موسوعة التفسير

سُورةُ القَمَرِ
الآيات (47-55)

ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

غريب الكلمات:

مَسَّ: أي: إصابةَ وألَمَ، وأصلُ (مسس): يدُلُّ على جَسِّ الشَّيءِ باليَدِ [449] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/271)، ((المفردات)) للراغب (ص: 767). .
سَقَرَ: أي: جَهنَّمَ، وهي عَلَمٌ مُشتَقٌّ مِنَ السَّقْرِ: وهو التِهابُ النَّارِ، وأصلُ (سقر): يدُلُّ على إحراقٍ [450] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 498)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 414)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/216). .
بِقَدَرٍ: أي: بقَضاءٍ مَعلومٍ سابِقٍ في الأزَلِ، وبتَقديرٍ وحِكمةٍ، أو: بمِقدارٍ قدَّرْناه وقضَيْناه، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايتِه [451] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/160)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((تفسير ابن جزي)) (2/326)، ((تفسير الألوسي)) (14/93). .
كَلَمْحٍ: أي: كخَطْفةٍ، واللَّمحُ: النَّظرُ بسُرعةٍ، وأصلُ ذلك مِن لَمَحْتُ البَرقَ، أي: أبصرتُ لَمعانَه، وهو أسرَعُ الأشياءِ زَوالًا [452] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/110)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/209)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 197)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (4/40). .
أَشْيَاعَكُمْ: أي: أشباهَكم ونُظراءَكم في الكُفرِ مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ، وأصلُ (شيع): يدُلُّ على مُعاضَدةٍ [453] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/164)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/235)، ((المفردات)) للراغب (ص: 470)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 381). .
مُسْتَطَرٌ: أي: مَكتوبٌ مَسطورٌ، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على الاصطفافِ [454] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 434)، ((تفسير ابن جرير)) (22/166)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 450)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 399). .
وَنَهَرٍ: أي: أنهارٍ، وحَّدَ وأراد الجَمْعَ، والنَّهْرُ: مَجرى الماءِ؛ وسُمِّيَ نهْرًا لأنَّه يَنهَرُ الأرضَ، أي: يَشُقُّها، وأصلُه يدُلُّ على تفتُّحٍ شَيءٍ أو فَتْحِه [455] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/166)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/362)، ((المفردات)) للراغب (ص: 825). قال الكفوي: (كلُّ اسْمٍ على «فَعْلٍ» عَينُه حَرفُ حَلقٍ: يَجوزُ تَسكينُ عَينِه وفَتحُه؛ كشَهْرٍ، ونَهْرٍ، وشَعْرٍ، ونَحْرٍ، إلَّا «نَحْو»؛ فإنَّه لا يجوزُ فتْحُ عَينِه). ((الكليات)) (ص: 996). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
قَولُه تعالى: كُلَّ شَيْءٍ: كُلَّ: مَنصوبٌ على الاشتِغالِ [456] الاشتِغالُ: هو أن يتقَدَّمَ اسمٌ واحِدٌ، ويتأخَّرَ عنه عامِلٌ مُشتَغِلٌ عن العَمَلِ في ذلك الاسمِ بالعَمَلِ في ضَميرِه مُباشَرةً، أو في سَبَبِه -أي: كلِّ شَيءٍ له صِلةٌ وعَلاقةٌ به؛ مِن قَرابةٍ، أو صداقةٍ، أو عَمَلٍ-، بحيثُ لو فُرِّغ مِن ذلك المعمولِ وسُلِّطَ على الاسمِ المتقَدِّمِ، لعَمِلَ فيه النَّصبُ لَفظًا أو محَلًّا. وأركانُ الاشتِغالِ ثلاثةٌ؛ هي: أ- مَشغولٌ عنه: وهو الاسمُ المتقَدِّمُ. ب- مشغولٌ: وهو الفِعلُ المتأخِّرُ. ج- ومَشغولٌ به: وهو الضَّميرُ الَّذي تعدَّى إليه الفِعلُ بنَفْسِه أو بالوَساطةِ. يُنظر: ((أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك)) لابن هشام (2/139). ؛ مَفعولٌ به لفِعلٍ مَحذوفٍ تقديرُه «خلَقْنا» يُفَسِّرُه ما بَعْدَه، والفِعلُ المقدَّرُ مع مَفعولِه في محلِّ رَفعٍ خَبَرُ «إنَّ»، أي: إنَّا خَلَقْنا كُلَّ شَيءٍ بقَدَرٍ. خَلَقْنَاهُ جُملةٌ تَفسيريَّةٌ لا محَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. بِقَدَرٍ: جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بمَحذوفٍ حالٌ، أي: مُقَدَّرًا مُحكَمًا، أو مُلتَبِسًا بقَدَرٍ [457] يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/202)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/702)، ((إعراب القرآن)) للباقولي (3/907)، ((تفسير أبي حيان)) (8/181)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/146)، ((تفسير الألوسي)) (14/93). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا ما سينزِلُ بالمشركينَ مِن عذابٍ يومَ القيامةِ، ومفصِّلًا في ذلك: إنَّ المُشرِكينَ في ضَلالٍ وفي عَناءٍ وشَقاءٍ وعَذابٍ يومَ يُسحَبونَ في النَّارِ على وُجوهِهم، ويُقالُ لهم: ذُوقوا ألَمَ النَّارِ وعَذابَها.
ثمَّ يبيِّنُ تعالى مَظاهِرَ كمالِ قدرتِه وحِكمتِه، فيقولُ: إنَّا خَلَقْنا كُلَّ شَيءٍ بقَضاءٍ سابِقٍ مُحكَمٍ، وما أمْرُنا إذا أرَدْنا شَيئًا إلَّا كَلِمةٌ واحِدةٌ -كُنْ- فيُوجَدُ ما أرَدْناه كلَمْحِ البَصَرِ!
ثمَّ يبيِّنُ تعالى ما يدُلُّ على نفاذِ هذه القدرةِ وسرعتِها، فيقولُ: ولقد أهلَكْنا أشباهَكم وأمثالَكم في الكُفرِ -يا مَعشَرَ قُرَيشٍ- مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي كفَرَت باللهِ، وكَذَّبت رُسُلَها، فهل مِن مُتذَكِّرٍ مُعتَبِرٍ بإهلاكِ اللهِ للكُفَّارِ السَّابِقينَ؛ فيَحذَرَ أن يحُلَّ به ما حَلَّ بهم؟!
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى أنَّ أعمالَ الإنسانِ مسجلةٌ عليه، فيقولُ: وكُلُّ شَيءٍ فَعَلوه موجودٌ في صحائفِ أعمالِهم الَّتي تُحصِيها الملائِكةُ عليهم، وكُلُّ صَغيرٍ وكَبيرٍ مِنَ الأشياءِ مَكتوبٌ مَسطورٌ.
ثمَّ يختمُ الله تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ ببِشارةٍ عظيمةٍ للمتَّقينَ، فيقولُ: إنَّ المتَّقينَ في جَنَّاتٍ وأنهارٍ؛ في مَجلِسِ حَقٍّ ثابتٍ، كامِلٍ في نَعيمِه، عِندَ مَلِكٍ عَظيمٍ بالِغِ القُدرةِ سُبحانَه!

تفسير الآيات:

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47).
أي: إنَّ المُشرِكينَ في ضَلالٍ، وفي عَناءٍ وشَقاءٍ وعَذابٍ [458] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/159)، ((تفسير السمرقندي)) (3/376)، ((تفسير القرطبي)) (17/147)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 134)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/215، 216)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 291). قال ابن عطيَّة: (وأكثرُ المفسِّرينَ على أنَّ المجرمِينَ هنا يُرادُ بهم الكفَّارُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/221). قيل: المرادُ: أنَّ المُشرِكينَ في ضَلالٍ عن الهدى في الدُّنيا، وفي عذابِ السَّعيرِ والاحتِراقِ بالنَّارِ في الآخِرةِ. ومِمَّن قال بهذا المعنى: السمرقنديُّ، وابنُ عطية، والبيضاوي، وابن جُزَي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/376)، ((تفسير ابن عطية)) (5/221)، ((تفسير البيضاوي)) (5/168)، ((تفسير ابن جزي)) (2/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 291). ممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ بالسُّعُرِ: النَّارُ الَّتي تُسعَرُ عليهم: الضَّحَّاكُ، والحُسينُ بنُ الفضلِ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/170)، ((تفسير البغوي)) (4/327). وذكر الرَّازيُّ احتِمالَ الجَمعِ بيْنَ الأمْرَينِ في الدُّنيا، أي: هم في الدُّنيا في ضلالٍ وجنونٍ، لا يعقلونَ ولا يَهْتَدونَ، وعلى هذا فقولُه: يُسْحَبُونَ بَيانُ حالِهم في تلك الصُّورةِ، قال: (وهو أقرَبُ). وذكر أيضًا احتمالَ الجمعِ في الآخرةِ، أي: هم في ضلالِ الآخرةِ وسُعُرٍ أيضًا؛ أمَّا السُّعُرُ فكَونُهم فيها ظاهِرٌ، وأمَّا الضَّلالُ فلا يَجِدونَ إلى مَقصدِهم أو إلى ما يصلُحُ مقصدًا وهم مُتحَيِّرونَ سَبيلًا. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/325). وقال ابن كثير: (يخبِرُنا تعالى عن المجرمينَ أنَّهم في ضَلالٍ عن الحقِّ، وسُعُرٍ ممَّا هم فيه من الشُّكوكِ والاضْطِرابِ في الآراءِ، وهذا يَشملُ كلَّ مَنِ اتَّصَف بذلك مِن كافرٍ ومُبتَدِعٍ مِن سائرِ الفِرَقِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/482). وقيل: المرادُ: في شَقاءٍ وعَناءٍ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/184). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المرادَ بالسُّعُرِ العَناءُ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/159). وقال ابن جرير: (وَسُعُرٍ يقولُ: في احْتِراقٍ مِن شِدَّةِ العَناءِ والنَّصَبِ في الباطِلِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/159). وقال ابنُ عاشور: (الضَّلالُ يُطلَقُ على ضِدِّ الهُدى، ويُطلَقُ على الخُسرانِ، وأكثَرُ المفَسِّرينَ على أنَّ المرادَ به هنا المعنى الثَّاني؛ فعن ابنِ عبَّاسٍ: المرادُ: الخُسرانُ في الآخرةِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ أنَّ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ ظَرفٌ للكَونِ في ضَلالٍ وسُعُرٍ، على نحوِ قَولِه تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [النازعات: 6 - 8] ، وقَولِه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص: 42] ، فلا يُناسِبُ أن يكونَ الضَّلالُ ضِدَّ الهُدى. ويجوزُ أن يكونَ يَوْمَ يُسْحَبُونَ ظَرفًا للكَونِ الَّذي في خَبَرِ إنَّ، أي: كائِنونَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ يومَ يُسحَبونَ في النَّارِ، فالمعنى: أنَّهم في ضَلالٍ وسُعُرٍ يومَ القيامةِ). (27/215). وقال ابنُ عثيمين: (يحتَمِلُ أنَّ قَولَه: فِي ضَلَالٍ أي: في ضَلالٍ عن الطَّريقِ الَّذي يَهتَدونَ به إلى الجنَّةِ؛ لأنَّهم ضَلُّوا في الدُّنيا، فضَلُّوا في الآخِرةِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 291). .
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48).
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
أي: يومَ يُجَرُّ أولئك المُجرِمونَ في النَّارِ على وُجوهِهم الَّتي هي أشرَفُ أعضائِهم الظَّاهِرةِ، فيُهانونَ بذلك ويُخْزَونَ [459] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/215)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 291). قال الشوكاني: (الظَّرفُ [يومَ] مُنْتَصِبٌ بما قبلَه، أي: كائِنونَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ، أو بقولٍ مُقَدَّرٍ بعدَه، أي: يَوْمَ يُسْحَبُونَ يُقالُ لهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/155). !
ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.
أي: يُقالُ لهم: ذُوقوا ألَمَ النَّارِ وعَذابَها [460] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/159)، ((تفسير القرطبي)) (17/147)، ((تفسير ابن كثير)) (7/482)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 291). قال ابنُ جرير: (وأمَّا سَقَرُ فإنَّها اسمُ بابٍ مِن أبوابِ جَهنَّمَ). ((تفسير ابن جرير)) (22/159). وقال القرطبي: (سَقَرَ اسمٌ مِن أسماءِ جَهنَّمَ لا يَنصَرِفُ... وقال عَطاءٌ: سَقَرَ الطَّبقُ السَّادِسُ مِن جَهنَّمَ). ((تفسير القرطبي)) (17/147). .
قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 26 - 30].
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء مُشرِكو قُرَيشٍ يُخاصِمونَ رَسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في القَدَرِ، فنَزَلَت: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) [461] رواه مسلم (2656). .
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49).
أي: إنَّا خَلَقْنا كُلَّ شَيءٍ بقَضاءٍ سابِقٍ مَضبوطٍ مُحكَمٍ [462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/160)، ((تفسير البيضاوي)) (5/168)، ((تفسير ابن كثير)) (7/482)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/132)، ((تفسير الشوكاني)) (5/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/216-218)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 292). قال ابن جُزَي: (بقضاءٍ معلومٍ سابقٍ في الأزَلِ، ويحتملُ أن يكونَ معنَى بِقَدَرٍ: بمِقْدارٍ في هيئتِه وصِفَتِه وغيرِ ذلك). ((تفسير ابن جزي)) (2/326). وقال السعدي: (بقضاءٍ سبَقَ به عِلمُه، وجرى به قلَمُه، بوقتِها ومِقْدارِها، وجميعِ ما اشتملَتْ عليه مِن الأوصافِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 828). وقال ابن جرير: (بمِقْدارٍ قدَّرْناه وقضَيْناه). ((تفسير ابن جرير)) (22/160). وقال الألوسي: (بِقَدَرٍ أي: مُقَدَّرًا مَكتوبًا في اللَّوحِ قبْلَ وُقوعِه؛ فالقَدَرُ بالمعنى المشهورِ الَّذي يُقابِلُ القَضاءَ، وحَمْلُ الآيةِ على ذلك هو المأثورُ عن كثيرٍ مِن السَّلَفِ... وجُوِّزَ كَونُ المعنى: إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْناه مُقَدَّرًا مُحكَمًا مُستوفًى، فيه مُقتَضى الحِكمةِ الَّتي يدورُ عليها أمرُ التَّكوينِ؛ فالآيةُ مِن بابِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] ). ((تفسير الألوسي)) (14/93). .
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كَتَب اللهُ مَقاديرَ الخَلائِقِ قبْلَ أن يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألْفَ سَنةٍ، وعَرشُه على الماءِ )) [463] رواه مسلم (2653). .
وعن طاوسٍ، قال: أدرَكْتُ ناسًا مِن أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولونَ: كُلُّ شَيءٍ بقَدَرٍ، قال: وسَمِعتُ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ يَقولُ: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ شَيءٍ بقَدَرٍ، حتَّى العَجْزُ والكَيْسُ [464] الكَيْسُ: ضِدُّ العَجْزِ، وهو النَّشاطُ والحِذقُ بالأمورِ، ومعناه: أنَّ العاجزَ قد قُدِّر عَجْزُه، والكَيِّسَ قد قُدِّر كَيْسُه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (16/205). ) [465] رواه مسلم (2655). .
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ تعالى أنَّ كُلَّ شَيءٍ بفِعْلِه؛ بَيَّن يُسْرَ ذلك وسُهولتَه عليه، فقال [466] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/133). :
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50).
أي: وما أمْرُنا إذا أرَدْنا شَيئًا إلَّا أن نَقولَ له مَرَّةً واحِدةً: كُنْ، فيُوجَدُ ما أرَدْناه كسُرعةِ اللَّمْحِ بالبَصَرِ بلا تأخيرٍ [467] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/164)، ((تفسير القرطبي)) (17/149)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 281)، ((تفسير ابن كثير)) (7/485)، ((تفسير الشوكاني)) (5/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/220، 221)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 294). قال ابن كثير: (هو إخبارٌ عن نُفوذِ مَشيئتِه في خَلْقِه، كما أخبَرَ بنُفوذِ قَدَرِه فيهم). ((تفسير ابن كثير)) (7/485، 486). !
قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ بتَمامِ قُدرتِه، وكان إهلاكُ مَن ذُكِرَ مِن الكُفَّارِ، وإنجاءُ مَن ذُكِرَ مِن الأبرارِ في هذه السُّورةِ نَحوًا مِمَّا ذُكِرَ مِن أَمرِ السَّاعةِ في السُّهولةِ والسُّرعةِ- دَلَّ على ذلك بإنجاءِ أوليائِه، وإهلاكِ أعدائِه؛ فذَكَّرَ بهم جُملةً، وبما كان مِن أحوالِهم [468] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/133). .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ.
أي: ولقد أهلَكْنا أشباهَكم وأمثالَكم في الكُفرِ -يا مَعشَرَ قُرَيشٍ- مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ الَّتي كفَرَت باللهِ، وكَذَّبت رُسُلَها [469] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/164)، ((تفسير القرطبي)) (17/149)، ((تفسير ابن كثير)) (7/486)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 294). قال ابنُ عاشور: (المعنى: فكما أهلَكْنا أشياعَكم نُهلِكُكم، وكذلك كان؛ فإنَّ المُشرِكينَ لَمَّا حَلُّوا ببَدرٍ وهم أوفَرُ عَدَدًا وعُدَدًا، كانوا واثِقينَ بأنَّهم مُنقِذونَ عِيرَهم، وهازِمونَ المُسلِمينَ!). ((تفسير ابن عاشور)) (27/222). .
قال الله تبارك وتعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ: 54] .
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
أي: فهل مِن مُتذَكِّرٍ يَعلَمُ أنَّ سُنَّةَ اللهِ في الأوَّلينَ والآخِرينَ واحِدةٌ، ويتَّعِظُ ويَعتَبِرُ بإهلاكِ اللهِ للكُفَّارِ السَّابِقينَ، فيَحذَرَ أن يكونَ مِثْلَهم [470] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/164)، ((تفسير ابن كثير)) (7/486)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 295). ؟!
كما قال تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ [المرسلات: 16 - 18] .
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تَمَّت الدَّلالةُ على إحاطةِ القُدرةِ بما شُوهِدَ مِن الأفعالِ الهائِلةِ الَّتي لا تَسَعُها قُدرةُ غَيرِه سُبحانَه، وكانوا يَظُنُّونَ أنَّ أحوالَه غَيرُ مَضبوطةٍ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ ضَبطُها، ولا يَسَعُها عِلمُ عالمٍ، ولا سيَّما إذا ادَّعى أنَّه واحِدٌ؛ شَرَع في إتمامِ الإخبارِ بعَظَمةِ القدرةِ، بالإخبارِ بأنَّ أفعالَهم كُلَّها مكتوبةٌ، فَضلًا عن كَونِها محفوظةً؛ فقال [471] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/134). :
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52).
أي: وكُلُّ شَيءٍ فَعَلوه موجودٌ في الصَّحائِفِ والدَّواوينِ الَّتي تُحصِي الحَفَظةُ مِنَ الملائكةِ أعمالَهم فيها [472] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/164)، ((تفسير الزمخشري)) (4/441)، ((تفسير ابن كثير)) (7/486)، ((تفسير القاسمي)) (9/97)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/486). قال ابنُ عثيمين: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ أي: فعَلَتْه الأُمَمُ السَّابِقةُ، أو الأُمَمُ اللَّاحِقةُ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 295). وممَّن قال بأنَّ الزُّبُرَ هنا: صحائِفُ الأعمالِ: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، وابن كثير، والقاسمي، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: الزُّبُرُ: اللَّوحُ المحفوظُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/185)، ((تفسير القرطبي)) (17/149)، ((تفسير الشوكاني)) (5/155). قال ابنُ عثيمين: (فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي: في الكُتُبِ، وكِتابةُ الأعمالِ كِتابةٌ سابِقةٌ، وكِتابةٌ لاحِقةٌ، والكِتابةُ السَّابِقةُ معناها أنَّ اللهَ سَبحانَه وتعالى كَتَب في اللَّوحِ المحفوظِ كُلَّ شَيءٍ... أمَّا الكِتابةُ اللَّاحِقةُ فهي أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالى إذا عَمِلَ الإنسانُ عَمَلًا كَتَبَه؛ قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 9 - 11]). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 295، 296). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70].
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا خَصَّهم عَمَّ بقَولِه -واعِظًا ومُخَوِّفًا ومُحَذِّرًا- بأنَّ كُلَّ شَيءٍ مَحفوظٌ فمَكتوبٌ فمَعروضٌ على الإنسانِ يومَ الجَمعِ [473] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/135). :
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53).
أي: وكُلُّ صَغيرٍ وكَبيرٍ مِنَ الأشياءِ مَكتوبٌ مَسطورٌ [474] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/165)، ((تفسير البغوي)) (4/330)، ((تفسير الزمخشري)) (4/441)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/224)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 297). قيل: مَسطورٌ في اللَّوحِ المحفوظِ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: السمرقنديُّ، والسمعاني، والزمخشري، والبيضاوي، والنيسابوري، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/377)، ((تفسير السمعاني)) (5/320)، ((تفسير الزمخشري)) (4/441)، ((تفسير البيضاوي)) (5/168)، ((تفسير النيسابوري)) (6/224)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 297). قال السعدي: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي: كلُّ ما فعلوه مِن خَيرٍ وشرٍّ مكتوبٌ عليهم في الكُتبِ القَدَريَّةِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أي: مُسطَّرٌ مكتوبٌ، وهذا حقيقةُ القَضاءِ والقدَرِ، وأنَّ جميعَ الأشياءِ كلِّها، قد عَلِمَها اللهُ تعالى، وسَطرها عندَه في اللَّوحِ المحفوظِ، فما شاء اللهُ كان، وما لم يشَأْ لم يكُنْ، فما أصاب الإنسانَ لم يكُنْ لِيُخْطِئَه، وما أخطأه لم يكُنْ لِيُصيبَه). ((تفسير السعدي)) (ص: 828). وقيل: مُسَطَّرٌ في صحائِفِهم. وممَّن قال بهذا: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/486). قال الزَّجَّاج: (المعنى: كلُّ صغيرٍ مِن الذُّنوبِ وكبيرٍ مُستطَرٌ مَكتوبٌ على فاعِليه قبْلَ أن يَفعلوه، ومكتوبٌ لهم وعليهم إذا فعَلوه؛ لِيُجازَوْا على أفعالِهم). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/92). .
كما قال تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال سُبحانَه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود: 6] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54).
أي: إنَّ الَّذين اتَّقَوا سَخَطَ اللهِ وعَذابَه بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نَواهيه- في جَنَّاتٍ وأنهارٍ جاريةٍ فيها [475] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/166)، ((تفسير القرطبي)) (17/149)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 298). قال ابنُ عاشور: (المرادُ في نعيمِ جَنَّاتٍ ونَهَرٍ؛ فإنَّ للجَنَّاتِ والأنهارِ لذَّاتٍ مُتعارَفةً مِنَ اللَّهوِ والأُنسِ والمحادَثةِ، واجتِناءِ الفواكِهِ، ورؤيةِ جَرَيانِ الجَداولِ، وخَريرِ الماءِ، وأصواتِ الطُّيورِ، وألوانِ السَّوابِحِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/224). .
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55).
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ.
أي: في مَجلِسِ حَقٍّ، ثابتٍ لا يَزولُ، كامِلٍ في نَعيمِه، لا باطِلَ فيه ولا لَغْوَ ولا آثامَ [476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/167)، ((تفسير القرطبي)) (17/150)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/259-261)، ((تفسير السعدي)) (ص: 828)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/ 225، 226). وقيل: مَقعَدُ الصِّدقِ: هو الجنَّةُ. وممَّن قال بهذا القَولِ: السمرقنديُّ، والثعلبي، والقرطبي، وابن القيم، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/377)، ((تفسير الثعلبي)) (9/174)، ((تفسير القرطبي)) (17/150)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/260)، ((تفسير الشوكاني)) (5/156). قال الثعلبي: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مجلِسِ حقٍّ، لا لَغْوَ فيه ولا مأثمَ، وهو الجنَّةُ). ((تفسير الثعلبي)) (9/174). وقال السمرقندي: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ يعني: في أرضٍ كريمةٍ. ويُقالُ: في مجلِسٍ حسَنٍ، وهي أرضُ الجنَّةِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/377). وذكَر ابنُ القيِّمِ أنَّ وصفَ المقعدِ وغيرِه بالصِّدقِ (مستلزمٌ ثبوتَه واستقرارَه -وأنَّه حقٌّ-، ودوامَه ونفعَه، وكمالَ عائدتِه؛ فإنَّه متَّصِلٌ بالحقِّ سبحانَه، كائنٌ به وله، فهو صِدقٌ غيرُ كذبٍ، وحقٌّ غيرُ باطلٍ، ودائمٌ غيرُ زائلٍ، ونافعٌ غيرُ ضارٍّ، وما للباطلِ ومتعلقاتِه إليه سبيلٌ ولا مدخلٌ). ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) (2/ 261). .
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
أي: عِندَ مَلِكٍ عَظيمٍ تامِّ المُلْكِ، بالِغِ القُدرةِ على كلِّ شَيءٍ، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى [477] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/167)، ((تفسير القرطبي)) (17/150)، ((تفسير ابن كثير)) (7/487)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/137). !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ دَليلٌ على أنَّ الإنسانَ مَخلوقٌ للهِ تعالى، وأنَّ أفعالَه مخلوقةٌ للهِ، وأنَّ كلَّ شيءٍ قد قُدِّرَ وانتهى، وإذا كان كذلك فلْيَلْجأِ الإنسانُ إذا أصابتْه ضَرَّاءُ إلى اللهِ الخالقِ، وإذا أراد السَّرَّاءَ أيضًا يلتجِئُ إلى اللهِ الخالقِ، لا يَفْخَرَنَّ ويُعْجَبَنَّ بنَفْسِه إذا حَصَلَ له مطلوبٌ، ولا ييأسَنَّ إذا أصابَه المكروبُ؛ فالأمرُ بيدِ اللهِ [478] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 292). .
2- في قَولِه تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أنَّه يَجِبُ الحذَرُ مِن المخالفةِ؛ فإيَّاك أنْ تُخالِفَ بقَولِك، أو فِعْلِك، أو تَرْكِك؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ مَكتوبٌ [479] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 297). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أنَّ الضَّلالَ والشَّقاءَ مُتلازِمانِ، لا يَنفكُّ أحدُهما عن الآخَرِ [480] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 134). .
2- قَول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ نصٌّ في أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى خالقُ كُلِّ شيءٍ، ومُقَدِّرُه [481] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/478). .
فالآية حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ؛ لأنَّ أفعالَنا شَيءٌ، فتكونُ داخِلةً في كُلِّ شَيءٍ، فتكونُ مَخلوقةً للهِ تعالى [482] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/326). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ الرَّدُّ على القَدَرِيَّةِ الَّذين يُنكِرونَ أنَّ اللهَ تعالى يشاءُ أفعالَ العِبَادِ، ويقولونَ: إنَّ الإنسانَ خالِقُ عَمَلِه، مُريدٌ له، مُستَقِلُّ به، وأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا إرادةَ له به [483] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 93). ؛ فإنَّ قَولَه تعالى: كُلَّ شَيْءٍ يعني: من الأشياءِ المخلوقةِ -صَغيرِها وكَبيرِها- خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ أي: قَضاءٍ وحُكمٍ وقياسٍ مَضبوطٍ، وقِسمةٍ مَحدودةٍ، وقوَّةٍ باِلغةٍ، وتدبيرٍ مُحكَمٍ، في وَقتٍ مَعلومٍ، ومكانٍ مَحدودٍ، مكتوبٌ ذلك في اللَّوحِ قبلَ وُقوعِه [484] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/155). .
4- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أنَّ خَلْقَ اللهِ تعالى الأشياءَ مُصاحِبٌ لقوانينَ جاريةٍ على الحِكمةِ، وهذا المعنى قد تكَرَّرَ في القُرآنِ، كقَولِه تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8] ، ومِمَّا يَشملُه عُمومُ كُلِّ شَيءٍ خَلقُ جَهنَّمَ للعَذابِ، وفيه إحاطةُ عِلمِ اللهِ تعالى بكُلِّ مَوجودٍ، وإيجادُ الموجوداتِ بحِكمةٍ، وصُدورُها عن إرادةٍ وقُدرةٍ [485] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/217، 221). .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ أنَّ كلَّ شيءٍ وَقَعَ في السَّمَواتِ والأرضِ فإنَّه مُطابِقٌ لعِلْمِه السَّابقِ، ولِمَا كَتَبَه في اللَّوحِ المحفوظِ [486] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/46). .
6- في قَولِه تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى إذا أمَرَ بشَيءٍ كَونًا فإنَّه لا يُعيدُ الأمرَ مرَّةً ثانيةً، بل يكونُ الشَّيءُ بأوَّلِ أمْرٍ، والَّذي يُعيدُ الأمرَ والكَلامَ هو العاجِزُ، وأمَّا القادِرُ فلا يُعيدُه [487] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 191). .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ دَلالةٌ على كَمالِ قُدرةِ الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ أمْرَه التَّكوينيَّ كَلِمةٌ واحِدةٌ، وقد يُورَدُ على المَرءِ سؤالٌ: لماذا خَلَقَ اللهُ تعالى السَّمواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيامٍ كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ق: 38] ؟ وهل هذا يُنافي قَولَه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ؟ ولماذا يَخلُقُ الجنينَ في بطْنِ أمِّه لمدَّةِ تِسعةِ أشهُرٍ، وما أشْبَهَ ذلك؟
الجوابُ: أنَّ أفعالَه سُبحانَه مَقرونةٌ بحِكمةٍ، وأنَّه سُبحانَه وتعالى جَعَل الأسبابَ مَربوطةً بمُسبَّباتِها؛ فلا بُدَّ مِن أنْ يكونَ هناك سَبَبٌ، ويَنتُجَ عنه مُسبَّبٌ، ولا بُدَّ مَن أنْ يكونَ هذا السَّببُ مُطابِقًا مُوافِقًا؛ حتَّى يَتِمَّ الخَلقُ على كَمالِه، فهذا الخَلقُ يحتاجُ إلى مُقدِّماتٍ وأسبابٍ يَحصُلُ بها كَمالُ الخَلقِ، فاللهُ سُبحانَه وتعالى قادِرٌ على أن يَخلُقَ الجَنينَ في بَطنِ أُمِّه بدونِ أنْ يَتناوَلَها الرَّجُلُ -كما حَصَلَ في عيسى عليه السَّلامُ- ومع هذا فإنَّ اللهَ تعالى قد جعَلَ لهذا أسبابًا: اتِّصالُ ماءِ الرَّجُلِ بالمرأةِ، ثمَّ بعدَ ذلك الجنَينُ يَتطوَّرُ شيئًا فشيئًا حتَّى يَصِلَ إلى الغايةِ، ثمَّ إذا كان قابِلًا لأنْ يَخرُجَ إلى الدُّنيا خرَجَ، ثمَّ مع ذلك يَنمو شيئًا فشيئًا، لا يأتيه العَقلُ كامِلًا دَفعةً واحِدةً، ولا يأتيه النُّمُوُّ دَفعةً واحِدةً، ولكِنَّه على وَفْقِ الحِكمةِ، كما قال تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: 6] ؛ فكُلُّ خَلقٍ منها يَحصُلُ بكَلِمةٍ واحِدةٍ كلَمحِ البَصَرِ، على أنَّ بَعضَ المخلوقاتِ تتولَّدُ منه أشياءُ وآثارٌ، فيُعتبَرُ تَكوينُه عندَ إيجادِ أوَّلِه [488] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 168). . ومِن جِهةٍ ثانيةٍ: أنَّه سُبحانَه أراد أن يُعَلِّمَ خَلْقَه التَّمَهُّلَ في الأُمورِ، والتَّدَرُّجَ فيها [489] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/345). .
8- في قَولِه تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ تعميمٌ للحُكمِ، أي: ليست الكِتابةُ مُقتَصِرةً على ما فَعَلوه، بل ما فعَلَه غَيرُهم أيضًا مَسطورٌ؛ فلا يَخرُجُ عن الكُتُبِ صَغيرةٌ ولا كبيرةٌ [490] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/330). .
9- في قَولِه تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أنَّ الذُّنوبَ في نفْسِها تنَقِسمُ إلى كبائرَ وصغائِرَ [491] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/657). .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ سؤالٌ: أنَّه ذَكَر هنا نَهَرًا واحِدًا، وفي مَواضِعَ أُخَرَ ذَكَرَ أنهارًا.
الجوابُ: أنَّ الإفرادَ باعتِبارِ الجِنسِ؛ فلا يُنافي التَّعَدُّدَ، فالمرادُ جِنسُ الأنهارِ [492] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/186). قال ابن عاشور: (وَنَهَرٍ: -بفتحتَينِ- لغةٌ في نَهْرٍ -بفَتحٍ فسُكونٍ-، والمرادُ به: اسمُ الجِنسِ الصَّادِقُ بالمتعَدِّدِ؛ لِقَولِه تعالى: مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ [الكهف: 31] ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/224). .
11- في قَولِه تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ لم يقُلْ: «في مَجلِسِ صِدقٍ»؛ لأنَّ القُعودَ جُلوسٌ فيه مُكثٌ، ومنه: «قواعِدُ البَيتِ»، وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ [النور: 60] ، ولا يُقالُ: «جوالِسُ»، فأشار إلى دَوامِه وثَباتِه، ولأنَّ حُروفَ «ق ع د» كيف دارت تدُلُّ على ذلك، والاستِعمالُ في القُعودِ يدُلُّ على ذلك، ومنه: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 95] ، وقَولُه: مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ [آل عمران: 121] إشارةً إلى الثَّباتِ، وكذا قَولُه: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق: 17] ، فذَكَر المَقعَدَ؛ لِدَوامِه أو لطُولِه، وقال في المجلِسِ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ [المجادلة: 11] إشارةً إلى الحَرَكةِ، وقال: انْشُزُوا [المجادلة: 11] إشارةً إلى تَركِ الجُلوسِ، أي: هو مَجلِسٌ؛ فلا يَجِبُ مُلازَمتُه، بخِلافِ المَقعَدِ [493] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/288). .
12- في قَولِه تعالى: مُقْتَدِرٍ إشارةٌ إلى مُخالَفةِ مَعنى القُربِ منه مِن معنى القُربِ مِن الملوكِ؛ فإنَّ الملوكَ يُقَرِّبونَ مَن يكونُ مِمَّن يُحِبُّونَه، ومِمَّن يَرهَبونَه؛ مخافةَ أن يَعصَوا عليه، ويَنحازُوا إلى عَدُوِّه فيَغلِبوه، واللهُ تعالى قال: مُقْتَدِرٍ لا يُقَرِّبُ أحَدًا إلَّا بفَضلِه [494] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/334). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ بَيانٌ لقولِه: وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر: 46]. واقترانُ الكلامِ بحرْفِ (إنَّ) لفائدتَينِ؛ إحداهُما: الاهتِمامُ بصَريحِه الإخباريِّ. وثانِيهما: تأْكيدُ ما تَضمَّنَه مِن التَّعريضِ بالمُشرِكين؛ لأنَّ الكلامَ وإنْ كان مُوجَّهًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو لا يَشُكُّ في ذلك، فإنَّ المُشرِكين يَبلُغُهم ويَشيعُ بيْنَهم وهم لا يُؤمِنون بعَذابِ الآخرةِ، فكانوا جَديرين بتأْكيدِ الخبَرِ في جانبِ التَّعريضِ؛ فتَكونُ (إنَّ) مُستعمَلةً في غرَضَيها مِن التَّوكيدِ والاهتمامِ [495] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/215). .
- والتَّعبيرُ بالمُجرمينَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لإلْصاقِ وصْفِ الإجرامِ بهم [496] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/215). .
- و(سُعُر) جمْع سَعيرٍ، وهو النَّارُ، وجُمِعَ السَّعيرُ؛ لأنَّه قَويٌّ شَديدٌ [497] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/215). ، وذلك على قول في التَّفسيرِ.
- قولُه: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ السَّحْبُ: الجَرُّ، وهو في النَّارِ أشدُّ مِن مُلازَمةِ المكانِ؛ لأنَّه به يَتجدَّدُ مُماسَّةُ نارٍ أُخرى؛ فهو أشدُّ تَعذيبًا. وجُعِل السَّحبُ على الوُجوهِ؛ إهانةً لهم [498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/215). .
- وقولُه: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ مَقولُ قولٍ مَحذوفٍ، والجُملةُ مُستأنَفةٌ [499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/215). .
- وصِيغةُ الأمْرِ ذُوقُوا مُستعمَلةٌ في الإهانةِ والمُجازاةِ [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/216). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ استِئنافٌ وقَعَ تذْييلًا لِما قبْلَه مِن الوعيدِ والإنذارِ والاعتِبارِ بما حلَّ بالمُكذِّبين، وهو أيضًا تَوطئةٌ لقولِه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ، والمعْنى: إنَّا خلَقْنا وفعَلْنا كلَّ ما ذُكِرَ مِن الأفعالِ، وأسبابِها، وآلاتِها، وسلَّطْناه على مُستحقِّيه؛ لأنَّا خلَقْنا كلَّ شَيءٍ بقدَرٍ، أي: فإذا علِمْتُم هذا فانتَبِهوا إلى أنَّ ما أنتم عليه مِن التَّكذيبِ والإصرارِ مُماثلٌ لِما كانت عليه الأُمَمُ السَّالفةُ [501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/216). .
- ولَمَّا تَضمَّنتِ الآياتُ السَّابقةُ معْنى ادِّعاءِ المُشرِكين القُدرةَ والقُوى لأنفُسِهم، والوعيدَ بالإهلاكِ عاجِلًا وآجلًا، والوعْدَ للمؤمنينَ بالانتصارِ منهم؛ جِيءَ بقولِه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ تَوكيدًا للوعْدِ والوعيدِ؛ يعْني: أنَّ هذا الوعدَ حقٌّ، وصِدقُ الموعدِ والموعودِ مُثبَتٌ في اللَّوحِ، مُقدَّرٌ عندَ اللهِ، لا يَزيدُ ولا يَنقُصُ، وذلك على اللهِ يَسيرٌ [502] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/143، 144). .
- واقتِرانُ الكَلامِ بحرْفِ (إنَّ) للتَّوكيدِ والاهتمامِ [503] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/215، 216). .
- وقد أشار إلى أنَّ الجزاءَ مِن مُقتضَى الحِكمةِ قولُه تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ، وقولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 85، 86]، وقولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان: 38- 40]، فتَرى هذه الآياتِ وأشباهَها تُعقِّبُ ذِكرَ كَونِ الخلْقِ كلِّه لحِكمةٍ بذِكرِ السَّاعةِ ويومِ الجزاءِ. فهذا وَجْهُ تَعقيبِ آياتِ الإنذارِ والعِقابِ المذكورةِ في هذه السُّورةِ بالتَّذييلِ بقولِه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ بعْدَ قولِه: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ [القمر: 43]، وسيَقولُ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ [504] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/217). [القمر: 51].
- والباءُ في بِقَدَرٍ للمُلابَسةِ، والمَجرورُ ظرْفٌ مُستقَرٌّ [505] الظَّرْفُ المُستقَرُّ -بفتحِ القافِ-: سُمِّيَ بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذَينِ الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وُجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّي ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). ؛ فهو في حُكْمِ المَفعولِ الثَّاني لفِعلِ خَلَقْنَاهُ؛ لأنَّه مَقصودٌ بذاتِه؛ إذ ليس المَقصودُ الإعلامَ بأنَّ كلَّ شَيءٍ مَخلوقٌ للهِ؛ فإنَّ ذلك لا يَحتاجُ إلى الإعلامِ به بلْهَ تأْكيدَه، بلِ المَقصودُ إظهارُ معْنى العِلمِ والحِكمةِ في الجَزاءِ [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/217). .
- وقدِ انتصَبَ كُلِّ شَيْءٍ على المَفعوليَّةِ لـ خَلَقْنَاهُ على طَريقةِ الاشتِغالِ [507] الاشتِغالُ: هو أن يتقَدَّمَ اسمٌ واحِدٌ، ويتأخَّرَ عنه عامِلٌ مُشتَغِلٌ عن العَمَلِ في ذلك الاسمِ بالعَمَلِ في ضَميرِه مُباشَرةً، أو في سَبَبِه -أي: كلِّ شَيءٍ له صِلةٌ وعَلاقةٌ به؛ مِن قَرابةٍ، أو صداقةٍ، أو عَمَلٍ-، بحيثُ لو فُرِّغ مِن ذلك المعمولِ وسُلِّطَ على الاسمِ المتقَدِّمِ، لعَمِلَ فيه النَّصبُ لَفظًا أو محَلًّا. وأركانُ الاشتِغالِ ثلاثةٌ؛ هي: أ- مَشغولٌ عنه: وهو الاسمُ المتقَدِّمُ. ب- مشغولٌ: وهو الفِعلُ المتأخِّرُ. ج- ومَشغولٌ به: وهو الضَّميرُ الَّذي تعدَّى إليه الفِعلُ بنَفْسِه أو بالوَساطةِ. يُنظر: ((أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك)) لابن هشام (2/139). ، وتَقديمُه على خَلَقْنَاهُ؛ ليَتأكَّدَ مَدلولُه بذِكرِ اسمِه الظَّاهرِ ابتداءً، وذِكرِ ضَميرِه ثانيًا، وذلك هو الَّذي يَقْتضي العُدولَ إلى الاشتِغالِ في فَصيحِ الكلامِ العرَبيِّ، فيَحصُلَ تَوكيدٌ للمَفعولِ بعْدَ أنْ حصَلَ تَحقيقُ نِسبةِ الفِعلِ إلى فاعِلِه بحرْفِ (إنَّ) المُفيدِ لتَوكيدِ الخبَرِ، ولِيَتَّصِلَ قولُه: بِقَدَرٍ بالعامِلِ فيه، وهو خَلَقْنَاهُ؛ لئلَّا يَلتبِسَ بالنَّعتِ لـ شَيْءٍ، لو قِيل: إنَّا خلَقْنا كلَّ شَيءٍ بقدَرٍ، فيُظَنُّ أنَّ المُرادَ: إنَّا خلَقْنا كلَّ شيءٍ مُقدَّرٍ، فيَبْقى السَّامعُ مُنتظِرًا لخبَرِ (إنَّ) [508] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/219). .
3- قولُه تعالَى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ عطْفٌ على قولِه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]؛ فهو داخلٌ في التَّذييلِ، أي: خلَقْنا كلَّ شَيءٍ بعِلمٍ، فالمَقصودُ منه وما يَصلُحُ له مَعلومٌ لنا، فإذا جاء وقْتُه الَّذي أعدَدْناه حصَلَ دَفْعةً واحدةً، لا يَسبِقُه اختبارٌ ولا نظَرٌ ولا بَداءٌ [509] يُقالُ: بدا له في هذا الأمرِ بَداءٌ، أي: نشأ له فيه رأيٌ. والبَداءُ له مَعانٍ: البَداءُ في العِلمِ، وهو أن يَظهَرَ له خِلافُ ما عَلِم. والبَداءُ في الإرادةِ، وهو أن يَظهَرَ له صوابٌ على خِلافٍ ما أراد وحكمَ. والبَداءُ في الأمرِ: وهو أن يأمُرَ بشَيءٍ، ثمَّ يأمُرَ بشَيءٍ آخَرَ بَعْدَه بخِلافِ ذلك. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2278)، ((الفصل)) لابن حزم (1/148، 149). . والغرَضُ مِن هذا تَحذيرُهم مِن أنْ يَأخُذَهم العَذابُ بَغتةً في الدُّنيا عندَ وُجودِ مِيقاتِه، وسبْقِ إيجادِ أسبابِه ومُقوِّماتِه الَّتي لا يَتفطَّنون لوُجودِها، وفي الآخرةِ بحُلولِ الموتِ، ثم بقِيامِ الساعةِ [510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/219، 220). .
- وعطْفُ هذا عَقِبَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]، مُشعِرٌ بتَرتُّبِ مَضمونِه على مَضمونِ المَعطوفِ عليه في التَّنبيهِ والاستدلالِ، حسَبَ ما هو جارٍ في كَلامِ البُلغاءِ مِن مُراعاةِ تَرتُّبِ مَعاني الكلامِ بَعضِها على بعْضٍ [511] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/220). .
- صِفةُ وَاحِدَةٌ وصْفٌ لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه الكلامُ هو خبَرٌ عن أَمْرِنَا، والتَّقديرُ: إلَّا كَلمةٌ واحدةٌ، وهي كَلمةُ (كُنْ)، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [512] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/220). [يس: 82] .
- وصحَّ الإخبارُ عن (أمْر) -وهو مُذكَّرٌ- بـ وَاحِدَةٌ -وهو مُؤنَّثٌ- باعتبارِ أنَّ ماصَدَقَ [513] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو الموصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يقالَ مثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). (الأمْر) هنا هو أمْرُ التَّسخيرِ، وهو الكلِمةُ، أي: كَلمةُ (كُنْ) [514] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/221). .
- وقولُه: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ في مَوضعِ الحالِ مِن أَمْرِنَا باعتِبارِ الإخبارِ عنه بأنَّه كَلمةٌ واحدةٌ، أي: حُصولُ مُرادِنا بأمْرِنا كلَمْحٍ بالبصَرِ، وهو تَشبيهٌ في سُرعةِ الحُصولِ، أي: ما أمْرُنا إلَّا كلمةٌ واحدةٌ سَريعةُ التَّأثيرِ في المُتعلِّقةِ هي به كسُرعةِ لَمْحِ البصَرِ، وهذا التَّشبيهُ في تَقريبِ الزَّمانِ أبلَغُ ما جاء في الكَلامِ العرَبيِّ [515] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/49)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/221). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وقال في سُورةِ (النَّحلِ): وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77] ؛ فزِيدَ هنالك: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ؛ لأنَّ المَقامَ للتَّحذيرِ مِن مُفاجَأةِ النَّاسِ بها قبْلَ أنْ يَستعِدُّوا لها؛ فهو حَقيقٌ بالمُبالَغةِ في التَّقريبِ، بخِلافِ ما في هذه الآيةِ؛ فإنَّه لتَمثيلِ أمْرِ اللهِ، وذلك يَكفي فيه مُجرَّدُ التَّنبيهِ؛ إذ لا يَتردَّدُ السَّامعُ في التَّصديقِ به [516] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/221). .
4- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ الْتُفِتَ مِن طَريقِ الغَيبةِ إلى الخِطابِ، ومَرجِعُ الخِطابِ هم المُشرِكون؛ لظُهورِ أنَّهم المَقصودُ بالتَّهديدِ، وهو تَصريحٌ بما تَضمَّنَه قولُه: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ [القمر: 43]؛ فهو بمَنزِلةِ النَّتيجةِ لقولِه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ إلى كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [517] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/222). [القمر: 49، 50].
- وهذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّهديدِ بالإهلاكِ، وبأنَّه يُفاجِئُهم قياسًا على إهلاكِ الأُمَمِ السَّابقةِ، وهذا المَقصَدُ هو الَّذي مِن أجْلِه أُكِّدَ الخبَرُ بلامِ القسَمِ وحرْفِ (قدْ)، أمَّا إهلاكُ مَن قبْلَهم فهو مَعلومٌ لا يَحتاجُ إلى تأْكيدٍ. ويجوزُ جعْلُ مَناطِ التَّأكيدِ إثباتَ أنَّ إهلاكَهم كان مِن أجْلِ شِركِهم وتَكذيبِهم الرُّسلَ. وتَفريعُ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قَرينةٌ على إرادةِ المَعنيَينِ؛ فإنَّ قومَ نوحٍ بقُوا أزمانًا، فما أقْلَعوا عن إشراكِهم حتَّى أخَذَهم الطُّوفانُ بَغتةً، وكذلك عادٌ وثَمودُ كانوا غيرَ مُصدِّقينَ بحُلولِ العَذابِ بهم، فلمَّا حلَّ بهم العذابُ حلَّ بهم بَغتةً، وقومُ فِرعون خرَجوا مُقتَفينَ مُوسى وبني إسرائيلَ، واثِقينَ بأنَّهم مُدرِكوهم، واقتَرَبوا منهم، وظَنُّوا أنَّهم تَمكَّنوا منهم، فما راعَهُم إلَّا أنْ أنْجى اللهُ بني إسرائيلَ، وانطبَقَ البحرُ على الآخَرينَ [518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/222). .
5- قولُه تعالَى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ يَجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ المَرفوعُ في قولِه: فَعَلُوهُ عائدًا إلى أَشْيَاعَكُمْ [القمر: 51]، والمعْنى: أهلَكْناهم بعَذابِ الدُّنيا وهيَّأْنا لهم عَذابَ الآخِرةِ، فكُتِبَ في صَحائفِ الأعمالِ كلُّ ما فَعَلوه مِن الكُفْرِ وفُروعِه؛ فالكتابةُ في الزُّبُرِ -مع ثُبوتِها حقيقةً- وقَعَت هنا كِنايةً عن لازِمِها، وهو المُحاسَبةُ به فيما بعْدُ، وعن لازِمِ لازِمِها، وهو العِقابُ بعْدَ المُحاسَبةِ [519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/223). .
- وهذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بالمُخاطَبين بأنَّهم إذا تَعرَّضوا لِما يُوقِعُ عليهم الهلاكَ في الدُّنيا، فليس ذلك قُصارى عَذابِهم؛ فإنَّ بعْدَه حِسابًا عليه في الآخرةِ يُعذَّبون به [520] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/223). .
- والزُّبُرِ جمْعُ زَبورٍ، وهو الكِتابُ، مُشتَقٌّ مِن الزَّبْرِ، وهو الكِتابةُ، وجُمِعَت الزُّبرُ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ كِتابَ أعمالِه [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/223). .
6- قولُه تعالَى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ كالتَّذييلِ لقولِه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ [القمر: 52]؛ فـ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أعمُّ مِن وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ، والمعْنى: وكلُّ شَيءٍ حَقيرٍ أو عظيمٍ مَكتوبٌ مَسطورٌ، أي: في عِلمِ اللهِ تعالى، أي: كلُّ ذلك يَعلَمُه اللهُ ويُحاسِبُ عليه، وذلك كِنايةٌ عن الجَزاءِ عليه؛ فكانَ ذلك جامِعًا للتَّبشيرِ والإنذارِ [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/224). .
7- قولُه تعالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّه لَمَّا ذكَرَ أنَّ كلَّ صَغيرٍ وكَبيرٍ مُستطَرٌ على إرادةِ أنَّه مَعلومٌ ومُجازًى عليه، وقد عُلِمَ جَزاءُ المُجرِمين مِن قولِه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 47]؛ كانت نفْسُ السَّامعِ بحيث تَتشوَّفُ إلى مُقابِلِ ذلك مِن جَزاءِ المُتَّقينَ، وجرْيًا على عادةِ القُرآنِ مِن تَعقيبِ النِّذارةِ بالبِشارةِ والعكْسِ [523] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/175)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/224). .
- وافتِتاحُ هذا الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ به [524] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/224). .
- و(فِي) للظَّرفيةِ الَّتي هي بمعْنى التَّلبُّسِ القَويِّ كتَلبُّسِ المَظروفِ بالظَّرفِ، والمُرادُ في نَعيمِ جنَّاتٍ ونهَرٍ، وبهذا الاعتِبارِ عُطِفَ (نَهَرٍ) على جَنَّاتٍ؛ إذ ليس المُرادُ الإخبارَ بأنَّهم ساكِنون جنَّاتٍ؛ فإنَّ ذلك يُغْني عنه قولُه بعْدُ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، ولا أنَّهم مُنغمِسون في أنهارٍ؛ إذ لم يكُنْ ذلك ممَّا يَقصِده السَّامِعون [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/225). .
- قولُه: وَنَهَرٍ، أي: أنهارٍ كذلكَ، والإفرادُ للاكتِفاءِ باسمِ الجنسِ مُراعاةً للفواصلِ [526] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/442)، ((تفسير البيضاوي)) (5/169)، ((تفسير أبي السعود)) (8/175). . والتَّنكيرُ فيه للتَّعظيمِ [527] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/287). .
- وجُمِعَت الجنَّاتُ هنا إشارةً إلى سَعتِها وتَنوُّعِها، وأُفرِدَ النَّهَرُ قيل: لأنَّ المعْنى: «في خِلالِه»، فاستُغْنِيَ عن جَمْعِه، وجُمِعَ في قولِه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة: 25] وغيرِه؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّه ليس في الجنَّةِ إلَّا نَهرٌ [528] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/287). .
8- قولُه تعالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ إضافةُ مَقْعَدِ إلى صِدْقٍ مِن إضافةِ المَوصوفِ إلى صِفتِه؛ للمُبالَغةِ في تَمكُّنِ الصِّفةِ منه، والمعْنى: هم في مَقعدٍ يَشتمِلُ على كلِّ ما يَحمَدُه القاعدُ فيه [529] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/225، 226). ذكَرَ اللهُ تعالى في كتابِه خمسةَ أشياءَ مُضافةً إلى الصِّدقِ؛ وهي: مَقعَدُ الصِّدقِ -كما هنا-، ولِسانُ الصِدْقِ كما في سورةِ (مريم)  [الآية: 50]، و(الشعراء)  [الآية: 84]، وقدَمُ الصِّدقِ، كما في سورة (يونسَ) [الآية: 2]، ومُدخَلُ الصِّدقِ، ومُخرَجُ الصِّدقِ، كما في سورةِ (الإسراءِ) [الآية: 80]، وحقيقةُ الصِّدقِ في هذه الأشياءِ: هو الحقُّ الثَّابِتُ، المتَّصِلُ باللهِ، المُوصِلُ إلى اللهِ -وهو ما كان به وله، مِن الأقوالِ والأعمالِ-، وجزاءُ ذلك في الدُّنيا والآخرةِ. يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 259). .
- ومَلِيكٍ: فَعيلٌ بمعْنى المالِكِ مُبالَغةً، وهو أبلَغُ مِن (مَلِكٍ) [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/226). .
- ومُقْتَدِرٍ أبلَغُ مِن قادِرٍ [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/226). .
- وتَنكيرُ مَلِيكٍ ومُقْتَدِرٍ؛ للتَّعظيمِ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/226). .