المَطْلَبُ الخامِسُ والثَّلاثون: الآثارُ الإيمانيَّةُ لاسمَيِ اللهِ: الحَكَمِ والحَكيمِ
فالحُكمُ للهِ وَحْدَه لا شَريكَ له.
قال اللهُ تعالى:
وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26] .
وقال سُبحانَه:
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] .
قال ابنُ الحصارِ في اسمِ اللهِ الحكَمِ: (قد تضَمَّن هذا الاسمُ جميعَ الصِّفاتِ العُلا والأسماءِ الحُسنى؛ إذ لا يكونُ حَكَمًا إلَّا سميعٌ بصيرٌ عالمٌ خَبيرٌ.. إلى غيرِ ذلك، فهو سُبحانَه الحَكَمُ بين العبادِ في الدُّنيا والآخرةِ، في الظَّاهِرِ والباطِنِ، وفيما شرع من شَرْعِه، وحَكَم مِن حُكمِه وقضاياه على خَلْقِه قولًا أو فِعلًا، وليس ذلك لغيرِ الله تعالى؛ ولذلك قال تعالى:
لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 70] . وقال:
الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] . فلم يزَلْ حكيمًا قبل أن يحكُمَ، ولا ينبغي ذلك لغيرِه)
[3600] يُنظر: ((الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)) للقرطبي (1/440). .
وقال
الشنقيطيُّ: (الإشراكُ باللهِ في حُكمِه كالإشراكِ به في عبادتِه... وبذلك تعلَمُ أنَّ الحلالَ هو ما أحَلَّه اللهُ، والحرامَ هو ما حَرَّمه اللهُ، والدِّينَ هو ما شرعه اللهُ، فكُلُّ تشريعٍ من غيرِه باطِلٌ، والعَمَلُ به بَدَلَ تشريعِ اللهِ عند من يعتَقِدُ أنَّه مِثلُه أو خيرٌ منه: كُفرٌ بَواحٌ لا نزاعَ فيه)
[3601] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/48). .
واللهُ سُبحانَه يحكُمُ ما يريدُ وما يشاءُ هو وَحْدَه لا شريكَ له، كما قال سُبحانَه:
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة: 1] .
فاللهُ سُبحانَه يقضي في خَلْقِه ما يشاءُ من تحليلِ ما أراد، وتحريمِ ما أراد، وإيجابِ ما شاء، وغيرِ ذلك من أحكامِه وقضاياه. وله الحِكمةُ البالغةُ في ذلك كُلِّه.
وليس لأحدٍ أن يراجِعَ اللهَ في حُكْمِه، كما يراجِعُ النَّاسُ بعضُهم بعضًا في أحكامِهم، كما قال تعالى:
وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد: 41] ، فحُكمُه في الخَلقِ نافِذٌ، ليس لأحدٍ أن يَرُدَّه أو يُبطِلَه.
وكلامُ اللهِ حَكيمٌ ومُحكَمٌ، فهو كلامُ أحكَمِ الحاكِمينَ ورَبُّ العالَمين.
قال اللهُ تعالى:
الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 1-2] .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ... الآية [محمد: 20] .
وحِكمةُ اللهِ تقتضي أن يكونَ القرآنُ حكيمًا ومُحكَمًا، فهو الكتابُ الذي ليس بعده كتابٌ، ولأنَّه الكتابُ الذي أنزله اللهُ ليكونَ تشريعًا عامًّا لكُلِّ مجتَمَعٍ بَشريٍّ، ولكُلِّ فردٍ من أفرادِه، حتى يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.
والإيمانُ بما سبق يقتضي تحكيمَ كِتابِ اللهِ جَلَّ شأنُه؛ لأنَّه لا يوجَدُ كِتابٌ مِثلُ القُرآنِ حكيمًا في كُلِّ شيءٍ. فما شرعه اللهُ سُبحانَه لعبادِه من الأحكامِ والمعاملاتِ والقِصاصِ والحُدودِ وتقسيمِ المواريثِ، وما يتعلَّقُ بالأحوالِ الشَّخصيَّةِ في القرآنِ الكريمِ: هي في منتهى الحِكمةِ؛ لأنَّها تشريعُ الحَكيمِ العليمِ سُبحانَه، الذي لا يدخُلُ حُكمَه خَلَلٌ ولا زَلَلٌ، ولأنَّها قضاءُ من لا يخفى عليه مواضِعُ المصلحةِ في البدءِ والعاقبةِ.
قال اللهُ سُبحانَه:
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] .
وقال اللهُ تعالى:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] .
والملاحَظ أنَّ كثيرًا من آياتِ الأحكامِ تشتَمِلُ خواتيمُها على اسمِ (الحكيم)، كقَولِه:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ إلى قَولِه:
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 11] .
وقَولِه في القَتلِ الخَطَأِ:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَئًا إلى قَولِه:
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 92] .
وقد أمر اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يحكُمَ بين النَّاسِ بما أنزل إليه من الأحكامِ الربانيَّةِ، وأن يترُكَ ما سواها من الآراءِ والأهواءِ، فقال تعالى:
فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة: 48] .
ولم يكُنْ هذا الأمرُ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً، وإنَّما هو ما أُمِرَت به جميعُ الرُّسُلِ من قَبلِه.
قال اللهُ تعالى:
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] .
واللهُ سُبحانَه يؤتي حِكمتَه من يشاءُ، كما قال عن نَفْسِه جلَّ ثناؤه:
يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269] .
وقد تنوَّعت عباراتُ المفَسِّرين في تأويلِ قَولِه تعالى
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ؛ فمنهم من قال: هي الإصابةُ في القَولِ والفِعلِ، وقيل: هي الفِقهُ في القرآنِ والفَهمُ فيه. وقال بعضُهم: هي الفَهمُ والعَقلُ في الدِّينِ، والاتباعُ له. وقال آخرون: هي النبُوَّةُ. وقيل هي: الخَشيةُ لله
[3602] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/ 8)، ((تفسير ابن كثير)) (1/ 700). .
وجاء في الحديثِ ما يدُلُّ على أنَّه من أُوتي الحِكمةَ ينبغي أن يُغبَطَ؛ لعِظَمِ هذه النِّعمةِ عليه، وهو قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا حَسَدَ إلَّا في اثنتينِ: رجلٌ آتاه اللهُ مالًا فسَلَّطه على هَلَكَتِه في الحَقِّ، وآخَرُ آتاه اللهُ حِكمةً فهو يقضي بها ويُعلِّمُها )) [3603] أخرجه البخاري (7141)، ومسلم (816) من حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقد ذكر اللهُ في كتابِه بَعضَ الذين آتاهم الحِكمةَ، فامتَنَّ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك في قَولِه:
وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113] .
وقال عن آلِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا [النساء: 54] .
وقال في شأنِ عيسى عليه السَّلامُ:
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة: 110] .
وفي شأنِ داودَ عليه السَّلامُ:
وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء [البقرة: 251] .
وقال في شأنِ لُقمانَ:
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12] . واللهُ سُبحانَه أعلَمُ حيثُ يجعَلُ حِكمَتَه.
وخَلْقُ اللهِ سُبحانَه مُحكَمٌ لا خَلَلَ فيه ولا قُصورَ؛ قال تعالى:
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] .
وقال:
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ [تبارك: 3].
قال
الخطَّابي: (معنى الإحكامِ لخَلْقِ الأشياءَ، إنما ينصَرِفُ إلى إتقانِ التدبيرِ فيها، وحُسنِ التقديرِ لها؛ إذ ليس كُلُّ الخليقةِ مَوصوفًا بوثاقةِ البِنيةِ، وشِدَّةِ الأَسْرِ؛ كالبقَّةِ، والنَّملةِ، وما أشبَهَهما من ضِعافِ الخَلْقِ، إلَّا أنَّ التدبيرَ فيهما، والدَّلالةَ بهما على كونِ الصانعِ وإثباتِه، ليس بدونِ الدَّلالةِ عليه بخَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ والجِبال وسائِرِ معاظِمِ الخليقةِ، وكذلك هذا في قَولِه جَلَّ وعَزَّ
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] ، لم تقَعِ الإشارةُ به إلى الحُسنِ الرَّائِقِ في المنظَرِ؛ فإنَّ هذا المعنى معدومٌ في القِردِ والخنزيرِ والدُّبِّ، وأشكالها من الحيوانِ، وإنما ينصَرِفُ المعنى فيه إلى حُسنِ التدبيرِ في إنشاءِ كُلِّ شَيءٍ مِن خَلْقِه على ما أحَبَّ أن يُنشِئَه عليه، وإبرازِه على الهيئةِ التي أراد أن يهَيِّئَه عليها، كقَولِه تعالى
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] )
[3604] يُنظر: ((شأن الدُّعاء)) (ص: 73). .