الفَرعُ الأوَّلُ: الأدِلَّةُ من القُرآنِ على كُفرِ سابِّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
1- قال اللهُ تعالى:
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التَّوبة: 61-63] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: لهؤلاء المنافِقين الذين يَعيبون رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويقولون: هو أُذُنٌ، وأمثالِهم من مُكَذِّبيه والقائلين فيه الهُجرَ والباطِلَ: عذابٌ من اللهِ مُوجِعٌ لهم في نارِ جَهنَّمَ)
[2299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/539). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ في كلامِه عن هذه الآياتِ: (فعُلِمَ أنَّ إيذاءَ رَسولِ اللهِ مُحادَّةٌ لله ولرَسولِه؛ لأنَّ ذِكرَ الإيذاءِ هو الذي اقتضى ذِكْرَ المحادَّةِ، فيَجِبُ أن يكونَ داخِلًا فيه، ولولا ذلك لم يكُنِ الكلامُ مُؤتَلِفًا إذا أمكن أن يُقالَ: إنَّه ليس بمُحادٍّ، ودَلَّ ذلك على أنَّ الإيذاءَ والمحادَّةَ كُفرٌ؛ لأنَّه أخبَرَ أنَّ له نارَ جَهنَّمَ خالدًا فيها، ولم يَقُلْ: «هي جزاؤه»، وبيْن الكلامينِ فَرقٌ، بل المحادَّةُ هي المعاداةُ والمُشاقَّةُ، وذلك كُفرٌ ومحاربةٌ، فهو أغلَظُ من مجَرَّدِ الكُفْرِ، فيكونُ المؤذي لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كافِرًا عَدُوًّا لله ورَسولِه، محارِبًا للهِ ورَسولِه؛ لأنَّ المحادَّةَ اشتِقاقُها من المبايَنة، بأن يصيرَ كُلُّ واحدٍ منهما في حَدٍّ، كما قيل: المشاقَّةُ: أن يصيرَ كُلٌّ منهما في شِقٍّ، والمعاداةُ: أن يصيرَ كُلٌّ منهما في عُدوةٍ)
[2300] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/58). .
وقال أيضًا: (الإيمانُ والنِّفاقُ أصلُه في القَلْبِ، وإنَّما الذي يَظهَرُ مِن القَولِ والفِعلِ فَرعٌ له ودليلٌ عليه، فإذا ظهر من الرَّجُلِ شَيءٌ من ذلك ترتَّب الحُكْمُ عليه، فلمَّا أخبَرَ سُبحانَه أنَّ الذين يَلمِزون النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والذين يُؤذونه: من المنافقين، ثبت أنَّ ذلك دليلٌ على النِّفاقِ وفَرعٌ له، ومعلومٌ أنَّه إذا حصل فرعُ الشَّيءِ ودليلُه حصل أصلُ المدلولِ عليه؛ فثبت أنَّه حيثُما وُجِد ذلك كان صاحِبُه مُنافِقًا، سواءٌ كان منافِقًا قبلَ هذا القَولِ أو حَدَث له النِّفاقُ بهذا القَولِ)
[2301] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/76). .
وقال أيضًا: (فإذا حصل في القَلْبِ استِخفافٌ واستهانةٌ، امتنع أن يكونَ فيه انقيادٌ واستسلامٌ، فلا يكونُ فيه إيمانٌ، وهذا هو بعينِه كُفرُ
إبليسَ؛ فإنَّه سمع أمْرَ اللهِ له، فلم يُكَذِّبْ رسولًا، ولكن لم يَنقَدْ للأمرِ، ولم يخضَعْ له، واستكبَرَ عن الطَّاعةِ؛ فصار كافِرًا)
[2302] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/967). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (قوله:
وَمِنْهُمْ هذا نوعٌ آخَرُ مِمَّا حكاه اللهُ من فضائِحِ المنافِقين وقبائِحِهم، وذلك أنَّهم كانوا يقولون للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على وَجهِ الطَّعنِ والذَّمِّ:
هُوَ أُذُنٌ، قال الجوهريُّ: يقال: رجُلٌ أذُنٌ: إذا كان يسمَعُ مَقالَ كُلِّ أحدٍ، يستوي فيه الواحِدُ والجَمعُ، ومرادُهم -أقمأهم اللهُ- أنَّهم إذا آذَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبسطوا فيه ألسِنَتَهم، وبلَغَه ذلك، اعتذروا له وقَبِلَ ذلك منهم؛ لأنَّه يسمَعُ كُلَّ ما يُقالُ له فيُصَدِّقُه، وإنَّما أطلقت العَرَبُ على من يسمَعُ ما يقال له فيُصَدِّقُه أنَّه أذنٌ؛ مبالغةً؛ لأنَّهم سَمَّوه بالجارحةِ التي هي آلةُ السَّماعِ، حتى كأنَّ جُملتَه أذُنٌ سامعةٌ،... وإيذاؤُهم له هو قَولُهم:
هُوَ أُذُنٌ؛ لأنَّهم نَسَبوه إلى أنَّه يُصَدِّقُ كُلَّ ما يقالُ له، ولا يُفَرِّقُ بين الصَّحيحِ والباطِلِ اغترارًا منهم بحِلْمِه عنهم، وصَفْحِه عن خباياهم؛ كَرَمًا وحِلمًا وتغاضيًا)
[2303] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/428). .
وقال
السَّعديُّ: (
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بالقَولِ أو الفِعلِ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدُّنيا والآخرةِ، ومن العذابِ الأليمِ أنَّه يتحَتَّمُ قَتْلُ مُؤذيه وشاتمِه)
[2304] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 342). .
وفي الحديثِ أنَّ امرأةً كانت تسُبُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن يكفيني عدُوِّي؟)) [2305] أخرجه عبد الرزاق (9705) واللَّفظُ له، وابن حزم في ((المحلى)) (11/413) من حديث رجل من بلقين. وصَحَّحه ابن حزم في المحلى، وصحَّح إسناده السبكي في ((طبقات الشافعية الكبرى)) (2/ 149). ، قال ابنُ تَيميَّةَ: (يكون كافِرًا حَلالَ الدَّمِ؛ لقَولِه تعالى:
إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين [المجادلة:20] ، ولو كان مؤمنًا معصومًا لم يكن أذلَّ؛ لقَولِه تعالى:
وَللهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنيْنَ [المنافقون:8] ، وقَولِه:
كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [المجادلة:5] ، والمؤمِنُ لا يُكبَتُ كما كُبِتَ مُكَذِّبو الرُّسُلِ قط، ولأنَّه قد قال تعالى:
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤمِنُونَ بِاللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ منَ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] ، فإذا كان من يُوَادُّ المحادَّ ليس بمؤمنٍ، فكيف بالمحادِّ نَفْسِه؟!)
[2306] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/59). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلَيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] .
قال
السَّعديُّ: (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اعمَلوا بمقتضى إيمانِكم؛ من ولايةِ من قام بالإيمانِ، ومُعاداةِ من عاداه؛ فإنَّه عَدُوٌّ لله، وعدُوٌّ للمُؤمِنينَ؛ فلا تتَّخِذوا عَدُوَّ اللهِ
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلَيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي: تسارِعون في مودَّتِهم وفي السَّعيِ بأسبابِها؛ فإنَّ المودَّةَ إذا حصلت تبِعَتْها النُّصرةُ والموالاةُ، فخرج العبدُ من الإيمانِ، وصار من جملةِ أهلِ الكُفْرانِ، وانفصل عن أهلِ الإيمانِ، وهذا المتَّخِذُ للكافِرِ وَلِيًّا عادِمُ المروءةِ أيضًا، فإنَّه كيف يوالي أعدى أعدائِه الذي لا يريدُ له إلَّا الشَّرَّ، ويخالِفُ رَبَّه ووَلِيَّه الذي يريدُ به الخيرَ، ويأمُرُه به، ويحُثُّه عليه؟!)
[2307] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 855). .
3- قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار * ذَلِكَ بأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فإنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الحشر: 3-4] .
قال
البَغَويُّ: (
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ الخُروجَ مِنَ الوَطَنِ،
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بالقَتْلِ والسَّبْيِ، كما فَعَل ببني قُرَيظةَ،
وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّار ذَلِكَ الذي لَحِقَهم
بأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فإنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ)
[2308] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/ 53). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (فجَعَل سَبَبَ استِحقاقِهم العذابَ في الدُّنيا ولِعَذابِ النَّارِ في الآخِرةِ هو مُشاقَّةَ اللهِ ورَسولِه، والمؤذي لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُشاقٌّ لله ورَسولِه كما تقدَّم، والعذابُ هنا هو الإهلاكُ بعذابٍ مِن عِندِه أو بأيدينا، وإلَّا فقد أصابهم ما دونَ ذلك من ذَهابِ الأموالِ وفِراقِ الأوطانِ)
[2309] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/ 61). .
4- قال اللهُ تعالى:
إِذْ يُوْحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ إلى قَولِه:
سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كَلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 11-13] .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (فجَعَل إلقاءَ الرُّعبِ في قُلوبِهم، والأَمرَ بقَتْلِهم؛ لأجْلِ مُشاقَّتِهم للهِ ورَسولِه، فكُلُّ من شاقَّ اللهَ ورَسولَه يستوجِبُ ذلك، والمؤذي للنَّبيِّ مُشَّاقٌ للهِ ورَسولِه كما تقَدَّم، فيَستحِقُّ ذلك)
[2310] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/61). .
5- قال اللهُ سُبحانَه:
يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُوْرَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا في قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزئُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون ولَئِن سَألْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخوُضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرتُمْ بَعْدَ إيْمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرميْنَ [التَّوبة: 64-66] .
قال
ابنُ جريرٍ: (
لَا تَعْتَذِرُوا بالباطِلِ، فتقولوا: كُنَّا نخوضُ ونَلعَبُ
قَدْ كَفَرْتُمْ يقولُ: قد جَحَدْتُم الحَقَّ بقَولِكم ما قُلتُم في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنين به
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يقولُ: بعد تصديقِكم به وإقرارِكم به، ... وأمَّا قَولُه:
إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ فإنَّ معناه: نُعَذِّب طائفةً منهم باكتسابِهم الجُرمِ، وهو الكُفْرُ باللهِ، وطَعْنُهم في رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[2311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 546). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (هذا نصٌّ في أنَّ الاستهزاءَ باللهِ وبآياتِه وبرَسولِه كُفرٌ، فالسَّبُّ المقصودُ بطَريقِ الأَوْلى، وقد دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ كُلَّ مَنْ تنقَّصَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جادًّا أو هازِلًا، فقد كَفَر)
[2312] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/70). .
وقال
السَّعديُّ: (في هذه الآياتِ دليلٌ على أنَّ من أسَرَّ سريرةً، خُصوصًا السَّريرةَ التي يمكُرُ فيها بدينِه ويستهزِئُ به وبآياتِه ورَسولِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى يُظهِرُها ويَفضَحُ صاحِبَها ويعاقِبُه أشَدَّ العُقوبةِ، وأنَّ من استهزأ بشَيءٍ من كِتابِ اللهِ أو سُنَّةِ رَسولِه الثَّابتةِ عنه، أو سَخِرَ بذلك أو تنقَّصه، أو استهزأ بالرَّسولِ أو تنقَّصَه؛ فإنَّه كافِرٌ باللهِ العظيمِ)
[2313] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 343). .
6- قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التَّوبة: 58] .
نزلَت هذه الآيةُ في ذي الخُويصِرة التَّميميِّ حينما جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو يُقَسِّمُ غنائِمَ حُنَينٍ، فقال: اعدِلْ يا رَسولَ اللهِ، فقال:
((وَيلَك! ومن يَعدِلُ إذ لم أعدِلْ؟)) قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: دَعْني أضرِبْ عُنُقَه، قال:
((دَعْه؛ فإنَّ له أصحابًا يحقِرُ أحَدُكم صلاتَه مع صلاتِه، وصيامَه مع صيامِه، يَمرُقون من الدِّينِ كما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ!))،... قال أبو سعيدٍ: أشهَدُ سَمِعتُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشهَدُ أنَّ عَلِيًّا قَتَلَهم وأنا معه، جيءَ بالرَّجُلِ على النَّعتِ الذي نعَتَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فنَزَلت فيه:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [2314] أخرجه البخاري (6933) واللَّفظُ له، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. .
وأذى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم داخِلٌ في سَبِّه؛ لأنَّ السَّبَّ: هو الكلامُ الذي يُقصَدُ به الانتقاصُ والاستِخفافُ
[2315] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/1041). والعَيبُ، واللَّمزُ فيه انتِقاصٌ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (اللَّمزُ: العَيبُ والطَّعنُ، قال مجاهِدٌ: يتَّهِمُك ويُزْرِيك، وقال عطاء: يَغْتَابُك. وقال تعالى:
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ الآية
[التَّوبة: 61] ، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ من لَمَزه أو آذاه كان منهم؛ لأنَّ
الَّذِينَ و
مَنْ اسمانِ موصولان، وهما من صِيَغِ العُمومِ، والآيةُ وإن كانت نزلت بسَبَبِ لَمْزِ قَوْمٍ وأذى آخَرينَ، فحُكْمُها عامٌّ كسائِرِ الآياتِ اللَّواتي نزَلْنَ على أسبابٍ، وليس بين النَّاسِ خلافٌ نَعلَمُه أنَّها تعمُّ الشَّخصَ الذي نزَلَت بسَبَبِه، ومَن كان حالُه كحالِه، ولكِنْ إذا كان اللَّفظُ أعمَّ من ذلك السَّبَبِ فقد قيل: إنَّه يُقْتَصَرُ على سَبَبِه، والذي عليه جماهيرُ النَّاسِ أنَّه يجِبُ الأخْذُ بعُمومِ القَولِ، ما لم يَقُمْ دليلٌ يوجِبُ القَصرَ على السَّبَبِ كما هو مُقَرَّرٌ في موضِعِه.
وأيضًا، فإن كَوْنَه منهم حُكمٌ مُعَلَّقٌ بلَفظٍ مُشتَقٍّ مِنَ اللَّمزِ والأذى، وهو مناسِبٌ لكَونِه منهم؛ فيكونُ ما منه الاشتقاقُ هو علَّةً لذلك الحُكمِ، فيَجِبُ اطِّرَادُه،... وإذا ثبَت أنَّ كُلَّ مَن لمز النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو آذاه منهم، فالضَّميرُ عائِدٌ على المنافِقين والكافِرين؛ لأنَّه سُبحانَه لَمَّا قال:
انِفرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بأمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمون [التَّوبة: 41] قال:
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكْن بَعُدَتْ عَليْهمُ الشُقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ باللهِ [التَّوبة: 42] وهذا الضَّميرُ عائدٌ إلى معلومٍ غيرِ مَذكورٍ، وهم الذين حَلَفوا:
لَوِ اسْتَطَعْنَا لخَرَجْنَا مَعَكُمْ [التَّوبة: 42] ، وهؤلاء هم المنافقون بلا ريبٍ ولا خِلافٍ، ثم أعاد الضَّميرَ إليهم إلى قَولِه:
قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَو كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكم إنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقينَ ومَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُم إلَّا أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ وَبِرَسُولهِ [التَّوبة: 53] ؛ فثبت أنَّ هؤلاء الذين أضمروا كفَروا باللهِ ورَسولِه، وقد جعل منهم مَن يلمِزُ، و(منهم) من يؤذي. وكذلك قَولُه:
وَمَا هُمْ مِنْكُمْ [التَّوبة: 56] إخراجٌ لهم عن الإيمانِ)
[2316] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/75، 79). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (قَولُه:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ،... يقال: لَمَزه يَلمِزُه: إذا عابه، قال الجوهريُّ: اللَّمزُ العَيبُ، وأصلُه الإشارةُ بالعَينِ ونَحوِها،... ومعنى الآية: ومِن المنافقين من يَعيبُك في الصَّدَقاتِ، أي: في تفريقِها وقِسْمَتِها)
[2317] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 423). .
7- قال اللهُ سُبحانَه:
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58] .
عن
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (نزلت في الذين طَعَنوا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[2318] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (10/3152)، ((تفسير ابن جرير)) (19/179). .
قال
ابنُ جريرٍ: (قَولُه:
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فيِ الدُّنْيَا وَالْآِخَرِة يقولُ تعالى ذِكْرُه: أبعَدَهم اللهُ من رحمتِه في الدُّنيا والآخِرةِ، وأعَدَّ لهم في الآخرةِ عَذابًا يُهينُهم فيه بالخلودِ فيه)
[2319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/179). .
وقال
البَغَوي: (معنى الأذى هو مخالفةُ أمرِ اللهِ تعالى، وارتكابُ معاصيه، ذَكَره على ما يتعارفُه النَّاسُ بينهم، واللهُ عَزَّ وجَلَّ مُنَزَّهٌ عن أن يَلحَقَه أذًى من أحدٍ، وإيذاءُ الرَّسولِ. قال
ابنُ عبَّاسٍ: هو أنَّه شُجَّ في وَجْهِه، وكُسِرَت رَباعِيَتُه. وقيل: شاعِرٌ ساحِرٌ مُعلَّمٌ مَجنونٌ)
[2320] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 664). .
ودَلالةُ هذه الآيةِ على كُفرِ من سَبَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من وجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه قَرَن أذاه بأذاه، كما قَرَن طاعتَه بطاعتِه، فمن آذاه فقد آذى اللهَ تعالى، وقد جاء ذلك منصوصًا عنه، ومن آذى اللهَ فهو كافِرٌ حَلالُ الدَّمِ، يُبَيِّنُ ذلك أنَّ الله تعالى جعل مَحبَّةَ اللهِ ورسولِه، وإرضاءَ اللهِ ورسولِه، وطاعةَ اللهِ ورَسولِه: شيئًا واحدًا، فقال تعالى:
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبْنَاؤكُمْ وإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيْرَتُكمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إلَيكم مِنَ اللهِ وَرَسُولهِ [التَّوبة: 24] ، وقال:
وَأَطِيعُوا الله والرَّسُول في مواضِعَ متعدِّدةٍ، وقال تعالى:
وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ [التَّوبة: 62] ، فوحَّدَ الضميرَ، وقال أيضًا:
إنَّ الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ الله، وقال أيضًا:
يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُل الأنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1] .
وجعل شِقاقَ اللهِ ورَسولِه، ومحادَّةَ اللهِ ورَسولِه، وأذى اللهِ ورَسولِه، ومَعصيةَ اللهِ ورَسولِه: شيئًا واحدًا، فقال:
ذَلِكَ بأنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرسُولَهُ [الأنفال: 13] ، وقال:
إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسولَه، وقال تعالى:
ألَمْ يَعْلمُوا أنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسولَهُ [المجادلة: 5] ، وقال:
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسولَهُ [الجن: 23] ، فحَقُّ اللهِ وحَقُّ رَسولِه متلازمان، وفي هذا وغيرِه بيانٌ لتلازُمِ الحقَّينِ، وأنَّ جهةَ حُرمةِ اللهِ ورَسولِه جِهةٌ واحدةٌ؛ فمن آذى الرَّسولَ فقد آذى اللهَ، ومن أطاعه فقد أطاع اللهَ؛ لأنَّ الأُمَّةَ لا يَصِلون ما بينهم وبين رَبِّهم إلَّا بواسطةِ الرَّسولِ، ليس لأحدٍ منهم طريقٌ غيرُه ولا سَبَبٌ سِواه، وقد أقامه اللهُ مَقامَ نفسِهِ في أمْرِه ونَهْيِه وإخبارِه وبيانِه فلا يجوزُ أن يُفَرَّقَ بين اللهِ ورَسولِه في شيءٍ من هذه الأمورِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه فَرَّق بين أذى اللهِ ورَسولِه وبين أذى المؤمِنين والمؤمِناتِ، فجعل هذا قد احتمل بُهتانًا وإثمًا مُبينًا، وجعل على ذلك لَعْنَتَه في الدُّنيا والآخرةِ، وأعَدَّ له العذابَ المُهينَ، ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكونُ من كبائِرِ الإثمِ، وفيه الجَلْدُ، وليس فوق ذلك إلَّا الكُفْرُ والقَتلُ.
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّه ذَكَر أنَّه لعَنَهم في الدُّنيا والآخِرةِ، وأعَدَّ لهم عذابًا مُهينًا، واللَّعْنُ: الإبعادُ عن الرَّحمةِ، ومَن طَرَده عن رحمتِه في الدُّنيا والآخرةِ لا يكونُ إلَّا كافِرًا؛ فإنَّ المؤمِنَ يَقرُبُ إليها بعضَ الأوقاتِ، ولا يكونُ مباحَ الدَّمِ؛ لأنَّ حقْنَ الدَّمِ رحمةٌ عظيمةٌ من الله؛ فلا يَثبُتُ في حَقِّه.
ويؤيِّدُ ذلك قولُه:
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالذِينَ فِي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهمْ ثمَّ لا يُجَاورُونَكَ فِيْهَا إلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:60-61] ، فإنَّ أخْذَهم وتقتيلَهم -واللهُ أعلَمُ- بيانٌ لصفةِ لَعْنِهم، وذِكرٌ لحُكْمِه، فلا مَوضِعَ له في الإعرابِ، وليس بحالٍ ثانيةٍ؛ لأنَّهم إذا جاوَروه ملعونينَ ولم يَظْهَرْ أثَرُ لَعْنِهم في الدُّنيا، لم يكن في ذلك وعيدٌ لهم، بل تلك اللَّعنةُ ثابتةٌ قبل هذا الوعيدِ وبَعْدَه؛ فلا بُدَّ أن يكونَ هذا الأخْذُ والتقتيلُ من آثارِ اللَّعنةِ التي وُعِدُوها، فثبتت في حَقِّ مَن لعنه اللهُ في الدُّنيا والآخِرةِ.
ويؤيِّدُه حديثُ ثابتِ بنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لَعْنُ المؤمِنِ كَــقَتْلهِ)) [2321] أخرجه البخاري (6105)، ومسلم (110) مطولًا. ، فإذا كان اللهُ لَعَن هذا في الدُّنيا والآخرةِ، فهو كقَتْلِه، فعُلِمَ أنَّ قَتْلَه مُبَاحٌ.
ويؤَيِّدُه أيضًا قَولُه تعالى:
أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيقُولُونَ للَّذَينَ كفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [النساء:51-52] ، ولو كان معصومَ الدَّمِ يجِبُ على المُسلِمين نَصْرُه، لكان له وَلَا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه نصيرٌ
[2322] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (2/85). .
8- قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَمَا كَانَ لَكُمْ أنْ تُؤذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا [الأحزاب:53] .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (فحَرُمَ على الأُمَّةِ أن تنكِحَ أزواجَه مِن بَعْدِه؛ لأنَّ ذلك يُؤذيه، وجعَلَه عظيمًا عند الله تعظيمًا لحُرمتِه، وقد ذُكِرَ أنَّ هذه الآيةَ نزلت لَمَّا قال بَعْضُ النَّاسِ: لو قد توفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزَوَّجْتُ
عائشةَ، ثمَّ إنَّ من نكح أزواجَه أو سرارِيَّه، فإنَّ عُقوبتَه القَتلُ؛ جزاءً له بما انتهك من حُرمتِه، فالشَّاتِمُ له أَولى)
[2323] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/120). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (
وَمَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤذُوا رَسُولَ اللهِ أي: ما صَحَّ لكم ولا استقام أن تؤذوه بشَيءٍ من الأشياءِ، كائنًا ما كان، ومن جملةِ ذلك دخولُ بيوتِه بغيرِ إذنٍ منه، واللُّبثُ فيها على غيرِ الوَجهِ الذي يريدُه، وتكليمُ نسائِه من دونِ حِجابٍ،
وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أي: ولا كان لكم ذلك بعد وفاتِه؛ لأنَّهنَّ أمَّهاتُ المؤمنين، ولا يحِلُّ للأولادِ نِكاحُ الأُمَّهاتِ، والإشارةُ بقَولِه:
إِنَّ ذَلِكُمْ إلى نكاحِ أزواجِه من بَعْدِه،
كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا أي: ذنبًا عظيمًا، وخَطْبًا هائلًا شديدًا)
[2324] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/ 343). .