٍ؛ لا لي، ولا لأنفُسِهم، ولا لغيرِهم، ولا أريدُ منهم أن يُطعِموني؛ لأنِّي مُنزَّهٌ عن الأكلِ، ولا أن يُطعِموا أنفُسَهم ولا غيرَهم، فلْيَشتَغِلوا بعبادتي [531] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/406)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/555)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 696)، ((تفسير العليمي)) (6/413)، ((تفسير الشوكاني)) (5/110، 111)، ((تفسير السعدي)) (ص: 813)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/25، 26)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/445، 446)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 167). قيل: معنى مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ: ما أُريدُ منهم أن يَرزُقوا خَلْقي. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسَّمْعانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/134)، ((تفسير ابن جرير)) (21/555)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/59)، ((تفسير السمعاني)) (5/264). وقيل: المعنى: ما أُريدُ أن يَرزُقوا أنفُسَهم. ومِمَّن اختاره: يحيى بنُ سلام، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، وابن الجوزي. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/295)، ((تفسير السمرقندي)) (3/348)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/291)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/173). وقيل: المعنى: ما أُريدُ منهم أن يَرزُقوا أنفُسَهم ولا غَيرَهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، والبغوي، والنسفي، وابنُ جُزَي، والخازن، وأبو حيَّان. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/181، 182)، ((تفسير البغوي)) (4/288)، ((تفسير النسفي)) (3/381)، ((تفسير ابن جزي)) (2/310)، ((تفسير الخازن)) (4/197)، ((تفسير أبي حيان)) (9/562). وقيل: المعنى: ما أُريدُ منكم مِن رزقٍ لي؛ فلَستُ بحاجةٍ إلى ذلك، فاللهُ تعالى غنيٌّ عن خَلْقِه، فهذه الجملةُ فيها بيانُ استغنائِه سُبحانَه عن عبادِه. وهو في الجملةِ اختيارُ الزمخشريِّ، والرازيِّ، والبيضاوي، وابنِ تيميَّةَ، والبِقاعي، والشوكاني، والألوسي، وابنِ عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/406)، ((تفسير الرازي)) (28/194)، ((تفسير البيضاوي)) (5/151)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/555)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/481)، ((تفسير الشوكاني)) (5/110)، ((تفسير الألوسي)) (14/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 28)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 167). قال ابنُ تيميَّةَ: (الرِّزقُ يَعُمُّ كُلَّ ما يَنتَفِعُ به المُرتَزِقُ؛ فالإنسانُ يُرزَقُ الطَّعامَ والشَّرابَ واللِّباسَ، وما يَنتَفِعُ بسَمْعِه وبَصَرِه وشَمِّه، ويُرزَقُ ما يَنتَفِعُ به باطِنُه مِن عِلمٍ وإيمانٍ، وفَرَحٍ وسُرورٍ، وقُوَّةٍ ونورٍ، وتأييدٍ، وغير ذلك. واللهُ سُبحانَه ما يريدُ مِنَ الخَلقِ مِن رِزقٍ؛ فإنَّهم لن يَبلُغوا ضُرَّه فيَضُرُّوه، ولن يَبلُغوا نَفْعَه فيَنفَعوه، بل هو الغَنيُّ، وهم الفُقَراءُ). ((مجموع الفتاوى)) (10/555). قال ابنُ جُزَي: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي: لا أريدُ أن يُطعِموني؛ لأنِّي مُنَزَّهٌ عن الأكلِ وعن صِفاتِ البَشَرِ، وأنا غنيٌّ عن العالَمينَ. وقيل: المعنى: ما أُريدُ أن يُطعِموا عَبيدي، فحُذِفَ المُضافُ تجَوُّزًا... والأوَّلُ أظهَرُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/310). ومِمَّن اختار القولَ الأوَّلَ: الرازيُّ، وابنُ جُزَي، والبِقاعي، والشوكاني، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/194)، ((تفسير ابن جزي)) (2/310)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/481)، ((تفسير الشوكاني)) (5/110)، ((تفسير الألوسي)) (14/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/28). ومِمَّن اختار أنَّ المعنى: وما أُريدُ أن يُطعِموا أحدًا مِن خَلْقِي: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنين، والبغويُّ، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/555)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/59)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/291)، ((تفسير البغوي)) (4/288)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/173). قال ابن الجوزي: (وإنَّما أَسنَدَ الإطعامَ إلى نَفْسِه؛ لأنَّ الخَلْقَ عِيالُ اللهِ، ومَن أطعمَ عِيالَ أحَدٍ فقد أطعمَه). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/173). ومِمَّن جمَعَ بيْنَ الأقوالِ في الرِّزقِ والإطعامِ: جلالُ الدين المحلي، فقال: (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ لي ولأنفُسِهم وغَيرِهم، وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ولا أنفُسَهم ولا غَيرَهم). ((تفسير الجلالين)) (ص: 696). .
كما قال تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 131، 132].
وقال سُبحانَه: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [الأنعام: 14].
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((دعا رجُلٌ مِنَ الأنصارِ مِن أهلِ قُباءٍ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فانطلَقْنا معه، فلمَّا طَعِمَ وغَسَل يَدَه أو يَدَيه قال: الحَمدُ للهِ الَّذي يُطعِمُ ولا يُطعَمُ، مَنَّ علينا فهَدانا، وأطعَمَنا وسَقانا، وكُلَّ بلاءٍ حَسَنٍ أبلانا، الحَمدُ لله غيرَ مُودَّعٍ ولا مُكافَأٍ، ولا مَكفورٍ ولا مُستَغنًى عنه، الحَمدُ لله الَّذي أطعَمَ مِنَ الطَّعامِ، وسَقى مِنَ الشَّرابِ، وكسَا مِنَ العُرْيِ، وهَدى مِنَ الضَّلالةِ، وبصَّرَ مِنَ العَمَى، وفضَّلَ على كثيرٍ مِنْ خَلْقِه تَفضيلًا، الحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ )) [532] أخرجه النَّسائي في ((السنن الكبرى)) (10133) واللَّفظُ له، وابنُ حِبَّان (5219)، والحاكِمُ (2003). صَحَّحه ابنُ حبَّانَ، والحاكمُ وقال: (على شرطِ مسلمٍ). وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/765)، وصَحَّح إسنادَه على شرطٍ مسلمٍ شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (5219). .
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58).
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ.
أي: إنَّ اللهَ وَحْدَه هو الرَّزَّاقُ لجَميعِ خَلْقِه؛ فهم المحتاجُونَ إليه في جميعِ أحوالِهم [533] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/556)، ((تفسير ابن كثير)) (7/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 813)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 168). .
كما قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا [هود: 6] .
ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ.
أي: وهو صاحِبُ القُوَّةِ التَّامَّةِ، الشَّديدُ القُوَّةِ [534] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/556)، ((تفسير القرطبي)) (17/56)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 813)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/29)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 169). قال ابن عاشور: (المعنى: أنَّه المسْتَغْني غِنًى مُطلَقًا، فلا يَحتاجُ إلى شَيءٍ، فلا يكونُ خلْقُه الخلْقَ لتَحصيلِ نفْعٍ له، ولكنْ لعُمْرانِ الكَونِ، وإجراءِ نِظامِ العُمْرانِ باتِّباعِ الشَّريعةِ الَّتي يَجمَعُها معنى العِبادةِ في قولِه: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيات: 56]). ((تفسير ابن عاشور)) (27/29). .
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه تعالى بَيَّنَ أنَّ مَن يَضَعُ نَفْسَه في مَوضِعِ عِبادةِ غَيرِ اللهِ يكونُ وَضَع الشَّيءَ في غَيرِ مَوضِعِه، فيَكونُ ظالِمًا؛ فقال: إذا ثَبَت أنَّ الإنسَ مَخلوقونَ للعِبادةِ فإنَّ الَّذين ظَلَموا بعِبادةِ غيرِ الله لهم هلاكٌ مِثلُ هَلاكِ مَن تَقدَّمَ [535] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/197). .
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59).
أي: فإنَّ للَّذينَ ظَلَموا فأشرَكوا باللهِ مِن قُرَيشٍ أو غَيرِهم نَصيبًا وافِرًا مِن عذابِ اللهِ تعالى مِثلَ نَصيبِ أمثالِهم مِن كُفَّارِ الأُمَمِ الماضيةِ؛ فلا يَستعجِلوني بالعَذابِ؛ فإنَّه نازِلٌ بهم في وَقتِه المُقَدَّرِ له لا مَحالةَ [536] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/557)، ((تفسير ابن عطية)) (5/183، 184)، ((تفسير القرطبي)) (17/57)، ((تفسير ابن كثير)) (7/426)، ((تفسير القاسمي)) (9/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/30، 31)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/449، 450)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 170). ومالَ الرَّازيُّ إلى أنَّ الذَّنوبَ ليس بعذابٍ ولا هلاكٍ، وإنَّما هو رغَدُ العَيشِ، والمعنى: فإنَّ للَّذين ظلَموا مِن الدُّنيا وطَيِّباتِها ذَنوبًا، ولا يكونُ لهم في الآخرةِ مِن نصيبٍ، قال الرَّازيُّ: (وهو ألْيَقُ بالعربيَّةِ). ((تفسير الرازي)) (28/197). .
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60).
أي: فعَذابٌ وهَلاكٌ [537] قال الشنقيطي: (كلمة «ويلٌ»، قال فيها بعضُ أهلِ العِلمِ: إنَّها مَصدَرٌ لا فِعلَ له مِن لَفظِه، ومعناه: الهلاكُ الشَّديدُ. وقيل: هو وادٍ في جهنَّمَ تَستعيذُ مِن حَرِّه، والَّذي سَوَّغ الابتِداءَ بهذه النَّكِرةِ أنَّ فيها معنى الدُّعاءِ). ((أضواء البيان)) (7/450). للَّذينَ كَفَروا بالحَقِّ مِنَ اليَومِ الَّذي وعَدَهم اللهُ بنُزولِ العَذابِ فيه [538] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/559)، ((تفسير ابن جزي)) (2/310)، ((تفسير ابن كثير)) (7/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 813)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/450)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 171). قال ابن جُزَي: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يحتَمِلُ أن يريدَ يومَ القيامةِ، أو يومَ هَلاكِهم ببَدرٍ، والأوَّلُ أرجَحُ؛ لِقَولِه في «المعارجِ»: ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 44] يعني: يومَ القيامةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/310). وقال الألوسي: (المرادُ بذلك اليَومِ: قيل: يومُ بَدرٍ، ورُجِّح بأنَّه الأوفَقُ لِما قَبْلَه مِن حيثُ إنَّه ذَنوبٌ مِن العذابِ الدُّنيويِّ. وقيل: يومُ القيامةِ، ورُجِّح بأنَّه الأنسَبُ لِما في صَدرِ السُّورةِ الكريمةِ الآتيةِ). ((تفسير الألوسي)) (14/25). ويُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/145). وممَّن قال بالقَولِ الأوَّلِ: إنَّه يومُ القيامةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والزمخشري، وابنُ جُزَي، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، والسعدي، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/134)، ((تفسير السمرقندي)) (3/349)، ((الوسيط)) للواحدي (4/182)، ((تفسير السمعاني)) (5/265)، ((تفسير البغوي)) (4/289)، ((تفسير الزمخشري)) (4/407)، ((تفسير ابن جزي)) (2/310)، ((تفسير ابن كثير)) (7/426)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 696)، ((تفسير السعدي)) (ص: 813)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/450)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 171). ونسَبه ابنُ عطيَّةَ لجمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/184). ومِمَّن قال به مِن السَّلفِ: عَطاءٌ، والكلبيُّ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/471). وممَّن ذهب إلى أنَّه يومُ بَدرٍ: الثعلبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/122)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/32). وقال البِقاعي: (مِنْ يَوْمِهِمُ أضافه إليهم؛ لأنَّه خاصٌّ بهم دونَ المُؤمِنينَ الَّذِي يُوعَدُونَ في الدُّنيا والآخِرةِ). ((نظم الدرر)) (18/483). !
كما قال تعالى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 204 - 207] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 43، 44].
وقال تبارَك وتعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27]
وقال عزَّ شأنُه: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم: 2] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 15] .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فالحِكمةُ مِن خَلقِ الجِنِّ والإنسِ العِبادةُ؛ فلم يُخلَقوا مِن أجْلِ أن يَعمُروا الأرضَ، ولا مِن أجْلِ أن يأكُلوا، ولا مِن أجْلِ أن يَشرَبوا، ولا أن يَتمَتَّعوا كما تتمَتَّعُ الأنعامُ، وإنَّما خُلِقوا لعبادةِ اللهِ، وخَلَق لهم ما في الأرضِ، فنحن مخلوقونَ للعبادةِ، وكُلُّ ما في الأرضِ مَخلوقٌ لنا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] ، والعَجَبُ أنَّ قَومَنا الآنَ اشتَغَلوا فيما خُلِقَ لهم عمَّا خُلِقوا له! وهذا مِنَ السَّفَهِ؛ أن يَشتَغِلوا بشَيءٍ خُلِقَ لهم عن شَيءٍ خُلِقوا مِن أجْلِه [539] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 167، 168). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أنَّ الإنسَ والجِنَّ مُكَلَّفونَ بعبادةِ اللهِ تعالى [540] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/182). ، فمَن لم يَعْبُدِ اللهَ، أو عَبَد مع اللهِ غيرَه، أو لم يَعبُدْ أحدًا؛ فإنَّه أضاع دِينَه ودُنياه؛ لأنَّه أضاع ما خُلِقَ مِن أجْلِه [541] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/398). .
2- خَلَق اللهُ الخَلْقَ وأوجَدَهم لعبادتِه الجامِعةِ لخَشيتِه ورَجائِه ومحَبَّتِه، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وإنَّما يُعبَدُ اللهُ سُبحانَه بعدَ العِلْمِ به ومعرفتِه، فبذلك خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ وما فيهما للاستِدلالِ بهما على تَوحيدِه وعَظَمتِه، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] ، وقد عُلِمَ أنَّ العِبادةَ إنَّما تُبنى على ثلاثةِ أُصولٍ: الخَوفِ، والرَّجاءِ، والمحَبَّةِ. وكلٌّ منها فَرضٌ لازِمٌ، والجَمعُ بيْنَ الثَّلاثةِ حَتمٌ واجِبٌ؛ فلهذا كان السَّلَفُ يَذُمُّونَ مَن تعَبَّد بواحِدٍ منها، وأهمَلَ الآخَرَينِ؛ فإنَّ بِدَعَ الخوارِجِ ومَن أشبَهَهم إنَّما حَدَثَت مِنَ التَّشديدِ في الخَوفِ، والإعراضِ عن المحبَّةِ والرَّجاءِ؛ وبِدَعَ المُرجِئةِ نَشَأت مِن التَّعلُّقِ بالرَّجاءِ وَحْدَه، والإعراضِ عن الخَوفِ؛ وبِدَعَ كَثيرٍ مِن أهلِ الإباحةِ والحُلولِ مِمَّن يُنسَبُ إلى التَّعَبُّدِ نشَأَت مِن إفرادِ المحبَّةِ، والإعراضِ عن الخَوفِ والرَّجاءِ [542] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/292). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ذمٌّ وتوبيخٌ لِمَن لم يَعبُدِ اللهَ منهم؛ لأنَّ اللهَ خَلَقَه لشَيءٍ فلم يَفعلْ ما خُلِقَ له؛ ولهذا عَقَّبَها بقَولِه تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، فإثباتُ العبادةِ ونفْيُ هذا يُبيِّنُ أنَّه خَلَقَهم للعبادةِ، ولم يُرِدْ منهم ما يُريدُه السَّادةُ مِن عبيدِهم مِن الإعانةِ لهم بالرزقِ والإطعامِ [543] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/41). .
4- عِبادةُ اللهِ وَحْدَه حقٌّ استحَقَّه على الخَلقِ لِذَاتِه؛ كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، فأخبرَ سُبحانَه أنَّه إنَّما خَلَق الخلْقَ لعبادتِه، وأخبرَ أنَّ الَّذي خَلَقه لهم، وأمَرَهم به، ورَضِيَه وأَحبَّه وأرادَه بأَمْرِه منهم: هو عبادتُه، لم يُرِدْ منهم رزقًا ولا أنْ يُطعِموه [544] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/236). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أنَّه لا يَصِحُّ التَّوكيلُ في عبادةٍ مَحضةٍ، كالصَّلاةِ والصَّومِ ونَحوِهما؛ لأنَّ ذلك مَطلوبٌ مِن كُلِّ أحَدٍ بعَينِه؛ فلا يَنوبُ فيه أحَدٌ عن أحَدٍ [545] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/230). ثمَّ قال: (أمَّا الحَجُّ عن الميِّتِ والمعضوبِ [أي: العاجِزِ عجزًا لا يُرجى زوالُه]، والصومُ عن الميِّتِ: فقد دلَّت أدلَّةٌ أُخرُ على النِّيابةِ في ذلك، وإنْ خالَف كثيرٌ مِن العلماءِ في الصَّومِ عن الميِّتِ). ((المصدر السابق)). ويُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (9/334). .
6- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ لا يُنافي ذلك عَدَمُ عِبادةِ الكافِرينَ؛ لأنَّ الغايةَ لا يَلزَمُ وُجودُها، كما في قَولِك: بَرَيتُ القَلمَ لأكتُبَ به؛ فإنَّك قد لا تكتُبُ به، أو لأنَّ ذلك عامٌّ أريدَ به الخُصوصُ، بدَليلِ قَولِه تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] ، ومَن خُلِقَ لجَهنَّمَ لا يكونُ مَخلوقًا للعبادةِ [546] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 535). ! وأيضًا فالتَّعليلُ هنا لِيَعْبُدُونِ تعليلٌ شرعيٌّ، أي: مِن أجْلِ أنْ يَعبُدونِ، حيثُ آمُرُهم فيَمتَثِلونَ أمْري، وليستِ اللَّامُ هنا تَعليلًا قَدَريًّا؛ لأنَّه لو كان تَعليلًا قَدَريًّا لَلَزِمَ أنْ يَعبُدَه جميعُ الجِنِّ والإنسِ، لكِنَّ اللَّامَ هنا لبيانِ الحِكمةِ الشَّرعيَّةِ في خَلقِ الجِنِّ والإنسِ [547] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 166). . وقيل غيرُ ذلك [548] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/107). .
7- أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ دعا جميعَ النَّاسِ على ألسِنةِ رُسُلِه إلى الإيمانِ به وعبادتِه وَحْدَه، وأمَرَهم بذلك، وأمْرُه بذلك مُستلزِمٌ للإرادةِ الدِّينيَّةِ الشَّرعيَّةِ، ثمَّ إنَّ اللهَ جَلَّ وعلا يَهدي مَن يشاءُ منهم، ويُضِلُّ مَن يشاءُ بإرادتِه الكَونيَّةِ القَدَريَّةِ، فيَصيرونَ إلى ما سَبَق به العِلمُ مِن شَقاوةٍ وسَعادةٍ، وبهذا تَعلَمُ وجْهَ الجَمعِ بيْنَ قَولِه تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] ، وقَولِه تعالى: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 119] ، وبيْنَ قَولِه تعالى هنا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وإنَّما ذكَرْنا أنَّ الإرادةَ قد تكونُ دِينيَّةً شَرعيَّةً، وهي مُلازِمةٌ للأمرِ والرِّضا، وقد تكونُ كَونيَّةً قَدَريَّةً وليست مُلازِمةً لهما؛ لأنَّ اللهَ يأمُرُ الجَميعَ بالأفعالِ المرادةِ منهم دينًا، ويريدُ ذلك كَونًا وقَدَرًا مِن بَعضِهم دونَ بَعضٍ، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] ، فقَولُه: إِلَّا لِيُطَاعَ أي: فيما جاء به مِن عِندِنا؛ لأنَّه مَطلوبٌ مُرادٌ مِن المُكَلَّفينَ شَرعًا ودِينًا، وقَولُه: بِإِذْنِ اللَّهِ يدُلُّ على أنَّه لا يقَعُ مِن ذلك إلَّا ما أراده اللهُ كَونًا وقَدَرًا، واللهُ جَلَّ وعلا يقولُ: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس: 25] ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له )) [549] أخرجه البخاري (4949)، ومسلم (2647) مطوَّلًا مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه. . والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى [550] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/448، 449). .
8- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ تنبيهٌ للمُشرِكينَ بأنَّ الجِنَّ غيرُ خارِجينَ عن العُبوديَّةِ لله تعالى، وقد حكى اللهُ عن الجَنِّ في سورةِ (الجِنِّ) قَولَ قائِلِهم: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [551] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/28). [الجن: 4] .
9- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ سؤالٌ عن الحِكمةِ في أنَّه لم يَذكُرِ الملائِكةَ مع أنَّهم مِن أصنافِ المكَلَّفينَ، وعبادتُهم أكثَرُ مِن عِبادةِ غَيرِهم مِنَ المكَلَّفينَ! قال تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] ، وقال تعالى: لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف: 206] .
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الآيةَ سِيقَت لبَيانِ قُبحِ ما يَفعَلُه الكَفَرةُ مِن تَرْكِ ما خُلِقوا له، وهذا مُختَصٌّ بالجِنِّ والإنسِ؛ لأنَّ الكُفرَ موجودٌ في الجِنِّ والإنسِ، بخِلافِ الملائِكةِ.
الثَّاني: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان مَبعوثًا إلى الجِنِّ والإنسِ، فلَمَّا قال: وَذَكِّرْ [الذَّارِيات: 55] بَيَّنَ ما يُذكِّرُ به -وهو كَونُ الخَلقِ للعبادةِ-، وخَصَّصَ أُمَّتَه بالذِّكْرِ، أي: ذَكِّرِ الإنسَ والجِنَّ.
الثَّالِثُ: أنَّ عُبَّادَ الأصنامِ كانوا يقولونَ: إنَّ اللهَ تعالى عظيمُ الشَّأنِ، خَلَق الملائِكةَ وجَعَلَهم مُقَرَّبينَ، فهم يَعبُدونَ اللهَ، وخَلَقَهم لعبادتِه، ونحن لِنُزولِ درَجَتِنا لا نَصلُحُ لعِبادةِ اللهِ، فنَعبُدُ الملائِكةَ وهم يَعبُدونَ الله! كما قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ولم يَذكُرِ الملائِكةَ؛ لأنَّ الأمرَ فيهم كان مُسَلَّمًا مِنَ القَومِ، فذَكَرَ المُتنازَعَ فيه.
 الرَّابعُ: أنَّ فِعلَ الجَنِّ يَتناوَلُ الملائِكةَ؛ لأنَّ أصلَ الجِنِّ مِن الاستِتارِ، وهم مُستَتِرونَ عن الخَلْقِ، فذَكَر الجِنَّ لدُخولِ الملائكةِ فيهم [552] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/192)، ((تفسير ابن عادل)) (18/106). .
10- قال اللهُ تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ اعلَمْ أنَّ الآياتِ الدَّالَّةَ على حِكمةِ خَلْقِ اللهِ للسَّمَواتِ والأرضِ وأهلِهما وما بَيْنَهما قد يَظُنُّ غَيرُ المتأمِّلِ أنَّ بَيْنَها اختِلافًا، والواقِعُ خِلافُ ذلك؛ لأنَّ كَلامَ اللهِ تعالى لا يُخالِفُ بَعضُه بَعضًا، وإيضاحُ ذلك أنَّ اللهَ تبارك وتعالى ذكَرَ في بعضِ الآياتِ أنَّ حِكمةَ خَلْقِه للسَّمَواتِ والأرضِ هي إعلامُ خَلْقِه بأنَّه قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ، وأنَّه مُحيطٌ بكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، وذلك في قَولِه تعالى في آخِرِ الطَّلاقِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12] ، وذكَرَ في مواضِعَ كثيرةٍ مِن كِتابِه أنَّه خَلَق الخَلْقَ لِيُبَيِّنَ للنَّاسِ كَونَه هو المعبودَ وَحْدَه، كقَولِه تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] ، ثمَّ أقام البُرهانَ على أنَّه إلهٌ واحِدٌ، بقَولِه بَعْدَه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة: 164] إلى قَولِه: لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] ، ولَمَّا قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21] ، بَيَّنَ أنَّ خَلْقَهم بُرهانٌ على أنَّه المعبودُ وَحْدَه، بقَولِه بَعْدَه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] ، والاستِدلالُ على أنَّ المعبودَ واحِدٌ بكَونِه هو الخالِقَ- كثيرٌ جِدًّا في القُرآنِ؛ قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا [الفرقان: 2، 3]، وقال تعالى أيضًا: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [الرعد: 16]، وذكَرَ في بعضِ الآياتِ أنَّه خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ لِيَبتلِيَ النَّاسَ، وذلك في قَولِه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] ، وذَكَر في بعضِ الآياتِ أنَّه خَلَقَهم لِيَجزيَهم بأعمالِهم، وذلك في قَولِه: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ [يونس: 4] ، وذَكَر في آيةِ (الذَّارِياتِ) هذه أنَّه ما خَلَق الجِنَّ والإنسَ إلَّا لِيَعبُدوه، فقد يَظُنُّ غيرُ العالِمِ أنَّ بيْنَ هذه الآياتِ اختِلافًا، مع أنَّها لا اختِلافَ بَينَها؛ لأنَّ الحُكمَ المذكورَ فيها كُلِّها راجِعٌ إلى شَيءٍ واحِدٍ، وهو مَعرفةُ اللهِ وطاعتُه، ومَعرِفةُ وَعْدِه ووَعيدِه، فقَولُه تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الطلاق: 12] ، وقَولُه: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة: 21] راجِعٌ إلى شَيءٍ واحِدٍ هو العِلمُ باللهِ؛ لأنَّ مَن عَرَف اللهَ أطاعه ووَحَّده. وهذا العِلمُ يُعَلِّمُهم اللهُ إيَّاه، ويُرسِلُ لهم الرُّسُلَ بمُقتَضاه؛ لِيَهلِكَ مَن هَلَك عن بَيِّنةٍ، ويحيَا مَن حَيَّ عن بَيِّنةٍ، فالتَّكليفُ بعْدَ العِلمِ، والجزاءُ بعدَ التَّكليفِ، فظَهَر بهذا اتِّفاقُ الآياتِ؛ لأنَّ الجزاءَ لا بُدَّ له مِن تَكليفٍ، وهو الابتلاءُ المذكورُ في الآياتِ، والتَّكليفُ لا بُدَّ له مِن عِلمٍ؛ ولذا دَلَّ بعضُ الآياتِ على أنَّ حِكمةَ الخَلقِ للمَخلوقاتِ هي العِلمُ بالخالِقِ، ودَلَّ بَعضُها على أنَّها الابتِلاءُ، ودَلَّ بَعضُها على أنَّها الجزاءُ، وكُلُّ ذلك حَقٌّ لا اختِلافَ فيه، وبَعضُه مُرَتَّبٌ على بَعضٍ [553] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/446). .
11- في قَولِه تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ سُؤالٌ: أنَّ المَطالِبَ لا تَنحَصِرُ فيما ذَكَرَه تعالى؛ فإنَّ السَّيِّدَ قد يَشتري العَبدَ لا لطلَبِ عَمَلٍ منه، ولا لطَلَبِ رِزقٍ، ولا للتَّعظيمِ، بل يَشتريه للتِّجارةِ!
الجوابُ: أنَّ عُمومَ قَولِه تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ يتناوَلُ ذلك؛ فإنَّ مَنِ اشترى عبدًا لِيَتَّجِرَ فيه فقد طلَب منه رزقًا [554] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/195)، ((تفسير ابن عادل)) (18/107). .
12- في قَولِه تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ دليلٌ على أنَّ الرِّزقَ أعمُّ مِن الأكلِ [555] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/482). .
13- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أنَّ «الرَّزَّاقَ» مِن أسماءِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأتتِ «الرَّزَّاقُ» بصيغةِ المبالغةِ؛ لكَثرةِ رِزقِه، وكَثرةِ مَن يَرزُقُه عزَّ وجلَّ؛ قال اللهُ تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6] ، فما أكثَرَ الَّذين يَرزُقُهم اللهُ! ثمَّ المرزوقُ مِن عبادِ اللهِ رِزقُهُ كثيرٌ أيضًا؛ لو أحصَيتَ ما يَرزُقُك اللهُ عزَّ وجلَّ ما استطعتَ أنْ تحصِيَ له عَدَدًا [556] يُنظر: ((شرح الكافية الشافية)) لابن عثيمين (3/197). !
14- أسماءُ الرَّبِّ تبارك وتعالى دالَّةٌ على صفاتِ كمالِه، فهي أسماءٌ، وهي أوصافٌ، وبذلك كانت حُسنَى؛ لأنَّها لو لم تَدُلَّ على مَعانٍ وأوصافٍ لم يَجُزْ أنْ يُخبَرَ عنها بمَصادرِها، ويُوصَفَ بها، لكِنَّ اللهَ أَخبرَ عن نفْسِه بمَصادرِها، وأَثبتَها لنفْسِه، وأَثبتَها له رَسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم، كقَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ؛ فعُلِمَ أنَّ القَويَّ مِن أسمائِه، ومعناه: الموصوفُ بالقُوَّةِ [557] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/51). .
15- في قَولِه تعالى: ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ لم يَقُل: القَويُّ، بل قال: ذُو الْقُوَّةِ؛ لأنَّ المقصودَ تقريرُ ما تقدَّمَ مِن عَدَمِ إرادةِ الرِّزقِ وعَدَمِ الاستِعانةِ بالغَيرِ، وقُيِّد بـ الْمَتِينُ؛ لأنَّ ذُو الْقُوَّةِ لا يدُلُّ إلَّا على أنَّ له قُوَّةً ما؛ فزاد في الوَصفِ المتانةَ -وهو الَّذي له ثباتٌ لا يتزلزَلُ [558] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/109). . وأيضًا فمِن خصائِصِ «ذو» أن تُضافَ إلى أمرٍ مُهِمٍّ؛ فعُلِمَ أنَّ القُوَّةَ هنا قُوَّةٌ خَلِيَّةٌ مِنَ النَّقائِصِ [559] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/29). .
16- قال اللهُ تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا وَجهُ مُناسَبةِ الذَّنُوبِ أنَّ العَذابَ مُنصَبٌّ عليهم كما يُصَبُّ الذَّنُوبُ؛ قال تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: 19] ، وقال تعالى: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان: 48] ، والذَّنُوبُ كذلك؛ فكأنَّه قال: نَصُبُّ فَوقَ رُؤوسِهم ذَنوبًا مِنَ العَذابِ كذَنُوبٍ صُبَّ فوقَ رُؤوسِ أولئك.
ووَجهٌ آخَرُ: وهو أنَّ العَرَبَ يَستَقُونَ مِنَ الآبارِ على النَّوْبةِ ذَنوبًا فذَنوبًا، وذلك وَقتَ عَيشِهم الطَّيِّبِ، فكأنَّه تعالى قال: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الدُّنيا وطَيِّباتِها ذَنُوبًا إذا مَلؤوه، ولا يكونُ لهم في الآخِرةِ مِن نَصيبٍ، كما كان عليه حالُ أصحابِهم؛ استَقَوا ذَنوبًا وتَرَكوها، وعلى هذا فالذَّنُوبُ ليس بعَذابٍ ولا هَلاكٍ، وإنَّما هو رَغَدُ العَيشِ [560] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/197)، ((تفسير ابن عادل)) (18/111). .
17- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ سمَّى اللهُ تعالى السَّابقِينَ بأزمانٍ بعيدةٍ أصحابًا لهؤلاء؛ وذلك لاتِّفاقِهم في التَّكذيبِ، ورَمْيِ الرُّسُلِ بما لا يَستَحِقُّونَ، فهم أصحابٌ في الواقِعِ وإنْ تباعَدَتِ الأزمانُ والأماكِنُ [561] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 170). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَعطوفٌ على جُملةِ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ [الذَّارِيات: 52] الآيةَ، الَّتي هي ناشئةٌ عن قَولِه: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذَّارِيات: 50، 51]، عطْفَ الغرَضِ على الغرَضِ لوُجودِ المُناسَبةِ؛ فبَعْدَ أنْ نظَّرَ حالَهم بحالِ الأُمَمِ الَّتي صمَّمَت على التَّكذيبِ مِن قبْلِهم؛ أعقَبَه بذِكرِ شَنيعِ حالِهم مِن الانحرافِ عمَّا خُلِقوا مِن أجْلِه وغُرِزَ فيهم؛ فقولُه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بالمشرِكين الَّذين انحَرَفوا عن الفِطرةِ الَّتي خُلِقوا عليها، فخالَفوا سُنَّتَها اتِّباعًا لتَضليلِ المُضِلِّين [562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/24، 25). .
وقيل: هو استئنافٌ مُؤكِّدٌ للأمرِ، مُقرِّرٌ لِمَضمونِ تَعليلِه؛ فإنَّ كَونَ خَلْقِهم مُغَيًّا بعِبادتِه تعالَى ممَّا يَدعُوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى تَذكيرِهم، ويُوجِبُ عليهم التَّذكُّرَ والاتِّعاظَ [563] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/144). .
- والحصْرُ المُستفادُ مِن قولِه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قصْرُ عِلَّةِ خلْقِ اللهِ الإنسَ والجنَّ على إرادتِه أنْ يَعبُدوه، قيل: إنَّه قصْرٌ إضافيٌّ، وإنَّه مِن قَبيلِ قصْرِ الموصوفِ على الصِّفةِ، وإنَّه قصْرُ قلْبٍ باعتبارِ مَفعولِ لِيَعْبُدُونِ، أي: إلَّا ليَعْبُدوني وَحْدي، أي: لا ليُشرِكوا غَيري في العِبادةِ، فهو رَدٌّ للإشراكِ، وليس هو قصْرًا حَقيقيًّا [564] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ فإنَّا وإنْ لم نَطَّلِعْ على مَقاديرِ حِكَمِ اللهِ تعالى مِن خلْقِ الخلائقِ، لكنَّا نَعلَمُ أنَّ الحِكمةَ مِن خلْقِهم ليست مُجرَّدَ أنْ يَعبُدوه؛ لأنَّ حِكَمَ اللهِ تعالى مِن أفعالِه كَثيرةٌ لا نُحِيطُ بها، وذِكرُ بعضِها -كما هنا- لا يَقْتضي عَدَمَ وُجودِ حِكمةٍ أُخرى [565] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/26، 27). .
- قيل: المقصودُ مِن هذا الإخبارِ هو الإنسُ، وإنَّما ذُكِرَ الجنُّ إدماجًا [566] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمَعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحَمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ؛ فما ذكَرَ اللهُ الجنَّ هنا إلَّا لتَنبيهِ المشركينَ بأنَّ الجنَّ غيرُ خارجينَ عن العُبوديَّةِ للهِ تَعالى [567] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/25، 28). .
- وتَقديمُ الجنِّ في الذِّكرِ؛ للاهتِمامِ بهذا الخبرِ الغريبِ عندَ المشرِكين الَّذين كانوا يَعبُدون الجنَّ؛ ليَعلَموا أنَّ الجنَّ عُبَّادٌ للهِ تعالى [568] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/28). . أو لعلَّ تقديمَ خلْقِ الجَنِّ في الذِّكرِ؛ لتَقدُّمهِ على خَلْقِ الإنسِ في الوُجودِ [569] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/144). .
وقيل: لأنَّ الكُفرَ في الجِنِّ أكثَرُ، والكافِرُ منهم أكثَرُ مِن المؤمِنِ. وقيل: الجِنُّ يتناوَلُ الملائِكةَ؛ لأنَّ الجِنَّ أصلُه مِنَ الاستِتارِ، وهم مُستَتِرونَ عن الخَلقِ، وعلى هذا فتَقديمُ الجِنِّ؛ لدُخولِ الملائكةِ فيهم، وكَونِهم أكثَرَ عِبادةً وأخلَصَها. وقيل غيرُ ذلك [570] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/192). .
2- قولُه تعالَى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ تَقريرٌ لمَعنى إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، بإبطالِ بَعضِ العِلَلِ والغاياتِ الَّتي يَقصِدُها الصَّانِعون شيئًا يَصنَعونَه أو يَتَّخِذونَه؛ فإنَّ المعروفَ في العُرْفِ أنَّ مَن يَتَّخِذُ شيئًا إنَّما يتَّخِذُه لنفْعِ نفْسِه، وليست الجُملةُ لإفادةِ الجانبِ المقصورِ دونَه بصِيغةِ القصْرِ؛ لأنَّ صِيغةَ القصْرِ لا تَحتاجُ إلى ذِكرِ الضِّدِّ، ولا يَحسُنُ ذِكرُ الضِّدِّ في الكلامِ البليغِ [571] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/28). .
- وأيضًا قولُه: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ كِنايةٌ عن عدَمِ الاحتِياجِ إليهم؛ لأنَّ أشدَّ الحاجاتِ في العُرْفِ حاجةُ النَّاسِ إلى الطَّعامِ واللِّباسِ والسَّكنِ، وإنَّما تَحصُلُ بالرِّزقِ، وهو المالُ؛ فلذلك ابتُدِئَ به، ثمَّ عُطِفَ عليه الإطعامُ، أي: إعطاءُ الطَّعامِ؛ لأنَّه أشدُّ ما يَحتاجُ إليه البشَرُ، وقد لا يجِدُه صاحبُ المالِ إذا قحَطَ الناسُ، فيَحتاجُ إلى مَن يُسلِفُه الطَّعامَ أو يُطعِمُه إيَّاه، وفي هذا تَعريضٌ بأهْلِ الشِّركِ؛ إذ يُهْدون إلى الأصنامِ الأموالَ والطَّعامَ تَتلقَّاه منهم سَدَنةُ الأصنامِ [572] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/28). .
- وقولُه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ فيه تَعريضٌ بأصنامِهم؛ فإنَّهم كانوا يَعمَلون معها ما يَنفَعُها، ويُحضِرون لها الأكلَ، فرُبَّما أكلَتْها الكِلابُ ثمَّ بالَتْ على الأصنامِ، ثمَّ لا يَصُدُّهم ذلك [573] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/481، 482). !
- وفائدةُ تَكرارِ لَفظِ مَا أُرِيدُ إفادةُ حُكْمٍ زائدٍ على ما قبْلَه؛ إذ المعنى: ما أُرِيدُ منهم أنْ يُطعِموا أنفُسَهم، وما أُريدُ منهم أنْ يُطعِموا عَبيدي -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وإنَّما أضافَ تعالى الإطعامَ إلى نفْسِه؛ لأنَّ الخلْقَ عِيالُه وعَبيدُه، ومَن أطعَمَ عِيالَ غيرِه فكأنَّه أطعَمَه، ويُؤيِّدُه خبَرُ: ((إنَّ اللهَ تعالى يقولُ يومَ القيامةِ: يا ابنَ آدَمَ، استطْعَمْتُك فلمْ تُطعِمْني )) [574] أخرجه مسلم (2569) مطوَّلًا مِن حديثِ أبي هريرةَ رضيَ الله عنه. ، أي: استطعَمَك عَبْدي فلمْ تُطعِمْه [575] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 535). . وقيل: لأنَّ السَّيِّدَ قد يَطلُبُ مِنَ العَبدِ الكَسْبَ له -وهو طَلَبُ الرِّزقِ منه-، وقد يكونُ للسَّيِّدِ مالٌ وافِرٌ يَستَغْني عن الكَسبِ، لكِنَّه يَطلُبُ منه قَضاءَ حوائِجِه بما له مِن المالِ، وإحضارَ الطَّعامِ بيْنَ يَدَيه مِن مالِه، فالسَّيِّدُ قال: لا أريدُ ذلك ولا هذا [576] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/194). .
- وفائِدةُ تَخصيصِه الإطعامَ بالذِّكرِ -مع أنَّ المقصودَ عَدَمُ طَلَبِ فِعلٍ منهم غيرِ التَّعظيمِ-، هو أنه لَمَّا عَمَّم في المَطلَبِ الأوَّلِ اكتفى بقَولِه: مِنْ رِزْقٍ؛ فإنَّه يُفيدُ العُمومَ، وأشار إلى التَّعميمِ، فذكَرَ الإطعامَ؛ وذلك لأنَّ أدنَى دَرَجاتِ الأفعالِ أن يَستعِينَ السَّيِّدُ بعَبدِه أو جاريتِه في تهيئةِ أمرِ الطَّعامِ، ونَفْيُ الأدنَى يَستَتبِعُه نَفيُ الأعلَى بطَريقِ الأَوْلى؛ فصار كأنَّه تعالى قال: ما أُريدُ منهم مِن عَينٍ ولا عَمَلٍ [577] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/194). .
- وتقديمُ طَلَبِ الرِّزقِ على طَلَبِ الإطعامِ مِن بابِ الارتقاءِ، كقَولِ القائِلِ: لا أطلُبُ منك الإعانةَ ولا ممَّن هو أقوى، ولا يَعكِسُ. ويقولُ: فُلانٌ يُكرِمُه الأمراءُ بل السَّلاطينُ، ولا يَعكِسُ؛ فقال هاهنا: لا أطلُبُ منكم رِزقًا ولا ما هو دون ذلك، وهو تقديمُ طَعامٍ بيْنَ يَدَيِ السَّيِّدِ؛ فإنَّ ذلك أمرٌ كثيرُ الطَّلَبِ مِنَ العبادِ، وإن كان الكَسبُ لا يُطلَبُ منهم [578] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/194). .
- وحُذِفَت ياءُ المُتكلِّمِ مِن لِيَعْبُدُونِ ويُطْعِمُونِ للتَّخفيفِ [579] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/29). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ تَعليلٌ لِجُملتَيْ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [580] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/29). [الذَّارِيات: 57].
- وإظهارُ اسمِ الجَلالةِ في قولِه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ إخراجٌ للكلامِ على خِلافِ مُقْتضى الظاهِرِ؛ لأنَّ مُقتضاهُ: إنِّي أنا الرَّزَّاقُ، فعُدِلَ عن الإضمارِ إلى الاسمِ الظَّاهرِ؛ لتَكونَ هذه الجُملةُ مُستقِلَّةً بالدَّلالةِ؛ لأنَّها سُيِّرَتْ مَسيرَ الكلامِ الجامعِ والأمثالِ [581] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/29). .
- وكَلمةُ (الرَّزَّاق) أبلَغُ مِن كَلمةِ (الرَّازق)؛ لأنَّ (الرَّزَّاق) صِيغةُ مُبالَغةٍ تدُلُّ على كَثرةِ الرِّزقِ، وعلى كثرةِ المرزوقِ، فرِزْقُ اللهِ تعالى كثيرٌ باعتبارِ كَثرةِ المرزوقينَ، فكلُّ دابَّةٍ في الأرضِ على اللهِ رِزقُها؛ مِن إنسانٍ وحيوانٍ، ومِن طائرٍ وزاحِفٍ، ومِن صَغيرٍ وكبيرٍ، ولا يُمكِنُ أنْ نُحصِيَ أنواعَ المخلوقاتِ على الأرضِ [582] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 168). .
- وفي قولِه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ قصْرٌ؛ لوُجودِ ضَميرِ الفصْلِ، أي: لا رزَّاقَ، ولا ذا قُوَّةٍ، ولا مَتينَ إلَّا اللهُ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ [583] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: دونَ الأصنامِ الَّتي يَعبُدونها، فالقصْرُ قصْرُ إفرادٍ [584] القَصرُ أو الحَصرُ: هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضربتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ. ويَنقسِمُ القَصرُ أو الحَصرُ باعتبارٍ آخَرَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قصْرُ إفرادٍ، وقصْرُ قَلْبٍ، وقَصْرُ تعيينٍ؛ فالأوَّل: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ الشَّرِكةَ؛ نحو: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل: 51] ، خُوطِبَ به مَن يَعتقدُ اشتِراكَ اللهِ والأصنامِ في الأُلوهيَّةِ. والثَّاني: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ إثباتَ الحُكمِ لغيرِ مَن أثبتَه المُتكلِّمُ له؛ نحو: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، خُوطِبَ به نَمرودُ، الَّذي اعتَقد أنَّه هو المحيي المميتُ دون اللهِ. والثَّالثُ: يُخاطَبُ به مَن تَساوَى عندَه الأمْران، فلمْ يَحكُمْ بإثباتِ الصِّفةِ لواحدٍ بعَيْنِه، ولا لواحدٍ بإحْدى الصِّفتَينِ بعَيْنِها. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقَزْويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). بتَنزيلِ المشرِكين في إشراكِهم أصنامَهم باللهِ مَنزِلةَ مَن يَدَّعِي أنَّ الأصنامَ شُركاءُ للهِ في صِفاتِه الَّتي منها: الإرزاقُ، والقوَّةُ، والشِّدَّةُ، فأبطَلَ ذلك بهذا القصْرِ [585] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/29، 30). .
4- قولُه تعالَى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ تَفريعٌ على جُملةِ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيات: 56] باعتبارِ أنَّ المقصودَ مِن سِياقِه إبطالُ عِبادتِهم غيرَ اللهِ، أي: فإذا لم يُفرِدْني المُشرِكون بالعِبادةِ، فإنَّ لهم ذَنوبًا مِثلَ ذَنوبِ أصحابِهم، وهو يُلمِحُ إلى ما تَقدَّمَ مِن ذِكرِ ما عُوقِبَتْ به الأُمَمُ السَّالفةُ مِن قولِه: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلى قولِه: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذَّارِيات: 32- 46]، والمعنى: فإذ ماثَلَهم الَّذين ظَلَموا فإنَّ لهم نَصيبًا عَظيمًا مِن العذابِ مِثلَ نَصيبِ أولئك [586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/30). .
- والكلامُ تَمثيلٌ لهَيئةِ تَساوي حَظِّ الَّذين ظَلَموا مِن العرَبِ بحُظوظِ الَّذين ظَلَموا مِن الأُمَمِ السَّالفةِ بهَيئةِ الَّذين يَسْتَقُون مِن قَليبٍ واحدٍ؛ إذ يَتساوونَ في أنصبائِهم مِن الماءِ، وهو مِن تَشبيهِ المَعقولِ بالمحسوسِ، وأُطلِقَ على الأُمَمِ الماضيةِ اسمُ وصْفِ أصحابِ الَّذين ظَلَموا باعتبارِ الهيئةِ المُشبَّهِ بها؛ إذ هي هيئةُ جماعاتِ الوِرْدِ يكونونَ مُتصاحِبينَ، وهذا التَّمثيلُ قابِلٌ للتَّوزيعِ؛ بأنْ يُشَبَّهَ المشرِكونَ بجماعةٍ ورَدَت على الماءِ، وتُشبَّهَ الأُمَمُ الماضيةُ بجَماعةٍ سبَقَتْهم للماءِ، ويُشبَّهَ نَصيبُ كلِّ جَماعةٍ بالدَّلْوِ الَّتي يأْخُذونَها مِن الماءِ [587] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/407)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/30، 31)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/325). .
- وفي الآيةِ مِن اللَّطائفِ تَمثيلُ ما سيُصِيبُ الَّذين كَفَروا بالذَّنوبِ، والذَّنوبُ يُناسِبُ القَليبَ، وقد كان مَثواهم يومَ بدْرٍ قَليبَ بدْرٍ الَّذي رُمِيَت فيه أشلاءُ سادتِهم [588] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/32). .
- وهذا تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمقصودُ: أنْ يَسمَعَه المشرِكون، فهو تَعريضٌ. وبهذا الاعتِبارِ أُكِّدَ الخبَرُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا بحرْفِ (إنَّ)؛ لأنَّهم كانوا مُكذِّبينَ بالوعيدِ، ولذلك فُرِّعَ على التأْكيدِ: فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ؛ لأنَّهم كانوا يَستعجِلون بالعذابِ استِهزاءً، وإشعارًا بأنَّه وعْدٌ مَكذوبٌ، فهُم في الواقعِ يَستعجِلون اللهَ تعالى بوَعيدِه [589] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/31). .
- وفي قولِه: فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ عُدِّيَ الاستِعجالُ إلى ضَميرِ الجلالةِ، وهم إنَّما استَعْجلوه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لإظهارِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُخبِرٌ عن اللهِ تعالى؛ تَوبيخًا لهم، وإنذارًا بالوعيدِ [590] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/31). .
- وأيضًا هذا النَّهيُ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ؛ إظهارًا لغضَبِ اللهِ عليهم [591] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/31). .
- وحُذِفَت ياءُ المُتكلِّمِ في يَسْتَعْجِلُونِ للتَّخفيفِ [592] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/31). .
5- قولُه تعالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ فُرِّعَ على وَعيدِهم إنذارٌ آخَرُ بالويلِ، أو إنشاءُ زَجرٍ [593] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/145)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/31). .
- وتَنكيرُ (ويل) للتَّعظيمِ [594] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/31). .
- والكلامُ يَحتمِلُ الإخبارَ بحُصولِ وَيلٍ، أي: عذابٌ وسُوءُ حالٍ لهم يومَ أُوعِدوا به، ويَحتمِلُ إنشاءَ الزَّجْرِ والتَّعجيبِ مِن سُوءِ حالِهم في يومٍ أُوعِدوه [595] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/31). .
- و(الذين كَفَروا) في قولِه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا همُ (الذين ظَلَموا) في قولِه: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا [الذاريات: 59]؛ وعُدِلَ عن ضَميرِهم إلى الاسمِ الظَّاهرِ -حيثُ لم يقُلْ: (فإنَّ لهم)-؛ لِما فيه مِن تأْكيدِ الاسمِ السَّابقِ تأْكيدًا بالمُرادِفِ، مع ما في صِفةِ الكفْرِ مِن الإيماءِ إلى أنَّهم لم يَشكُروا نِعمةَ خالِقِهم، وتَسجيلًا عليهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ مِنَ الكُفرِ، وإشعارًا بعِلَّةِ الحُكمِ [596] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/145)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/32). .
- وإضافةُ (يوم) إلى ضَميرِ الَّذين كَفَروا في قولِه: مِنْ يَوْمِهِمُ؛ للدَّلالةِ على اختِصاصِه بهم، أي: هو مُعيَّنٌ لجَزائهِم [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/32). .
- وأوَّلُ هذه السُّورةِ وآخِرُها مُتناسِبانِ؛ حيث قال تعالى في أوَّلِها: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات: 5]، وقال تعالى في آخِرِها: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [598] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/159). ، وفيه ردُّ العَجُزِ على الصَّدرِ [599] رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ -ويُعرَفُ أيضًا بالتَّصديرِ-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعَيْنِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ، أو المُتجانِسَينِ، أو المُلحَقَينِ بهما في أوَّلِ الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ؛ الأوَّلُ: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصِلةِ آخِرَ كَلِمةٍ في الصَّدرِ؛ كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] ، والثَّاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه؛ كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، والثَّالثُ: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلِماتِه؛ كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514). ؛ ففيه إيذانٌ بانتِهاءِ السُّورةِ، وذلك مِن بَراعةِ المَقطَعِ [600] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/33). .