موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: إصلاحُ مالِه وحِفظُه


مِنَ الأدَبِ مَعَ اليَتيمِ: إصلاحُ مالِه بحِفظِه واستِثمارِه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ:
1- قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 220] .
(أي: يَسألُك المُؤمِنونَ -يا مُحَمَّدُ- عَمَّا اشتَدَّ عليهم فِعلُه مَعَ اليَتامى؛ إذ كانوا يَعزِلونَ لهم طَعامَهم خَوفًا مِن تَناوُلِه مَعَهم، فإذا فضَلَ مِنه شيءٌ حَبَسوه لهم حتَّى يَأكُلوه أو يَتَغيَّرَ، فأخبَرَ اللهُ تعالى نَبيَّه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجيبَهم بأنَّ المَقصودَ إنَّما هو إصلاحُ أموالِ اليَتامى بحِفظِها واستِثمارِها، والاتِّجارِ فيها لهم، فإن لم تَأخُذوا أجرًا على قيامِكُم بذلك، فذلك خيرٌ لكُم وأعظَمُ أجرًا، وإن أصَبتُم مِن أموالِهم شيئًا في مُقابِلِ قيامِكُم بشُؤونِهم -كأن خالطتُموهم في طَعامٍ أو غيرِه مِنَ الأموالِ- فجائِزٌ على وجهٍ لا يَضُرُّ باليَتامى [2157] عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أُنزِلَت في والي اليَتيمِ الذي يُقيمُ عليه ويُصلِحُ في مالِه، إن كان فقيرًا أكل مِنه بالمَعروفِ). أخرجه البخاري (2212) واللَّفظ له، ومسلم (3019). وعن عَمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، ((أنَّ رَجُلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنِّي فقيرٌ ليس لي شيءٌ، ولي يَتيمٌ. قال: فقال: كُلْ مِن مالِ يَتيمِك غيرَ مُسرِفٍ ولا مُبادِرٍ ولا مُتَأثِّلٍ)). أخرجه أبو داود (2872) واللَّفظُ له، والنسائي (3668)، وابن ماجه (2718). قَوَّى إسناده ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (8/90)، وحَسَّنَه الألباني في ((هداية الرواة)) (3292)، وشُعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2872) ؛ لأنَّهم إخوانُكُم في الدِّينِ، ومِن شَأنِ الأخِ مُخالَطةُ أخيه [2158] قال الجَصَّاصُ: (قَولُه: فَإِخْوَانُكُم [البَقَرة: 220] يَدُلُّ على أنَّ أطفالَ المُؤمِنينَ هم مُؤمِنونَ في الأحكامِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى سَمَّاهم إخوانًا لنا، واللَّهُ تعالى قَد قال: إِنَّما الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ). ((أحكام القرآن)) (2/ 15). .
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ أي: إنَّ اللَّهَ تعالى وإن أذِنَ للمُؤمِنينَ في مُخالطةِ اليَتامى على ما سَبَقَ ذِكرُه، إلَّا أنَّه خَوَّفَهم وحَذَّرَهم مِن أن تُسَوِّلَ لهم أنفُسُهم شيئًا مِنَ الخِداعِ لأكلِ أموالِ اليَتامى بالباطِلِ، فالمُعَوَّلُ في ذلك على النِّيَّةِ، فمَن خَلطَ مالَ اليَتيمِ بمالِه يُريدُ مَصلحَتَه فاللَّهُ يَعلمُ نيَّتَه وسيُثيبُه على ذلك، وإن حَصَل أن دَخل عليه شيءٌ مِن مالِه مِن غيرِ قَصدٍ ولا طَمَعٍ، فلا حَرَجَ عليه؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى يَعلمُ نيَّتَه، وأمَّا مَن قَصَدَ بتلك المُخالطةِ التَّوصُّلَ بها إلى أكلِ مالِه خَديعةً؛ فاللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَعلَمُ نيَّتَه، وسيُعاقِبُه على ذلك.
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي: إنَّ هذا الحُكمَ إنَّما شُرِعَ رُخصةً مِنَ اللهِ تعالى وتَوسِعةً على عِبادِه، وإلَّا فإنَّ اللَّهَ تعالى قادِرٌ على أن يَشُقَّ عليهم بنَهيِهم عن خَلطِ أموالِهم بأموالِ اليَتامى؛ وأمْرِهم بتَقديرِ طَعامِهم تَقديرًا دَقيقًا، بحيثُ لا يَزيدُ عن حاجَتِهم ولا يَنقُصُ عَنها؛ فيَقَعوا بذلك في ضِيقٍ وحَرَجٍ، ويُعاقِبَهم رَبُّهم إن تَرَكوا أمرَه، أوِ ارتَكبوا نَهيَه؛ ذلك بأنَّ اللَّهَ تعالى لا يُعجِزُه شيءٌ، وهو قاهرٌ لكُلِّ شيءٍ، وَفقَ ما تَقتَضيه حِكمَتُه؛ إذ يَضَعُ كُلَّ شيءٍ في مَوضِعِه اللَّائِقِ به، فيُعاقِبُ مَن يَستَحِقُّ ذلك لعِنادِه، ويَشرَعُ ما فيه الخيرُ والرَّحمةُ لعِبادِه) [2159] ((التفسير المُحَرَّر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (1/ 624، 625). .
2- قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام: 152] و[الإسراء: 34] .
والمَعنى: إذا ماتَ والِدُ الإنسانِ، وبَقيَ الطِّفلُ صَغيرًا مِسكينًا لا يَقدِرُ على الدِّفاعِ عن نَفسِه، ولا يَقدِرُ على حِفظِ مالِه، فلا تَأخُذوا مالَه وتَظلِموه لضَعفِه، بَل لا تَقرَبوا مالَه إلَّا بالتي هي أحسَنُ، أي: إلَّا بالخَصلةِ التي هي أحسَنُ الخِصال وأنفعُها لليَتيمِ، وذلك بالمُحافَظةِ عليه وتَنميَتِه وتَثميرِه بالتِّجارةِ في مَواقِعِ النَّظَرِ والسَّدادِ، فالتي هي أحسَنُ: المُحافَظةُ عليه مِنَ الضَّياعِ. والتَّثميرُ: هو تَنميَتُه بالرِّبحِ بالوُجوهِ المَأمونةِ، التي يَغلبُ على الظَّنِّ -بحَسبِ العادةِ- أنَّ فيها سَلامةً ورِبحًا لا ضياعًا، ومِنَ التي هي أحسَنُ: أنَّ القائِمَ على مالِ اليَتيمِ -وإنِ اشتَغَل في حِفظِه والتِّجارةِ فيه- إن كان له مالٌ لنَفسِه يَأكُلُ مِن مالِ نَفسِه، ويُثمِّرُ لليَتيمِ مالَه مَجَّانًا، كما في قَوله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] ، وهذه مِنَ الدَّلالاتِ على أنَّ هذا الشَّرعَ الكريمَ شَرعٌ سَماويٌّ، يُراعي حُقوقَ الضَّعيفِ، ويُحافِظُ على مَكارِمِ الأخلاقِ [2160] ((العذب النمير مِن مجالس الشنقيطي في التفسير)) (2/ 506، 507). .
3- قال تعالى على لسانِ الخَضِرِ عليه السَّلامُ: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف: 82] .
قَولُه: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا أي: حالُهما تَقتَضي الرَّأفةَ بهما ورَحمَتَهما؛ لكونِهما صَغيرينِ عَدِما أباهما، وحَفِظَهما اللهُ أيضًا بصَلاحِ والدِهما.
وفي هذا أنَّ العَبدَ الصَّالحَ يَحفظُه اللهُ في نَفسِه وفي ذُرِّيَّتِه، وأنَّ خِدمةَ الصَّالحينَ أو مَن يَتَعَلَّقُ بهم أفضَلُ مِن غيرِها؛ لأنَّه عَلَّل استِخراجَ كنزِهما وإقامةَ جِدارِهما أنَّ أباهما صالِحٌ [2161] يُنظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 483، 485). .
فَوائِدُ ومَسائِلُ:
حكمُ تولِّي الضَّعيفِ مالَ اليتيمِ
يَنبَغي للضَّعيفِ ألَّا يَتَولَّى مالَ اليَتيمِ؛ لئَلَّا يُضيِّعَه فيَقَعَ في الحَرَجِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عَن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا أبا ذَرٍّ، إنِّي أراك ضَعيفًا، وإنِّي أحِبُّ لك ما أحِبُّ لنَفسي، لا تَأمَّرَنَّ على اثنينِ، ولا تولَّينَّ [2162] قال القاري: («ولا تَوَلَّينَّ» بحَذفِ إحدى التَّاءينِ وتَشديدِ اللَّامِ المَفتوحةِ والنُّونِ «مالَ يَتيمٍ» أي: لا تَقبَلنَّ وِلايةَ مالِ يَتيمٍ، وفي نُسخةٍ لمسلمٍ: «على مالِ يَتيمٍ» أي: لا تَكُنْ واليًا عَليه؛ لأنَّ خَطَرَه عَظيمٌ، ووبالَه جَسيمٌ). ((مرقاة المفاتيح)) (6/ 2401). مالَ يَتيمٍ)) [2163] أخرجه مسلم (1826). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ أنَّ الإشفاقَ مِنَ المَصحوبِ يَنبَغي أن يَبلُغَ إلى الغايةِ التي بَلغَ إليها إشفاقُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أبي ذَرٍّ في قَولِه: «إنِّي أحِبُّ لك ما أحِبُّ لنَفسي». وقد دَلَّ هذا الحَديثُ على خَطَرِ الإمارةِ، وأنَّها أمانةٌ، وأيُّ أمانةٍ! وأنَّها على الأكثَرِ والأغلَبِ خِزيٌ ونَدامةٌ في يَومِ القيامةِ، إلَّا مَن أخَذَها بحَقِّها، ويَعني بقَولِه: «إلَّا مَن أخَذَها» [2164] عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ألَّا تَستَعمِلُني؟ قال: فضَرَبَ بيَدِه على مَنكِبي، ثُمَّ قال: يا أبا ذَرٍّ، إنَّك ضَعيفٌ، وإنَّها أمانةٌ، وإنَّها يَومَ القيامةِ خِزيٌ ونَدامةٌ، إلَّا مَن أخَذَها بحَقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها)). أخرجه مسلم (1825). بما فيها مِن حَقٍّ مَجمَعًا على أدائِه فيها، «أدَّى الذي عليه فيها» والمَعنى: أنَّه يَفي بأداءِ تلك الحُقوقِ...
وقَولُه: «ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يَتيمٍ» فإنَّما راعى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَعفَ أبي ذَرٍّ عَنِ القيامِ بحِفظِ مالِ اليَتامى كما يَنبَغي؛ وإلَّا فقَدَ قال اللهُ تعالى في اليَتامى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة: 220] ) [2165] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (2/ 197). .
وقفاتٌ معَ قولِه تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
قال ابنُ باديسَ في قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] (اليَتيمُ: هو مِن عَدِمَ أباه، مِنَ اليُتمِ بمَعنى الانفِرادِ، ومِنه الدُّرَّةُ اليَتيمةُ. ومَن عَدِمَ أباه فقَدَ عَدِم ناصِرَه، فإذا بَلَغَ النِّكاحَ فقَد بَلَغَ القوَّةَ، فاستَغنى عَنِ النَّاصِرِ، فلا يُقالُ فيه يَتيمٌ في اللُّغةِ.
واعتَبرَ الشَّرعُ الشَّريفُ وُجودَ قوَّةِ العَقلِ فمَنَعَ استِغلالَه، ودَفْعَ مالِه إليه بَعدَ البُلوغِ حتَّى يُؤنَسَ مِنه الرُّشدُ. والتي هي أحسَنُ: الفَعلةُ والخَصلةُ التي هي أنفَعُ.
والبُلوغُ إلى الشَّيءِ: الوُصولُ والانتِهاءُ إليه. والأشُدُّ: جَمعُ شِدَّةٍ، كأنعُمٍ جَمعُ نِعمةٍ؛ فالأشُدُّ هو القوى. وبُلوغُ الأشُدِّ هو بُلوغُ القوى، والوُصولُ إلى الحالةِ التي تَحصُلُ فيها القوى للإنسانِ؛ القُوى البَدَنيَّةُ، والقُوى العَقليَّةُ. ولا يُقالُ في الشَّخصِ: قَد بَلغَ أشُدَّه إلَّا إذا حَصَل على قُواه مِنَ الجِهَتينِ، فأمَّا القُوى البَدَنيَّةُ فعَلامةُ حُصولِها هو البُلوغُ، وأمَّا القوى العَقليَّةُ فعَلامةُ حُصولِها هو الرُّشدُ الذي يَظهَرُ في حُسنِ التَّصَرُّفِ. وقد جَمَعَ العَلامَتينِ قَولُه تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 6] .
فابتِداءُ الأشُدِّ مِنَ البُلوغِ إذا كان مَعَه رُشدٌ، ولا يَزالُ يَتَدَرَّجُ حتَّى يَستَكمِلَ في الأربَعينَ، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: 15] ؛ فالأربَعونَ هي سِنُّ الاستِكمالِ والاستِواءِ والتَّمامِ في القوى، وهي السِّنُّ التي بَعَثَ اللهُ فيها النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم للعالَمينَ بَشيرًا ونَذيرًا. ولا يَزالُ الإنسانُ في قوَّتِه -ما لم تَعرِضِ الطَّوارئُ- إلى الخَمسينَ، ثُمَّ يَأخُذُ في التَّراجُعِ.
ومالُ المَرءِ كقِطعةٍ مِن بَدَنِه، ويُدافِعُ عَنه كما يُدافِعُ عن نَفسِه، وبه دَوامُ أعمالِه في حياتِه، فالأموالُ مَقرونةٌ بالنُّفوسِ في الاعتِبارِ؛ فقُرِنَت في النَّظْمِ آيةُ حِفظِ الأموالِ بآياتِ حِفظِ النُّفوسِ، كما قَرَنَ بينَهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم في قَولِه: «فإنَّ دِماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكُم حَرامٌ» [2166] أخرجه البخاري (1739) مِن حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. وأخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) واللَّفظُ له مِن حَديثِ أبي بَكرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ونَهى تعالى عن قِربانِ مالِ اليَتيمِ إلَّا بالوَجهِ الذي هو أنفَعُ، فلا بُدَّ لكافِلِ اليَتيمِ مِنَ النَّظَرِ والتَّحَرِّي عِندَ التَّصَرُّفِ في مالِه، حتَّى يَعرِفَ ما هو ضارٌّ وما هو نافِعٌ، وما هو لا ضارٌّ ولا نافِعٌ، وما هو أنفعُ؛ فلا يَتَصَرَّفُ إلَّا بما هو نافِعٌ، فإذا تَعارَضَ وجهانِ نافِعانِ تَحَرَّى أنفَعَهما لليَتيمِ. وفي هذا النَّهيِ -بطَريقِ الأحرى- تَحريمُ أخذِ مالِ اليَتيمِ بالباطِلِ، والتَّعَدِّي عليه ظُلمًا.
ومِثلُ اليَتيمِ في وَجهَيِ النَّهي المُتَقَدِّمَينِ غيرُه؛ فكُلُّ ذي وِلايةٍ أو أمانةٍ على مالِ غيرِه يَجِبُ عليه أن يَتَحَرَّى التَّحَرِّيَ المَذكورَ، كما يَحرُمُ على كُلِّ أحَدٍ أن يَتَعَدَّى على مالِ غَيرِه.
وإنَّما خُصَّ اليَتيمُ بالذِّكرِ؛ لأنَّه ضَعيفٌ لا ناصِرَ له، والنُّفوسُ أشَدُّ طَمَعًا في مالِ الضَّعيفِ؛ فالعِنايةُ به أوكَدُ، والعُقوبةُ عليه أشَدُّ.
ومَن تَأدَّب بأدَبِ الآيةِ في مالِ الضَّعيفِ كاليَتيمِ، كان حَقيقًا أن يَتَأدَّبَ بأدَبِها في مالِ غيرِه.
ومِن بَليغِ إيجازِ القُرآنِ في بيانِه أنَّه يَذكُرُ الشَّيءَ ليَدُلَّ به على تَأثيرِه، أوِ الذي هو أحرى بالحُكمِ مِنه، أو لكونِ امتِثالِ الحُكمِ الشَّرعيِّ فيه داعيًا إلى امتِثالِه في غيرِه بالمُساواةِ أوِ الأحْرَويَّةِ.
وأجازَ تعالى لوليِّ اليَتيمِ أن يَتَصَرَّفَ في مالِه بالاستِثناءِ في قَولِه: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فيَجوزُ له تَنميَتُه لليَتيمِ بوُجوهِ التِّجارةِ.
والوِلايةُ على اليَتيمِ واستِقلالُه حالتانِ كِلتاهما حَقٌّ وخيرٌ إذا كانت كُلُّ واحِدةٍ مِنهما في وَقتِها المُناسِبِ لها، وكُلُّ واحِدةٍ مِنهما تَكونُ ظُلمًا وشَرًّا إذا كانت في غيرِ وقتِها المُناسِبِ لها؛ فلذا بيَّن تعالى الحالتينِ ووقْتَهما بما قَبْلَ حَتَّى وما بَعدَها؛ فوَقتُ عَدَمِ بُلوغِ الأشُدِّ هو وقتُ الوِلايةِ. فمِنَ الفُروضِ الكِفائيَّةِ على الأمَّةِ أن يَكونَ أيتامُها مَكفولينَ غيرَ مُهمَلينَ.
ووقتُ بُلوغِ الأشُدِّ -ببُلوغِ الحُلُمِ والرُّشدِ- هو وقتُ استِقلالِ مَن كان يَتيمًا ووقتُ دَفعِ مالِه إليه، فلا يَجوزُ حينَئِذٍ الاستيلاءُ على مالِه والسَّيطَرةُ عليه.
وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [الإسراء: 34] عَهدُ اللهِ تعالى لعِبادِه هو ما شَرَعَه لهم مِن دينِه، فوفاؤُهم بعَهدِه قيامٌ بأعباءِ ذلك الدّينِ الكريمِ. وانتِظامُ شُؤونِهم في هذه الحياةِ -أفرادًا وجَماعاتٍ وأمَمًا- مُتَوقِّفٌ على الوفاءِ مِن بَعضِهم لبَعضٍ بما بينَهم مِن عُهودٍ؛ فالوفاءُ ضَروريٌّ لنَجاةِ العِبادِ مَعَ خالقِهم، ولسَلامَتِهم مِنَ الشُّرورِ والفوضى والفِتَنِ، وضَروريٌّ -إذَنْ- لتَحصيلِ سَعادةِ الدُّنيا وسَعادةِ الآخِرةِ.
ولمَكانةِ هذا الأصلِ وضَرورَتِه تَكرَّر في الكِتابِ والسُّنَّةِ الأمرُ به على وجهٍ عامٍّ بينَ الأفرادِ والأمَمِ، بلا فرقٍ بينَ الأجناسِ والمِلَلِ. وجاءَ هنا في آيةِ الوِصايةِ باليَتيمِ -وهي آيةُ حِفظِ الأموالِ بِاحتِرامِ المِلكيَّةِ- لوَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ الكافِلَ لليَتيمِ قَد أعلنَ بكفالتِه -بلسانِ حالِه- أنَّه مُلتَزِمٌ لحِفظِه في بَدَنِه ومالِه، فهذا عَهدٌ مِنه يُطالَبُ بالوفاءِ به، ويُسأَلُ عن ذلك الوَفاءِ.
الثَّاني: أنَّ الآيةَ في حِفظِ الأموالِ وعَدَمِ التَّعَدِّي على مِلكِ أحَدٍ.
والنَّاسُ يَتَعامَلونَ بحُكمِ الضَّرورةِ، ويَبنونَ تَعامُلَهم على تَبادُلِ الثِّقةِ والعُهودِ المَبذولةِ مِن بَعضِهم لبَعضٍ بلسانِ المَقالِ أو بلسانِ الحالِ، فأُمِروا بالوفاءِ بالعَهدِ الذي هو أساسٌ للتَّعامُلِ، وفي ذلك سَلامةُ مالِ كُلِّ أحَدٍ مِنَ التَّعَدِّي عليه.
ولا يُنافي هذا عُمومَ اللَّفظِ الذي يَقتَضي الأمرَ بالوفاءِ عامًّا؛ لأنَّه باقٍ على عُمومِه، وإنَّما يَدخُلُ فيه هذان الوجهانِ المَذكورانِ في ارتِباطِ النَّظْمِ دُخولًا أوَّليًّا.
ومِن بَديعِ إيجازِ القُرآنِ في نَظْمِ الآياتِ أن يُؤتى باللَّفظِ مُفيدًا للعامِّ، ومُقَوِّيًا للخاصِّ) [2167] ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) (ص: 94-97). .

انظر أيضا: