موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (24-30)

ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ

غريب الكلمات:

فَرَاغَ: أي: مالَ في خُفيةٍ، وأصلُ (روغ): يدُلُّ على مَيلٍ، وقِلَّةِ اسْتِقْرارٍ [204] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((تفسير ابن جرير)) (21/526)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/460)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 321)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 352). .
فَأَوْجَسَ: أي: أضمرَ وأحَسَّ، والوَجْسُ: الصَّوتُ الخفيُّ، وأصلُه يدُلُّ على إحساسٍ بِشَيءٍ وتَسَمُّعٍ له [205] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 280)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/87)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 231)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 209). .
صَرَّةٍ: أي: ضجَّةٍ، وشِدَّةِ صِياحٍ، ومنه أُخِذَ صَريرُ البابِ، وهو صوتُه، وأصلُ (صرر): يدُلُّ على صَوتٍ [206] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 421)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 306)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/284)، ((البسيط)) للواحدي (20/452)، ((تفسير القرطبي)) (17/46). .
فَصَكَّتْ: أي: لَطَمت وضَربَت، وأصلُ (صكك): يدُلُّ على تلاقي شَيئَينِ بقُوَّةٍ [207] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 421)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/276)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 370)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 391)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 565). .
عَقِيمٌ: أي: لا تَحمِلُ ولا تَلِدُ؛ مِن العُقمِ: وهو القَطعُ والمَنعُ [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/530)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/75)، ((تفسير القرطبي)) (17/50)، ((تفسير ابن كثير)) (7/421). .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
سَلَامًا: مَفعولٌ به مَنصوبٌ بـ (قَالُوا)، أي: قالوا هذا اللَّفظَ بعَينِه، وهو التَّحيَّةُ المعهودةُ. أو مَفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ، تقديرُه: نُسَلِّمُ، وذلك الفِعلُ في محلِّ نصبٍ بالقَولِ، تقديرُه: قالوا: نُسَلِّمُ سلامًا.
سَلَامٌ: مُبتدَأٌ، وخبَرُه محذوفٌ، أي: سَلامٌ عليكم. أو خبَرُ مبتدَأٍ مَحذوفٍ، أي: أمري أو قَولي سلامٌ.
قَوْمٌ: خبَرُ مُبتدَأٍ محذوفٍ، أي: أنتم قَومٌ، أو: هؤلاءِ قومٌ [209] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/54)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/162)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/51)، ((تفسير الألوسي)) (14/12). .
2- قَولُه تعالى: قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ
قَولُه: كَذَلِكَ: جارٌّ ومجرورٌ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ في محَلِّ نَصبٍ على النِّيابةِ عن المَصدَرِ؛ لِوُقوعِه نَعتًا لِمَصدَرٍ مَحذوفٍ بـ قَالَ الثَّانيةِ، أي: قال ربُّكِ قَولًا مِثلَ ذلك القَولِ الَّذي أخبَرْناكِ به [210] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/52)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (9/314). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصصِ أنبيائِه، ويَبتدئُ بأبي الأنبياءِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فيقولُ: هل أتاك -يا محمَّدُ- خبَرُ ضُيوفِ إبراهيمَ مِن الملائِكةِ المُكْرَمينَ، حينَ دَخَل أولئك الملائِكةُ على إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فقالوا له: سَلامًا، قال إبراهيمُ لهم: سلامٌ عليكم، قَومٌ غيرُ مَعروفينَ! فمالَ إبراهيمُ إلى أهلِ بَيتِه في خُفيةٍ عن ضُيوفِه، فأحضَر لهم عِجلًا سَمينًا، فقرَّبه إليهم، فلم تمتَدَّ أيديهم للطَّعامِ، فقال لهم: ألَا تأكُلونَ!
فشَعَر إبراهيمُ في نَفْسِه بخَوفٍ منهم حينَ امتَنَعوا عن تناوُلِ الطَّعامِ، فقالوا مُطَمْئِنينَ له: لا تخَفْ، وبَشَّروه بغُلام عَليمٍ، وهو إسحاقُ عليه السَّلامُ، فأقبَلَت امرأةُ إبراهيمَ في صَيحةٍ حينَ سَمِعَت تلك البِشارةَ، فضَرَبت وَجْهَها؛ تعَجُّبًا مِمَّا سَمِعَتْه، وقالت: أنا عَجوزٌ عَقيمٌ، فكيف ألِدُ الآنَ؟! قالت الملائِكةُ لها: هكذا قال ربُّكِ، إنَّه سُبحانَه هو الحَكيمُ العليمُ.

تفسير الآيات:

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها انتِقالٌ مِنَ الإنذارِ والمَوعِظةِ والاستِدلالِ، إلى الاعتِبارِ بأحوالِ الأُمَمِ الماضيةِ المُماثِلةِ للمُخاطَبينَ المُشرِكينَ في الكُفرِ وتكذيبِ الرُّسُلِ [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/356). ؛ ففيه تسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتبشيرٌ له بالفَرَجِ [212] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/99). ، والبِشارةُ بإكرامِ المصَدِّقِ، وإهانةِ المكَذِّبِ [213] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/461). .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24).
أي: ألَمْ يأتِكَ -يا محمَّدُ- خبَرُ ضُيوفِ إبراهيمَ مِن الملائِكةِ المُكْرَمينَ عندَ اللهِ، وعندَ إبراهيمَ وأهلِه بحُسنِ ضيافتِهم [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/525)، ((تفسير الزمخشري)) (4/401)، ((تفسير القرطبي)) (17/44)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 271)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810). قال الماوَرْدي: (في قَولِه: الْمُكْرَمِينَ وجْهانِ: أحَدُهما: أنَّهم عندَ الله المُعظَّمون. الثَّاني: مُكْرَمونَ لإكرامِ إبراهيمَ لهم حينَ خدَمَهم بنَفْسِه). ((تفسير الماوردي)) (5/369). وممَّن قال بالوَجهِ الأوَّلِ؛ أي: أنَّهم مُكرَمونَ عندَ الله: السمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والقرطبيُّ، والنسفي، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/344)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/286)، ((تفسير القرطبي)) (17/44)، ((تفسير النسفي)) (3/375)، ((تفسير الشوكاني)) (5/104)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/358). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عبدُ العزيزِ بنُ يحيى الكِنانيُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/ 117)، ((البسيط)) للواحدي (20/449). وممَّن قال بالوَجهِ الثَّاني؛ أي: لإكرامِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لهم، وخدمتِه إيَّاهم بنفْسِه: ابنُ جرير، والماتُريدي، والسمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/525)، ((تفسير الماتريدي)) (9/ 383)، ((تفسير السمعاني)) (5/256). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/117(، ((البسيط)) للواحدي (20/449). ومِمَّن جمَع بيْنَ القَولَينِ: ابنُ جُزَي، وابنُ القيِّم، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 308)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 271)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/461). قال ابنُ القيِّم: (لا تَنافيَ بيْنَ القولَينِ؛ فالآيةُ تدُلُّ على المعنيَينِ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 271). وقال السعدي: (مُكْرَمُونَ: أي: أكرَمَهم إبراهيمُ، ووَصَف اللهُ ما صَنَع بهم مِنَ الضِّيافةِ قَولًا وفِعلًا، ومُكْرَمونَ أيضًا عندَ اللهِ تعالى). ((تفسير السعدي)) (ص: 810). وممَّن ذهب إلى أنَّ الخطابَ هنا لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/525). وقال ابنُ عثيمين: (الخِطابُ ليس للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فحَسْبُ، بل له، ولكلِّ مَن يَتأتَّى خِطابُه ويصِحُّ توجيهُ الخِطابِ إليه، كأنَّه قال: هل أتاك أيُّها المُخاطَبُ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 133). ؟!
قال تعالى عن الملائكةِ: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] .
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25).
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا.
أي: وذلك حينَ دَخَل أولئك الملائِكةُ على إبراهيمَ، فقالوا له: نُسَلِّمُ عليك سَلامًا [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/525)، ((تفسير البيضاوي)) (5/148)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 66)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 134). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا... [الحجر: 51، 52].
قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.
أي: قال إبراهيمُ لهم: سلامٌ دائمٌ عليكم، قَومٌ غيرُ مَعروفينَ [216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/525، 526)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 66)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 501)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 134). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ المعنى أنَّهم قَومٌ غُرَباءُ لم يَعرِفْهم إبراهيمُ عليه السَّلامُ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/526)، ((تفسير القرطبي)) (17/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 134). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/285). وقيل: إنَّهم قَدِموا عليه في صورةٍ وهَيئةٍ مُختلِفةٍ عمَّا يكونُ عليه النَّاسُ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الرَّازيُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/176)، ((تفسير ابن كثير)) (7/420). وقيل: كان هذا سُؤالًا لهم، كأنَّه قال: أنتم قومٌ مُنكَرونَ فعَرِّفوني: مَن أنتم؟ يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/401). قال الشوكاني: (قيل: إنَّه أنكَرَهم لكَونِهم ابتَدؤوا بالسَّلامِ ولم يكنْ ذلك معهودًا عندَ قَومِه. وقيل: لأنَّه رأى فيهم ما يخالِفُ بعضَ الصُّوَرِ البَشَريَّةِ. وقيل: لأنَّه رآهم على غيرِ صُورةِ الملائكةِ الَّذين يَعرِفُهم. وقيل غيرُ ذلك). ((تفسير الشوكاني)) (5/105). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/45). وقال ابنُ عاشور: (المُنكَرُ: الَّذي يُنكِرُه غَيرُه، أي: لا يَعرِفُه، وأُطلِقَ هنا على مَن يُنكَرُ حالُه، ويُظَنُّ أنَّه حالٌ غيرُ مُعتادٍ، أي: يُخشى أنَّه مُضمِرُ سُوءٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/358). ويُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 272). قيل: إنَّه قال هذا في نَفْسِه، ولم يُخاطِبْ أضيافَه به؛ لأنَّ ذلك يخالِفُ الإكرامَ. وقيل: إنَّه قال ذلك لِمَن كان معَه مِن أتْباعِه وغِلمانِه بحيثُ لا يَسمعونَ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/555)، ((تفسير الشوكاني)) (5/105). !
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26).
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ.
أي: فانسَلَّ إبراهيمُ ومالَ إلى أهلِ بَيتِه في خُفيةٍ عن ضُيوفِه؛ لِيُبادِرَ بإكرامِهم [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/526)، ((تفسير الزمخشري)) (4/401)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 67)، ((تفسير ابن كثير)) (7/421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 135). من المفسِّرينَ مَن فسَّر الرَّوغانَ بأنَّه الذَّهابُ بسرعةٍ، بالإضافةِ إلى كونِه خُفْيةً؛ ومنهم: الرَّازيُّ، وابنُ القيِّم، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/176)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 67)، ((تفسير ابن كثير)) (7/421)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 135). !
فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ.
أي: فأحضَر لهم عِجلًا مِن البَقَرِ سَمينًا مَشويًّا؛ ليُكرِمَهم به [218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/526)، ((تفسير القرطبي)) (17/45)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 67، 68)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 135). !
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69].
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27).
أي: فقرَّب إبراهيمُ العِجْلَ إليهم، فلم تمتَدَّ أيديهم لأَكْلِه! فقال عارِضًا عليهم الطَّعامَ بلُطفٍ: ألَا تأكُلونَ [219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/527)، ((تفسير القرطبي)) (17/46)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 273)، ((تفسير ابن كثير)) (7/421)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 135). !
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28).
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً.
أي: فشَعَر إبراهيمُ في نَفْسِه بخَوفٍ منهم حينَ امتَنَعوا عن تناوُلِ الطَّعامِ [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/527)، ((تفسير ابن عطية)) (5/178)، ((تفسير القرطبي)) (17/46)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 68)، ((جلاء الأفهام)) (ص: 273)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 136، 137). !
كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: 70] .
قَالُوا لَا تَخَفْ.
أي: فقالوا مُطَمْئِنينَ له: لا تخَفْ منَّا [221] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/345)، ((تفسير القرطبي)) (17/46)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 273)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/360)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 137). قال الواحديُّ: (قال عامَّةُ المفَسِّرينَ: لَمَّا رآهم إبراهيمُ شَبابًا أقوياءَ، ولم يتحَرَّموا بطعامِه [يُقالُ: تحرَّمتُ بطعامِك، أي: حرُم عليك منِّي بسببِه ما كان لك أخذُه]، لم يأمَنْ أن يكونوا جاؤوا لبلاءٍ؛ وذلك أنَّ سُنَّتَهم كانت في ذلك الدَّهرِ إذا وَرَد عليهم القَومُ فأَتَوا بالطَّعامِ فلم يَمَسُّوه ظَنُّوا أنَّهم عَدُوٌّ أو لُصوصٌ، فهنالك أَوجَسَ في نَفْسِه فَزَعًا، ورأوا علامةَ ذلك في وَجْهِه، فقالوا له: لا تَخَفْ). ((البسيط)) (11/473). وقال القُرطبيُّ: (أعلَموه أنَّهم ملائِكةُ اللهِ ورُسُلُه). ((تفسير القرطبي)) (17/46). .
كما قال تعالى: قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] .
وقال سُبحانَه: قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الحجر: 52، 53].
وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ.
أي: وبَشَّرَتْه الملائِكةُ بوِلادةِ زَوجِه سارةَ غُلامًا يكونُ مِن أهلِ العِلمِ باللهِ وبدِينِه، وهو إسحاقُ عليه السَّلامُ [222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/527)، ((تفسير القرطبي)) (17/46)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/360). قال السَّمْعانيُّ: (أجمَع المفَسِّرون على أنَّه إسحاقُ عليه السَّلامُ). ((تفسير السمعاني)) (5/257). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/178). .
كما قال تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71].
وقال سُبحانَه: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الحجر: 51 - 53] .
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29).
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ.
أي: فأقبَلَت امرأةُ إبراهيمَ في صَيحةٍ حينَ سَمِعَت تلك البِشارةَ [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/528)، ((تفسير القرطبي)) (17/46)، ((تفسير ابن كثير)) (7/421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 138). قال ابنُ عطيَّة: (يحتَمِلُ أن يكونَ قَرُبَت إليهم مِن ناحيةٍ مِن نواحي المنزِلِ، ويحتَمِلُ أن يكونَ هذا الإقبالَ، كما تقولُ: أقبَلَ فُلانٌ يَشتُمُني، أو يَفعَلُ كذا: إذا جَدَّ في ذلك وتلَبَّس به). ((تفسير ابن عطية)) (5/178). والصَّرَّةُ: الصَّيحةُ، قيل: هي صَيحةُ فَرَحٍ وسُرورٍ بالبِشارةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: السعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 138). قال القرطبي: (أي: في صَيحةٍ وضَجَّةٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ وغيرِه، ومنه أُخِذَ صَريرُ البابِ، وهو صَوتُه. وقال عِكْرِمةُ وقَتادةُ: إنَّها الرَّنَّةُ والتَّأوُّهُ). ((تفسير القرطبي)) (17/46). !
فَصَكَّتْ وَجْهَهَا.
أي: فضَرَبت وَجْهَها بيَدِها؛ تعَجُّبًا مِمَّا سَمِعَتْه [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/530)، ((تفسير القرطبي)) (17/47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/421)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 138). قال ابنُ جرير: (قد قيل: إنَّ صَكَّها وَجْهَها: أنْ جَمَعَت أصابِعَها، فضَرَبت بها جَبهتَها). ((تفسير ابن جرير)) (21/530). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/421). !
وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ.
أي: وقالت: أنا عَجوزٌ عَقيمٌ لم ألِدْ في شبابي، فكيف ألِدُ الآنَ بعدَ كِبَرِ سِنِّي، وعَدَمِ صَلاحِيَتي للحَملِ [225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/530)، ((تفسير القرطبي)) (17/47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/421)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/361)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 138). قال السعدي: (أي: أنَّى ليَ الولَدُ وأنا عجوزٌ قد بلغتُ مِنَ السِّنِّ ما لا تَلِدُ معه النِّساءُ، ومع ذلك فأنا عقيمٌ غيرُ صالحٍ رَحمي للوِلادةِ أصلًا؟! فثَمَّ مانِعانِ كُلٌّ منهما مانِعٌ مِن الولَدِ، وقد ذكَرَتِ المانِعَ الثَّالِثَ في سورةِ هودٍ بقَولِها: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود: 72] ). ((تفسير السعدي)) (ص: 810). ؟!
كما قال تعالى: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود: 72] .
قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30).
قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ.
أي: قالت الملائِكةُ لها: هكذا قال ربُّكِ إنَّك ستَلِدينَ غُلامًا كما بشَّرْناكِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/531)، ((البسيط)) للواحدي (20/453)، ((تفسير القرطبي)) (17/47)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 138). !
إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ.
أي: إنَّ اللهَ هو الحَكيمُ في أفعالِه وخَلْقِه، وشَرْعِه وقَدَرِه؛ فيَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللَّائِقِ به، البالِغُ العِلمِ بكُلِّ شَيءٍ؛ فلا يَخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/531)، ((تفسير القرطبي)) (17/47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/421)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/464، 465)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/361)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 138). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ أنَّ مِنَ الحِكمةِ قَصَّ اللهِ على عبادِه نَبَأَ الأخيارِ والفُجَّارِ؛ لِيَعتَبِروا بحالِهم، وأين وصَلَت بهم الأحوالُ [228] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). .
2- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ أنَّ الضَّيفَ يُكرَمُ بأنواعِ الإكرامِ؛ بالقَولِ والفِعلِ؛ لأنَّ اللهَ وَصَف أضيافَ إبراهيمَ بأنَّهم مُكْرَمونَ، وذكَر ما أكرَمهم به إبراهيمُ مِنَ الضِّيافةِ قَولًا وفِعلًا [229] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). .
3- قَولُه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً اشتملَتْ هذه الآياتُ على عددٍ مِن آدابِ الضِّيافةِ:
منها: الإكرامُ أوَّلًا مِمَّن جاءه ضَيفٌ قبْلَ أن يجتَمِعَ به ويُسَلِّمَ أحَدُهما على الآخَرِ؛ أنواعٌ مِن الإكرامِ: وهي اللِّقاءُ الحَسَنُ، والخُروجُ إليه، والتَّهَيُّؤُ له.
ومنها: السَّلامُ مِنَ الضَّيفِ على الوَجهِ الحَسَنِ، فسَلَكوا طريقَ الأدبِ في الابتِداءِ بالسَّلامِ، فردَّ عليهم إبراهيمُ سلامًا أكمَلَ مِن سلامِهم وأتَمَّ، فقولُه لهم: سَلَامٌ بالرَّفعِ، وهم سَلَّموا عليه بالنَّصبِ، والسَّلامُ بالرَّفعِ أكمَلُ؛ فإنَّه يدُلُّ على الجُملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الثُّبوتِ والتَّجَدُّدِ، والمنصوبُ يدُلُّ على الفِعليَّةِ الدَّالَّةِ على الحُدوثِ والتَّجَدُّدِ؛ فإبراهيمُ حَيَّاهم أحسَنَ مِن تحيَّتِهم؛ فإنَّ قولَهم: سَلَامًا يدُلُّ على «سَلَّمْنا سَلامًا»، وقولَه: سَلَامٌ أي: سَلامٌ عليكم [230] قال ابن القيِّم: (وعندي فيه جوابٌ أحسَنُ مِن هذا، وهو أنَّه لم يَقصِدْ حكايةَ سلامِ الملائكةِ، فنصَبَ قولَه: سَلَامًا انتِصابَ مَفعولِ القولِ المُفرَدِ، كأنَّه قيل: قالوا قولًا سلامًا، وقالوا سَدادًا وصَوابًا، ونحو ذلك؛ فإنَّ القولَ إنَّما تُحكى به الجُمَلُ، وأمَّا المُفرَدُ فلا يكونُ مَحكيًّا به، بل منصوبٌ به انتِصابَ المفعولِ به، ومِن هذا قولُه تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] ، ليس المرادُ أنَّهم قالوا هذا اللَّفظَ المُفرَدَ المنصوبَ، وإنَّما معناه: قالوا قولًا سَلامًا، مِثل: سَدادًا وصَوابًا، وسُمِّيَ القولُ سَلامًا؛ لأنَّه يؤدِّي معنى السَّلامِ ويَتضَمَّنُه، مِن رفْعِ الوَحشةِ، وحُصولِ الاستِئناسِ. وحُكيَ عن إبراهيمَ لَفظُ سَلامِه، فأتى به على لَفظِه مَرفوعًا بالابتِداءِ، مَحكيًّا بالقَولِ، ولولا قصْدُ الحكايةِ لَقال: سلامًا، بالنَّصبِ؛ لأنَّ ما بعدَ القولِ إذا كان مرفوعًا فعَلى الحكايةِ ليس إلَّا، فحصَل مِن الفَرقِ بيْن الكلامَينِ في حكايةِ سَلامِ إبراهيمِ ورفْعِه، ونصْبِ ذلك: إشارةٌ إلى معنًى لطيفٍ جدًّا، وهو أنَّ قولَه: «سَلامٌ عليكم» مِن دينِ الإسلامِ المُتلَقَّى عن إمامِ الحُنفاءِ، وأبِي الأنبياءِ، وأنَّه مِن مِلَّةِ إبراهيمَ الَّتي أمَر الله بها وباتِّباعِها؛ فحكى لنا قولَه لِيَحصُلَ الاقتِداءُ به، والاتِّباعُ له، ولم يَحْكِ قولَ أضيافِه، وإنَّما أخبَر به على الجُملةِ دونَ التَّفصيلِ، والله أعلَمُ. فَزِنْ هذا الجوابَ والَّذي قبْلَه بميزانٍ غيرِ جائرٍ؛ يَظهَرْ لك أقْواهما، وباللهِ التَّوفيقُ). ((بدائع الفوائد)) (2/158). .
ومنها: أدبُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ ولُطفُه في الكلامِ؛ فإنَّه حَذَفَ المُبتدَأَ مِن قَولِه: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ؛ فإنَّه لَمَّا أنكَرَهم ولم يَعرِفْهم احتشَمَ مِن مواجهتِهم بلَفظٍ يُنَفِّرُ الضَّيفَ لو قال: أنتم قَومٌ مُنكَرونَ؛ فحَذفُ المبتدأِ هنا مِن ألطفِ الكلامِ. ومنها: أنَّه بنى الفِعلَ للمَفعولِ وحَذَفَ فاعِلَه، فقال: مُنْكَرُونَ، ولم يَقُلْ: إنِّي أُنكِرُكم. وهو أحسَنُ في هذا المقامِ، وأبعدُ مِن التَّنفيرِ والمُواجَهةِ بالخُشونةِ.
ومنها: المُبادَرةُ إلى الضِّيافةِ، والإسراعُ بها، وتَعجيلُ القِرَى الَّذي دَلَّ عليه قَولُه تعالى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ [هود: 69] ، وقَولُه هاهنا فَرَاغَ؛ فإنَّ الرَّوَغانَ يدُلُّ على السُّرعةِ [231] وأيضًا: عَطفُ فَجَاءَ على فَرَاغَ يدُلُّ على سُرعةِ مجيئِه بالقِرَى. ويُنظر ما سيأتي في بَلاغةِ الآياتِ. ، وذلك على قولٍ في معنى الرَّوغانِ.
ومنها: أنَّه راغَ إلى أهلِه لِيَجيئَهم بنُزُلِهم، والرَّوَغانُ أيضًا هو الذَّهابُ في اختِفاءٍ، بحيثُ لا يَكادُ يَشعُرُ به الضَّيفُ، وهذا مِن كَرَمِ ربِّ المَنزِلِ المُضيفِ: أنْ يَذهبَ في اختِفاءٍ بحيثُ لا يَشعُرُ به الضَّيفُ فيَشُق عليه ويَستحي [232] قال ابن عاشور: (انتَزَع منه الزَّمخشريُّ أنَّ إخفاءَ إبراهيمَ مَيْلَه إلى أهلِه: مِن حُسنِ الضِّيافةِ؛ كي لا يُوهِمَ الضَّيفَ أنَّه يُريدُ أن يُحضِرَ لهم شيئًا، فلعَلَّ الضَّيفَ أن يَكُفَّه عن ذلك ويَعذِرَه، وهذا مَنزَعٌ لَطيفٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/359). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/401). ؛ فلا يَشعُرُ به إلَّا وقد جاءَه بالطَّعامِ، بخِلافِ مَن يُسمِعُ ضيفَه ويقولُ له أو لِمَن حَضَرَ: مكانَكم حتَّى آتيَكم بالطَّعامِ، ونحوَ ذلك مما يُوجِبُ حياءَ الضَّيفِ واحتِشامَه.
ومنها: غَيبةُ المُضيفِ عن الضَّيفِ؛ لِيَستريحَ، ويأتيَ بما يمنَعُه الحياءُ منه.
ومنها: أنَّه ذَهَبَ إلى أهلِه فجاء بالضِّيافةِ؛ فدَلَّ على أنَّ ذلك كان مُعَدًّا عندَهم مُهَيَّأً للضِّيفانِ، ولم يَحتَجْ أنْ يَذهَبَ إلى غيرِهم مِن جيرانِه أو غَيرِهم، فيَشتريَه أو يَستقرِضَه.
ومنها: خِدمتُه للضَّيفِ بنَفْسِه، كما دَلَّ عليه قولُه تعالى: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، ولم يَقُلْ: فأَمَرَ لهم، بل هو الَّذي ذَهَبَ وجاء به بنَفْسِه، ولم يَبعَثْه مع خادِمِه، وهذا أبلَغُ في إكرامِ الضَّيفِ.
ومنها: أنَّه جاء بعِجلٍ كاملٍ ولم يأتِ ببَضْعةٍ منه، لِيَتخيَّروا مِن أطيَبِ لحمِه ما شاؤوا، وهذا مِن تمامِ كَرَمِه صلَّى الله عليه وسلَّم.
ومنها: اختيارُ الأجوَدِ؛ لقَولِه تعالى: سَمِينٍ، فهو سَمينٌ لا هَزيلٌ، ومَعلومٌ أنَّ ذلك مِن أفخَرِ أموالِهم، ومِثلُه يُتَّخَذُ للاقتِناءِ والتَّربيةِ، فآثَرَ به ضيفانَه.
ومنها: أنَّه قَرَّبَه إليهم بنَفْسِه، ولم يأمُرْ خادِمَه بذلك.
ومنها: تقديمُ الطَّعامِ إليهم، لا نَقلُهم إلى الطَّعامِ، فقد قَرَّبَه إليهم في المكان الَّذي هم فيه، ولم يُقَرِّبْهم إليه، فهذا أيسَرُ عليهم وأحسَنُ، وأبلَغُ في الكرامةِ: أنْ يُجلِسَ الضَّيفَ ثمَّ يُقَرِّبَ الطَّعامَ إليه، ويَحمِلَه إلى حَضْرتِه، ولا يَضَعَ الطَّعامَ في ناحيةٍ ثمَّ يأمُرَ الضَّيفَ بأن يَتقرَّبَ إليه؛ لأنَّ مَن قَدَّم الطَّعامَ إلى قَومٍ يكونُ كُلُّ واحدٍ مُستَقِرًّا في مَقَرِّه لا يختَلِفُ عليه المكانُ؛ فإنْ نَقَلَهم إلى مكانِ الطَّعامِ رُبَّما يحصُلُ هناك اختِلافُ جُلوسٍ، فيُقَرَّبُ الأدنى، ويُضَيَّقُ على الأعلى [233] وذكَر ابنُ عثيمين أنَّ الأظهرَ أنَّ تقريبَ الطَّعامِ إلى الضُّيوفِ يختلِفُ باختِلافِ الأحوالِ والعاداتِ، وأنَّه إذا كان مِن الإكرامِ أنْ تأتيَ بالطَّعامِ إلى مَحَلِّ جلوسِهم فأْتِ به، وإذا كان مِن الإكرامِ أنْ تجعلَه في مَحَلٍّ آخَرَ فافعلْ؛ لأنَّ عُمومَ قولِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَن كان يؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلْيُكْرِمْ ضَيْفَه)) [البخاري (6138)، ومسلم (47) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه] يدُلُّ على إكرامِهم بما جَرَتِ العادةُ بإكرامِهم به. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 136). !
ومنها: حُسنُ ملاطفةِ الضَّيفِ في الكلامِ اللَّيِّنِ، خصوصًا عندَ تقديمِ الطَّعامِ إليه؛ فإنَّ إبراهيمَ عرَض عليهم عرضًا لطيفًا [234] قال أبو حيَّان: (إنَّ في ذلك تأنيسًا للآكِلِ، بخِلافِ مَن قَدَّمَ طعامًا ولم يَحُثَّ على أكلِه؛ فإنَّ الحاضِرَ قد يَتوَهَّمُ أنَّه قَدَّمَه على سَبيلِ التَّجَمُّلِ عسى أن يمتَنِعَ الحاضِرُ مِن الأكلِ، وهذا موجودٌ في طِباعِ بَعضِ النَّاسِ). ((تفسير أبي حيان)) (9/556). وقال ابنُ عاشور: (والعَرْضُ على الضَّيفِ عَقِبَ وَضعِ الطَّعامِ بيْنَ يَدَيه زيادةٌ في الإكرامِ، بإظهارِ الحِرصِ على ما يَنفَعُ الضَّيفَ، وإن كان وَضْعُ الطَّعامِ بيْنَ يَدَيه كافيًا في تمكينِه منه). ((تفسير ابن عاشور)) (26/359). ، وقال: أَلَا تَأْكُلُونَ، ولم يقلْ: (كلوا) أو: (مُدُّوا أيديَكم) ونحوَه مِن الألفاظِ الَّتي غيرُها أَولى منها، بل أتَى بأداةِ العَرضِ لا الأمرِ، فقال: أَلَا تَأْكُلُونَ، فيَنبغي للمُقتدي به أن يَستعمِلَ مِن الألفاظِ الحسَنةِ ما هو المناسِبُ واللَّائقُ بالحالِ، كقولِه لأضيافِه: (ألَا تأكلون) أو: (ألَا تتفضَّلون علينا وتُشرِّفوننا وتُحسِنون إلينا) ونحوِه، وهذا مِمَّا يَعلَمُ النَّاسُ بعُقولِهم حُسنَه ولُطفَه.
 ومنها: أنَّه إنَّما عَرَضَ عليهم الأكلَ؛ لأنَّه رآهم لا يأكُلونَ، ولم يكُنْ ضُيوفُه يحتاجونَ معه إلى الإذنِ في الأكلِ، بل كان إذا قُدِّمَ إليهم الطَّعامُ أكَلوا، وهؤلاء الضُّيوفُ لَمَّا امتنَعوا مِن الأكلِ قال لهم: أَلَا تَأْكُلُونَ؛ ولهذا أوجَسَ منهم خِيفةً، أي: أَحَسَّها وأضْمَرها في نفْسِه، ولم يُبْدِها لهم.
ومنها: كَونُ المُضيفِ مَسرورًا بأكْلِهم، غيرَ مَسرورٍ بتَركِهم الطَّعامَ، كما يُوجَدُ في بَعضِ البُخَلاءِ المتكَلِّفينَ الَّذين يُحضِرونَ طَعامًا كَثيرًا، ويكونُ نَظَرُه ونَظَرُ أهلِ بَيتِه في الطَّعامِ متى يُمسِكُ الضَّيفُ يَدَه عنه؛ يدُلُّ عليه قَولُه تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً.
فقد جمَعتْ هذه الآياتُ آدابَ الضِّيافةِ الَّتي هي أشرَفُ الآدابِ، وما عَداها مِن التَّكَلُّفاتِ -الَّتي هي تَخَلُّفٌ وتَكَلُّفٌ- إنَّما هي مِن أوضاعِ النَّاسِ وعوائِدِهم، وكفى بهذه الآدابِ شَرَفًا وفَخرًا! فصَلَّى اللهُ على نبِيِّنا وعلى إبراهيمَ وعلى آلِهما وعلى سائِرِ النَّبيِّينَ [235] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/176، 177)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 271-274)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 63-68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 810). .
4- في قَولِه تعالى: قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ مَشروعيَّةُ تعَرُّفِ مَن جاء إلى الإنسانِ، أو صار له فيه نَوعُ اتِّصالٍ؛ لأنَّ في ذلك فوائِدَ كَثيرةً [236] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). .
5- في قَولِه تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أنَّ الذَّبيحةَ الحاضِرةَ الَّتي قد أُعِدَّت لِغَيرِ الضَّيفِ الحاضِرِ، إذا جُعِلَت له ليس فيها أقَلُّ إهانةٍ، بل ذلك مِنَ الإكرامِ، كما فَعَل إبراهيمُ عليه السَّلامُ، وأخبَرَ اللهُ أنَّ ضَيفَه مُكْرَمونَ [237] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). ، ففيه إشعارٌ بأنَّ كرامةَ الضَّيفِ معدَّةٌ حاصِلةٌ عندَ أهلِه، وأنَّه لا يحتاجُ أنْ يستقرِضَ مِن جيرانِه، ولا يذهَبَ إلى غيرِ أهلِه إذ قِرَى الضَّيفِ حاصلٌ عندَهم [238] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 67). قال أبو حيَّان: (كَوْنُه عَطَفَ فَجَاءَ على فَرَاغَ يدُلُّ على سرعةِ مجيئه بالقِرَى، وأنَّه كان مُعَدًّا عِندَه لِمَنْ يَرِدُ عليه. وقال في سورةِ هُودٍ: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] ، وهذا يدُلُّ أيضًا على أنَّه كان العِجلُ سابِقًا شَيُّهُ قبْلَ مَجيئِهم). ((تفسير أبي حيان)) (9/555). وقال الألوسي: (اختُلِف في هذا العِجلِ: هل كان مُهَيَّأً قبْلَ مَجيئِهم، أو أنَّه هُيِّئَ بعدَ أن جاؤوا؟ قَولانِ، اختار أبو حيَّانَ أوَّلَهما؛ لِدَلالةِ السُّرعةِ بالإتيانِ به على ذلك، ويختارُ الفقيرُ ثانيَهما؛ لأنَّه أزْيَدُ في العِنايةِ، وأبلَغُ في الإكرامِ). ((تفسير الألوسي)) (6/291). .
6- قال تعالى: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ في مجيئِه بالعِجلِ كلِّه معَ أنَّهم -بحسَبِ الظَّاهرِ- يَكفيهم بعضُه؛ دَليلٌ على أنَّه يُحضَرُ للضَّيفِ أكثَرُ مِمَّا يأكُلُ [239] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/555)، ((تفسير الألوسي)) (6/291). .
7- في قَولِه تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أنَّ أكْلَ الضَّيفِ أَمَنةٌ، ودليلٌ على انبِساطِ نَفْسِه، وللطَّعامِ حُرمةٌ وذِمامٌ، والامتِناعُ منه وَحْشةٌ [240] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/556). .
8- في قَولِه تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فيه مِن أدَبِ الضَّيفِ أُمورٌ:
منها: أنَّه إذا أكَلَ حَفِظَ حَقَّ المُؤاكَلةِ؛ يدُلُّ عليه أنَّه خافَهم حيثُ لم يأكُلوا.
ومنها: وُجوبُ إظهارِ العُذرِ عندَ الإمساكِ؛ يدُلُّ عليه قَولُهم: لَا تَخَفْ.
ومنها: تحسينُ العبارةِ في العُذرِ؛ وذلك لأنَّ مَن يكونُ مُحتَمِيًا وأُحضِرَ لديه الطَّعامُ؛ فهناك أمْرانِ، أحَدُهما: أنَّ الطَّعامَ لا يَصلُحُ له؛ لِكَونِه مُضِرًّا به. الثَّاني: كَونُه ضَعيفَ القُوَّةِ عن هَضمِ ذلك الطَّعامِ؛ فيَنبغي ألَّا يَقولَ الضَّيفُ: هذا طَعامٌ غَليظٌ لا يَصلُحُ لي! بل الحَسَنُ أن يأتيَ بالعبارةِ الأُخرى ويقولَ: لي مانِعَ مِن أكلِ الطَّعامِ، وفي بيتي لا آكُلُ أيضًا شَيئًا؛ بل بشَّروه بالولدِ؛ إشعارًا بأنَّهم ملائكةٌ، يدُلُّ عليه قَولُه: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ؛ حيثُ فَهَّموه أنَّهم لَيسُوا مِمَّن يأكُلونَ [241] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/177). !
9- في قَولِه تعالى: قَالُوا لَا تَخَفْ أنَّ مَن خاف مِنَ الإنسانِ لِسَبَبٍ مِنَ الأسبابِ فإنَّ عليه أن يُزيلَ عنه الخَوفَ، ويَذكُرَ له ما يُؤَمِّنُ رَوْعَه، ويُسَكِّنُ جَأشَه، كما قالت الملائِكةُ لإبراهيمَ عليه السَّلامُ لَمَّا خافَهم: لَا تَخَفْ، وأخبَروه بتلك البِشارةِ السَّارَّةِ بعدَ الخَوفِ منهم [242] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). .
10- في قَولِه تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ أنَّ التَّبشيرَ مطَلوبٌ فيما يَسُرُّ مِن أمرِ الدِّينِ والدُّنيا [243] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/56). . فيُستحَبُّ للمُسلِمِ أنْ يُبادِرَ إلى مَسَرَّةِ أخيه، وإعلامِه بما يُفرِحُه، ومِن ذلك استِحبابُ بِشارةِ مَن وُلِدَ له ولدٌ وتَهنِئتِه [244] يُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 27). .
11- في قَولِه تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ أدَبٌ في البِشارةِ: ألَّا يُخبِرَ الإنسانَ بما يَسُرُّه دَفْعةً؛ فإنَّه يُورِثُ مَرَضًا؛ يدُلُّ عليه أنَّهم جَلَسوا واستأنَسَ بهم إبراهيمُ عليه السَّلامُ، ثمَّ قالوا: نُبَشِّرُك، ثمَّ ذكَروا أشرَفَ النَّوعَينِ -وهو الذَّكَرُ-، ولم يقتَنِعوا به حتَّى وصَفوه بأحسَنِ الأوصافِ [245] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/177). .
12- في قَولِه تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ أنَّهم تَرَكوا سائِرَ الأوصافِ؛ مِنَ الحُسنِ والجَمالِ، والقُوَّةِ والسَّلامةِ، واختاروا العِلمَ؛ إشارةً إلى أنَّ العِلمَ رأسُ الأوصافِ، ورَئيسُ النُّعوتِ [246] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/177). .
13- في قَولِه تعالى: وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ حُسنُ أدبِ المرأةِ عندَ خِطابِ الرِّجالِ، واقتِصارُها مِنَ الكلامِ على ما تتأدَّى به الحاجةُ؛ فإنَّها حَذَفتِ المبتدَأَ ولم تَقُلْ: أنا عَجوزٌ عقيمٌ! واقتَصَرتْ على ذِكْرِ السَّبَبِ الدَّالِّ على عَدَمِ الوِلادةِ، ولم تذكُرْ غيرَه، وأمَّا في سورةِ (هودٍ) فذكرتِ السَّبَبَ المانِعَ منها ومِن إبراهيمَ، وصَرَّحَتْ بالعَجَبِ [247] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 69). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ فَضلُ إبراهيمَ الخَليلِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حيث ابتدأ اللهُ تعالى قِصَّتَه بما يدُلُّ على الاهتِمامِ بشَأنِها، والاعتِناءِ بها [248] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). .
2- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ مَشروعيَّةُ الضِّيافةِ، وأنَّها مِن سُنَنِ إبراهيمَ الخَليلِ الَّذي أمرَ اللهُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمَّتَه أن يتَّبِعوا مِلَّتَه، وساقها اللهُ في هذا الموضِعِ على وَجهِ المَدحِ له والثَّناءِ [249] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). .
3- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ افتتحَ سُبحانَه القصَّةَ بصيغةٍ مَوضوعةٍ للاستِفهامِ؛ وليس المرادُ بها حقيقةَ الاستِفهامِ! ولكنْ في وُرودِ الكلامِ في مِثلِ هذا بصيغةِ الاستِفهامِ سِرٌّ لطيفٌ، ومعنًى بديعٌ؛ فإنَّ المتكلِّمَ إذا أراد أنْ يُخْبِرَ المخاطَبَ بأمرٍ عجيبٍ -يَنبغي الاعتِناءُ به، وإحضارُ الذِّهنِ له- صَدَّرَ له الكلامَ بأداةِ الاستِفهامِ لتنبيه سمْعِه وذِهْنِه للمُخبَرِ به، فتارةً يُصَدِّرُه بـ «أَلَا»، وتارةً يُصَدِّرُه بـ «هل»، فيقولُ: هل عَلِمتَ ما كان مِن كَيْتَ وكَيْتَ؟ إمَّا مذَكِّرًا به، وإمَّا واعظًا له مخوِّفًا، وإمَّا منبِّهًا على عظَمةِ ما يُخبِرُ به، وإمَّا مقَرِّرًا له، فقولُه تعالى: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [النازعات: 15] ، ووَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21] ، وهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية: 1] ، وهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ متضمِّنٌ لتعظيمِ هذه القصصِ، والتَّنبيهِ على تدبُّرِها، ومعرفةِ ما تضَمَّنَتْه، وفيه أمرٌ آخَرُ؛ وهو التَّنبيهُ على أنَّ إتيانَ هذا إليك عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ، فإنَّه مِن الغَيبِ الَّذي لا تَعلَمُه أنت ولا قَومُك؛ فهل أتاك مِن غيرِ إعلامِنا وإرسالِنا وتعريفِنا؟ أمْ لم يأتِك إلَّا مِن قِبَلِنا؟ فانظُرْ ظُهورَ هذا الكلامِ بصيغةِ الاستِفهامِ، وتأمَّلْ عِظَمَ مَوقعِه مِن جميعِ مَواردِه يَشْهَد أنَّه مِن الفصاحةِ في ذُروتِها العُلْيا [250] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 64). .
4- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ سؤالٌ: أنَّه إذا كان المرادُ مِن حَديثِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ التَّسليةَ والإنذارَ، فأيُّ فائدةٍ في حِكايةِ الضِّيافةِ؟
الجوابُ: لِيَكونَ ذلك إشارةً إلى الفَرَجِ في حَقِّ الأنبياءِ، والبَلاءِ على الجَهَلةِ والأغبياءِ إذا جاءهم مِن حيثُ لا يُحتَسَبُ؛ قال اللهُ تعالى: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] ، فلم يكُنْ عندَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ خَبَرٌ مِن إنزالِ العَذابِ معَ ارتِفاعِ مَكانتِه [251] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/173). !
5- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ سُؤالٌ: كيف سَمَّاهم سُبحانَه ضَيفًا، ولم يكونوا؟
الجَوابُ: لَمَّا حَسِبَهم إبراهيمُ عليه السَّلامُ ضَيفًا لم يُكَذِّبْه اللهُ تعالى في حِسْبانِه؛ إكرامًا له [252] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/174). ، أو جعَلَهم ضَيفًا؛ لأنَّهم كانوا في صُورةِ الضَّيفِ [253] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/401). .
6- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ سُؤالٌ: أنَّ الملائِكةَ أُرسِلَت بالعَذابِ، بدَليلِ قَولِهم: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الذَّارِيات: 32]، فما الحِكمةُ في مَجيئِهم إلى إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ شَيخُ المُرسَلينَ، ولُوطٌ مِن قَومِه، ومِن عادةِ المَلِكِ إذا أرسَلَ رَسولًا لمَلِكٍ، وفي طَريقِه مَن هو أكبَرُ منه، يقولُ له: اعبُرْ على فُلانٍ المَلِكِ، وأخبِرْه برِسالتِك، وخُذْ فيها رَأيَه.
الثَّاني: أنَّ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان شديدَ الشَّفَقةِ حَليمًا، فكان يَشُقُّ عليه إهلاكُ أمَّةٍ عَظيمةٍ، وكان ذلك مِمَّا يَحزُنُ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ شَفَقةً منه على العِبادِ؛ فقال لهم: بَشِّروه بغُلامٍ يَخرُجُ مِن صُلبِه أضعافُ مَن يَهلِكُ، ويكونُ مِن صُلبِه خُروجُ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ [254] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/174)، ((تفسير ابن عادل)) (18/82). .
7- في قَولِه تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إلى آخرِ الآياتِ: أنَّ الملائِكةَ أحياءٌ ناطِقةٌ قائِمةٌ بأنفُسِها، ليست أعراضًا قائِمةً بغَيرِها، وأنَّهم يأتُونَ بأخبارِ الأُمورِ الغائبةِ، وأنَّهم يَفعَلونَ أفعالًا خارِجةً عن قُدرةِ البَشَرِ [255] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (1/193). .
8- في قَولِه تعالى: ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ سُؤالٌ عن وَجهِ التَّنافي في الظَّاهِرِ ما بيْنَ هذا النَّعتِ ومَنعوتِه؛ لأنَّ النَّعتَ الْمُكْرَمِينَ صيغةُ جَمعٍ، والمنعوتَ ضَيْفِ لَفظٌ مُفرَدٌ.
الجَوابُ: أنَّ لَفظةَ «الضَّيفِ» تُطلَقُ على الواحِدِ والجَمعِ؛ لأنَّ أصلَها مَصدَرُ «ضاف»، فنُقِلَت من المَصدريَّةِ إلى الاسميَّةِ [256] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 221). قال ابنُ عاشور: (الضَّيفُ: اسمٌ يُقالُ للواحِدِ وللجَمعِ؛ لأنَّ أصلَه مَصدَرُ ضافَ: إذا مالَ، فأُطلِقَ على الَّذي يَميلُ إلى بَيتِ أحَدٍ لِيَنزِلَ عِندَه، ثمَّ صار اسمًا؛ فإذا لُوحِظَ أصلُه أُطلِقَ على الواحِدِ وغَيرِه ولم يُؤَنِّثوه، ولا يَجمَعونَه، وإذا لُوحِظَ الاسمُ جَمَعوه للجَماعةِ وأنَّثوه للأُنثى، فقالوا أضيافٌ، وضُيوفٌ، وامرأةٌ ضَيفةٌ، وهو هنا اسمُ جَمعٍ؛ ولذلك وُصِفَ بـ الْمُكْرَمِينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/357). .
9- في قَولِه تعالى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ قد كان بَيتُه مأوًى للطَّارِقينَ والأضيافِ؛ لأنَّهم دَخَلوا عليه مِن غيرِ استِئذانٍ [257] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). ، فلم يَذكرِ الله استئذانَهم؛ ففي هذا دليلٌ على أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم كان قد عُرِفَ بإكرامِ الضِّيفانِ، واعتيادِ قِراهم؛ فبقيَ مَنزِلُه مَضْيفةً، مَطروقًا لِمَن وَرَدَه، لا يَحتاجُ إلى الاستِئذانِ، بلِ استئذانُ الدَّاخلِ دُخولُه، وهذا غايةُ ما يكونُ مِن الكَرَمِ [258] يُنظر: ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 271). .
10- في قَولِه تعالى: فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ أنَّ السَّلامَ مِن سُنَنِ الرُّسُلِ والملائِكةِ [259] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/382). .
11- في قَولِه تعالى: فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ أنَّ حذفَ الرَّادِّ «الواوَ»، فيَقولُ: «عليك السَّلامُ» هو ردٌّ صَحيحٌ، كما لو كان بـ «الواوِ»، ولكِنْ حَسُنَ الحَذفُ في الرَّدِّ هنا؛ مِن أجْلِ الحَذفِ في الابتِداءِ [260] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (2/386). والعلَّةُ البَلاغيَّةُ هنا حيث حسُن الفصلُ ولم يَحسُنِ الوصلُ، أي: العطفُ بالواوِ؛ لأنَّه عبارةٌ عن جوابٍ عن سؤالٍ مُقدَّرٍ، تقديرُه: فماذا قال إبراهيمُ؟ وهو ما يُعرَفُ في البلاغةِ بشِبهِ كمالِ الاتِّصالِ، وهو معنى كلامِ ابنِ القيِّمِ: مِن أجْلِ الحذفِ في الابتداءِ. .
12- إنْ قِيل: قولُه في سُورةِ (هُودٍ): فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ [هود: 70] دلَّ على أنَّ إنكارَه حصَلَ بعْدَ تَقريبِ العِجلِ إليهم، وهاهنا قال: فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، ثمَّ قال: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ -بفاءِ التَّعقيبِ-، وذلك يدُلُّ على تَقريبِ الطَّعامِ منهم بعْدَ حُصولِ إنكارِه؛ فما وَجْهُه؟
فالجوابُ: أنْ يُقالَ: لعلَّهم كانوا مُخالِفينَ لصِفةِ النَّاسِ في الشَّكلِ والهَيئةِ؛ ولذلك قال: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، أي: عندَ كلِّ أحدٍ، ثمَّ لَمَّا امتَنَعوا عن الطَّعامِ تأكَّدَ الإنكارُ؛ لأنَّ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تفرَّدَ بمُشاهَدةِ إمساكِهم؛ فنَكِرَهم فوقَ الإنكارِ الأوَّلِ [261] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/84). .
13- وُصِفَ العِجلُ هنا بـ سَمِينٍ، ووُصِفَ في سُورةِ (هودٍ) بـ حَنِيذٍ [هود: 69] ، أي: مَشويٍّ؛ فهو عِجلٌ سَمينٌ شَواهُ وقرَّبَه إليهم [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/359). .
14- في قَولِه تعالى: قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ هذا الغُلامُ إسحاقُ لا إسماعيلُ؛ لأنَّ امرأتَه عَجِبَتْ مِن ذلك، فقالت: عَجوزٌ عَقيمٌ لا يُولَدُ لمِثْلي! فأنَّى لي بالوَلَدِ؟! وأمَّا إسماعيلُ فإنَّه مِن سُرِّيَّتِه هاجرَ، وكان بِكْرَه، وأوَّلَ وَلَدِه، وقد بَيَّنَ سُبحانَه هذا في سُورةِ (هودٍ) في قَولِه تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] ، وهذه هي القِصَّةُ نفْسُها [263] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 68). .
15- في قَولِه تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فائِدةٌ في تقديمِ البِشارةِ على الإخبارِ عن إهلاكِهم قَومَ لُوطٍ؛ لِيَعلَمَ أنَّ الله تعالى يُهلِكُهم إلى خَلَفٍ، ويأتي ببَدَلِهم خَيرًا منهم [264] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/177). .
16- في قَولِه تعالى: وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ أنَّه سيَكونُ عَليمًا، وفيه تَبشيرٌ بحَياتِه حتَّى يكونَ مِنَ العُلَماءِ [265] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/556). .
17- في قَولِه تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا شِدَّةُ فَرَحِ سارَةَ؛ امرأةِ إبراهيمَ، حتَّى جرَى منها ما جرَى؛ مِن صَكِّ وَجْهِها، وصَيحَتِها غيرِ المَعهودةِ [266] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 810). .
18- قَولُه تعالى: قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ مُتضَمِّنٌ لإثباتِ صِفةِ القَولِ له تعالى [267] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 69). .
19- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبُّكِ أضاف الرُّبوبيَّةَ هنا إلى هذه المرأةِ العَجوزِ العَقيمِ الكَبيرةِ؛ إشارةً إلى أنَّ هذا مِن عنايةِ اللهِ بها؛ لأنَّ إضافةَ الرُّبوبيَّةِ إلى الشَّخصِ المعيَّنِ تكونُ ربوبيَّةً خاصَّةً، وهي تقتضي عنايةً خاصَّةً، والرُّبوبيَّةُ العامَّةُ تكونُ لكلِّ أحدٍ، فاللهُ ربُّ كلِّ شيءٍ؛ كما قال اللهُ عزَّ وجلَّ: قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الشعراء: 47، 48]؛ الرُّبوبيَّةُ العامَّةُ: بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، والرُّبوبيَّةُ الخاصَّةُ: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [268] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 138). .
20- قال اللهُ تعالى: الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ القُرآنُ إذا جمَعَ اللهُ فيه بيْنَ هذَينِ الاسمَينِ الكريمَينِ: العَليمِ والحَكيمِ؛ يُقَدَّمُ غالِبًا العَليمُ، لكِنْ هنا قُدِّمَ الحَكيمُ؛ لأنَّ المقامَ يَقتَضي هنا تقديمَ الحِكمةِ على العِلمِ. والحِكمةُ هنا في شَيئَينِ:
أوَّلًا: تأخيرُ الوِلادةِ بالنِّسبةِ لهذه المرأةِ: أنَّ اللهَ لم يُؤَخِّرْ ولادتَها إلى أنْ تَبلُغَ العَجزَ إلَّا لحِكمةٍ.
ثانيًا: كَونُها وَلَدتْ بعدَ أنْ أَيِسَت واعتقَدَت أنَّها عقيمٌ، فهاهنا حِكمتانِ: حِكمةٌ سابِقةٌ، وحِكمةٌ لاحِقةٌ؛ ومِن ثَمَّ قُدِّمَ اسمُ «الحكيمِ» على اسمِ «العليمِ» [269] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 139). .
21- قَولُه عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ مُتضَمِّنٌ لإثباتِ صِفةِ الِحكمةِ والعِلمِ اللَّذَينِ هما مَصدَرُ الخَلقِ والأمرِ؛ فجَميعُ ما خَلَقَه سُبحانَه صادِرٌ عن عِلمِه وحِكمتِه، وكذلك أمْرُه وشَرعُه مَصدَرُه عن عِلمِه وحِكمتِه، والعِلمُ والحِكمةُ مُتضَمِّنانِ لجَميعِ صِفاتِ الكَمالِ؛ فالعِلمُ يتضَمَّنُ الحياةَ ولوازِمَ كمالِها مِنَ القَيُّوميَّةِ والقُدرةِ والبَقاءِ، والسَّمعِ والبَصَرِ وسائِرِ الصِّفاتِ الَّتي يَستلزِمُها العِلمُ التَّامُّ، والحِكمةُ تتضَمَّنُ كَمالَ الإرادةِ مِن العَدلِ، والرَّحمةِ، والإحسانِ، والجُودِ والبِرِّ، ووَضْعِ الأشياءِ في مَواضِعِها على أحسَنِ وُجوهِها، وتتضَمَّنُ إرسالَ الرُّسلِ، وإثباتَ الثَّوابِ والعِقابِ.كُلُّ هذا يُعلَمُ مِن اسمِه الحَكيمِ كما هي طريقةُ القُرآنِ في الاستِدلالِ على هذه المطالِبِ العَظيمةِ بصِفةِ الحِكمةِ، والإنكارِ على مَن يَزعُمُ أنَّه خَلَق الخَلقَ عَبثًا وسُدًى وباطِلًا؛ فحينَئِذٍ صِفةُ حِكمتِه تتضَمَّنُ الشَّرْعَ والقَدَرَ، والثَّوابَ والعِقابَ [270] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 69). .
22- قَولُه عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ اختَصَّت هذه القِصَّةُ بذِكرِ هذَينِ الاسمَينِ؛ لاقتِضائِها لهما؛ لتعَجُّبِ النُّفوسِ مِن توَلُّدِ مولودٍ بيْنَ أبوَينِ لا يُولَدُ لِمثلِهما عادةً، وخَفاءِ العِلمِ بسَبَبِ هذا الإيلادِ، وكَونِ الحِكمةِ اقتَضَت جريانَ هذه الوِلادةِ على غَيرِ العادةِ المعروفةِ؛ فذَكَر في الآيةِ اسمَ العِلمِ والحِكمةِ المتضَمِّنَ لعِلْمِه سُبحانَه بسَبَبِ هذا الخَلقِ وغايتِه، وحِكمتِه في وَضْعِه مَوضِعَه مِن غيرِ إخلالٍ بموجَبِ الحِكمةِ [271] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 70). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ الجُملةُ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وغُيِّرَ أُسلوبُ الكلامِ مِن خِطابِ المُنذَرينَ مُواجَهةً إلى أُسلوبِ التَّعريضِ؛ تَفنُّنًا بذِكرِ قصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لِتَكونَ تَوطئةً للمَقصودِ مِن ذِكرِ ما حَلَّ بقَومِ لُوطٍ عليه السَّلامُ حينَ كذَّبوا رَسولَهم؛ فالمقصودُ هو ما بعدَ قولِه: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/356). [الذاريات: 31].
- وكان في الابتِداءِ بذِكرِ قَومِ لُوطٍ في هذه الآيةِ على خِلافِ التَّرتيبِ الَّذي جَرَى عليه اصطلاحُ القرآنِ في تَرتيبِ قَصَصِ الأُمَمِ المُكذِّبةِ بابتدائِها بقَومِ نُوحٍ، ثمَّ عادٍ، ثمَّ ثَمودَ، ثمَّ قَومِ لوطٍ؛ أنَّ المناسَبةَ للانتِقالِ مِن وَعيدِ المشركينَ إلى العِبرةِ بالأُمَمِ الماضيةِ: أنَّ المشركينَ وُصِفوا آنِفًا بأنَّهم في غَمْرةٍ ساهونَ، فكانوا في تلك الغَمْرةِ أشبَهَ بقَومِ لوطٍ؛ إذ قالَ اللهُ فيهم: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] ، ولأنَّ العذابَ الَّذي عُذِّبَ به قومُ لوطٍ كان حِجارةً أُنزِلَت عليهم مِن السَّماءِ مُشبَّهةً بالمَطرِ، وقد سُمِّيَت مَطَرًا في قولِه تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الفرقان: 40] ، وقولِه: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: 82] ، ولأنَّ في قصَّةِ حُضورِ الملائكةِ عندَ إبراهيمَ وزَوجِه عِبرةً بإمكانِ البَعثِ؛ فقد تَضمَّنَت بِشارَتَها بمَولودٍ يُولَدُ لها بعدَ اليأْسِ مِن الوِلادةِ، وذلك مِثلُ البعثِ بالحياةِ بعدَ المَماتِ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/356، 357). .
وقيل: بدأ بقِصَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإن كانت مُتأخِّرةً عن قِصَّةِ عادٍ؛ هزًّا للعَرَبِ؛ إذ كان أباهم الأعلى، ولِكَونِ الرُّسُلِ الَّذين وَفَدوا عليه جاؤوا بإهلاكِ قَومِ لُوطٍ إذ كَذَّبوه؛ ففيه وعيدٌ للعَرَبِ، وتهديدٌ واتِّعاظٌ، وتَسليةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ما يَجري عليه مِن قَومِه [274] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/554). .
- والاستِفهامُ في قولِه: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ استِفهامٌ تَقريريٌّ؛ لتَجتمِعَ نفْسُ المخاطَبِ، كما تَبدأُ المَرءَ إذا أردتَ أنْ تُحدِّثَه بعجيبٍ، فتُقرِّرَه هلْ سمِعَ ذلك أم لا؟ فكأنَّك تَقْتضي أنْ يقولَ: لا، ويَطلُبَ منك الحديثَ. وفيه تَفخيمٌ للحديثِ، وتَنبيهٌ على أنَّه ليس مِن عِلمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما عرَفَه بالوحْيِ [275] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/401)، ((تفسير البيضاوي)) (5/148)، ((تفسير أبي حيان)) (9/554)، ((تفسير أبي السعود)) (8/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/357)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/315). .
- ولَمَّا وُجِّهَ الخِطابُ هَلْ أَتَاكَ ... للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ عُرِفَ أنَّ المقصودَ الأصليَّ تَسليتُه على ما لَقِيَه مِن تَكذيبِ قَومِه، ويَتبَعُ ذلك تَهديدٌ وتَعريضٌ بالسَّامِعينَ حينَ يُقرَأُ عليهم القرآنُ -أو يَبْلُغُهم- بأنَّهم صائِرونَ إلى مِثلِ ذلك العذابِ؛ لاتِّحادِ الأسبابِ [276] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/554)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/357). .
- ووَصْفُ الضَّيفِ بأنَّهم مُكرَمونَ كَلامٌ مُوجَّهٌ (أي: يصلحُ لاحتِمالِ معنيَينِ)؛ لأنَّه يُوهِمُ أنَّ ذلك لإكرامِ إبراهيمَ إيَّاهم كما جرَتْ عادتُه مع الضَّيفِ، وهو الذي سَنَّ القِرَى [277] القِرَى: ضِيافةُ الضَّيفِ والإحسانُ إليه. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 252)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/179). ، والمقصودُ: أنَّ اللهَ أكرَمَهم برفْعِ الدَّرجةِ؛ لأنَّ الملائكةَ مُقرَّبون عندَ اللهِ تعالى [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/358). .
2- قولُه تعالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
- قولُه: سَلَامًا مَصدرٌ سادٌّ مَسدَّ الفِعلِ مُستغنًى به عنه، وأصلُه: نُسلِّمُ عليكم سلامًا، وأمَّا سَلَامٌ فمَعدولٌ به إلى الرَّفعِ على الابتِداءِ، وخبَرُه مَحذوفٌ، مَعناهُ: عليكم سلامٌ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ السَّلامِ، كأنَّه قصَدَ أنْ يُحيِّيَهم بأحسَنَ ممَّا حَيَّوهُ به؛ فإنَّ تحيتَهم باسمٍ مَنصوبٍ مُتضمِّنٌ لجُملةٍ فِعليَّةٍ، تقديرُه: سلَّمْنا عليك سلامًا. وتَحيةَ إبراهيمَ لهم باسمٍ مرفوعٍ مُتضمِّنٌ لجُملةٍ اسميَّةٍ، تقديرُه: سلامٌ دائمٌ، أو ثابتٌ أو مستقِرٌّ عليكم، ولا ريبَ أنَّ الجُملةَ الاسميَّةَ تَقتضي الثُّبوتَ واللُّزومَ، والفِعليَّةَ تقتضي التَّجدُّدَ والحدوثَ؛ فكانتْ تحيةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أكملَ وأحسنَ [279] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/401)، ((تفسير البيضاوي)) (5/148)، ((تفسير أبي حيان)) (9/555)، ((الرسالة التبوكية)) لابن القيِّم (ص: 66)، ((تفسير ابن كثير)) (7/420)، ((تفسير أبي السعود)) (8/139، 140). .
- وفي قولِه: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ إيجازٌ بالحذْفِ، فقيلَ: إنَّ الَّذي يُناسِبُ حالَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ أنَّه لا يُخاطِبُهم بذلك؛ إذ فيه مِن عدَمِ الأُنسِ ما لا يَخفَى، بل يَظهَرُ أنَّه يكونُ التَّقديرُ: هؤلاء قومٌ مُنكَرونَ، وقال ذلك مع نفْسِه أو لِمَن كان معَه مِن أتْباعِه وغِلمانِه، بحيثُ لا يَسمَعُ ذلك الأضيافُ [280] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/401)، ((تفسير أبي حيان)) (9/555)، ((تفسير أبي السعود)) (8/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/358)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/315). . فحذَفَ المبتدَأَ، ولم يُواجِهْهم بهذا؛ لِما فيه مِن الاستِيحاشِ. وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُواجِهُ أحدًا بما يَكرَهُه، بل يقولُ: وما بالُ أقْوامٍ يَقولون كذا ويَفعَلون كذا [281] مِن ذلك قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما بالُ أقوامٍ يَشترِطونَ شُروطًا ليست في كتابِ اللهِ)). [البخاري (2735)، ومسلم (1504)]. وقولُه: ((ما بالُ أقوامٍ يَرْفَعونَ أبْصارَهُم إلى السَّماءِ في صَلاتِهم)). [البخاري (750)]. وقولُه: ((ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا)). [مسلم (1401)]. ؟! وأيضًا قولُه: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فيه حذْفُ فاعِلِ الإنكارِ، وهو الَّذي كان أنكَرَهم، كما قال في مَوضعٍ آخَرَ: نَكِرَهُمْ [هود: 70] ، ولا ريبَ أنَّ قولَه: مُنْكَرُونَ ألطَفُ مِن أنْ يقولَ: أنكَرْتُكم [282] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 66، 67)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 272). .
3- قولُه تعالَى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَرَاغَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ
- قولُه: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ الفاءُ فَصيحةٌ؛ مُفصِحةٌ عن جُمَلٍ قد حُذِفَت؛ ثِقةً بدَلالةِ الحالِ عليها، وإيذانًا بكَمالِ سُرعةِ المجيءِ بالطَّعامِ، أيْ: فذَبَح عِجلًا فحَنَذَه، فجاءَ به [283] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/555)، ((تفسير أبي السعود)) (8/140). .
- ومَجيءُ الفاءِ لعطفِ أفعالِ فَرَاغَ فَجَاءَ فَقَرَّبَهُ؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذه الأفعالَ وقعَتْ في سُرعةٍ، والإسراعُ بالقِرى مِن تَمامِ الكرَمِ [284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/359). .
- الهمزةُ في قولِه: أَلَا تَأْكُلُونَ للعرْضِ والحثِّ على الأكْلِ على طَريقةِ الأدَبِ، إنْ قالَه أوَّلَ ما وضَعَه، أو للاستِفهامِ؛ للإنكارِ إنْ قاله حِينَما رَأى إعْراضَهم، وكأنَّه ثَمَّ مَحذوفٌ تَقديرُه: فامتَنَعوا مِن الأكْلِ، فأنكَرَ عليهم ترْكَ الأكلِ، فقال: ألَا تأكُلون [285] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/401)، ((تفسير البيضاوي)) (5/148)، ((تفسير أبي حيان)) (9/556)، ((تفسير أبي السعود)) (8/140). قال ابن عاشور: («ألَا» كَلمةٌ واحدةٌ، وهي حرْفُ عرْضٍ، أي: رَغْبةٍ في حُصولِ الفِعلِ الَّذي تَدخُلُ عليه. وهي هنا مُتعيِّنةٌ للعَرْضِ؛ لوُقوعِ فِعلِ القولِ بَدلًا مِن فِعلِ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، ولا يَحسُنُ جَعْلُها كَلمتينِ مِن همزةِ استِفهامٍ للإنكارِ مع «لا» النَّافيةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/359، 360). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ جاء قولُه هنا: قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ بغيرِ فاءٍ، وفي سُورةِ (الصَّافَّاتِ) جاء قولُه: فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ بالفاءِ؛ وذلك لأنَّ ما في سُورةِ (الصَّافَّاتِ) جُملةٌ اتَّصَلَت بخمْسِ جُمَلٍ كلُّها مَبْدوءةٌ بالفاءِ على التَّوالي، وهي: فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ... الآياتِ إلى قولِه: فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ [الصافات: 87- 91] ، وفي (الذَّارياتِ) مُتَّصِلٌ بمحذوفٍ -على قولٍ- تَقديرُه: فقَرَّبَه إليْهِم فلمْ يأْكُلوا، فلمَّا رآهُم لا يأْكُلون قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ؛ فجاء في كلِّ مَوضِعٍ بما يُلائِمُه [286] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/397). .
4- قولُه تعالَى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ
- الفاءُ في فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فَصيحةٌ؛ لإفصاحِها عن جُملةٍ مُقدَّرةٍ يَقْتضيها ربْطُ المعنى، أي: فلمْ يَأْكُلوا فأوجَسَ منهم خِيفةً، وقد صُرِّح بذلك في سُورةِ (هودٍ): فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ -أي: إلى العِجلِ- نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/360). [هود: 70] .
5- قولُه تعالَى: قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
- الإشارةُ في قولِ الملائكةِ: كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إلى الحادثِ، وهو التَّبشيرُ بغُلامٍ، والكافُ للتَّشبيهِ، أي: مِثل قَولِنا قال ربُّكِ، فنحن بلَّغْنا ما أُمِرْنا بتَبليغِه [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/361). .
- وجُملةُ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَعليلٌ لكَلامِ الملائكةِ المُقتضي أنَّ الملائكةَ ما أخبَروا إبراهيمَ إلَّا تَبليغًا مِن اللهِ، وأنَّ اللهَ صادقٌ وَعْدَه، وأنَّه لا مَوقِعَ لتعجُّبِ امرأةِ إبراهيمَ؛ لأنَّ اللهَ حكيمٌ يُدبِّرُ تكوينَ ما يُريدُه، وعليمٌ لا يَخفَى عليه حالُها مِن العَجْزِ والعُقمِ [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/361). .
- ولم تكُنْ هذه المُفاوَضةُ معَ سارةَ فقطْ، بلْ معَ إبراهيَم عليه السَّلامُ أيضًا حسَبَما جاء في سُورةِ (الحِجْرِ)، وإنَّما لمْ يُذكَرْ هاهُنا اكتِفاءً بما ذُكِرَ هناك، كما أنَّه لم يُذكَرْ هناك سارةُ اكتِفاءً بما ذُكِرَ هاهنا وفي سُورة (هُودٍ) [290] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/361). .