موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ مُتَفرِّقةٌ


نَماذِجُ مِن أدَبِ الأنبياءِ مَعَ الرَّبِّ جَلَّ وعَلا:
قال ابنُ القَيِّمِ: (تَأمَّلْ أحوالَ الرُّسُلِ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم مَعَ اللهِ، وخِطابَهم وسُؤالَهم. كَيف تَجِدُها كُلَّها مَشحونةً بالأدَبِ قائِمةً به؟!
قال المَسيحُ عليه السَّلامُ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة: 116] ولم يَقُلْ: لم أقُلْه. وفرقٌ بَينَ الجَوابينِ في حَقيقةِ الأدَبِ. ثُمَّ أحال الأمرَ على عِلمِه سُبحانَه بالحالِ وسِرِّه، فقال: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي [المائدة: 116] ، ثُمَّ بَرَّأ نَفسَه عن عِلمِه بغَيبِ رَبِّه وما يَختَصُّ به سُبحانَه، فقال: وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] ، ثُمَّ أثنى على رَبِّه ووصَفه بتَفرُّدِه بعِلمِ الغُيوبِ كُلِّها، فقال: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 116] ، ثُمَّ نَفى أن يَكونَ قال لهم غَيرَ ما أمَرَه رَبُّه به -وهو مَحضُ التَّوحيدِ- فقال: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ [المائدة: 117] ، ثُمَّ أخبَرَ عن شَهادَتِه عليهم مُدَّةَ مُقامِه فيهم، وأنَّه بَعدَ وفاتِه لا اطِّلاعَ له عليهم، وأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ وَحدَه هو المُنفرِدُ بَعدَ الوفاةِ بالاطِّلاعِ عليهم، فقال: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117] ، ثُمَّ وصَفَه بأنَّ شَهادَتَه سُبحانَه فوقَ كُلِّ شَهادةٍ وأعَمُّ، فقال: وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 117] ، ثُمَّ قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة: 118] ، وهذا مِن أبلَغِ الأدَبِ مَعَ اللهِ في مِثلِ هذا المَقامِ، أي: شَأنُ السَّيِّدِ رَحمةُ عَبيدِه والإحسانُ إليهم، وهؤلاء عَبيدُك ليسوا عَبيدًا لغَيرِك، فإذا عَذَّبتَهم -مَعَ كَونِهم عَبيدَك- فلولا أنَّهم عَبيدُ سوءٍ مِن أبخَسِ العَبيدِ وأعتاهم على سَيِّدِهم وأعصاهم له، لم تُعَذِّبْهم؛ لأنَّ قُربةَ العُبوديَّةِ تَستَدعي إحسانَ السَّيِّدِ إلى عَبدِه ورَحمَتَه، فلماذا يُعَذِّبُ أرحَمُ الرَّاحِمينَ، وأجوَدُ الأجوَدينَ، وأعظَمُ المُحسِنينَ إحسانًا عَبيدَه لولا فَرطُ عُتوِّهم، وإباؤهم عن طاعَتِه، وكَمالُ استِحقاقِهم للعَذابِ؟!
وقد تَقَدَّم قَولُه: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 116] أي: هم عِبادُك، وأنتَ أعلمُ بسِرِّهم وعَلانيَتِهم، فإذا عَذَّبتَهم عَذَّبتَهم على عِلمٍ مِنك بما تُعَذِّبُهم عليه؛ فهم عِبادُك وأنتَ أعلمُ بما جَنَوه واكتَسَبوه، فليسَ في هذا استِعطافٌ لهم كَما يَظُنُّه الجُهَّالُ، ولا تَفويضٌ إلى مَحضِ المَشيئةِ والمِلكِ المُجَرَّدِ عنِ الحِكمةِ كَما تَظُنُّه القَدَريَّةُ، وإنَّما هو إقرارٌ واعتِرافٌ وثَناءٌ عليه سُبحانَه بحِكمَتِه وعَدلِه، وكَمالِ عِلمِه بحالِهم، واستِحقاقِهم للعَذابِ.
ثُمَّ قال: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] ولم يَقُلِ: الغَفورُ الرَّحيمُ، وهذا مِن أبلَغِ الأدَبِ مَعَ اللهِ تعالى؛ فإنَّه قاله في وَقتِ غَضَبِ الرَّبِّ عليهم، والأمرِ بهم إلى النَّارِ، فليسَ هو مَقامَ استِعطافٍ ولا شَفاعةٍ، بَل مَقامُ بَراءةٍ مِنهم، فلو قال: فإنَّك أنتَ الغَفورُ الرَّحيمُ، لأشعَرَ باستِعطافِه رَبَّه على أعدائِه الذينَ قدِ اشتَدَّ غَضَبُه عليهم، فالمَقامُ مَقامُ مُوافَقةٍ للرَّبِّ في غَضَبِه على مَن غَضِبَ الرَّبُّ عليهم، فعَدَل عن ذِكرِ الصِّفتَينِ اللَّتَينِ يُسأَلُ بهما عَطفُه ورَحمَتُه ومَغفِرَتُه إلى ذِكرِ العِزَّةِ والحِكمةِ المُتَضَمِّنَتَينِ لكَمالِ القُدرةِ وكَمالِ العِلمِ.
والمَعنى: إن غَفرتَ لهم فمَغفِرتُك تَكونُ عن كَمالِ القُدرةِ والعِلمِ، ليسَت عن عَجزٍ عنِ الانتِقامِ مِنهم، ولا عن خَفاءٍ عليك بمِقدارِ جَرائِمِهم، وهذا لأنَّ العَبدَ قد يَغفِرُ لغَيرِه لعَجزِه عنِ الانتِقامِ مِنه، ولجَهلِه بمِقدارِ إساءَتِه إليه. والكَمالُ: هو مَغفِرةُ القادِرِ العالمِ. وهو العَزيزُ الحَكيمُ، وكان ذِكرُ هاتَينِ الصِّفتَينِ في هذا المَقامِ عَينَ الأدَبِ في الخِطابِ.
وكذلك قَولُ إبراهيمَ الخَليلِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 78 - 80] ، ولم يَقُلْ: وإذا أمرَضَني؛ حِفظًا للأدَبِ مَعَ اللهِ.
وكذلك قَولُ الخَضِرِ عليه السَّلامُ في السَّفينةِ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف: 79] ، ولم يَقُلْ: فأرادَ رَبُّك أن أعيبَها. وقال في الغُلامَينِ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف: 82] .
وكذلك قَولُ مُؤمِني الجِنِّ: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الجن: 10] ، ولم يَقولوا: أرادَه بهم. ثُمَّ قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10] .
وألطَفُ مِن هذا قَولُ موسى عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] ، ولم يَقُلْ: أطعِمْني.
وقَولُ آدَمَ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] ، ولم يَقُلْ: رَبِّ قَدَّرتَ عليَّ وقَضَيتَ عَلَيَّ.
وقَولُ أيُّوبَ عليه السَّلامُ. مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] ، ولم يَقُلْ: فعافِني واشْفِني.
وقَولُ يوسُفَ لأبيه وإخوتِه: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100] ، ولم يَقُلْ: أخرَجَني مِنَ الجُبِّ؛ حِفظًا للأدَبِ مَعَ إخوتِه، وتَفَتِّيًا عليه ألَّا يُخجِلَهم بما جَرى في الجُبِّ، وقال: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف: 100] ، ولم يَقُلْ: رَفعَ عنكُم جَهدَ الجوعِ والحاجةِ؛ أدَبًا مَعَهم، وأضاف ما جَرى إلى السَّبَبِ ولم يُضِفْه إلى المُباشِرِ الذي هو أقرَبُ إليه مِنه، فقال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانِ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسُف: 100] ، فأعطى الفُتوَّةَ والكَرمَ والأدَبَ حَقَّه؛ ولهذا لم يَكُنْ كَمالُ هذا الخُلُقِ إلَّا للرُّسُلِ والأنبياءِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم.
ومِن هذا أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الرَّجُلَ أن يَستُرَ عَورَتَه، وإن كان خاليًا لا يَراه أحَدٌ [337] لفظُه: عن بَهزِ بنِ حَكيمٍ عن أبيه عن جَدِّه، قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، عوراتُنا ما نأتي منها وما نَذَرُ؟ قال: ((احفَظْ عَوْرَتَك إلَّا من زَوْجَتِك، أو ما مَلَكَت يمينُك، قال: قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إذا كان القومُ بعضُهم في بعضٍ؟ قال: إن استطَعْتَ ألَّا يَرَيَنَّها أحدٌ، فلا يَرَيَنَّها، قال: قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إذا كان أحَدُنا خاليًا؟ قال: اللهُ أحَقُّ أن يُستحيا منه مِنَ النَّاسِ)). أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (278) مختصرًا، وأخرجه موصولًا أبو داود (4017) واللفظ له، والترمذي (2794). صحَّحه ابنُ القطان في ((النظر في أحكام النظر)) (94)، وابن القيم في ((تهذيب السنن)) (11/56)، وابن حجر في ((النكت)) (1/329)، والشوكاني في ((السيل الجرار)) (2/300) ؛ أدَبًا مَعَ اللهِ، على حَسَبِ القُربِ مِنه، وتَعظيمِه وإجلالِه، وشِدَّةِ الحَياءِ مِنه، ومَعرِفةِ وَقارِه...
وجَرَت عادةُ القَومِ أن يَذكُروا في هذا المَقامِ قَولَه تعالى عن نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ أراه ما أراه: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم: 17] ، وأبو القاسِمِ القُشَيريُّ صَدَّرَ بابَ الأدَبِ بهذه الآيةِ [338] يُنظر: ((الرسالة القشيرية)) (2/ 445). ، وكذلك غَيرُه.
وكَأنَّهم نَظَروا إلى قَولِ مَن قال مِن أهلِ التَّفسيرِ: إنَّ هذا وَصفٌ لأدَبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك المَقامِ؛ إذ لم يَلتَفِتْ جانِبًا، ولا تَجاوَزَ ما رَآه، وهذا كَمالُ الأدَبِ، والإخلالُ به أن يَلتَفِتَ النَّاظِرُ عن يَمينِه وعن شِمالِه، أو يَتَطَلَّعَ أمامَ المَنظورِ، فالالتِفاتُ زَيغٌ، والتَّطَلُّعُ إلى ما أمامَ المَنظورِ طُغيانٌ ومُجاوزةٌ. فكَمالُ إقبالِ النَّاظِرِ على المَنظورِ ألَّا يَصرِفَ بَصَرَه عنه يَمنةً ولا يَسرةً، ولا يَتَجاوَزَه.
هذا مَعنى ما حَصَّلتُه عن شَيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ قدَّسَ اللهُ رُوحَه.
وفي هذه الآيةِ أسرارٌ عَجيبةٌ، وهي مِن غَوامِضِ الآدابِ اللَّائِقةِ بأكمَلِ البَشَرِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَواطَأ هناكَ بَصَرُه وبَصيرَتُه، وتوافَقا وتَصادَقا فيما شاهَدَه بَصَرُه؛ فالبَصيرةُ مواطِئةٌ له، وما شاهَدَته بَصيرَتُه فهو أيضًا حَقٌّ مَشهودٌ بالبَصَرِ، فتَواطَأ في حَقِّه مَشهَدُ البَصَرِ والبَصيرةِ.
ولهذا قال سُبحانَه وتعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى [النجم: 11 - 12] ، أي: ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَآه ببَصَرِه.
ولهذا قَرَأها أبو جَعفَرٍ [339] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (22/ 26)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/ 230، 231)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 685)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/ 379). : ما كَذَّبَ الفُؤادُ ما رَأى -بتَشديدِ الذَّالِ- أي: لم يُكذِّبِ الفُؤادُ البَصَرَ، بَل صَدَّقَه وواطَأه؛ لصِحَّةِ الفُؤادِ والبَصَرِ، أوِ استِقامةِ البَصيرةِ والبَصَرِ، وكَونِ المَرئيِّ المُشاهَدِ بالبَصَرِ والبَصيرةِ حَقًّا. وقَرَأ الجُمهورُ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ [النجم: 11] بالتَّخفيفِ، وهو مُتَعَدٍّ، ومَا رَأَى: مَفعولُه: أي: ما كَذَبَ قَلبُه ما رَأته عَيناه، بَل واطَأه ووافَقَه؛ فلِمواطَأةِ قَلبِه لقالَبِه، وظاهِرِه لباطِنِه، وبَصَرِه لبَصيرَتِه: لم يَكذِبِ الفُؤادُ البَصَرَ، ولم يَتَجاوزِ البَصَرُ حَدَّه فيَطغى، ولم يَمِلْ عنِ المَرئيِّ فيَزيغَ، بَل اعتَدَل البَصَرُ نَحوَ المَرئيِّ، ما جاوزَه ولا مال عنه، كَما اعتَدَل القَلبُ في الإقبالِ على اللهِ، والإعراضِ عَمَّا سِواه؛ فإنَّه أقبَل على اللهِ بكُلِّيَّتِه، وللقَلبِ زَيغٌ وطُغيان، وكِلاهما مُنتَفٍ عن قَلبِه وبَصَرِه، فلم يَزِغْ قَلبُه التِفاتًا عنِ اللهِ إلى غَيرِه، ولم يَطغَ بمُجاوزَتِه مَقامَه الَّذي أُقيمَ فيه.
وهذا غايةُ الكَمالِ والأدَبِ مَعَ اللهِ، الَّذي لا يَلحَقُه فيه سِواه.
فإنَّ عادةَ النُّفوسِ إذا أُقيمَت في مَقامٍ عالٍ رَفيعٍ: أن تَتَطَلَّعَ إلى ما هو أعلى مِنه وفوقَه، ألَا تَرى أنَّ موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا أُقيمَ في مَقامِ التَّكليمِ والمُناجاةِ طَلبَت نَفسُه الرُّؤيةَ؟ ونَبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا أُقيمَ في ذلك المَقامِ وفَّاه حَقَّه، فلمَ يَلتَفِتْ بَصَرُه ولا قَلبُه إلى غَيرِ ما أُقيمَ فيه البَتَّةَ؟
ولأجلِ هذا ما عاقَه عائِقٌ، ولا وقَف به مُرادٌ، حتَّى جاوزَ السَّمواتِ السَّبعَ، حتَّى عاتَبَ موسى رَبَّه فيه، وقال: يَقولُ بَنو إسرائيلَ: إنِّي كَريمُ الخَلقِ على اللهِ، وهذا قد جاوزَني وخَلَفني عُلوًّا، فلو أنَّه وَحدَه؟ ولكِنْ مَعَه كُلُّ أُمَّتِه! وفي رِوايةِ البُخاريِّ: «فلمَّا جاوزتُه بَكى. قيل: ما يُبكيك؟ قال: أبكي أنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعدي يَدخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِه أكثَرُ مِمَّن يَدخُلُها مِن أُمَّتي» [340] أخرجها البخاري (3887)، ومسلم (164) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ مالِكِ بنِ صَعصَعةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ رِوايةِ البخاريِّ ((فلمَّا تَجاوَزتُ بَكى ...)). . ثُمَّ جاوزَه عُلوًّا فلم تَعُقْه إرادةٌ، ولم تَقِفْ به دونَ كَمالِ العُبوديَّةِ همَّةٌ.
ولهذا كان مَركوبُه في مَسراه يَسبِقُ خَطْوُه الطَّرْفَ، فيَضَعُ قدَمَه عِندَ مُنتَهى طَرْفِه [341] أخرجه مسلم (162) من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((أُتِيتُ بالبُراقِ -وهو دابَّةٌ أبيَضُ طَويلٌ فوقَ الحِمارِ ودونَ البَغلِ، يَضَعُ حافِرَه عِندَ مُنتَهى طَرْفِه- قال: فرَكِبتُه حتَّى أتَيتُ بَيتَ المَقدِسِ)). وأخرجه البخاري (3887)، ومسلم (164) من حديثِ مالِكِ بنِ صَعصَعةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((... ثُمَّ أوتيتُ بدابَّةٍ دونَ البَغلِ وفَوقَ الحِمارِ أبيَضَ -فقال له الجارودُ: هو البُراقُ يا أبا حَمزةَ؟ قال أَنَسٌ: نَعَم- يَضَعُ خَطْوَه عِندَ أقصى طَرْفِه، فحُمِلتُ عليه ...)). ، مُشاكِلًا لحالِ راكِبِه، وبُعْدِ شَأْوِه، الذي سَبَقَ العالمَ أجمَعَ في سَيرِه، فكان قدَمُ البُراقِ لا يَختَلفُ عن مَوضِعِ نَظَرِه، كما كان قدَمُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَتَأخَّرُ عن مَحَلِّ مَعرِفتِه.
فلم يَزَلْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في خِفارةِ كَمالِ أدَبِه مَعَ اللهِ سُبحانَه، وتَكميلِ مَراتِبِ عُبوديَّتِه له، حتَّى خَرَق حُجُبَ السَّمواتِ، وجاوزَ السَّبعَ الطِّباقَ، وجاوزَ سِدرةَ المُنتَهى، ووصَل إلى مَحَلٍّ مِنَ القُربِ سَبَقَ به الأوَّلينَ والآخِرينَ؛ فانصَبَّت إليه هناكَ أقسامُ القُربِ انصِبابًا، وانقَشَعَت عنه سَحائِبُ الحُجُبِ ظاهرًا وباطِنًا حِجابًا حِجابًا، وأُقيمُ مَقامًا غَبَطَه به الأنبياءُ والمُرسَلونَ، فإذا كان في المَعادِ أُقيمَ مَقامًا مِنَ القُربِ ثانيًا يَغبِطُه به الأوَّلونَ والآخِرونَ، واستَقامَ هناكَ على صِراطٍ مُستَقيمٍ مِن كَمالِ أدَبِه مَعَ اللهِ، ما زاغَ البَصَرُ عنه وما طَغى، فأقامَه في هذا العالَمِ على أقوَمِ صِراطٍ مِنَ الحَقِّ والهُدى، وأقسَمَ بكَلامِه على ذلك في الذِّكرِ الحَكيمِ، فقال تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 1 - 4] ، فإذا كان يَومُ المَعادِ أقامَه على الصِّراطِ يَسألُه السَّلامةَ لأتباعِه وأهلِ سُنَّتِه، حتَّى يَجوزوه إلى جَنَّاتِ النَّعيمِ، وذلك فَضلُ اللهِ يُؤتيه مَن يَشاءُ، واللهُ ذو الفَضلِ العَظيمِ) [342] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (2/ 358-363). .
بَيانُ جُملةٍ مِنَ الآدابِ مَعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (الأدَبُ هو الدِّينُ كُلُّه؛ فإنَّ سَترَ العَورةِ مِنَ الأدَبِ، والوُضوءُ وغُسلُ الجَنابةِ مِنَ الأدَبِ، والتَّطَهُّرُ مِنَ الخُبثِ مِنَ الأدَبِ، حتَّى يَقِفَ بَينَ يَدَيِ اللهِ طاهرًا؛ ولهذا كانوا يَستَحِبُّونَ أن يَتَجَمَّلَ الرَّجُلُ في صَلاتِه للوُقوفِ بَينَ يَدَي رَبِّه.
وسَمِعتُ شَيخَ الإسلامِ ابنَ تَيميَّةَ رَحِمَه اللهُ يَقولُ: أمَرَ اللهُ بقَدرٍ زائِدٍ على سَترِ العَورةِ في الصَّلاةِ، وهو أخذُ الزِّينةِ، فقال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] ، فعَلَّقَ الأمرَ بأخذِ الزِّينةِ، لا بسَترِ العَورةِ؛ إيذانًا بأنَّ العَبدَ يَنبَغي له أن يَلبَسَ أزيَنَ ثيابِه وأجمَلَها في الصَّلاةِ.
وكان لبَعضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بمَبلغٍ عَظيمٍ مِنَ المالِ، وكان يَلبَسُها وَقتَ الصَّلاةِ، ويَقولُ: رَبِّي أحَقُّ مَن تَجَمَّلتُ له في صَلاتي.
ومَعلومٌ أنَّ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى يُحِبُّ أن يَرى أثَرَ نِعمتِه على عَبدِه [343] لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أن يَرى أثَرَ نِعمتِه على عَبدِه)). أخرجه الترمذي (2819) واللَّفظُ له، وأحمد (6708). حَسَّنه الترمذي، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (32)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (1887)، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6708) ، لا سيَّما إذا وقَف بَينَ يَدَيه، فأحسَنُ ما وقَف بَينَ يَدَيه بمَلابِسِه ونِعمتِه التي ألبَسَه إيَّاها ظاهِرًا وباطِنًا.
ومِنَ الأدَبِ: نَهيُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُصَلِّيَ أن يَرفَعَ بَصَرَه إلى السَّماءِ [344] لفظُه: أنَّ أنَسَ بنَ مالِكٍ حَدَّثَهم، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما بالُ أقوامٍ يَرفعونَ أبصارَهم إلى السَّماءِ في صَلاتِهم؟! فاشتَدَّ قَولُه في ذلك حتَّى قال: ليَنتَهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفَنَّ أبصارُهم)). أخرجه البخاري (750). وعن جابِرِ بنِ سَمُرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليَنتَهيَنَّ أقوامٌ يَرفعونَ أبصارَهم إلى السَّماءِ في الصَّلاةِ أو لا تَرجِعُ إليهم)). أخرجه مسلم (428). .
فسَمِعتُ شَيخَ الإسلامِ ابنَ تَيميَّةَ -قدَّسَ اللهُ رُوحَه- يَقولُ: هذا مِن كَمالِ أدَبِ الصَّلاةِ: أن يَقِفَ العَبدُ بَينَ يَدَيْ رَبِّه مُطرِقًا، خافِضًا طَرْفَه إلى الأرضِ، ولا يَرفَعَ بَصَرَه إلى فوقٍ.
قال: والجَهميَّةُ لمَّا لم يَفقَهوا هذا الأدَبَ ولا عَرَفوه ظَنُّوا أنَّ هذا دَليلٌ أنَّ اللَّهَ ليسَ فوقَ سَمَواتِه على عَرشِه، كَما أخبَرَ به عن نَفسِه، واتَّفقَت عليه رُسُلُه وجَميعُ أهلِ السُّنَّةِ.
قال: وهذا مِن جَهلِهم، بَل هذا دَليلٌ لمَن عَقَل عنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على نَقيضِ قَولِهم؛ إذ مِنَ الأدَبِ مَعَ المُلوكِ أنَّ الواقِفَ بَينَ أيديهم يُطرِقُ إلى الأرضِ ولا يَرفعُ بَصَرَه إليهم، فما الظَّنُّ بمَلِكِ المُلوكِ سُبحانَه؟!
وسَمِعتُه يَقولُ في نَهيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قِراءةِ القُرآنِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ [345] لفظُه: عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ، يَقولُ: نَهاني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قِراءةِ القُرآنِ وأنا راكِعٌ أو ساجِدٌ. أخرجه مسلم (480). : إنَّ القُرآنَ هو أشرَفُ الكَلامِ، وهو كَلامُ اللَّهِ، وحالتا الرُّكوعِ والسُّجودِ حالتا ذُلٍّ وانخِفاضٍ مِنَ العَبدِ، فمِنَ الأدَبِ مَعَ كَلامِ اللَّهِ أن لا يُقرَأَ في هاتَينِ الحالتَينِ، ويَكونُ حالُ القيامِ والانتِصابِ أَولى به.
ومِنَ الأدَبِ مَعَ اللهِ: ألَّا يَستَقبِلَ بَيتَه ولا يَستَدبِرَه عِندَ قَضاءِ الحاجةِ، كَما ثَبَتَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِ أبي أيُّوبَ [346] لفظُه: عن أبي أيُّوبَ، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (إذا أتَيتُمُ الغائِطَ فلا تَستَقبِلوا القِبلةَ ولا تَستَدبِروها ببَولٍ ولا غائِطٍ، ولكِنْ شَرِّقوا أو غَرِّبوا. قال أبو أيُّوبَ: فقَدِمنا الشَّامَ فوَجَدنا مَراحيضَ قد بُنيَت قِبَلَ القِبلةِ، فنَنحَرِفُ عنها ونَستَغفِرُ اللَّهَ؟ قال: نَعَم). أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264) واللَّفظُ له. ، وسَلمانَ [347] لفظُه: عن سَلمانَ، قال: قيل له: قد علَّمَكُم نَبيُّكُم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّ شَيءٍ حتَّى الخِراءةَ! قال: فقال: أجَلْ، لقد نَهانا أن نَستَقبِلَ القِبلةَ لغائِطٍ أو بَولٍ. أخرجه مسلم (262). ، وأبي هرَيرةَ [348] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا جَلسَ أحَدُكُم على حاجَتِه فلا يَستَقبِلِ القِبلةَ ولا يَستَدبِرْها)). أخرجه مسلم (265). ، وغَيرِهم رَضِيَ اللهُ عنهم...
ومِنَ الأدَبِ مَعَ اللهِ في الوُقوفِ بَينَ يَدَيه في الصَّلاةِ: وَضعُ اليُمنى على اليُسرى حالَ قيامِ القِراءةِ؛ ففي "الموطَّأِ" لمالِكٍ عن سَهلِ بنِ سَعدٍ: أنَّه مِنَ السُّنَّةِ [349] لم نَقِفْ على هذا اللَّفظِ "بالموطَّأ" ولكِنْ أخرجه مالك (1/159) عن سَهلِ بنِ سَعدٍ، أنَّه قال: (كان النَّاسُ يُؤمَرونَ أن يَضَعَ الرَّجُلُ اليَدَ اليُمنى على ذِراعِه اليُسرى في الصَّلاةِ). ومِن طَريقِ مالكٍ أخرجه البخاري (740). ، وكان النَّاسُ يُؤمَرونَ به، ولا رَيبَ أنَّه مِن أدَبِ الوُقوفِ بَينَ يَدَيِ المُلوكِ والعُظَماءِ، فعَظيمُ العُظَماءِ أحَقُّ به [350] عن أحمَدَ بنِ يَحيى بنِ حَيَّانَ الرَّقيِّ، قال: (سُئِل أبو عَبدِ اللَّهِ أحمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنبَلٍ وأنا حاضِرٌ: ما مَعنى وَضعِ اليَمينِ على الشِّمالِ في الصَّلاةِ؟ فقال: ذُلٌّ بَينَ يَدَي عِزٍّ). ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/ 84). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/ 224). .
ومِنها: السُّكونُ في الصَّلاةِ، وهو الدَّوامُ الذي قال اللهُ تعالى فيه: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج: 23] . قال عَبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ عن ابنِ لَهيعةَ: حَدَّثَني يَزيدُ بنُ أبي حَبيبٍ: أنَّ أبا الخَيرِ أخبَرَه قال: سَألنا عُقبةَ بنَ عامِرٍ عن قَولِه تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج: 23] ، أهُمُ الذينَ يُصَلُّونَ دائِمًا؟ قال: لا، ولكِنَّه إذا صَلَّى لم يَلتَفِتْ عن يَمينِه ولا عن شِمالِه ولا خَلفَه [351] أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (1189) واللفظ له، والطحاوي في ((أحكام القرآن)) (461). وأخرجه مِن طَريقٍ آخَرَ مُحَمَّدُ بنُ نَصرٍ المَرْوَزيُّ في ((تعظيم قدر الصلاة)) (67)، والطبري في ((التفسير)) (23/612). ذَكَر الشَّوكانيُّ في ((فتح القدير)) أنَّ له طَريقًا أُخرى نَحوَه. .
قُلتُ: هما أمرانِ: الدَّوامُ عليها، والمُداومةُ عليها؛ فهذا الدَّوامُ. والمُداومةُ في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج: 34] ، وفُسِّرَ الدَّوامُ بسُكونِ الأطرافِ والطُّمَأنينةِ.
وأدَبُه في استِماعِ القِراءةِ: أن يُلقيَ السَّمعَ وهو شَهيدٌ.
وأدَبُه في الرُّكوعِ: أن يَستَويَ ويُعَظِّمَ اللَّهَ تعالى، حتَّى لا يَكونَ في قَلبِه شَيءٌ أعظَمُ مِنه، ويَتَضاءَلَ ويَتَصاغَرَ في نَفسِه حتَّى يَكونَ أقَلَّ مِنَ الهَباءِ.
والمَقصودُ: أنَّ الأدَبَ مَعَ اللهِ تَبارَكَ وتعالى هو القيامُ بدينِه، والتَّأدُّبُ بآدابِه ظاهِرًا وباطِنًا) [352] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (2/ 363-365). .

انظر أيضا: