الفَرعُ الأوَّلُ: تَعريفُ الحُكمِ الشَّرعيِّ عِندَ الأُصوليِّينَ
الحُكمُ الشَّرعيُّ في اصطِلاحِ الأُصوليِّينَ هو: (خِطابُ اللهِ تعالى المُتَعَلِّقُ بأفعالِ المُكَلَّفينَ بالاقتِضاءِ، أوِ التَّخييرِ، أوِ الوَضعِ)
[11] يُنظر: ((مختصر ابن الحاجب)) بشرحه ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (1/ 483)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 250- 254)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 325)، ((مطالع الدقائق)) للإسنوي (1/ 164)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/ 354)، ((قواعد أصول الفقه)) لابن المبرد (ص: 129)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/ 22)، ((القواعد)) للحصني (1/ 189)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 100). . وهو التَّعريفُ المُختارُ.
وقيلَ: هو: (خِطابُ الشَّارِعِ المُفيدُ فائِدةً شَرعيَّةً)
[12] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/ 96)، ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (1/ 40). ويُنظر أيضًا: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 325). وخِطابُ الشَّارعِ احترازٌ من خطابِ غَيرِه، وقُيِّد بفائدةٍ شَرعيَّةٍ احترازًا من خطابِه بفائدةٍ عَقليَّةٍ. يُنظر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (2/ 11). .
وقيلَ: هو: (خِطابُ اللهِ تعالى المُتَعَلِّقُ بفِعلِ المُكَلَّف مِن حيثُ إنَّه مُكَلَّف)
[13] يُنظر: ((جمع الجوامع)) لابن السبكي بشرحه ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/ 136)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 287). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبيانُ مُحتَرَزاتِه:- جُملةُ "خِطابُ اللهِ تعالى": الخِطابُ في اللُّغةِ: تَوجيهُ الكلامِ نَحوَ الغيرِ لإفهامِه
[14] يُنظر: ((شرح العضد)) (2/ 109)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 24). ، وبإضافةِ الخِطاب إلى اللهِ، خَرَجَ خِطابُ غيرِه مِنَ الإنسِ والجِنِّ والمَلائِكةِ؛ فإنَّ خِطاباتِهم لا تُسَمَّى حُكمًا؛ لأنَّه لا حُكمَ شَرعيًّا إلَّا للهِ وحدَه جَلَّ وعَلا، فكُلُّ تَشريعٍ مِن غيرِه باطِلٌ. والرَّسولُ إنَّما وجَبَت طاعَتُه بإيجابِ اللهِ إيَّاها، وهو إنَّما يَحكُمُ بحُكمِ اللهِ تعالى، قال تعالى:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] ، والمُرادُ بخِطابِ اللهِ تعالى: كلامُه ذو اللَّفظِ والمَعنى. وخِطابُ اللهِ يَشمَلُ ما أوحاه إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سَواءٌ أكان قُرآنًا أم سُنَّةً، ويَشمَلُ أيضًا سائِرَ الأدِلَّةِ الأُخرى، كالإجماعِ والقياسِ؛ فهي تَعودُ عِندَ التَّحقيقِ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، وما هو عائِدٌ إليهما أو إلى أحَدِهما فهو بمَنزِلَتِهما، وأيضًا فهذه الأدِلَّةُ أماراتٌ معرّفةٌ لحُكمِ اللهِ، ووسائِلُ كاشِفةٌ عنه، وموصِلةٌ إلى خِطابِ اللهِ تعالى
[15] يُنظر: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 29)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 101)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 6)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 126)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 286)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 288)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 24). .
- جُملةُ "بأفعالِ المُكَلَّفين": خِطابُ اللهِ لَه ارتِباطٌ بأفعالِ
[16] أفعالٌ: جَمعُ فِعلٍ، والمُرادُ به هنا: كُلُّ ما صَدَرَ عنِ المُكلَّفِ، وتَتَعَلَّقُ به قُدرَتُه مِن قَولٍ أو فِعلٍ أوِ اعتِقادٍ أو نيَّةٍ، فتَشمَلُ الأعمالَ القَلبيَّةَ وأعمالَ الجَوارِحِ. يُنظر: ((إتحاف ذوي البصائر)) لعبدالكريم النملة (1/329)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 25). المُكَلَّفين
[17] المُكلَّفينَ: جَمعُ مُكَلَّفٍ، وهو: البالغُ العاقِلُ، غيرُ المُلجَأِ، الذي يَفهَمُ الخِطابَ، ولَم يَحُلْ دونَ تَكليفِه أيُّ حائِلٍ، وقد أجمَعت الأُمَّةُ على أنَّ شَرطَ التَّكليفِ العَقلُ والبُلوغُ، وإذا انتَفى التَّكليفُ عنهم؛ لفقدِ شَرطِه، انتَفى الحُكمُ الشَّرعيُّ عن أفعالِهم. يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/ 138)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 127). مِن جِهةِ كونِها مَطلوبةً أو غيرَ مَطلوبةٍ، ومِن جِهةِ صِحَّتِها وفسادِها وما يَتبَعُ ذلك
[18] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 25). .
وجملةُ "بأفعالِ المُكَلَّفين"
[19] عَبَّرَ بَعضُهم بأفعالِ العِبادِ؛ ليَشمَلَ الضَّمانَ المُتَعَلِّقَ بفِعلِ الصَّبيِّ والمَجنونِ. ومَنِ اعتَبرَ التَّكليفَ رَدَّ ذلك الحُكمَ إلى الوَليِّ، وتَكليفِه بأداءِ قَدرِ الواجِبِ. وكذا القَولُ في إتلافِ البَهيمةِ ونَحوِه؛ فإنَّه حُكمٌ شَرعيٌّ، وليس مُتَعَلِّقًا بفِعلِ المُكلَّفِ، والحاصِلُ رَدُّه إلى التَّعَلُّقِ بفِعلِ المُكلَّفِ، إلَّا أنَّ التَّعَلُّقَ تارةً يَكونُ بواسِطةٍ، وتارةً يَكونُ بغيرِ واسِطةٍ. يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/ 138). أخرَجَتِ الخِطاباتِ الوارِدةَ مِنَ اللهِ التي لا تَتَعَلَّقُ بأفعالِهم، وهي:
1- الخِطابُ المُتَعَلِّقُ بذاتِه سُبحانَه، كقَولِه تعالى:
شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18] .
2- الخِطابُ المُتَعَلِّقُ بصِفتِه سُبحانَه، كقَولِه:
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] .
3- الخِطابُ المُتَعَلِّقُ بفِعلِه سُبحانَه، كقَولِه:
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16] .
4- الخِطابُ المُتَعَلِّقُ بالجَماداتِ، كقَولِه:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرى الْأَرْضَ بَارِزَةً [الكهف: 47] .
5- الخِطابُ المُتَعَلِّقُ بالحيَواناتِ، كقَولِه:
يَا جِبَالٌ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] .
6- الخِطابُ المُتَعَلِّقُ بذاتِ المُكلَّفينَ، كقَولِه:
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ الآية
[الأعراف: 11] . فهذه خِطاباتٌ إلَهيَّةٌ، ولَكِنَّها لا تَتَعَلَّقُ بفِعلِ المُكلَّفِ
[20] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 252)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 326)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/ 137)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 6). .
وعَبَّرَ بَعضُ الأُصوليِّينَ بقَولِه: "بفِعلِ المُكلَّفِ"
[21] في ((شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي)) (2/ 109): (ولو قال: "بفِعلِ المُكَلَّفِ" لكان أحسنَ؛ ليتناوَلَ ما لا يَعُمُّ من أحكامِه، كخواصِّ النَّبيِّ). ويُنظر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (2/ 6)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/ 91). ، بَدَلَ: "بأفعالِ المُكلَّفينَ"؛ وذلك ليَشمَلَ الأحكامَ المُتَعَلِّقةَ بفِعلِ مُكلَّفٍ واحِدٍ خاصَّةً به، مِثلُ الأحكامِ الخاصَّةِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كتَزويجِه بأكثَرَ مِن أربَعٍ، ومِثلُ الحُكمِ الخاصِّ بخُزَيمةَ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه؛ حيثُ بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ شَهادَتَه تَكفي عن شَهادةِ رَجُلينِ
[22] لفظُه: عن عُمارةَ بنِ خُزَيمةَ أنَّ عَمَّه حدَّثه، وهو من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أنَّه ابتاع فَرسًا مِن أعرابيٍّ، فاستَتبَعه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليقضِيَ ثَمنَ فَرسِه، فأسرَع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَشيَ، وأبطَأ الأعرابيُّ، فطفِق رجالٌ يعتَرِضونَ الأعرابيَّ يُساومونَه بالفَرسِ، لا يشعُرونَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابتاعَه، فنادى الأعرابيُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إن كنْتَ مُبتاعًا هذا الفَرسَ فابتَعْه، وإلَّا بِعْتُه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ سمِع نِداءَ الأعرابيِّ: أوَليس قد ابتَعْتُه؟ قال الأعرابيُّ: لا واللهِ ما بِعْتُك، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بلى قد ابتَعْتُه، فطفِق الأعرابيُّ يقولُ: هلُمَّ شهيدًا، فقال خُزَيمةُ: أنا أشهَدُ أنَّك قد ابتَعْتَه، فأقبَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على خُزَيمةَ: بِمَ تشهَدُ؟ قال: بتَصديقِك يا رسولَ اللهِ، فجعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شهادةَ خُزَيمةَ بشهادةِ رجُلَينِ). أخرجه أبو داود (3607) واللفظ له، والنسائي (4647)، وأحمد (21883). صحَّحه محمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (5/78)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/462)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/18)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3607)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1512). ، ومِثلُ الحُكمِ الخاصِّ بأبي بُردةَ رَضِيَ اللهُ عنه
[23] لَفظُه: عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((خطَبنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ النَّحرِ بَعدَ الصَّلاةِ، فقال: مَن صلَّى صلاتَنا ونسَك نُسُكَنا فقد أصاب النُّسُكَ، ومَن نسَك قَبلَ الصَّلاةِ فتلك شاةُ لحمٍ، فقام أبو بُردةَ بنُ نِيارٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ، واللهِ لقد نسَكْتُ قَبلَ أن أخرجَ إلى الصَّلاةِ، وعرفْتُ أنَّ اليومَ يومُ أكلٍ وشربٍ، فتعجَّلتُ فأكلتُ وأطعمتُ أهلي وجيراني، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تلك شاةُ لحمٍ، فقال: إنَّ عِندي عَناقًا جَذَعةً، وهي خَيرٌ مِن شاتَي لحمٍ، فهل تُجزِئُ عنِّي؟ قال نعَم، ولن تُجزِئَ عن أحدٍ بَعدَك)). أخرجه البخاري (955) واللفظ له، ومسلم (1961). ؛ حيثُ بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ العَناقَ -وهي الأُنثى مِن ولَدِ المَعزِ قَبلَ استِكمالِها الحَولَ- تُجزِئُ في الأُضحيَّةِ عنه، ولا تُجزِئُ عن غَيرِه
[24] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 127). .
- كَلِمةُ "بالاقتِضاءِ": الاقتِضاءُ هو: الطَّلَبُ، وهو احتِرازٌ مِنَ الخَبَرِ في مِثلِ قَولِ اللهِ سُبحانَه وتعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الكهف: 50] ، فهو كلامٌ مُتَعَلِّقٌ بأفعالِ المُكلَّفينَ، وليس حُكمًا بَل هو خَبَرٌ عن تَكليفٍ تَقَدَّم، ومِثلُه قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ [البَقَرة: 58] ، ونَحوُ ذلك؛ فإنَّه خِطابٌ للهِ مُتَعَلِّقٌ بأفعالِ المُكلَّفينَ، ولَكِنَّه ليس بحُكمٍ، لأنَّه ليس على جِهةِ الطَّلَبِ والاقتِضاءِ، بَل هو خَبَرٌ عن تَكليفٍ سابقٍ
[25] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 68)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 253)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 326). وذِكر الطُّوفيُّ أيضًا أنَّ قَولَه (بالاقتِضاءِ) احتِرازٌ عنِ الخَبَرِ عن تَكليفِ حاضِرٍ، ومَثَّلَ لَه بقَولِه تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ [النَّحل: 51] ، قال: (هو إخبارٌ حاليٌّ للمُخاطَبينَ بنَهيِه لَهم عنِ الشِّركِ). ((شرح مختصر الروضة)) (1/ 253). .
والطَّلَبُ قِسمانِ: طَلَبُ فِعلٍ، وطَلَبُ تَركٍ. وكُلُّ واحِدٍ مِنهما يَنقَسِمُ إلى قِسمينِ: جازِمٌ، وغيرُ جازِمٍ؛ فإن كان طَلَبُ الفِعلِ طَلَبًا جازِمًا فهو: الإيجابُ. وإن كان طَلَبُ الفِعلِ طَلَبًا غيرَ جازِمٍ فهو: النَّدبُ. وإن كان طَلَبُ التَّركِ طَلَبًا جازِمًا فهو: التَّحريمُ. وإن كان طَلَبُ التَّركِ طَلَبًا غيرَ جازِمٍ فهو: الكراهةُ
[26] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 17)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 25)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 128)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 26- 27). .
- "أو التَّخييرِ": التَّخييرُ مَعناه: استِواءُ الطَّرَفينِ، أي: لا يوجَدُ فيه طَلَبُ فِعلٍ، ولا طَلَبُ تَركٍ.
فعِبارةُ "بالاقتِضاءِ أوِ التَّخييرِ
[27] وقد أسقَطَ بَعضُهم هذه الزِّيادةَ [أوِ التَّخيير]؛ لأنَّ الإباحةَ ليست حُكمًا شَرعيًّا عِندَه، بَل هي حُكمٌ عَقليٌّ سابِقٌ للأحكامِ الشَّرعيَّةِ، ولكنَّ الإباحةَ حُكمٌ شَرعيٌّ، وقَد تُعرَفُ بخِطابِ التَّخييرِ، وقد تُعرَفُ بسُكوتِ الشَّارِعِ عنِ الأمرِ والنَّهيِ، أو بما سِوى ذلك. يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 20). " شَمِلَتِ الأحكامَ التَّكليفيَّةَ الخَمسةَ: الواجِبَ، والمَندوبَ، والحَرامَ، والكراهةَ، والمُباحَ. فبانَ أنَّه يُشتَرَطُ في خِطابِ اللهِ المُتَعَلِّقِ بالمُكلَّفِ أن يَكونَ مُتَضَمِّنًا لطَلَبِ فِعلٍ أو تَركٍ، أو فيه تَخييرٌ. أمَّا إذا لَم يوجَدْ فيه ذلك فليس بحُكمٍ شَرعيٍّ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]، وقَولِ اللهِ سُبحانَه:
وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم: 3] ؛ وذلك لأنَّه لَم يُفهَمْ مِنه طَلَبُ فِعلٍ، ولا طَلَبُ تَركٍ مِنَ المُكلَّفِ، ولَم يُفهَمْ مِنه أيضًا تَخييرٌ بينَ فِعلٍ وتَركٍ، فهو إعلامٌ وإخبارٌ فقَط
[28] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 129). .
- "أو الوَضعِ": لَفظةُ " أو" للتَّنويعِ والتَّقسيمِ، والوضعُ هو: الجَعلُ، والمُرادُ: أنَّ الحُكمَ الشَّرعيَّ يَنقَسِمُ إلى قِسمينِ: حُكمٌ تَكليفيٌّ، وحُكمٌ وَضعيٌّ، فأُتيَ بهذه الكَلِمةِ -وهي "أوِ الوضعِ"- لإدخالِ أقسامِ خِطابِ الوَضعِ، كالسَّبَبِ، والشَّرطِ، والمانِعِ، والصِّحَّةِ والفسادِ؛ وذلك لأنَّها أحكامٌ شَرعيَّةٌ لَم تَثبُتْ إلَّا عن طَريقِ الشَّرعِ، وليس فيها طَلَبٌ ولا تَخييرٌ
[29] يُنظر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (2/ 7)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 129). ، واللَّهُ تعالى لمَّا جَعَلَ الدُّلوكَ دَليلًا على وُجوبِ الصَّلاةِ، والزِّنا سَببًا لوُجوبِ الحَدِّ، والوُضوءَ شَرطًا لصِحَّةِ الصَّلاةِ؛ كان ذلك كُلُّه بوضعِ اللهِ تعالى، فيَدخُلُ جَميعُ ذلك في الحُكمِ الشَّرعيِّ
[30] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 327)، ((شرح العضد)) (2/ 109). .
فالحُكمُ الوَضعيُّ هو رَبطُ الشَّارِعِ بينَ أمرينِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بالمُكلَّفينَ، يُجعَلُ أحَدُهما سَبَبًا أو شَرطًا أو مانِعًا، ويَتَرَتَّبُ على السَّبَبيَّةِ أوِ الشَّرطيَّةِ أوِ المانِعيَّةِ كونُ الفِعلِ يَقَعُ صَحيحًا تَتَرَتَّبُ آثارُه أو لا يَقَعُ صَحيحًا فلا تَتَرَتَّبُ الآثارُ، فبتَحَقُّقِ السَّبَبِ والشَّرطِ وزَوالِ المانِعِ يَكونُ التَّصَرُّفُ صَحيحًا، وإلَّا فإنَّه يَكونُ غيرَ صَحيحٍ
[31] ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 27). .
وسُمِّيَتِ الثَّلاثةُ (السَّبَبُ والشَّرطُ والمانِعُ) أحكامًا وضعيَّةً؛ لأنَّ الشَّارِعَ وضَعَها عَلاماتٍ لأحكامٍ تَكليفيَّةٍ، وُجودًا وانتِفاءً
[32] ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/ 26). .
وبَعضُ الأُصوليِّينَ لَم يَذكُرْ (أوِ الوَضعِ) في تَعريفِ الحُكمِ الشَّرعيِّ
[33] يُنظر مثلًا: ((المحصول)) للرازي (1/ 92)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/ 22)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/ 156)، ((القواعد)) للحصني (1/ 190)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (1/ 219). وتُنظر تعليلاتُهم والرَّدُّ عليها في ((إتحاف ذوي البصائر)) لعبدالكريم النملة (1/335). ، لَكِنَّ الأَولى أن تُذكرَ عِبارةُ: "أوِ الوضعِ" في التَّعريفِ، وهو ما اختارَه جَمعٌ مِنَ المُحَقِّقينَ
[34] يُنظر: ((مختصر ابن الحاجب)) -بشرحه ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 325)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (1/ 55)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/ 254)، ((القواعد)) للحصني (1/ 190). ، فالحُكمُ التَّكليفيُّ والحُكمُ الوَضعيُّ مَفهومانِ مُتَغايِرانِ بينَهما فُروقٌ كثيرةٌ، ولُزومُ أحَدِهما للآخَرِ في بَعضِ الصُّورِ لا يَدُلُّ على أنَّهما نَوعٌ واحِدٌ
[35] يُنظر: ((إتحاف ذوي البصائر)) لعبدالكريم النملة (1/336). وسيأتي بيانُ الفَرقِ بَينَ الحُكمِ التَّكليفيِّ والحُكمِ الوَضعيِّ تفصيلًا. .