موسوعة الآداب الشرعية

ثاني عشرَ: التَّوكُّلُ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ


يَجِبُ على العَبدِ أن يَتَوكَّلَ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ دونَ مَن سِواه [159] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/ 179)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/ 169). قال ابنُ رَجَبٍ: (حَقيقةُ التَّوكُّلِ: هو صِدقُ اعتِمادِ القَلبِ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ في استِجلابِ المَصالحِ ودَفعِ المَضارِّ مِن أُمورِ الدُّنيا والآخِرةِ كُلِّها، وكِلةُ الأُمورِ كُلِّها إليه، وتَحقيقُ الإيمانِ بأنَّه لا يُعطي ولا يَمنَعُ ولا يَضُرُّ ولا يَنفعُ سِواه. قال سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ: التَّوكُّلُ جِماعُ الإيمانِ. وقال وَهبُ بنُ مُنَبِّهٍ: الغايةُ القُصوى التَّوكُّلُ. قال الحَسَنُ: إنَّ تَوكُّلَ العَبدِ على رَبِّه أن يَعلَمَ أنَّ اللَّهَ هو ثِقَتُه). ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 497). وقال العِزُّ بنُ عبدِ السَّلام: (التَّوكُّل هو الاعتِمادُ على عَطفِ اللَّهِ ولُطفِه، فيما يَدفَعُه مِن ضَيرٍ، أو يَجلِبُه مِن خَيرٍ؛ إذ لا يُنالُ خَيرٌ إلَّا بنِعمتِه، ولا يُزالُ ضَيرٌ إلَّا برَحمَتِه). ((شجرة المعارف)) (ص: 64). وقال ابنُ القَيِّمِ: (التَّوكُّلُ يَجمَعُ أصلَينِ: عِلمُ القَلبِ وعَمَلُه؛ أمَّا عِلمُه فيَقينُه بكِفايةِ وكيلِه، وكَمالِ قيامِه بما وكَله إليه، وأنَّ غَيرَه لا يَقومُ مَقامَه في ذلك، وأمَّا عَمَلُه فسُكونُه إلى وكيلِه، وطُمَأنينَتُه إليه، وتَفويضُه وتَسليمُه أمرَه إليه، وأنَّ غَيرَه لا يَقومُ مَقامَه في ذلك، ورِضاه بتَصَرُّفِه له فوقَ رِضاه بتَصَرُّفِه هو لنَفسِه، فبهذين الأصلَينِ يَتَحَقَّقُ التَّوكُّلُ). ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (ص: 257). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب: 3] .
2- قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 58] .
3- قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم: 12] .
4- قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التغابن: 13] .
5- قال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23] .
(فجَعَل التَّوكُّلَ شَرطًا في الإيمانِ، فدَلَّ على انتِفاءِ الإيمانِ عِندَ انتِفاءِ التَّوكُّلِ، وفي الآيةِ الأُخرى: وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84] ، فجَعَل دَليلَ صِحَّةِ الإسلامِ التَّوكُّلَ، وقال تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 122-160] [المائِدة: 11] [التوبة: 51] [إبراهيم: 11] [المجادلة: 10] [التغابن: 13] ، فذِكرُ اسمِ الإيمانِ هاهنا دونَ سائِرِ أسمائِهم دَليلٌ على استِدعاءِ الإيمانِ للتَّوكُّلِ، وأنَّ قوَّةَ التَّوكُّلِ وضَعفَه بحَسَبِ قوَّةِ الإيمانِ وضَعفِه، وكُلَّما قَويَ إيمانُ العَبدِ كان تَوكُّلُه أقوى، وإذا ضَعُف الإيمانُ ضَعُف التَّوكُّلُ، وإذا كان التَّوكُّلُ ضَعيفًا فهو دَليلٌ على ضَعفِ الإيمانِ ولا بُدَّ، واللَّهُ تعالى يَجمَعُ بَينَ التَّوكُّلِ والعِبادةِ، وبَينَ التَّوكُّلِ والإيمانِ، وبَينَ التَّوكُّلِ والإسلامِ، وبَينَ التَّوكُّلِ والتَّقوى، وبَينَ التَّوكُّلِ والهدايةِ... فظَهَرَ أنَّ التَّوكُّلَ أصلٌ لجَميعِ مَقاماتِ الإيمانِ والإحسانِ، ولجَميعِ أعمالِ الإسلامِ، وأنَّ مَنزِلتَه مِنها مَنزِلةُ الجَسَدِ مِنَ الرَّأسِ، فكما لا يَقومُ الرَّأسُ إلَّا على البَدَنِ، فكذلك لا يَقومُ الإيمانُ ومَقاماتُه وأعمالُه إلَّا على ساقِ التَّوكُّلِ) [160] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 255-258). .
6- قال تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَدخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي سَبعونَ ألفًا بغَيرِ حِسابٍ، همُ الذينَ لا يَستَرْقونَ [161]لا يَستَرْقونَ: أصلُه: لا يَسْتَرقِيون، فأُسكِنَتِ الياءُ ونُقِلَت ضَمَّتُها إلى القافِ، وحُذِفَت لسُكونِها وسُكونِ الواوِ، ومَعناه: لا يَطلُبونَ الرُّقيةَ. يُنظر: ((المفاتيح)) للمظهري (5/ 307). ، ولا يَتَطَيَّرونَ، وعلى رَبِّهم يَتَوكَّلونَ)) [162] أخرجه البخاري (6472) واللفظ له، ومسلم (220). .
2- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لو أنَّكُم كُنتُم تَوكَّلونَ على اللهِ حَقَّ تَوكُّلِه لرُزقتُم كما يُرزَقُ الطَّيرُ؛ تَغدو خِماصًا [163] الخِماصُ: الجياعُ الخالياتُ البُطونِ مِنَ الغِذاءِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (7/ 73)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 140). ، وتَروحُ بِطانًا [164] البِطانُ: الشِّباعُ الممتَلِئاتُ البُطونِ مِنَ الغِذاءِ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (7/ 73)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 140). ) [165] أخرجه الترمذي (2344) واللفظ له، وابن ماجه (4164)، وأحمد (370). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (730)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (2/471)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2344)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (370)، وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه. .
فوائِدُ:
1- قال أبو العَبَّاسِ ابنُ قُدامةَ: (اعلَمْ أنَّ التَّوكُّلَ مَأخوذٌ مِنَ الوَكالةِ، يُقالُ: وكَلَ فُلانٌ أمرَه إلى فُلانٍ، أي: فوَّضَ أمرَه إليه، واعتَمَدَ فيه عليه.
فالتَّوكُّلُ عِبارةٌ عنِ اعتِمادِ القَلبِ على الموكَّلِ، ولا يَتَوكَّلُ الإنسانُ على غَيرِه إلَّا إذا اعتَقدَ فيه أشياءَ: الشَّفَقةُ، والقوَّةُ، والهدايةُ.
فإذا عَرَفتَ هذا فقِسْ عليه التَّوكُّلَ على اللهِ سُبحانَه، وإذا ثَبَتَ في نَفسِك أنَّه لا فاعِلَ سِواه، واعتَقَدتَ مَعَ ذلك أنَّه تامُّ العِلمِ والقُدرةِ والرَّحمةِ، وأنَّه ليسَ وراءَ قُدرَتِه قُدرةٌ، ولا وراءَ عِلمِه عِلمٌ، ولا وراءَ رَحمَتِه رَحمةٌ، اتَّكَل قَلبُك عليه وَحدَه لا مَحالةَ، ولم يَلتَفِتْ إلى غَيرِه بوَجهٍ، فإن كُنتَ لا تَجِدُ هذه الحالةَ مِن نَفسِك فسَبَبُه أحَدُ أمرَينِ:
إمَّا ضَعفُ اليَقينِ بأحَدِ هذه الخِصالِ، وإمَّا ضَعفُ القَلبِ باستيلاءِ الجُبنِ عليه، وانزِعاجِه بسَبَبِ الأوهامِ الغالبةِ عليه؛ فإنَّ القَلبَ قد يَنزَعِجُ ببَقاءِ الوَهمِ وطاعَتِه له مِن غَيرِ نُقصانٍ في اليَقينِ؛ فإنَّه مَن كان يَتَناولُ عَسَلًا فشُبِّهَ بَينَ يَدَيه بالعَذِرةِ، رُبَّما نَفرَ طَبعُه مِنه، وتَعَذَّرَ عليه تَناوُلُه.
ولو كُلِّف العاقِلُ أن يَبيتَ مَعَ المَيِّتِ في قَبرٍ أو فِراشٍ أو بَيتٍ، نَفَرَ طَبعُه مِن ذلك، وإن كان مُتَيَقِّنًا كَونَه مَيِّتًا جَمادًا في الحالِ، ولا يَنفِرُ طَبعُه عن سائِرِ الجَماداتِ! وذلك جُبنٌ في القَلبِ، وهو نَوعُ ضَعفٍ قَلَّما يَخلو الإنسانُ مِنه، وقد يَقوى ذلك حتَّى يَصيرَ مَرَضًا، حتَّى يَخافَ أن يَبيتَ في البَيتِ وَحدَه مَعَ غَلقِ البابِ وإحكامِه، فإذَنْ لا يَتِمُّ التَّوكُّلُ إلَّا بقوَّةِ القَلبِ، وقوَّةِ اليَقينِ جَميعًا) [166] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 332). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (4/ 259). .
2- قال ابنُ تَيميَّةَ: (التَّوكُّلُ إنَّما يَصِحُّ مَعَ القيامِ بما أُمِرَ به العَبدُ؛ ليَكونَ عابدًا للهِ مُتَوكِّلًا عليه، وإلَّا فمَن تَوكَّل عليه ولم يَفعَلْ ما أُمِرَ به فقد يَكونُ ما أضاعَه مِنَ الأمرِ أَولى به مِمَّا قامَ به مِنَ التَّوكُّلِ، أو مِثلَه أو دونَه، كَما أنَّ مَن قامَ بأمرٍ ولم يَتَوكَّلْ عليه ولم يَستَعِنْ به، فلم يَقُمْ بالواجِبِ، بَل قد يَكونُ ما تَرَكَه مِنَ التَّوكُّلِ والاستِعانةِ أَولى به مِمَّا فعَلَه مِنَ الأمرِ أو مِثلَه أو دونَه) [167] ((جامع الرسائل)) (2/ 114، 115). .
3- قال ابنُ تيميَّةَ: (في قصَّةِ يوسفَ تنبيهٌ على أنَّ المؤمنَ المتوكِّلَ على الله إذا كاده الخَلقُ فإنَّ اللهَ يَكيدُ له، ويَنتصِرُ له بغيرِ حَولٍ منه ولا قوَّةٍ) [168] ((الفتاوى الكبرى)) (6/ 132). .
4- قال ابنُ القَيِّمِ: (على قَدرِ حُسنِ ظَنِّك بربِّك ورجائِك له يكونُ توكُّلُك عليه؛ ولذلك فسَّر بعضُهم التَّوكُّلَ بحُسنِ الظَّنِّ باللهِ، والتَّحقيقُ: أنَّ حُسنَ الظَّنِّ به يدعوه إلى التَّوكُّلِ عليه؛ إذ لا يُتصَوَّرُ التَّوكُّلُ على مَن ساء ظنُّك به، ولا التَّوكُّلُ على من لا ترجوه. واللهُ أعلمُ) [169] ((مدارج السالكين)) (2/ 121). .
5- قال ابنُ القَيِّمِ: (وكان شَيخُنا [170] يعني: ابنَ تيميَّةَ. يَقولُ: المَقدورُ يَكتَنِفُه أمرانِ: التَّوكُّلُ قَبلَه، والرِّضا بَعدَه؛ فمَن تَوكَّل على اللهِ قَبلَ الفِعلِ، ورَضيَ بالمَقضيِّ له بَعدَ الفِعلِ؛ فقد قامَ بالعُبوديَّةِ) [171] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (2/ 122). .
6- قال ابنُ رَجَبٍ: (اعلَمْ أنَّ تَحقيقَ التَّوكُّلِ لا يُنافي السَّعيَ في الأسبابِ التي قدَّرَ اللهُ سُبحانَه المقدوراتِ بها، وجَرَت سُنَّتُه في خَلقِه بذلك؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى أمر بتَعاطي الأسبابِ مَعَ أمرِه بالتَّوكُّلِ؛ فالسَّعيُ في الأسبابِ بالجَوارِحِ طاعةٌ له، والتَّوكُّلُ بالقَلبِ عليه إيمانٌ به، كما قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71] ، وقال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال: 60] ، وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] . وقال سَهلٌ التُّستَريُّ: مَن طَعنَ في الحَرَكةِ -يَعني: في السَّعيِ والكَسبِ- فقد طَعنَ في السُّنَّةِ، ومَن طَعَن في التَّوكُّلِ فقد طَعنَ في الإيمانِ؛ فالتَّوكُّلُ حالُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والكَسبُ سُنَّتُه، فمَن عَمِلَ على حالِه فلا يَترُكنَّ سُنَّتَه) [172] ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 498). .

انظر أيضا: