موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ السَّادِسةُ: طُرُقُ إثباتِ العِلَّةِ "مَسالِكُ العِلَّةِ"


تَثبُتُ عِلَّةُ حُكمِ الأصلِ بطُرُقٍ ومَسالِكَ كثيرةٍ، وهذه الطُّرُقُ تَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ:
الأوَّلُ: إثباتُ العِلَّةِ عن طَريقِ النَّقلِ.
الثَّاني: إثباتُ العِلَّةِ عن طَريقِ الاجتِهادِ.
القِسمُ الأوَّلُ: إثباتُ العِلَّةِ عن طَريقِ النَّقلِ "مَسالِكُ العِلَّةِ النَّقليَّةِ":
ويَشتَمِلُ على ما يَلي [1228] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2025). :
الطَّريقُ الأوَّلُ: النَّصُّ على العِلَّةِ.
الطَّريقُ الثَّاني: الإجماعُ.
القِسمُ الثَّاني: إثباتُ العِلَّةِ عن طَريقِ الاجتِهادِ "مَسالِكُ العِلَّةِ الاجتِهاديَّةِ":
ويَشتَمِلُ على ما يَلي [1229] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2033). :
الطَّريقُ الأوَّلُ: الإيماءُ إلى العِلَّةِ.
الطَّريقُ الثَّاني: المُناسَبةُ والإخالةُ.
الطَّريقُ الثَّالثُ: السَّبرُ والتَّقسيمُ.
الطَّريقُ الرَّابعُ: تَنقيحُ المَناطِ.
الطَّريقُ الخامِسُ: الدَّوَرانُ.
الطَّريقُ السَّادِسُ: الوَصفُ الشَّبَهيُّ "الشَّبَهُ".
طُرُقُ إثباتِ العِلَّةِ:
أوَّلًا: النَّصُّ على العِلَّةِ
وهيَ مِن الطُّرُقِ النَّقليَّةِ في إثباتِها، فإذا كانت العِلَّةُ مَنصوصًا عليها وجَبَ اعتِبارُها في نَظائِرِها، فإذا نَصَّ اللهُ تعالى ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الأحكامِ، وذَكَرَ مَعانيَها، ثَبَتَ أنَّه إنَّما نَصَّ على المَعنى، حتَّى إذا عُرِف أُلحِقَ به ما وُجِدَ فيه ذلك المَعنى [1230] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (4/156)، ((العدة)) لأبي يعلى (4/1311). .
والمُرادُ بالنَّصِّ: ما كانت دَلالتُه ظاهرةً، سَواءٌ كانت قاطِعةً أم مُحتَمَلةً [1231] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2294). .
فالنَّصُّ على قِسمَينِ:
الأوَّلُ: النَّصُّ القاطِعُ، وهو النَّصُّ الصَّريحُ، وله ألفاظٌ؛ مِنها:
1- (كي) كقولِ اللهِ تعالى في الفَيءِ: كَيْ لَا يَكُونَ ‌دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7] ، أي: إنما وجَب تخميسُه؛ كي لا يتداوَلَه الأغنياءُ منكم، فلا يَحصُلَ للفُقَراءِ شَيءٌ.
2- ومنها (من أجْلِ كذا) أو (لأجْلِ كذا) كقَولِ اللهِ تعالى: ‌مِنْ ‌أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] ، وقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما جُعِل الاستِئذانُ مِن أجلِ البَصَرِ)) [1232] أخرجه البخاري (6241) واللفظ له، ومسلم (2156) من حديثِ سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((اطَّلعَ رَجُلٌ مِن جُحرٍ في حُجَرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِدرًى يَحُكُّ به رَأسَه، فقال: لو أعلمُ أنَّكَ تَنظُرُ لطَعنتُ به في عَينِك؛ إنَّما جُعِل الاستِئذانُ مِن أجلِ البَصَرِ)). ، وقَولِه: ((إنَّما نَهَيتُكُم مِن أجلِ الدَّافَّةِ التي دَفَّت؛ فكُلوا وادَّخِروا)) [1233] أخرجه مسلم (1971) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ واقدٍ، قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أكلِ لُحومِ الضَّحايا بَعدَ ثَلاثٍ، قال عَبدُ اللهِ بنُ أبي بَكرٍ: فذَكَرتُ ذلك لعَمرةَ، فقالت: صَدَقَ، سَمِعتُ عائِشةَ تَقولُ: دَفَّ أهلُ أبياتٍ مِن أهلِ الباديةِ حَضرةَ الأضحى زَمَنَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ادَّخِروا ثَلاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقوا بما بَقيَ، فلمَّا كان بَعدَ ذلك قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ النَّاسَ يَتَّخِذونَ الأسقيةَ مِن ضَحاياهم، ويَجمُلونَ مِنها الوَدَكَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وما ذاكَ؟ قالوا: نَهَيتَ أن تُؤكَلَ لُحومُ الضَّحايا بَعدَ ثَلاثٍ، فقال: إنَّما نَهَيتُكُم مِن أجلِ الدَّافَّةِ التي دَفَّت؛ فكُلوا وادَّخِروا وتَصَدَّقوا)). ، أي: لأجلِ التَّوسِعةِ على الطَّائِفةِ التي قدِمَت المَدينةَ أيَّامَ التَّشريقِ، والدَّافَّةُ: القافِلةُ السَّائِرةُ [1234] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1311)، ((ميزان الأصول)) للسمرقندي (ص: 591)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (3/137)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/347). .
الثَّاني: النَّصُّ الظَّاهرُ، وهو اللَّامُ، وإنَّ، والباءُ.
أمَّا (اللَّامُ) فكما في قَولِ اللهِ تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ ‌لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] ؛ فإنَّ أهلَ اللُّغةِ نَصُّوا على أنَّه للتَّعليلِ، وإنَّما لم يَكُنْ صَريحًا لاحتِمالِ الاختِصاصِ، أو المِلكِ وغَيرِ ذلك.
وأمَّا (إنَّ) فكقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المُحرِمِ الذي وقَصَته ناقَتُه: ((لا تُمِسُّوه طِيبًا ولا تُخَمِّروا رَأسَه ولا تُحَنِّطوه؛ فإنَّ اللَّهَ يَبعَثُه يَومَ القيامةِ مُلبِّيًا)) [1235] أخرجه البخاري (1850) واللفظ له، ومسلم (1206). ، وهذا مِن بابِ تَعليقِ الحُكمِ على عِلَّتِه بلفظِ الفاءِ، وقد تَدخُلُ الفاءُ على العِلَّةِ والحُكمُ مُتَقدِّمٌ، وقد تَدخُلُ الفاءُ على الحُكمِ والعِلَّةُ مُتَقدِّمةٌ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ، ومِثلُه قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة: 6] ، وقال اللهُ تعالى: فَإِنْ كَانَ الذي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة: 282] ، فهذا دَليلٌ على أنَّ العِلَّةَ في قيامِ وليِّه بالإملاءِ هو أنَّه لا يَستَطيعُ أن يُمِلَّ هو.
وأمَّا (الباءُ) فكما في قَولِ اللهِ تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ‌لِنْتَ ‌لَهُمْ [آل عمران: 159] [1236] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/131)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2297)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/122)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/347). .
هَل النَّصُّ على عِلَّةِ الحُكمِ أمرٌ بالقياسِ؟
إذا نَصَّ الشَّارِعُ على عِلَّةِ حُكمٍ في مَحَلٍّ، كما لو قال مَثَلًا: "حَرَّمتُ الخَمرَ لكَونِها مُسكِرةً"، فهَل يَكونُ ذلك مِنه أمرًا بقياسِ كُلِّ ما وُجِدَت فيه هذه العِلَّةُ على مَحَلِّ هذا الحُكمِ الخاصِّ الذي نَصَّ الشَّرعُ على عِلَّتِه، حتَّى ولو لم يَرِدْ مِن الشَّارِعِ التَّعَبُّدُ بالقياسِ، أو لا يَكونُ هذا التَّنصيصُ على الحُكمِ مَعَ عِلَّتِه أمرًا بالقياسِ عليها إلَّا بَعدَ ثُبوتِ التَّعَبُّدِ بالقياسِ شَرعًا [1237] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1372)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/42). ؟
إنَّ النَّصَّ على العِلَّةِ يَكفي في الأمرِ بالقياسِ مُطلَقًا، سَواءٌ كان التَّنصيصُ على العِلَّةِ في جانِبِ الفِعلِ بأن يَكونَ إيجابًا أو نَدبًا، أو في جانِبِ التَّركِ بأن يَكونَ الحُكمُ تَحريمًا أو كراهيةً. فإذا ورَدَ النَّصُّ بتَعليلِ مَعنًى، عَلِمنا أنَّه قد أُريدَ مِنَّا اعتِبارُه في نَظائِرِه، وإجراءُ الحُكمِ عليه فيما وُجِدَ فيه، ما لم يَمنَعْ مِنه مانِعٌ.
وهذا القَولُ رِوايةٌ عن أحمَدَ [1238] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1372)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/221). ، وهو قَولُ جُمهورِ الفُقَهاءِ والأُصوليِّينَ [1239] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/42). ، وبه قال الحَنَفيَّةُ [1240] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (4/122)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (4/111)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/369). ، وبَعضُ الشَّافِعيَّةِ [1241] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (7/3159). ، والحَنابلةِ [1242] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/221). .
واستَدَلُّوا بأنَّ النَّصَّ ورَد مُعَلَّلًا، وذِكرُ العِلَّةِ مَعَ الحُكمِ يُفيدُ تَعميمَه في مَحالِّ وُجودِها؛ لأنَّه المُتَبادِرُ إلى الفَهمِ؛ حَيثُ إنَّ التَّعليلَ يوجِبُ اعتِبارَ المَعنى الذي جُعِل عِلَّةَ الحُكمِ، وإجراءَه عليه، فوجَبَ الحُكمُ في غَيرِ المَنصوصِ عليه إذا وُجِدَت عِلَّتُه، وإلَّا لم يَكُنْ للعِلَّةِ فائِدةٌ [1243] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (4/122)، ((العدة)) لأبي يعلى (4/1372)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/369). .
وقيل: إنَّ النَّصَّ على العِلَّةِ لا يَكونُ أمرًا بالقياسِ مُطلقًا، سَواءٌ كان التَّنصيصُ على العِلَّةِ في جانِبِ الفِعلِ أو في جانِبِ التَّركِ. وهو قَولُ أكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [1244] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (4/55)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/42). ، وقال ابنُ السُّبكيِّ: (وإليه ذَهَب المُحَقِّقونَ) [1245] ((الإبهاج)) (6/2224). .
وقيل: إنَّ النَّصَّ على العِلَّةِ أمرٌ بالقياسِ في جانِبِ التَّركِ، أي: في التَّحريمِ فقَط، أمَّا التَّنصيصُ على العِلَّةِ في جانِبِ الفِعلِ فليسَ أمرًا بالقياسِ.
أي: إن كانت العِلَّةُ المنصوصةُ عِلَّةً في التَّحريمِ كان النَّصُّ عليها تَعبُّدًا بالقياسِ بها، وإن كانت عِلَّةً في إيجابِ الفِعلِ أو كونِه نَدبًا لم يَكُنِ النَّصُّ عليها تَعبُّدًا بالقياسِ بها.
فإذا قال الشَّارِعُ: "حَرَّمتُ الخَمرَ لإسكارِها" فالتَّنصيص على العِلَّةِ هنا يُفيدُ الأمرَ بالقياسِ؛ لكَونِه يُفيدُ التَّركَ والتَّحريمَ. وإذا قال: "تُصُدِّقَ على زَيدٍ لفَقرِه" فالتَّنصيصُ على العِلَّةِ هنا لا يُفيدُ الأمرَ بالقياسِ [1246] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/235)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (4/111). .
والخِلافُ في هذه المَسألةِ لَفظيٌّ لا ثَمَرةَ له؛ لأنَّ النَّفيَ والإثباتَ هنا لم يَتَوارَدْ على مَحَلٍّ واحِدٍ؛ حَيثُ إنَّ ما أثبَتَه كُلُّ فريقٍ لا يَنفيه الآخَرُ، وما نَفاه كُلُّ فريقٍ لا يُثبتُه الآخَرُ.
فأحَدُ القَولينِ يَفرِضُ الكَلامَ في استِقلالِ التَّنصيصِ على العِلَّةِ بالوُجوبِ بدونِ ضَميمةِ شَيءٍ آخَرَ، والقَولُ الثَّاني يَفرِضُه في عَدَمِ استِقلالِ التَّنصيصِ على العِلَّةِ بالوُجوبِ [1247] يُنظر: ((سلم الوصول)) للمطيعي (4/24)، ((الخلاف اللفظي عند الأصوليين)) لعبد الكريم النملة (2/119). .
ثانيًا: الإجماعُ على كَونِ الوَصفِ عِلَّةً
وهو مِن الطُّرُقِ النَّقليَّةِ في إثباتِها، وهو أن يَثبُتَ كونُ الوَصفِ عِلَّةً في حُكمِ الأصلِ بالإجماعِ، والمُرادُ به أن تُجمِعَ الأُمَّةُ على أنَّ هذا الحُكمَ عِلَّتُه كذا، فإذا أجمَعوا على عِلِّيَّةِ وَصفِ الحُكمِ إجماعًا قَطعيًّا أو ظَنِّيًّا، ثَبَتَ كونُه عِلَّةً له [1248] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 110)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 699)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/312)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/116). .
ومِثالُه: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقضي القاضي وهو غَضبانُ)) [1249] أخرجه الطوسي في ((مختصر الأحكام)) (1232) من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه. صحَّحه الألباني في تخريج ((مشكلة الفقر)) (7). وأخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ البخاريِّ: ((كَتَبَ أبو بَكرةَ إلى ابنِه -وكان بسِجِستانَ- بأن لا تَقضيَ بَينَ اثنَينِ وأنتَ غَضبانُ؛ فإنِّي سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: لا يَقضيَنَّ حَكَمٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ). .
فقد أجمَعوا على أنَّ النَّهيَ فيه لأجلِ أنَّ الغَضَبَ يَشغَلُ قَلبَه؛ ولهذا لا يَجوزُ له القَضاءُ عِندَ فواتِ حُضورِ قَلبِه، واشتِغالِه بأمرٍ آخَرَ، كغَلَبةِ الجوعِ أو النَّومِ أو البَردِ المُفرِطِ، أو الحَرِّ المُفرِطِ، أو الخَوفِ الغالبِ، وما جَرى مَجراها [1250] يُنظر: ((جامع الأصول)) لركن الدين السمرقندي (2/157). .
وكذلك تَقديمُ الأخِ الشَّقيقِ في الميراثِ على الأخِ للأبِ بامتِزاجِ السَّبَبَينِ، أي: وجودِهما فيه، فيُقاسُ عليه تَقديمُه في وِلايةِ النِّكاحِ، وصَلاةِ الجِنازةِ، وتَحَمُّلِ العَقلِ، والوصيَّةِ لأقرَبِ الأقارِبِ، والوَقفِ عليه، ونَحوِها؛ فالإجماعُ مُنعَقِدٌ على التَّقديمِ في الميراثِ، وعلى أنَّ التَّقديمَ بهذه العِلَّةِ [1251] يُنظر: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 561)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/347). .
ثالثًا: الإيماءُ والتَّنبيهُ
وهو اقتِرانُ الوَصفِ بحُكمٍ لو لم يَكُنْ ذلك الوَصفُ أو نَظيرُه عِلَّةً للحُكمِ، كان ذلك الاقتِرانُ بَعيدًا مِن الشَّارِعِ [1252] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/92) وهذا التَّعريفُ في أصلِه مَأخوذٌ مِن تَعريفِ ابنِ الحاجِبِ للإيماءِ بأنَّه: (الاقتِرانُ بحُكمٍ لو لم يَكُنْ هو أو نَظيرُه للتَّعليلِ كان بَعيدًا). ((المختصر)) (2/1073). لكِنَّ الأصفهانيَّ زادَ فيه قُيودًا جَعَلَته أوضَحَ مِن تَعريفِ ابنِ الحاجِبِ. .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبَيانُ مُحتَرَزاتِه:
- "اقتِرانُ الوَصفِ بحُكمٍ": فيه تَقييدٌ للوَصفِ بكَونِه مَلفوظًا به [1253] يُنظر: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 564). .
والاقتِرانُ: مَعناه الجَمعُ بَينَ شَيئَينِ.
وتَقييدُ الاقتِرانِ بكَونِه بَينَ الوصفِ والحُكمِ خَرَجَ به ما دَلَّ على العِلِّيَّةِ بلفظٍ -كالفاءِ- مِن غَيرِ اقتِرانٍ [1254] يُنظر: ((نبراس العقول)) لعيسى منون (ص: 237)، ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (4/56). .
- "لو لم يَكُنْ ذلك الوَصفُ أو نَظيرُه عِلَّةً للحُكمِ": أي: لو لم يَكُنْ هو لتَعليلِ الحُكمِ، أو نَظيرُه لتَعليلِ نَظيرِ الحُكمِ، وذلك حَيثُ يُشارُ بالوَصفِ والحُكمِ إلى نَظيرَيهما [1255] يُنظر: ((نبراس العقول)) لعيسى منون (ص: 237). .
مِثالُ اقتِرانِ الوَصفِ بالحُكمِ للدَّلالةِ على أنَّ الوصفَ عِلَّةٌ للحُكمِ:
أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((يا رَسولَ اللهِ، هَلكتُ! قال: ما لك؟! قال: وقَعتُ على امرَأتي وأنا صائِمٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَل تَجِدُ رَقَبةً تُعتِقُها؟..)) الحَديثُ [1256] لفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((بَينَما نَحنُ جُلوسٌ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاءَه رَجُلٌ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، هَلكتُ! قال: ما لكَ؟ قال: وقَعتُ على امرَأتي وأنا صائِمٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل تَجِدُ رَقَبةً تُعتِقُها؟ قال: لا، قال: فهَل تَستَطيعُ أن تَصومَ شَهرَينِ مُتَتابعَينِ؟ قال: لا، فقال: فهَل تَجِدُ إطعامَ سِتِّينَ مِسكينًا؟ قال: لا، قال: فمَكَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبينا نَحنُ على ذلك أُتيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَرَقٍ فيها تَمرٌ -والعَرَقُ المِكتَلُ- قال: أينَ السَّائِلُ؟ فقال: أنا، قال: خُذْها، فتَصَدَّقْ به، فقال الرَّجُلُ: أعلى أفقَرَ مِنِّي يا رَسولَ اللهِ؟ فواللهِ ما بَينَ لابَتَيها -يُريدُ الحَرَّتَينِ- أهلُ بَيتٍ أفقَرُ مِن أهل بَيتي، فضَحِكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى بَدَت أنيابُه! ثُمَّ قال: أطعِمْه أهلَك)) أخرجه البخاري (1936) واللَّفظُ له، ومسلم (1111). ، فلو لم يَكُنْ عِتقُ الرَّقَبةِ لعِلَّةِ المواقَعةِ لكان الكَلامُ بلا فائِدةٍ [1257] يُنظر: ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/80). .
مِثالُ اقتِرانِ الوَصفِ بالحُكمِ للدَّلالةِ على أنَّ نَظيرَ الوصفِ عِلَّةٌ لنَظيرِ الحُكمِ:
قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لما سَألته امرَأةٌ عن الحَجِّ عن أبيها: ((أرَأيتِ لو كان على أبيكِ دَينٌ فقَضَيتِه أكان يُجزئُ عنه؟ قالت: نَعَم. قال: فدَينُ اللَّهِ أحَقُّ أن يُقضى)) [1258] أخرجه البخاري (7315) بلفظٍ مُقارِبٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظِ: ((أنَّ امرَأةً جاءَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: إنَّ أُمِّي نَذَرَت أن تَحُجَّ، فماتَت قَبل أن تَحُجَّ، أفأحُجُّ عنها؟ قال: نَعَم، حُجِّيّ عنها، أرَأيتِ لو كان على أُمِّكِ دَينٌ أكُنتِ قاضيَتَه؟ قالت: نَعَم، فقال: اقضوا اللَّهَ الذي له؛ فإنَّ اللَّهَ أحَقُّ بالوفاءِ)). .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَرَنَ بَينَ دَينِ العِبادِ ووُجوبِ قَضائِه، وهو اقتِرانُ وصفٍ بحُكمٍ، وفائِدةُ الاقتِرانِ هيَ الدَّلالةُ على أنَّ نَظيرَ الوصفِ عِلَّةٌ لنَظيرِ الحُكمِ، وبذلك يُمكِنُ مَعرِفةُ حُكمِ المسؤولِ عنه بقياسِه على ما عُلمَ حُكمُه مِن الجَوابِ؛ حَيثُ إنَّ فيه تَنبيهًا على الأصلِ: الذي هو دَينُ الآدَميِّ، والفَرعِ: وهو الحَجُّ الواجِبُ عليه، والعِلَّةِ: وهيَ قَضاءُ دَينِ المَيِّتِ؛ فلو لم يَكُنْ هذا الاقتِرانُ مُفيدًا للعِلِّيَّةِ لخَلا السُّؤالُ عن الجَوابِ، وللزِمَ تَأخيرُ البَيانِ عن وَقتِ الحاجةِ، وهو باطِلٌ [1259] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/266)، ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (4/58). .
- "كان ذلك الاقتِرانُ بَعيدًا مِن الشَّارِعِ": أي: كان بَعيدًا مِن فصاحةِ كلامِ الشَّارِع وإتيانِه بالألفاظِ في مَواضِعِها؛ لتَنَزُّهِ كلامِه عن الحَشوِ الذي لا فائِدةَ فيه؛ لأنَّه يَبعُدُ مِن الشَّارِعِ الإتيانُ بمِثلِه؛ لخُلوِّه عن الفائِدةِ، فيُحمَلُ على التَّعليلِ دَفعًا للاستِبعادِ [1260] يُنظر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (4/82)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/1950). .
ومِن هذا التَّعريفِ يُعلَمُ أنَّ الإيماءَ إنَّما هو الإشارةُ إلى التَّعليلِ [1261] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/266). .
نَوعُ دَلالةِ الإيماءِ على العِلِّيَّةِ:
دَلالةُ الإيماءِ على العِلِّيَّةِ دَلالةٌ التِزاميَّةٌ، فالتَّعليلُ فيه يَكونُ لازِمًا مِن مَدلولِ اللَّفظِ وضعًا، لا أن يَكونَ اللَّفظُ دالًّا بوضعِه على التَّعليلِ؛ إذ تُفهَمُ العِلِّيَّةُ فيه مِن جِهةِ المَعنى لا مِن جِهةِ اللَّفظِ؛ إذ اللَّفظُ لو كان مَوضوعًا لها لم تَكُنْ دَلالتُه مِن قَبيلِ الإيماءِ، بَل كان صَريحًا في ذلك. ووَجهُ دَلالتِه: أنَّ ذِكرَه مَعَ الحُكمِ يَمنَعُ أن يَكونَ لغَيرِ فائِدةٍ؛ لأنَّه عَبَثٌ، فتَعَيَّن أن يَكونَ لفائِدةٍ، وهيَ إمَّا كونُه عِلَّةً أو جُزءَ عِلَّةٍ أو شَرطًا، والأظهَرُ كَونُه عِلَّةً؛ لأنَّه الأكثَرُ في تَصَرُّفِ الشَّارِعِ، ومِمَّن ذَهَبَ إلى ذلك الآمِديُّ [1262] يُنظر: ((الإحكام)) (3/254). ، والصَّفيُّ الهِنديُّ [1263] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (8/3267). ، والزَّركَشيُّ [1264] يُنظر: ((البحر المحيط)) (7/251). .
وقيل: دَلالةُ الإيماءِ على العِلِّيَّةِ دَلالةٌ وَضعيَّةٌ، أي: أنَّ تَرتيبَ الحُكمِ على الوَصفِ يُفيدُ العِلِّيَّةَ بوَضعِ اللُّغةِ. وبه قال ابنُ السُّبكيِّ [1265] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2308). .
أنواعُ الإيماءِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: تَرتيبُ الحُكمِ على الوَصفِ بفاءِ التَّعقيبِ والتَّسبيبِ، بأن يَذكُرَ حُكمًا ووصفًا، وتَدخُلَ الفاءُ على أحَدِهما، وهذا على وجهَينِ.
أحَدُهما: أن يَذكُرَ الحُكمَ أوَّلًا ثُمَّ الوَصفَ بَعدَه مَعَ الفاءِ، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المُحرِمِ الذي وقَصَته ناقَتُه: ((لا تُمِسُّوه طِيبًا... فإنَّ اللَّهَ يَبعَثُه يَومَ القيامةِ مُلبِّيًا)) [1266] أخرجه البخاري (1850) واللفظ له، ومسلم (1206) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وثانيهما: عَكسُه، بأن تَدخُلَ الفاءُ على الحُكمِ، وتَكونَ العِلَّةُ مُتَقدِّمةً، وهو تارةً في كلامِ اللهِ تعالى، كقَولِه سُبحانَه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ، وقَولِه عَزَّ وجَلَّ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] .
وتارةً في كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كقَولِه: ((مَن أحيا أرضًا مَيِّتةً فهيَ له)) [1267] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغةِ التضعيفِ قبل حديث (2335)، وأخرجه موصولًا الترمذي (1379)، وأحمد (14636) من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (5205)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (96)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/57). .
وتارةً في كلامِ الرَّاوي، كقَولِه: ((سَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَجَدَ)) [1268] أخرجه الترمذي (393)، وأحمد (4358) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أحمَدَ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَها في الصَّلاةِ فسَجَدَ سَجدَتي السَّهوِ بَعدَ الكَلامِ)). صحَّحه الترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (2/245)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (393). ودُخولُ الفاءِ على الحُكمِ، وتَكونُ العِلَّةُ مُتَقدِّمةً في كَلامِ الرَّاوي، كقَولِه: ((صَلَّى بنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الظُّهرَ خَمسًا، فقيل: أزِيدَ في الصَّلاةِ؟ قال: وما ذاكَ؟ قالوا: صَلَّيتَ خَمسًا، فسَجَدَ سَجدَتَينِ بَعدَ ما سَلَّمَ)). أخرجه البخاري (7249) واللَّفظُ له، ومسلم (572) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
والدَّليلُ على أنَّ هذا النَّوعَ مِن الإيماءِ يُفيدُ العِلِّيَّةَ: هو أنَّ الفاءَ في اللُّغةِ للتَّعقيبِ، فدُخولُها على الحُكمِ بَعدَ الوَصفِ يَقتَضي ثُبوتَ الحُكمِ عَقيبَ الوَصفِ، فيَلزَمُ أن يَكونَ الوَصفُ سَبَبًا له؛ إذ لا مَعنى لكَونِ الوَصفِ سَبَبًا للحُكمِ إلَّا أنَّه يُثبِتُ الحُكمَ عَقيبَه.
ودَلالةُ هذا النَّوعِ مِن الإيماءِ دَلالةٌ ظاهريَّةٌ؛ لتَخَلُّفِ الحُكمِ في بَعضِ مَحالِّه، وهذا عِندَما تَكونُ الفاءُ بمَعنى "الواوِ" في إرادةِ الجَمعِ المُطلَقِ، أو تَكونُ بمَعنى "ثُمَّ" في إرادةِ التَّأخيرِ مَعَ المُهلةِ [1269] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 27)، ((المحصول)) للرازي (5/143)، ((الإحكام)) للآمدي (3/254)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3267)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/126). .
النَّوعُ الثَّاني: أن يَحكُمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحُكمٍ في مَحَلٍّ عِندَ عِلمِه بصِفةٍ فيه، فيَغلبُ على الظَّنِّ أنَّ تلك الصِّفةَ عِلَّةٌ لذلك الحُكمِ، فلو حَدَثَت واقِعةٌ فرُفِعَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فحَكَمَ عَقيبَها بحُكمٍ، فإنَّه يَدُلُّ على كونِ ما حَدَثَ عِلَّةً لذلك الحُكمِ.
مِثالُه: أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((يا رَسولَ اللهِ، هَلكتُ! قال: ما لك؟! قال: وقَعتُ على امرَأتي وأنا صائِمٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَل تَجِدُ رَقَبةً تُعتِقُها؟..)) الحَديثَ [1270] أخرجه البخاري (1936) واللَّفظُ له، ومسلم (1111). ؛ فإنَّه يَدُلُّ على أنَّ الجِماعَ في نَهارِ رَمَضان سَبَبٌ لوُجوبِ عِتقِ الرَّقَبةِ؛ لأنَّ الأعرابيَّ إنَّما سَأل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن واقِعَتِه لبَيانِ حُكمِها شَرعًا، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما ذَكَرَ ذلك الحُكمَ في مَعرِضِ الجَوابِ له؛ لأنَّه لو لم يَكُنْ جَوابًا عنه لزِمَ إخلاءُ السُّؤالِ عن الجَوابِ، وتَأخيرُ البَيانِ عن وقتِ الحاجةِ، وهذا غَيرُ جائِزٍ [1271] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 32)، ((الإحكام)) للآمدي (3/255)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2313). .
النَّوعُ الثَّالثُ: أن يَذَكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الحُكمِ وصفًا، ولم يُصَرِّحْ بالتَّعليلِ، لكِنْ لو قُدِّرَ أنَّ ذلك الوَصفَ غَيرُ مُؤَثِّرٍ في الحُكمِ وغَيرُ موجِبٍ له لما كان لذِكرِه فائِدةٌ، فيَكونُ ذِكرُ الوَصفِ تَنبيهًا على أنَّه العِلَّةُ؛ لأنَّه لو لم يَكُنْ عِلَّةً للحُكمِ لكان ذِكرُه عَبَثًا لا فائِدةَ فيه.
وهو على أقسامٍ:
الأوَّلُ: أن يُذكَرَ الحُكمُ لدَفعِ إشكالٍ يَرِدُ على حُكمِه في مَحَلٍّ آخَرَ، ويُردِفُه بوَصفٍ، فيَغلبُ على الظَّنِّ أنَّ ذلك الوَصفَ عِلَّةُ ذلك الحُكمِ.
ومِثالُه: قَولُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه عن الهِرَّةِ: ((إنَّها ليسَت بنَجَسٍ؛ إنَّها مِن الطَّوَّافينَ عليكُم والطَّوَّافاتِ)) [1272] أخرجه أبو داود (75) واللفظ له، والترمذي (92)، والنسائي (68) من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه. صحَّحه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/222)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1299)، والحاكم في ((المستدرك)) (567) وقال: وهذا الحديث مما صحَّحه مالك، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/236)، والنووي في ((الإيجاز)) (322). فلو لم يَكُنْ لكَونِها مِن الطَّوَّافينَ أثَرٌ في طَهارَتِها لم يَكُنْ لذِكرِه عَقيبَ الحُكمِ بطَهارَتِها فائِدةٌ.
الثَّاني: أن يُسألَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن حُكمِ شَيءٍ، فيَسألَ عليه السَّلامُ عن وَصفٍ له، فإذا أُخبرَ عنه حَكَمَ فيه بحُكمٍ، فيُفيدُ أنَّ ذلك الوَصفَ عِلَّةُ الحُكمِ.
مِثالُه: ما رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سُئِل عن بَيعِ الرُّطَبِ بالتَّمرِ، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أيَنقُصُ الرُّطَبُ إذا يَبِسَ؟ فقالوا: نَعَم. فقال عليه السَّلامُ: فلا، إذَن)) [1273] أخرجه أبو داود (3359)، والترمذي (1225)، وأحمد (1544) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أحمَدَ: ((سُئِل سَعدٌ عن البَيضاءِ بالسَّلتِ فكَرِهَه، وقال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسأَلُ عن الرُّطَبِ بالتَّمرِ، فقال: يَنقُصُ إذا يَبِسَ؟ قالوا: نَعَم، قال: فلا إذًا)). صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (4997)، وابن المُلقِّنِ في ((البَدر المُنير)) (6/477)، والألبانيّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3359). فلو لم يَكُنْ نُقصانُ الرُّطَبِ بالجَفافِ عِلَّةً في مَنعِ بَيعِه رُطَبًا لم يَكُنْ للسُّؤالِ عنه وذِكرِ الحُكمِ بَعدَه فائِدةٌ.
وهذا يَدُلُّ على العِلِّيَّةِ بوجهَينِ آخَرَينِ:
أحَدُهما: أنَّه رَتَّب الحُكمَ على الوَصفِ بالفاءِ.
وثانيهما: أنَّه قَرَنه بـ (إذَن) وهيَ مِن صيَغِ التَّعليلِ.
الثَّالثُ: أن يُسألَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن حُكمِ واقِعةٍ، فيَتَعَرَّضَ لنَظيرٍ لها ويُنَبِّهَ على وَجهِ الشَّبَهِ بَينَه وبَينَ المسؤولِ عنه بذِكرِ وَصفٍ مُشتَرَكٍ بَينَهما، فيُفيدُ ذلك أنَّ وَجهَ الشَّبَهِ هو العِلَّةُ.
ومِثالُه: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للخَثْعَميَّةِ حينَ سَألَته عن حَجِّها لأبيها: ((أرَأيتِ لو كان على أبيكِ دَينٌ فقَضَيتِه أكان يُجزِئُ عنه؟ فقالت: نَعَم. فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فدَينُ اللهِ أحَقُّ بالقَضاءِ)) [1274] أخرجه البخاري (7315) بلفظٍ مُقارِبٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظِ: ((أنَّ امرَأةً جاءَت إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: إنَّ أُمِّي نَذَرَت أن تَحُجَّ، فماتَت قَبل أن تَحُجَّ، أفأحُجُّ عنها؟ قال: نَعَم، حُجِّيّ عنها، أرَأيتِ لو كان على أُمِّكِ دَينٌ أكُنتِ قاضيَتَه؟ قالت: نَعَم، فقال: اقضوا اللَّهَ الذي له؛ فإنَّ اللَّهَ أحَقُّ بالوفاءِ)). . ففيه تَنبيهٌ على الأصلِ: الذي هو دينُ الآدَميِّ على المَيِّتِ، والفَرعِ: وهو الحَجُّ الواجِبُ عليه، والعِلَّةِ: وهو قَضاءُ دَينِ المَيِّتِ؛ فقد جَمَعَ فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أركانَ القياسِ كُلَّها.
فأجابَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الواقِعةِ المَسؤولِ عنها بتَقريرِ الحُكمِ في نَظيرَتِها على وَجهِ الشَّبَهِ بذِكرِ وصفٍ مُشتَرَكٍ بَينَهما، وهو عَدَمُ حُصولِ ما هو المَطلوبُ مِن المُقدِّمَتَينِ، وكَونُ كُلِّ واحِدٍ مِنهما دَينًا، ولو لم يُفِدْ هذا الكَلامُ عِلِّيَّةَ المُشتَرَكِ لما حَصَل الجَوابُ عن المسؤولِ بهذا الكَلامِ [1275] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 39)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3272)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1260)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2315)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/132). .
النَّوعُ الرَّابعُ: أن يُفرِّقَ الشَّارِعُ بَينَ شَيئَينِ في الحُكمِ بذِكرِ صِفةٍ، فهذا يُفيدُ أنَّ تلك الصِّفةَ عِلَّةُ التَّفرِقةِ؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يَكونَ لتلك التَّفرِقةِ مِن سَبَبٍ، ولا بُدَّ أن يَكونَ لذِكرِ ذلك الوصفِ مِن فائِدةٍ، فإذا جَعَلنا الوَصفَ سَبَبًا للتَّفرِقةِ حَصَلت الفائِدةُ؛ إذ لو لم تَكُنْ تلك الصِّفةُ عِلَّةَ التَّفرِقةِ لم يَكُنْ لذِكرِها فائِدةٌ، بَل فيه مَفسَدةٌ، وهو إيهامُ ما ليسَ بعِلَّةٍ عِلَّةً.
وهذا النَّوعُ على قِسمَينِ:
1- ما يَكونُ حُكمُ أحَدِهما مَذكورًا في خِطابٍ، وحُكمُ الآخَرِ في خِطابٍ آخَرَ.
ومِثالُه: قَولُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((لا يَرِثُ القاتِلُ)) [1276] أخرجه الدارمي (3086)، وعبد الرزاق (17786). حسن إسناده ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/105). ؛ فإنَّه قد تَقدَّمَ بَيانُ الوَرَثةِ وإرثِهم في خِطابٍ آخَرَ، وإنَّما جاءَ في هذا الخِطابِ بَيانُ أنَّ القاتِلَ مِنهم لا يَرِثُ، ففرَّقَ بقَولِه: ((لا يَرِثُ القاتِلُ)) بَينَه وبَينَ جَميعِ الورَثةِ بذِكرِ القَتلِ الذي يَجوزُ جَعلُه عِلَّةً في نَفيِ الإرثِ.
2- ما يَكونُ حُكمُهما مَذكورًا في خِطابٍ واحِدٍ، وهذا يَقَعُ على خَمسةِ أوجُهٍ:
أحَدُها: أن تَقَعَ التَّفرِقةُ فيه بلَفظِ الشَّرطِ والجَزاءِ، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَبيعوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ، ولا الوَرِقَ بالوَرِقِ، ولا البُرَّ بالبُرِّ، ولا الشَّعيرَ بالشَّعيرِ، ولا التَّمرَ بالتَّمرِ، ولا المِلحَ بالمِلحِ، إلَّا سَواءً بسَواءٍ، عَينًا بعَينٍ، يَدًا بيَدٍ، ولكِنْ بيعوا الذَّهَبَ بالوَرِقِ، والوَرِقَ بالذَّهَبِ، والشَّعيرَ بالبُرِّ، والبُرَّ بالشَّعيرِ، والتَّمرَ بالمِلحِ، والمِلحَ بالتَّمرِ يَدًا بيَدٍ كيف شِئتُم)) [1277] أخرجه أبو داود (3349)، والنسائي (4560) بنحوه، والبيهقي (10574) واللَّفظُ له من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ المُلقِّنِ في ((البدر المنير)) (6/465)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4560)، وقال ابنُ حَجَرٍ في ((هداية الرواةِ)) (3/151): أصلُه في الصَّحيحِ. وأصلُه في صحيح مسلم (1587) عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلحُ بالمِلحِ، مِثلًا بمِثلٍ، سَواءً بسَواءٍ، يَدًا بيَدٍ، فإذا اختَلفت هذه الأصنافُ فبيعوا كَيف شِئتُم، إذا كان يَدًا بيَدٍ)). ؛ فدَلَّ على أنَّ اختِلافَ الجِنسَينِ عِلَّةٌ في جَوازِ البَيعِ.
وثانيها: أن تَقَعَ التَّفرِقةُ بلَفظِ الغايةِ، كقَولِ اللهِ تعالى: ولَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] .
وثالثُها: أن تَقَعَ التَّفرِقةُ بلفظِ الاستِثناءِ، كقَولِ اللهِ تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة: 237] .
ورابعُها: أن تَقَعَ التَّفرِقةُ بلَفظِ الاستِدراكِ، كقَولِ اللهِ تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة: 89] ؛ فإنَّه يَدُلُّ على أنَّ التَّعقيدَ للأَيْمَانِ مُؤثِّرٌ في المُؤاخَذةِ.
وخامِسُها: أن يُستَأنَفَ أحَدُ الشَّيئَينِ بذِكرِ صِفةٍ مِن صِفاتِه بَعدَ ذِكرِ الآخَرِ، وتَكونَ تلك الصِّفةُ مِمَّا يَجوزُ أن تُؤَثِّرَ، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((للرَّاجِلِ سَهمٌ، وللفارِسِ سَهمانِ)) [1278] أخرجه البخاري (4228)، ومسلم (1762) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ مُسلمٍ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسَمَ في النَّفلِ للفرَسِ سَهمَينِ، وللرَّجُلِ سَهمًا)). ؛ فقد ذَكَرَ حُكمَينِ في الحَديثِ، أحَدُهما للرَّاجِلِ، والآخَرُ للفارِسِ، وفَرَّق بَينَهما بالفُروسيَّةِ والرُّجوليَّةِ؛ تَنبيهًا وإيماءً إلى أنَّهما العِلَّةِ في ذلك الحُكمِ [1279] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/152)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3274)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1262)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3338)، ((إجابة السائل)) للصنعاني (ص: 193). .
النَّوعُ الخامِسُ: النَّهيُ عَمَّا يَمنَعُ مِن الواجِبِ؛ تَنبيهًا على أنَّ تَحريمَه لكَونِه مانِعًا مِن الواجِبِ، كأن يَأمُرَ الشَّارِعُ في أثناءِ خِطابِه بتَركِ شَيءٍ أجنَبيٍّ عَمَّا لأجلِه أصدَرَ ذلك الخِطابَ؛ فإنَّه يُفيدُ أنَّه إنَّما أمَرَ بتَركِه لكَونِه مانِعًا مِن تَحصيلِ ذلك الغَرَضِ، فإذا نَهى الشَّارِعُ عن فِعلٍ يَمنَعُ الإتيانُ به حُصولَ ما تَقدَّم وُجوبُه علينا، كان هذا إيماءً إلى أنَّ عِلَّةَ ذلك النَّهيِ كونُه مانِعًا مِن ذلك الواجِبِ.
وذلك لأنَّا لو لم نُقدِّرْ ذلك لكان النَّهيُ عنه -والحالةُ هذه- غَيرَ جائِزٍ؛ لكَونِه يُخِلُّ بفصاحةِ الكَلامِ؛ لكَونِه مَعدودًا مِن رَكاكةِ الكَلامِ واضطِرابِه، وذلك مِمَّا يَجِبُ تَنزيهُ الشَّارِعِ عنه.
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] ، فالآيةُ سيقَت لبَيانِ وُجوبِ الجُمُعةِ وأحكامِها والحَثِّ على فِعلِها، فالأمرُ بتَركِ البَيعِ في خِلالِ هذا الخِطابِ لو لم يَكُنْ لكَونِ الاشتِغالِ به مانِعًا مِن السَّعيِ إليها، لكان ذِكرُه في هذا المَوضِعِ غَيرَ جائِزٍ؛ لكَونِه يُخِلُّ بجَزالةِ الكَلامِ وفصاحَتِه، وذلك يَدُلُّ على أنَّه إنَّما نَهانا عنه؛ لأنَّه يَمنَعُ مِن الواجِبِ، فدَلَّ هذا على إشعارِه بالعِلِّيَّةِ [1280] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 50)، ((المحصول)) للرازي (5/154)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 390)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3276)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2322). .
رابعًا: الاستِدلالُ على عِلِّيَّةِ الحُكمِ بفِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وصورةُ ذلك: أن يَفعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلًا بَعدَ وُقوعِ شَيءٍ، فيُعلَمَ أنَّ ذلك الفِعلَ إنَّما كان لأجلِ ذلك الشَّيءِ الذي وقَعَ.
ووُقوعُ ذلك الشَّيءِ إمَّا أن يَكونَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كأن يَرى أنَّه سَها في الصَّلاةِ فيَسجُدُ، فيُعلَمُ أنَّ ذلك السُّجودَ إنَّما كان لسَهوٍ قد وقَعَ مِنه.
وإمَّا أن يَكونَ مِن غَيرِه، ويَكونَ مِنه شَيءٌ آخَرُ، كما ورَدَ أنَّ ماعِزًا زنى فرُجِمَ [1281] أخرجه البخاري (6824)، ومسلم (1693) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لماعِزِ بنِ مالكٍ: أحَقٌّ ما بَلغَني عنكَ؟ قال: وما بَلغَكَ عنِّي؟ قال: بَلغَني أنَّكَ وقَعتَ بجاريةِ آلِ فُلانٍ؟ قال: نَعَم، قال: فشَهدَ أربَعَ شَهاداتٍ، ثُمَّ أمَرَ به فرُجِمَ)). وأخرجه مسلم (1695) عن سُليمانَ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيه، قال: ((جاءَ ماعِزُ بنُ مالكٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْني، فقال: ويحَكَ! ارجِعْ فاستَغفِرِ اللَّهَ وتُبْ إليه، قال: فرَجَعَ غَيرَ بَعيدٍ، ثُمَّ جاءَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْني، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ويحَكَ! ارجِعْ فاستَغفِرِ اللَّهَ وتُبْ إليه، قال: فرَجَعَ غَيرَ بَعيدٍ، ثُمَّ جاءَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، طَهِّرْني، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلَ ذلك، حتَّى إذا كانتِ الرَّابعةُ قال له رَسولُ اللهِ: فيمَ أُطَهِّرُكَ؟ فقال: مِنَ الزِّنا، فسَأل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبه جُنونٌ؟ فأُخبرَ أنَّه ليسَ بمَجنونٍ، فقال: أشَرِبَ خَمرًا؟ فقامَ رَجُلٌ فاستَنكَهَه، فلم يَجِدْ مِنه ريحَ خَمرٍ، قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أزَنَيتَ؟ فقال: نَعَم، فأمَرَ به فرُجِمَ)). .
وهَكَذا التَّركُ له حُكمُ الفِعلِ، كتَركِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للطِّيبِ والصَّيدِ، وما يَجتَنِبُه المُحرِمُ؛ فإنَّ المَعلومَ مِن شاهِدِ الحالِ أنَّ ذلك لأجلِ الإحرامِ [1282] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/98)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/262)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/124). .
خامِسًا: المُناسَبةُ
المُرادُ بهذا المَسلكِ: تَعيينُ عِلَّةِ الأصلِ بمُجَرَّدِ إبداءِ المُناسَبةِ مِن ذاتِ الوَصفِ لا بنَصٍّ وغَيرِه [1283] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1279). .
ومَعناه: أن يَقتَرِنَ بالحُكمِ وَصفٌ مُناسِبٌ، وهو وصفٌ ظاهرٌ مُنضَبطٌ يَلزَمُ مِن تَرتيبِ الحُكمِ عليه ما يَصلُحُ أن يَكونَ مَقصودًا مِن شَرعِ ذلك الحُكمِ مِن حُصولِ مَصلحةٍ، أو دَفعِ مَفسَدةٍ.
فالأوَّلُ كالغِنى عِلَّةً لوُجوبِ الزَّكاةِ، والثَّاني: كالإسكارِ عِلَّةً لتَحريمِ الخَمرِ [1284] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 391)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1279)، ((المختصر في أصول الفقه)) لابن اللحام (ص: 148). .
ومَسلَكُ المُناسَبةِ مِن الطُّرُقِ المَعقولةِ لإثباتِ العِلَّةِ، ويُعَبَّرُ عنها بـ "الإخالةِ"، وبـ "المَصلَحةِ"، وبـ "الاستِدلالِ"، وبـ "رِعايةِ المَقاصِدِ". ويُسَمَّى استِخراجُها "تَخريجَ المَناطِ"؛ لأنَّه إبداءُ مَناطِ الحُكمِ.
وهيَ عُمدةُ كِتابِ القياسِ. وهيَ تَعيينُ العِلَّةِ بمُجَرَّدِ إبداءِ المُناسَبةِ [1285] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/262). .
والدَّليلُ على إفادَتِها العِلِّيَّةَ: تَمَسُّكُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بها؛ فإنَّهم كانوا يُلحِقونَ غَيرَ المَنصوصِ بالمَنصوصِ إذا غَلبَ على ظَنِّهم أنَّه يُضاهيه لمَعنًى أو يُشبِهُه [1286] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/29)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/264). .
تَقسيمُ المُناسِبِ:
يَنقَسِمُ المُناسِبُ باعتِباراتٍ مُختَلفةٍ، وبَيانُها كما يَلي:
أقسامُ المُناسِبِ مِن حَيثُ اليَقينُ والظَّنُّ:
يَنقَسِمُ إلى يَقينيٍّ وظَنِّيٍّ.
فقد يَحصُلُ المَقصودُ بالمُناسِبِ مِن شَرعِ الحُكمِ يَقينًا، كمَصلَحةِ البَيعِ للحِلِّ.
وقد يَحصُلُ المَقصودُ به ظَنًّا، كالقِصاصِ لحِفظِ النَّفسِ.
وقد يَحتَمِلُهما على السَّواءِ، كحَدِّ الخَمرِ لحِفظِ العَقلِ؛ لأنَّ المَيلَ والإقدامَ مُساوٍ للإحجامِ.
وقد يَكونُ نَفيُ الحُصولِ أوضَحَ، كنِكاحِ الآيِسةِ لتَحصيلِ التَّناسُلِ.
ويَجوزُ التَّعليلُ بجَميعِ هذه الأقسامِ [1287] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/264). .
أقسامُ المُناسِبِ مِن حَيثُ الحَقيقةُ والإقناعُ:
يَنقَسِمُ إلى حَقيقيٍّ، وإقناعيٍّ.
القِسمُ الأوَّلُ: الحَقيقيُّ:
ويَنقَسِمُ إلى ما هو واقِعٌ في مَحَلِّ الضَّروراتِ، ومَحَلِّ الحاجاتِ، ومَحَلِّ التَّحسيناتِ.
وهذا التَّرتيبُ يَظهَرُ أثَرُه عِندَ تَعارُضِ الأقيِسةِ، فيُقدَّمُ الضَّروريُّ على الحاجيِّ، والحاجيُّ على التَّحسينيِّ.
ويَتَعَلَّقُ بأذيالِ كُلِّ قِسمٍ مِن هذه الأقسامِ ما يجري مِنها مَجرى التَّكمِلةِ والتَّتِمَّةِ لها [1288] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 174)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 393)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/265). .
فالأوَّلُ: الضَّروريَّاتُ
عَرَّفها الشَّاطِبيُّ بأنَّها: (ما لا بُدَّ مِنها في قيامِ مَصالحِ الدِّينِ والدُّنيا، بحَيثُ إذا فُقِدَت لم تَجرِ مَصالحُ الدُّنيا على استِقامةٍ، بَل على فسادٍ وتهارُجٍ وفَوتِ حَياةٍ، وفي الأُخرى فَوتُ النَّجاةِ والنَّعيمِ، والرُّجوعُ بالخُسرانِ المُبينِ) [1289] ((الموافقات)) (2/17). .
والضَّروريُّ أعلى مَراتِبِ المُناسَباتِ، وهو المُتَضَمِّنُ حِفظَ مَقصودٍ مِن المَقاصِدِ الخَمسِ المُتَّفَقِ على حِفظِها، وهيَ:
المَقصَدُ الأوَّلُ: حَفِظُ الدِّينِ: ويَكونُ بأمرَينِ
الأوَّلُ: حِفظُه مِن جانِبِ الوُجودِ، وذلك بإقامةِ أركانِه وتَثبيتِ قَواعِدِه؛ ولذلك شُرِعَت أُصولُ العِباداتِ، كالإيمانِ والنُّطقِ بالشَّهادَتَينِ والصَّلاةِ.
الثَّاني: حِفظُه مِن جانِبِ العَدَمِ، وذلك بما يَدرَأُ عنه الاختِلالَ الواقِعَ أو المُتَوقَّعَ؛ ولذلك شُرِعَ القَتلُ للرِّدَّةِ، والجِهادُ لمُحارَبةِ المُعتَدينَ، وحِمايةِ المُستَضعَفينَ ورَفعِ الظُّلمِ عنهم.
المَقصَدُ الثَّاني: حِفظُ النَّفسِ، ويَكونُ بأمرَينِ
الأوَّلُ: حِفظُها مِن جانِبِ الوُجودِ، وذلك بتَناوُلِ الطَّعامِ والشَّرابِ واللُّبسِ والسَّكَنِ، مِمَّا يَتَوقَّفُ عليه بَقاءُ الحَياةِ وصَونُ الأبدانِ.
الثَّاني: حِفظُها مِن جانِبِ العَدَمِ، وذلك بإقامةِ العُقوباتِ على مَن سَوَّلت له نَفسُه المَساسَ بها؛ ولذلك شُرِعَ القِصاصُ؛ فإنَّه لولا ذلك لتهارَجَ الخَلقُ، واختَلَّ نِظامُ المَصالحِ.
المَقصَدُ الثَّالثُ: حفظُ العَقلِ، ويَكونُ بأمرَينِ
الأوَّلُ: حِفظُه مِن جانِبِ الوُجودِ، وذلك بتَوجيهِه إلى النَّظَرِ والتَّفكيرِ والاستِنتاجِ.
الثَّاني: حِفظُه مِن جانِبِ العَدَمِ، وذلك بتَحريمِ المُسكِراتِ، وإقامةِ العُقوبةِ عليها؛ ولذلك شُرِعَ الحَدُّ على شُربِ المُسكِرِ؛ فإنَّ العَقلَ هو قِوامُ كُلِّ فِعلٍ تَتَعَلَّقُ به مَصلَحةٌ، فاختِلالُه مُؤَدٍّ إلى مَفسَدةٍ عُظمى.
المَقصَدُ الرَّابعُ: حِفظُ النَّسلِ، ويَكونُ بأمرَينِ
الأوَّلُ: حِفظُه مِن جانِبِ الوُجودِ، وذلك بإباحةِ ما فُطِرَت عليه النُّفوسُ مِن المَيلِ إلى الغَريزةِ الجِنسيَّةِ؛ ولذلك شُرِعَ النِّكاحُ، وأحكامُ الحَضانةِ، والنَّفقاتِ.
الثَّاني: حِفظُه مِن جانِبِ العَدَمِ، وذلك بمُحارَبةِ وعُقوبةِ مَن يُساهمُ في إضعافِه وانحِلالِه؛ ولذلك حَرَّمَ الزِّنا، وأوجَبَ العُقوبةَ على الزَّاني.
المَقصَدُ الخامِسُ: حِفظُ المالِ، ويَكونُ بأمرَينِ
الأوَّلُ: حِفظُه مِن جانِبِ الوُجودِ، وذلك بتَنميَتِه تَنميةً مَشروعةً؛ ولذلك شُرِعَ البَيعُ.
الثَّاني: حِفظُه مِن جانِبِ العَدَمِ، وذلك بتَحريمِ السَّرِقةِ والغِشِّ والرِّشوةِ والغَصبِ [1290] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 391)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1282)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/18)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/266)، ((المصالح المرسلة)) لمحمد بوركاب (ص: 40). .
وزادَ بَعضُ الأُصوليِّينَ مَقصِدًا سادِسًا، وهو: حِفظُ الأعراضِ، فإنَّ عادةَ العُقَلاءِ بَذلُ نُفوسِهم وأموالِهم دونَ أعراضِهم، وما فُديَ بالضَّروريِّ أَولى أن يَكونَ ضَروريًّا، وقد شُرِعَ الحَدُّ في الجِنايةِ عليه بالقَذفِ، وهو أحَقُّ بالحِفظِ مِن غَيرِه؛ فإنَّ الإنسانَ قد يَتَجاوزُ عَمَّن جَنى على نَفسِه ومالِه، ولا يَكادُ أحَدٌ يَتَجاوزُ عن الجِنايةِ على عِرضِه [1291] يُنظر: ((جمع الجوامع)) لابن السبكي (ص: 92)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/267)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/1972)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/162). قال الطَّاهِرُ بنُ عاشورٍ: (أمَّا حِفظُ العِرضِ في الضَّروريِّ فليسَ بصحيحٍ، والصَّوابُ أنَّه مِن قَبيلِ الحاجيِّ، وأنَّ الذي حَمَل بَعضَ العُلماءِ -مِثلُ تاجِ الدِّينِ السُّبكيِّ في جَمعِ الجَوامِعِ- على عَدِّه في الضَّروريِّ هو ما رَأوه مِن وُرودِ حَدِّ القَذفِ في الشَّريعةِ، ونَحنُ لا نَلتَزِمُ المُلازَمةَ بَينَ الضَّروريِّ وبَينَ ما في تَفويتِه حَدٌّ؛ ولذلك لم يَعُدَّه الغَزاليُّ وابنُ الحاجِبِ ضَروريًّا). ((مقاصد الشريعة)) (3/240). ويُنظر: ((الدرر اللوامع)) للكوراني (3/292). .
ويَلتَحِقُ بهذا القِسمِ الضَّروريِّ ما هو كالتَّتِمَّةِ والتَّكمِلةِ، كتَحريمِ القَليلِ مِن المُسكِرِ، ووُجوبِ الحَدِّ فيه؛ لكَونِه داعيًا إلى الكَثيرِ، ورِعايةِ المُماثَلةِ في استيفاءِ القِصاصِ؛ لأنَّه مَشروعٌ للزَّجرِ والتَّشَفِّي، ولا يَحصُلُ ذلك إلَّا بالمِثلِ، وتَحريمِ البِدعةِ والمُبالَغةِ في عُقوبةِ المُبتَدِعِ الدَّاعي إليها، وفي حِفظِ النَّسَبِ بتَحريمِ النَّظَرِ والمَسِّ، والتَّعزيرِ على ذلك [1292] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 174)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/266). .
الثَّاني: الحاجيَّاتُ
عَرَّفها الشَّاطِبيُّ فقال: (وأمَّا الحاجيَّاتُ فمَعناها أنَّها مُفتَقَرٌ إليها مِن حَيثُ التَّوسِعةُ ورَفعُ الضِّيقِ المُؤَدِّي في الغالِبِ إلى الحَرَجِ والمَشَقَّةِ اللَّاحِقةِ بفَوتِ المَطلوبِ، فإذا لم تُراعَ دَخَل على المُكَلَّفينَ -على الجُملةِ- الحَرَجُ والمَشَقَّةُ، ولكِنَّه لا يَبلُغُ مَبلَغَ الفسادِ العاديِّ المُتَوقَّعِ في المَصالحِ العامَّةِ) [1293] ((الموافقات)) (2/21). .
فالحاجيُّ ما يَقَعُ في مَحَلِّ الحاجةِ لا الضَّرورةِ، فهيَ في مَرتَبةٍ أقَلَّ مِن مَرتَبةِ الضَّروريَّاتِ؛ لأنَّه لا يَتَرَتَّبُ على فقدِها اختِلالُ الحَياةِ، أو انعِدامُ الكُلِّيَّاتِ الخَمسِ.
ومِن أمثِلةِ الحاجيَّاتِ: الإجارةُ؛ فإنَّها مَبنيَّةٌ على مَسيسِ الحاجةِ إلى المَساكِنِ مَعَ القُصورِ عن تَمَلُّكِها، وضَنِّ مالِكِها ببَذلِها عاريَّةً. وكذلك المُساقاةُ؛ لاشتِغالِ بَعضِ المُلَّاكِ عن تَعَهُّدِ أشجارِه.
ومِنها: نَصبُ الوَليِّ للصَّغيرِ؛ لأنَّه أكمَلُ نَظَرًا مِن المَرأةِ؛ لكَمالِ عَقلِه، ولأنَّ تَولِّيَها النِّكاحَ يُستَقبَحُ عِندَ العُقَلاءِ؛ لإشعارِه ببَذاءَتِها.
والمُناسَبةُ في الحاجيَّاتِ قد تَكونُ جَليَّةً حتَّى تَنتَهيَ إلى القَطعِ، كالضَّروريَّاتِ. وقد تَكونُ خَفيَّةً، كالمَعاني التي استَنبَطَها الفُقَهاءُ وليسَ لهم إلَّا مُجَرَّدُ احتِمالِ اعتِبارِ الشَّرعِ لها. وقد يَشتَبِهُ كَونُ المُناسَبةِ واقِعةً في مَرتَبةِ الضَّرورةِ أو الحاجةِ لتَقارُبِهما [1294] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1282)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/268). .
ومِن أمثِلةِ التَّتِمَّةِ والتَّكمِلةِ للحاجيَّاتِ: خيارُ البَيعِ، ومُراعاةُ الكَفاءةِ، ومَهرُ المِثلِ في تَزويجِ الصَّغيرةِ؛ لأنَّه أدعى إلى دَوامِ النِّكاحِ [1295] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 167). .
الثَّالثُ: التَّحسينيَّاتُ
عَرَّفها الشَّاطِبيُّ بأنَّها: (الأخذُ بما يَليقُ مِن مَحاسِنِ العاداتِ، وتُجَنُّبُ المُدَنَّساتِ التي تَأنَفُها العُقولُ الرَّاجِحاتُ، ويَجمَعُ ذلك قِسمُ مَكارِمِ الأخلاقِ) [1296] ((الموافقات)) (2/22). .
فالتَّحسينيَّاتُ تَقَعُ في رُتبةِ التَّوسِعةِ والتَّيسيرِ الذي لا تُرهِقُ إليه ضَرورةٌ، ولا تَمَسُّ إليه حاجةٌ، ولكِن تُستَفادُ به رَفاهيةٌ وسَعةٌ وسُهولةٌ، ورِعايةُ أحسَنِ المَناهجِ في العِباداتِ والمُعامَلاتِ، والحَثُّ على مَكارِمِ الأخلاقِ ومَحاسِنِ العاداتِ، فيَكونُ ذلك مَقصودًا في هذه الشَّريعةِ السَّمحةِ السَّهلةِ الحَنيفيَّةِ [1297] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 161، 169). .
ومِن أمثِلةِ التَّحسينيَّاتِ: تَحريمُ القاذوراتِ؛ فإنَّ نُفرةَ الطِّباعِ عنها لقَذارَتِها مَعنًى يُناسِبُ حُرمةَ تَناوُلِها؛ حَثًّا على مَكارِمِ الأخلاقِ، كما قال تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157] ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ)) [1298] أخرجه البزار (8949)، والبيهقي (20819) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (45)، وجَوَّد إسنادَه ابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/215). وأخرجه أحمد (8952)، والحاكم (4221)، والبيهقي (21303) باختلافٍ يسيرٍ، ولفظُ أحمد: ((إنَّما بُعِثتُ لأتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ)). صحَّحه الحاكمُ، وقال: على شرطِ مسلمٍ، وابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (24/333) وابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/152)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2349)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8952). .
ومِنه: إزالةُ النَّجاسةِ؛ فإنَّها مُستَقذَرةٌ في الجِبِلَّاتِ، واجتِنابُها أهَمُّ في المَكارِمِ والمروءاتِ، ولذا يَحرُمُ التَّضَمُّخُ بها.
ومِنه: تَزكيةُ النَّفسِ، وتَهذيبُ الأخلاقِ المُؤَدِّيةِ إلى امتِثالِ الأمرِ واجتِنابِ النَّهيِ [1299] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 391)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/270). .
ويَتَعَلَّقُ بأذيالِها ولواحِقِها ما هو في حُكمِ التَّحسينِ والتَّتِمَّةِ لها، فتَصيرُ الرَّفاهيةُ مُهَيَّأةً بتكميلاتِها [1300] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 162). .
القِسمُ الثَّاني: الإقناعيُّ
وهو الذي يَظهَرُ مِنه في بادِئِ الأمرِ أنَّه مُناسِبٌ، لكِن إذا بُحِثَ عنه حَقَّ البَحثِ يَظهَرُ أنَّه غَيرُ مُناسِبٍ.
ومِثالُه: تَعليلُ الشَّافِعيَّةِ تَحريمَ بَيعِ الخَمرِ والمَيتةِ والعَذِرةِ بنَجاسَتِها. ومَنعُ بَيعِ الكَلبِ قياسًا على الخَمرِ والمَيتةِ.
ووجهُ المُناسَبةِ: أنَّ كونَه نَجِسًا يُناسِبُ إذلالَه. ومُقابَلتُه بالمالِ في البَيعِ يُناسِبُ إعزازَه، والجَمعُ بَينَهما تَناقُضٌ، فكان هذا الوصفُ يُناسِبُ عَدَمَ جَوازِ البَيعِ؛ لأنَّ المُناسَبةَ مَعَ الاقتِرانِ دَليلُ العِلِّيَّةِ.
فقيل ردًّا على الشافعية: هذا التعليلُ وإن كان يُظَنُّ به في الظَّاهرِ أنَّه مُناسِبٌ، لكِنَّه في الحَقيقةِ ليسَ كذلك؛ إذ لا مَعنى لكونِ الشَّيءِ نَجِسًا إلَّا عَدَمُ جَوازِ الصَّلاةِ مَعَه، ولا مُناسَبةَ بَينَه وبَينَ عَدَمِ جَوازِ البَيعِ وحينَئذٍ فالتَّعليلُ بكوْنِ النَّجاسةِ يُناسبُ الإذلالَ ليسَ بإقنَاعيٍّ [1301] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/162)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/272). .
تَقسيمُ المُناسَبةِ مِن حَيثُ الاعتِبارُ الشَّرعيُّ وعَدَمُه:
تَنقَسِمُ المُناسَبةُ باعتِبارِ شَهادةِ الشَّرعِ لها بالمُلاءَمةِ والتَّأثيرِ وعَدِمَها إلى ثَلاثةِ أقسامٍ، وهيَ:
الأوَّلُ: ما عُلِمَ اعتِبارُ الشَّرعِ له، أي: شَهِد الشَّرعُ باعتِبارِه.
والثَّاني: ما عُلمَ إلغاءُ الشَّرعِ له، أي: شَهِد الشَّرعُ بإلغائِه.
والثَّالثُ: ما لم يُعلَمِ اعتِبارُه ولا إلغاؤُه، أي: لم يَشهَدْ له الشَّرعُ بالاعتِبارِ ولا بالإلغاءِ.
وفيما يَلي بَيانُ هذه الأقسامِ:
القِسمُ الأوَّلُ: ما عُلمَ اعتِبارُ الشَّرعِ له [1302] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 393)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2342).
ويدخُلُ في العِلمِ هنا: الرُّجحانُ.
والمُرادُ بالاعتِبارِ: إيرادُ الحُكمِ على وَفقِه، لا التَّنصيصُ عليه، ولا الإيماءُ إليه، وإلَّا لم تَكُنِ العِلِّيَّةُ مُستَفادةً مِن المُناسَبةِ، وهو المُرادُ بقَولِهم: شَهِدَ له أصلٌ مُعَيَّنٌ. ومَعنى شَهادةِ أصلٍ مُعَيَّنٍ للوصفِ: أنَّه مُستَنبَطٌ مِنه، مِن حَيثُ إنَّ الحُكمَ أُثبتَ شَرعًا على وَفقِه [1303] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2342)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/272). .
وله أربَعةُ أحوالٍ؛ لأنَّه إمَّا أن يُعتَبَرَ نَوعُ الوصفِ في نَوعِ الحُكمِ، أو نَوعُهُ في جِنسِه، أو جِنسُه في نَوعِه، أو جِنسُه في جِنسِه:
الحالةُ الأولى: أن يُعتَبَرَ نَوعُه في نَوعِ الحُكمِ: مِن خُصوصِ الوصفِ في خُصوصِ الحُكمِ، وعُمومِه في عُمومِه.
مِثلُ: اعتِبارُ نَوعِ الإسكارِ في نَوعِ التَّحريمِ، أي: أنَّ حَقيقةَ السُّكْرِ إذا اقتَضَت حَقيقةَ التَّحريمِ، فإنَّ النَّبيذَ يَلحَقُ بها؛ لأنَّه لا فارِقَ بَينَ العِلَّتَينِ وبَينَ الحُكمَينِ إلَّا اختِلافُ المَحَلَّينِ، واختِلافُ المَحَلِّ لا يَقتَضي ظاهرًا اختِلافَ الحالينِ.
ومِثلُ: قياسِ القَتلِ بالمُثَقَّلِ على القَتلِ بالجارِحِ في وُجوبِ القِصاصِ، بجامِعِ كونِه قَتلًا عَمدًا عُدوانًا؛ فإنَّه قد عُرِف تَأثيرُ خُصوصِ كَونِه قَتلًا عَمدًا عُدوانًا في نَوعِ الحُكمِ الذي هو وُجوبُ القِصاصِ في النَّفسِ في القَتلِ بالمُحَدَّدِ.
وهذا القِسمُ يُسَمَّى بالمُناسِبِ المُلائِمِ، وهو مُتَّفَقٌ عليه بَينَ القياسيِّينَ.
الحالةُ الثَّانيةُ: أن يُعتَبرَ نَوعُه في جِنسِه، مِثلُ: قياسِ تَقديمِ الإخوةِ الأشِقَّاءِ على الإخوةِ مِن الأبِ في النِّكاحِ على تَقديمِهم عليهم في الميراثِ؛ فإنَّ الإخوةَ مِن الأبِ والأُمِّ نَوعٌ واحِدٌ في الصُّورَتَينِ، إلَّا أنَّ وِلايةَ النِّكاحِ ليسَت مِثلَ وِلايةِ الإرثِ، ولكِنَّ بَينَهما مُجانَسةً في الحَقيقةِ.
الحالةُ الثَّالثةُ: أن يُعتَبَرَ جِنسُه في نَوعِ الحُكمِ، مِثلُ: قياسِ إسقاطِ الصَّلاةِ عن الحائِضِ على إسقاطِ الرَّكعَتَينِ السَّاقِطَتَينِ عن المُسافِرِ في الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ، تَعليلًا بالمَشَقَّةِ؛ فالمَشَقَّةُ جِنسٌ، وإسقاطُ الصَّلاةِ نَوعٌ واحِدٌ يُستَعمَلُ على صِنفينِ: إسقاطُ قَضاءِ الكُلِّ، وإسقاطُ قَضاءِ البَعضِ، وقد ظَهَرَ تَأثيرُها في هذا النَّوعِ؛ ضَرورةَ تَأثيرِها في إسقاطِ قَضاءِ الرَّكعَتَينِ.
الحالةُ الرَّابعةُ: اعتِبارُ جِنسِ الوَصفِ في جِنسِ الحُكمِ، كالتَّعليلِ بمُطلَقِ المَصلَحةِ، مِثلُ: إقامةِ الشُّربِ مَقامَ القَذفِ، بتَعليلِ كَونِ حَدِّ الشُّربِ ثَمانينَ؛ لأنَّه مَظِنَّةُ القَذفِ؛ ضَرورةَ أنَّه مَظِنَّةُ الافتِراء، فوجَبَ أن يُقامَ مَقامَه، قياسًا على الخَلوةِ؛ فإنَّها لمَّا كانت مَظِنَّةَ الوَطءِ أُقيمَت مَقامَه في الحُرمةِ.
القِسمُ الثَّاني: ما عُلمَ إلغاءُ الشَّرعِ له [1304] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2348)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/274).
ومِثالُه: قَولُ بَعضِ العُلماءِ لبَعضِ المُلوكِ لمَّا جامَعَ في نَهارِ رَمَضانَ: عليك صَومُ شَهرَينِ مُتَتابِعَينِ، مَعَ أنَّ الشَّريعةَ رَتَّبَتِ الواجِبَ على المُجامِعِ في نَهارِ رَمَضانَ أنَّ عليه عِتقَ رَقَبةٍ في أوَّلِ الأمرِ، فإن لم يَستَطِعِ انتَقَل إلى غَيرِه، فلمَّا أُنكِرَ عليه حَيثُ لم يَأمُرْه بالإعتاقِ؛ اعتَذَرَ بـاتِّساعِ مالِه، قال: لو أمَرتُه بذلك لسَهُل عليه، واستَحقَرَ عِتقَ رَقَبةٍ في قَضاءِ شَهوتِه، فكانت المَصلَحةُ عِندي في إيجابِ الصَّومِ ليَنزَجِرَ.
فهذا وإن كان قياسًا، لكِنَّه قَولٌ باطِلٌ؛ لأنَّه مُخالفٌ لنَصِّ الكِتابِ؛ فإنَّ الشَّرعَ ألغاه، حَيثُ أوجَبَ الكَفَّارةَ مُرَتَّبةً مِن غَيرِ فَصلٍ بَينَ المُكَلَّفينَ، وفَتحُ هذا البابِ يُؤَدِّي إلى تَغييرِ جَميعِ حُدودِ الشَّرائِعِ ونُصوصِه؛ بسَبَبِ تَغَيُّرِ الأحوالِ.
القِسمُ الثَّالثُ: ما لم يُعلَمِ اعتِبارُه ولا إلغاؤُه
وهو الذي لا يَشهَدُ له أصلٌ مُعَيَّنٌ مِن أُصولِ الشَّريعةِ بالاعتِبارِ، وهو المُسَمَّى بـ "المَصالِحِ المُرسَلةِ" [1305] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/274). .
أقسامُ المُناسِبِ مِن حَيثُ التَّأثيرُ والمُلاءَمةُ [1306] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1287)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/275). :
المُناسِبُ: إمَّا مُؤَثِّرٌ، أو غَيرُ مُؤَثِّرٍ.
وغَيرُ المُؤَثِّرِ: إمَّا مُلائِمٌ، أو غَيرُ مُلائِمٍ.
وغَيرُ المُلائِمِ: إمَّا غَريبٌ، أو مُرسَلٌ، أو مُلغًى. وبَيانُ ذلك فيما يَلي:
الأوَّلُ: المُؤَثِّرُ [1307] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/275)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/483).
وهو ما اعتَبَرَ الشَّرعُ فيه عَينَ الوَصفِ، أي: نَوعَه، في عَينِ الحُكمِ، أي: نَوعِه، وكان اعتِبارُه فيه بنَصٍّ أو إجماعٍ.
وسُمِّي مُؤَثِّرًا؛ لأنَّه ظَهَرَ تَأثيرُه في الحُكمِ بما اعتَبَرَه الشَّرعُ به مِن نصٍّ أو إجماعٍ.
وهذا الوَصفُ لا خِلافَ في اعتِبارِه عِندَ القائِلينَ بالقياسِ.
ومِثالُ اعتِبارِه بالنَّصِّ: تَعليلُ نَقضِ الوُضوءِ بمَسِّ الذَّكَرِ؛ فإنَّه اعتَبَرَ عَينَ مَسِّ المُتَوضِّئِ ذَكَرَه في عَينِ الحَدَثِ بالنَّصِّ عليه؛ لأنَّه مُستَفادٌ مِن الرَّبطِ بَينَ الشَّرطِ والجَزاءِ في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن مَسَّ ذَكَرَه فليَتَوضَّأْ" [1308] أخرجه أبو داود (181) واللفظ له، والترمذي (83)، والنسائي (164) من حديثِ بُسرةَ بنتِ صَفوانَ رَضِيَ اللهُ عنها. صحَّحه الإمام أحمد في ((مسائل أحمد لأبي داود)) (309)، ويحيى بن معين كما في ((الاستذكار)) لابن عبد البر (1/288)، والترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/152)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1116)، والدارقطني في ((السنن)) (1/350). عِندَ القائِلِ بنَقضِ الوُضوءِ بمَسِّ الذَّكَرِ.
ومِثالُ اعتِبارِه بالإجماعِ: تَعليلُ وِلايةِ المالِ على الصَّغيرِ بالصِّغَرِ، فإنَّه اعتَبَرَ عَينَه في عَينِ الحُكمِ بالإجماعِ؛ لأنَّه مُجمَعٌ عليه.
الثَّاني: المُلائِمُ [1309] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/212)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (2/484).
وهو أن يَعتَبِرَ الشَّارِعُ عَينَ الوَصفِ في عَينِ الحُكمِ، أي: نَوعَه في نَوعِه، بأمرٍ آخَرَ غَيرِ النَّصِّ والإجماعِ، وذلك بتَرَتُّبِ الحُكمِ على وَفقِ الوَصفِ، لا بنَصٍّ ولا إجماعٍ.
وسُمِّي مُلائِمًا لكَونِه موافِقًا لِما اعتَبَرَه الشَّارِعُ.
وهذه المَرتَبةُ دونَ ما قَبلَها.
ومِثالُه: ظُهورُ أثَرِ المَشَقَّةِ في إسقاطِ الصَّلاةِ عن الحائِضِ؛ فإنَّه ظَهَرَ تَأثيرُ جِنسِ الحَرَجِ في إسقاطِ قَضاءِ الصَّلاةِ عن الحائِضِ، كتَأثيرِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ في إسقاطِ الرَّكعَتَينِ السَّاقِطَتَينِ بالقَصرِ.
الثَّالثُ: الغَريبُ غَيرُ المُلائِمِ [1310] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/213)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2345)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/276).
وهو أن يُعتَبَرَ عَينُه في عَينِ الحُكمِ، فتَرَتُّبُ الحُكمِ وَفقَ الوَصفِ فقَط، ولا يُعتَبَرُ عَينُ الوَصفِ في جِنسِ الحُكمِ، ولا عَينُه ولا جِنسُه في جِنسِه بنَصٍّ أو إجماعٍ.
والجِنسيَّةُ مَراتِبُ، بَعضُها أعَمُّ مِن بَعضٍ؛ فإنَّ أعَمَّ الأوصافِ كونُه حُكمًا.
ثُمَّ يَنقَسِمُ الحُكمُ إلى: إيجابٍ، ونَدبٍ، وتَحريمٍ، وإباحةٍ، وكَراهيةٍ.
ثُمَّ الواجِبُ يَنقَسِمُ إلى: عِبادةٍ، وغَيرِ عِبادةٍ.
والعِبادةُ تَنقَسِمُ إلى: صَلاةٍ وغَيرِها. وتَنقَسِمُ الصَّلاةُ إلى فَرضٍ ونَفلٍ.
فما ظَهَرَ تَأثيرُه في الصَّلاةِ الواجِبةِ أخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ في العِبادةِ. وما ظَهَرَ في العِبادةِ أخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ في الواجِبِ. وما ظَهَرَ في الواجِبِ أخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ في الأحكامِ.
وكَذا في جانِبِ الأوصافِ: أعَمُّ أوصافِه أنَّه وصفٌ يُناطُ الحُكمُ بجِنسِه حتَّى يَدخُلَ فيه الاشتِباهُ.
وأخَصُّ مِنه كَونُه مَصلَحةً، وأخَصُّ مِنه كَونُه مَصلَحةً خاصَّةً، كالرَّدعِ، أو سَدِّ الحاجةِ.
فلأجلِ تَفاوُتِ دَرَجاتِ الجِنسيَّةِ -في القُربِ والبُعدِ- تَتَفاوتُ دَرَجاتُ الظَّنِّ، والأعلى مُقدَّمٌ على ما دُونَه.
ومِثالُ الغَريبِ: الإسكارُ في تَحريمِ الخَمرِ، فإنَّه اعتَبَرَ عَينَ الإسكارِ في عَينِ الحُكمِ بتَرتيبِ التَّحريمِ على الإسكارِ فقَط. ولم يَظهَرْ أثَرُ السُّكرِ في مَوضِعٍ آخَرَ، لكِنَّه مُناسِبٌ اقتَرَنَ الحُكمُ به.
وكذلك: تَوريثُ المبتوتةِ في مَرَضِ المَوتِ؛ تَعليلًا بالمُعارَضةِ بنَقيضِ القَصدِ؛ لأنَّ الزَّوجَ قَصَدَ الفِرارَ مِن الميراثِ، فعُورِضَ بنَقيض قَصدِه، قياسًا على القاتِلِ المَمنوعِ مِن الميراثِ؛ فإنَّه لمَّا استَعجَل الميراثَ عُورِضَ بنَقيضِ قَصدِه.
فالمُناسَبةُ في هذا النَّوعِ ظاهِرةٌ، لكِنَّ هذا النَّوعَ مِن المَصلَحةِ لم يُعهَدِ اعتِبارُه في غَيرِ هذا المَوضِعِ، فكانت مُناسَبةً مُجَرَّدةً غَريبةً لذلك.
الرَّابعُ: المُرسَلُ غَيرُ المُلائِمِ
وهو مَردودٌ، أي: لا يَجوزُ التَّعليلُ به بالاتِّفاقِ [1311] يُنظر: ((الفائق في أصول الفقه)) لصفي الدين الهندي (2/268)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/127).
التَّرتيبُ بَينَ أقسامِ المُناسَبةِ [1312] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/279). :
أعلى الأقسامِ ما يَكونُ الأصلُ شاهدًا باعتِبارِ عَينِه في عَينِ الحُكمِ، وجِنسِه في جِنسِه؛ لأنَّ اعتِبارَه بأحَدِ الشَّاهدَينِ يَكفي في الاستِدلالِ؛ لأنَّه يُفيدُ الظَّنَّ بالحُكمِ، فإذا تَقَوَّى بوَجهَيِ الاعتِبارِ كان اعتِبارُه أحرى، وذلك كاعتِبارِ القَتلِ العَمدِ العُدوانِ في قَتلِ الذِّمِّيِّ والعَبدِ؛ فإنَّ عَينَه مُعتَبرةٌ في عَينِ الحُكمِ في حَقِّ المُسلِمِ والحُرِّ، وهو مَشهودٌ له باعتِبارِ جِنسِ الجِنايةِ في جِنسِ العُقوبةِ.
ويَليه: ما يُعتَبَرُ عَينُه في عَينِ الحُكمِ، كتَعليلِ تَحريم السُّكرِ بالإسكارِ.
ويَليه: ما تُؤَثِّرُ عَينُه في جِنسِ الحُكمِ، كتَأثيرِ الصِّغَرِ في وِلايةِ النِّكاحِ؛ لظُهورِ تَأثيرِ الصِّغَرِ في جِنسِ وِلايةِ النِّكاحِ، وهو وِلايةُ المالِ.
ويَليه: ما يُؤَثِّرُ جِنسُه في جِنسِ الحُكمِ، كتَعليلِ نَفي قَضاءِ الصَّلاةِ عن الحائِضِ بعِلَّةِ الحَرَجِ.
ويَليه: المُناسِبُ الغَريبُ، كالمُطَلَّقةِ في مَرَضِ المَوتِ.
وليسَ بَعدَه إلَّا المُناسِبُ العاري عن الأصلِ، وهو المُرسَلُ، وهو حُجَّةٌ عِندَ مالِكٍ.
انخِرامُ المُناسَبةِ بالمُعارَضةِ:
مَعنى المُعارَضةِ هنا: أن يَشتَمِلَ الوصفُ على مَصلَحةٍ، ومَفسَدةٍ راجِحةٍ على المَصلحةِ أو مُساويةٍ لها [1313] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/276)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/120)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1284)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/260). .
فإذا كان الوَصفُ مُشتَمِلًا على مَصلحةٍ تَقتَضي مَشروعيَّةَ الحُكمِ، وتَجعَلُه مناسبًا، وعلى مَفسَدةٍ راجِحةٍ أو مُساويةٍ لتلك المَصلحةِ تَجعَلُه غَيرَ مُناسِبٍ لمَشروعيَّةِ الحُكمِ، فهَل يَكونُ اشتِمالُه على هذه المَفسَدةِ موجِبًا لبُطلانِ مُناسَبَتِه أم لا؟ [1314] يُنظر: ((الوصف المناسب لشرع الحكم)) لأحمد الشنقيطي (ص:361) .
وهذه المُعارَضةُ على قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: أن يَشتَمِلَ الوصفُ على مُعارِضٍ يَدُلُّ على انتِفاءِ المَصلَحةِ: فهذا يَقدَحُ في المُناسَبةِ ويُبطِلُها بلا خِلافٍ بَينِ الأُصوليِّينَ، وممَّن حكى ذلك: الزَّركَشيُّ [1315] قال: (أحدهما: أن يأتي بمعارض يدل على انتفاء المصلحة فهو قادح بلا خلاف). ((البحر المحيط)) (7/281). .
القِسمُ الثَّاني: أن يَشتَمِلَ الوَصفُ على مَفسَدةٍ تَلزَمُ مِن الحُكمِ راجِحةٍ على المَصلَحةِ أو مُساويةٍ لها، أو فواتِ مَصلحةٍ تُساوي المَصلحةَ أو تَرجَحُ عليها؛ فإنَّ المُناسَبةَ تَبطُلُ، وهو قَولٌ مَعزوٌّ لأكثَرِ الأُصوليِّينَ، ومِمَّن اختارَه ابنُ الحاجِبِ وغَيرُه [1316] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/281). .
والمُرادُ مِن انخِرامِها وبُطلانِها هو ألَّا يُعمَلَ بالوصفِ في التَّعليلِ؛ إذ يَصيرُ الوَصفُ غَيرَ مُناسِبٍ للحُكمِ في مَحَلِّ وُجودِ المَفسَدةِ، ولا يَكونُ له أثَرٌ في اقتِضاءِ الحُكمِ. لا أنَّ المَصلَحةَ التي اشتَمَل عليها تَزولُ بوُجودِ المَفسَدةِ؛ فإنَّ ذلك لا يَكونُ مُعارِضًا؛ إذ يَكونُ تَخَلُّفُ التَّعليلِ به لمانِعٍ، لا لعَدَمِ المُقتَضي [1317] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/305)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/1990). .
الأدِلَّةُ على انخِرامِ المُناسَبةِ بالمُعارَضةِ:
1- أنَّ دَرءَ المَفاسِدِ مُقدَّمٌ على جَلبِ المَصالحِ [1318] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/281). .
2- أنَّ المُناسَبةَ أمرٌ عُرفيٌّ، وأهلُ العُرفِ لا يَعُدُّونَ المَصلحةَ المُعارَضةَ بالمَفسَدةِ المُساويةِ أو الرَّاجِحةِ مُناسِبةً، فالمَصلَحةُ إذا عارَضَها ما يُساويها لم تُعَدَّ عِندَ أهلِ العُرفِ مَصلَحةً [1319] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/278)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/281)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/261). .
3- أنَّ العَقلَ يَقضي بأنَّ المَصلحةَ إذا كانت مَعَ مَفسَدةٍ مِثلِها، فإنَّها لا تَكونُ مَصلَحةً مَطلوبةً، بَل يَكونُ طَلبُها عَبَثًا، وكذلك إذا كانت المَفسَدةُ راجِحةً؛ لأنَّه إذا ثَبَتَ انخِرامُها في المَفسَدةِ المُساويةِ كانت الرَّاجِحةُ أجدَرَ؛ ولهذا فإنَّه إذا سَعى أحَدٌ لتَحصيلِ مِثلِ هذا المَصلَحةِ، يَنسُبُه أهلُ العَقلِ إلى السَّفَهِ؛ فمَن حَصَّل مَصلَحةَ دِرهَمٍ على وَجهٍ يُفوِّتُ عليه عَشرةً يُعَدُّ سَفيهًا خارِجًا في تَصَرُّفِه عن تَصَرُّفاتِ العُقَلاءِ، ولو كان ذلك مُناسِبًا لما كان كذلك [1320] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/278)، ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (2/268)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/120)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1284)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/339)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/546). .
وقيل: إنَّ المُناسَبةَ لا تَبطُلُ شَرعًا، ويَتَرَتَّبُ عليها الحُكمُ كما يَتَرَتَّبُ على المَفسَدةِ حُكمُها، فيَجوزُ اجتِماعُ المَصلَحةِ والمُفسَدةِ، لكِنْ مِن جِهَتَينِ؛ لأنَّ مُقتَضى حِكمةِ الحَكيمِ ألَّا يُهدَرَ ما هو الواقِعُ، والواقِعُ هَهنا مَصلَحةٌ ومَفسَدةٌ، فللحَكيمِ أن يوفِّيَ حَقَّهما؛ إذ لا مانِعَ؛ إذ المانِعُ الذي يُتَخَيَّلُ هو التَّضادُّ، والتَّضادُّ غَيرُ مانِعٍ هنا؛ لاختِلافِ الجِهةِ.
وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ؛ ولهذا قالوا: إنَّ مَن نَذَرَ صَومَ يَومِ العيدِ فإنَّ النَّذرَ يَنعَقِدُ، ويَجِبُ على النَّاذِرِ الفِطرُ والقَضاءُ، لكِن لو صامَ هَذَينِ اليَومَينِ صَحَّ صَومُه مَعَ التَّحريمِ [1321] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/95)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/80). .
فرَتَّبوا على كُلٍّ مِن المَصلحةِ والمُفسَدةِ حُكمَهما بوُجوبِ الفِطرِ والقَضاءِ.
فإنَّه مِن جِهةِ كونِه صَومًا مَنسوبًا للهِ تعالى فيه مَصلحةٌ، فأثَّرَ فيه النَّذرُ، فوجَبَ به.
ومِن جِهةِ كونِه إعراضًا عن ضيافةِ اللَّهِ تعالى فيه مَفسَدةٌ، وهو حَرامٌ [1322] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (2/47)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/141). .
فالنَّهيُ عن صَومِه لم يَرِدْ على ذاتِ الصَّومِ؛ فإنَّه مَشروعٌ بأصلِه، وإنَّما ورَدَ على وصفٍ لازِمٍ له، وهو الإعراضُ عن ضيافةِ اللَّهِ تعالى في هذا اليَومِ، ولا يَلزَمُ مِن قُبحِ الوصفِ قُبحُ الأصلِ [1323] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/331)، ((إفاضة الأنوار)) للدهلوي (ص: 156)، ((شرح سمت الوصول)) للأقحصاري (ص: 119). .
وقيل: إنَّها لا تَبطُلُ، غَيرَ أنَّها لا تُعتَبَرُ شَرعًا، فلا يَتَرَتَّبُ عليها الحُكمُ؛ لأنَّ المفسَدةَ توجِبُ عَدَمَ اعتِبارِ الشَّارِعِ المُناسَبةَ مَعَها. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [1324] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/276)، ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (2/268). ، وجَزَمَ به بَعضُ الحَنابلةِ [1325] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1284). .
ما يَتَرَتَّبُ على هذا الخِلافِ [1326] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (3/122)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/282). :
يَتَرَتَّبُ عليه أنَّنا إن قُلْنا: إنَّ المُناسَبةَ تَبطُلُ، التَحَقَ الوَصفُ بالطَّرديَّاتِ، فلا يَجوزُ التَّعليلُ به إلَّا بتَرجيحِ المَصلَحةِ على المَفسَدةِ، وإذا ثَبَتَ أنَّه لا بُدَّ للوصفِ المُناسِبِ مِن تَرجيحٍ، فالتَّرجيحُ يَختَلفُ باختِلافِ المَسائِلِ؛ فإنَّ التَّرجيحَ في بَعضِ المَسائِلِ قد يَكونُ في غايةِ الظُّهورِ، وقد يَكونُ بحَيثُ يَحتاجُ إلى أدنى تَأمُّلٍ، وقد يَحتاجُ إلى نَظَرٍ واستِدلالٍ.
وإن قُلْنا: لا تَبطُلُ المُناسَبةُ، بَقيَ الوصفُ على مُناسَبَتِه، ويَصِحُّ التَّعليلُ به، ويَحتاجُ المُعارِضُ إلى أصلٍ يَشهَدُ له بالاعتِبارِ.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يُمَثَّلُ لهذه المَسألةِ بما إذا كان للبَلدِ الذي يَقصِدُه المُسافِرُ طَريقانِ، يُقصَرُ في أحَدِهما، ولا يُقصَرُ في الآخَرِ، فسَلكَ المُسافِرُ الطَّريقَ الأبعَدَ، لا لغَرَضٍ غَيرِ القَصرِ: فإنَّه لا يَقصُرُ في أصَحِّ القَولَينِ؛ لانخِرامِ المُناسَبةِ؛ لأنَّ المُناسِبَ -وهو السَّفرُ البَعيدُ- عورِضَ بمَفسَدةٍ، وهيَ العُدولُ عن القَريبِ الذي لا قَصرَ فيه، لا لغَرَضٍ غَيرِ القَصرِ، حتَّى كأنَّه حَصَرَ قَصدَه في أن يُفوِّتَ رَكعَتَينِ مِن الرُّباعيَّةِ في مُدَّةِ ذلك السَّفرِ.
والمَشَقَّةُ في السَّفرِ المُناسِبِ للقَصرِ تُرَتَّبُ عليها مَصلَحةُ التَّخفيفِ بالقَصرِ، فإذا عَدَل عن طَريقٍ قَصيرةٍ إلى طَويلةٍ كان ذلك مَفسَدةً؛ لإسقاطِ شَطرِ الصَّلاةِ بدونِ عُذرٍ، فقد عارَضَت هذه المَفسَدةُ مَصلحةَ القَصرِ [1327] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (4/339)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/305)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 582)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/1990)، ((حاشية العطار)) (2/331)، ((الأصل الجامع)) للسيناوني (3/16). .
سادِسًا: السَّبرُ والتَّقسيمُ
المُرادُ بالسَّبرِ والتَّقسيمِ [1328] التَّقسيمُ في القياسِ على ضَربَينِ: أحَدُهما: مِن النَّاظِرِ في استِخراجِ العِلَّةِ بتَخريجِ المَناطِ. وهذا هو المُرادُ هَهنا. والثَّاني: تَقسيمٌ مِن المُعتَرِضِ المُناظِرِ على ما يَقولُه المُستَدِلُّ، وسيَأتي في قَوادِحِ العِلَّةِ إن شاءَ اللهُ. يُنظر: ((المنهاج في ترتيب الحجاج)) للباجي (ص: 210)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/492). :
السَّبرُ: هو اختِبارُ الوَصفِ، هَل يَصلُحُ للعِلِّيَّةِ أم لا؟
والتَّقسيمُ: هو حَصرُ الأوصافِ المَوجودةِ في الأصلِ التي يُظَنُّ صَلاحيَتُها للعِلَّةِ ابتِداءً، فيُقالُ: العِلَّةُ إمَّا كذا وإمَّا كذا.
وقد أطلقَ الأُصوليُّونَ هَذَينِ اللَّفظَينِ على مَسلَكٍ مِن مَسالِكِ العِلَّةِ، وعَرَّفوه بأنَّه: حَصرُ الأوصافِ التي توجَدُ في الأصلِ، والتي تَصلُحُ للعِلِّيَّةِ في بادِئِ الرَّأيِ، ثُمَّ إبطالُ ما لا يَصلُحُ مِنها، فيَتَعَيَّنُ الباقي للعِلِّيَّةِ [1329] يُنظر: ((نبراس العقول)) لعيسى منون (ص: 368). .
فالنَّاظِرُ في العِلَّةِ يَبحَثُ عن مَعانٍ مُجتَمِعةٍ في الأصلِ ويَتَتَبَّعُها واحِدًا واحِدًا، ويَختَبرُ صَلاحيةَ كُلِّ واحِدةٍ مِنهما للعِلِّيَّةِ، ويُبَيِّنُ خُروجَ آحادِها عن صَلاحيَّةِ التَّعليلِ به إلَّا واحِدًا يَراه ويَرضاه. ومَعنى "حَصرِ الأوصافِ": مُجَرَّدُ ذِكرِ الأوصافِ، وليسَ المُرادُ مِنه أن تُذكَرَ مُنحَصِرةً، أي: مُرَدَّدةً بَينَ النَّفيِ والإثباتِ؛ ليَشمَلَ قِسمَيِ التَّقسيمِ: المُنحَصِرَ، والمُنتَشِرَ. فالمَسلَكُ مَجموعُ الأمرَينِ، والتَّقسيمُ راجِعٌ إلى الحَصرِ، والسَّبرُ راجِعٌ إلى الإبطالِ [1330] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (2/35)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2385)، ((نبراس العقول)) لعيسى منون (ص: 368). .
أقسامُ مَسلَكِ السَّبرِ والتَّقسيمِ:
يَنقَسِمُ هذا المَسلَكُ باعتِبارِ التَّقسيمِ إلى قِسمَينِ:
التَّقسيمُ الأوَّلُ: التَّقسيمُ الحاصِرُ
وهو ما يَكونُ دائِرًا بَينَ النَّفيِ والإثباتِ، بأن يَحصُرَ الأوصافَ التي يُمكِنُ التَّعليلُ بها للمَقيسِ عليه، ثُمَّ يَختَبرَها، ويُبطِلَ ما لا يَصلُحُ مِنها بدَليلِه: إمَّا بكَونِه طَردًا أو مُلغًى، أو نَقضِ الوَصفِ، أو كَسرِه، أو خَفائِه واضطِرابِه، فيَتَعَيَّنُ الباقي للعِلِّيَّةِ. وهذا القِسمُ قَطعيٌّ لإفادةِ العِلَّةِ في القَطعيَّاتِ والظَّنِّيَّاتِ [1331] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3361)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/284). .
ومِثالُه: أن يَقولَ المُجتَهِدُ في وِلايةِ الإجبارِ في النِّكاحِ: إمَّا أن تَكونَ مُعَلَّلةً، أو غَيرَ مُعَلَّلةٍ، والثَّاني: باطِلٌ بالإجماعِ، فتَعَيَّن كَونُها مُعَلَّلةً.
وإذا كانت مُعَلَّلةً فعِلَّتُها: إمَّا البَكارةُ أو الصِّغَرُ أو غَيرُها، وقد بَطَل بالإجماعِ كَونُ غَيرِ الصِّغَرِ أو البَكارةِ عِلَّةً للوِلايةِ، فانحَصَرَت العِلَّةُ في وَصفَيِ البَكارةِ والصِّغَرِ، ولكِنَّ وَصفَ الصِّغَرِ لا يَصلُحُ أن يَكونَ عِلَّةً لوِلايةِ الإجبارِ في النِّكاحِ؛ لأنَّ هذا الوَصفَ لو جازَ التَّعليلُ به لثَبَتَت وِلايةُ الإجبارِ على الثَّيِّبِ، وهذا باطِلٌ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الثَّيِّبُ أحَقُّ بنَفسِها مِن وليِّها)) [1332] أخرجه مسلم (1421) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وإذا بَطَل التَّعليلُ بالصِّغَرِ تَعَيَّنَ التَّعليلُ بالبَكارةِ لثُبوتِ وِلايةِ الإجبارِ، وهو المَطلوبُ [1333] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2387)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (5/332)، ((الاجتهاد في مناط الحكم الشرعي)) للزبيدي (ص: 206). .
القِسمُ الثَّاني: التَّقسيمُ غَيرُ الحاصِرِ
ويُسَمَّى "المُنتَشِرَ"، وعَبَّرَ عنه البَيضاويُّ بـ "السَّبرِ غَيرِ الحاصِرِ" [1334] يُنظر: ((منهاج الوصول)) (ص: 208). . وهو الذي لا يَكونُ دائِرًا بَينَ النَّفيِ والإثباتِ، أو دارَ بَينَ النَّفيِ والإثباتِ، ولكِن كان الدَّليلُ على نَفيِ عِلِّيَّةِ ما عَدا الوَصفَ المُعَيَّنَ فيه ظَنِّيًّا.
ومِثالُه: أن يَقولَ المُجتَهِدُ في تَحريمِ بَيعِ البُرِّ بالبُرِّ مُتَفاضِلًا: العِلَّةُ في التَّحريمِ إمَّا أن تَكونَ الكَيلَ أو الطُّعمَ أو القُوتَ، ثُمَّ يَختَبرَ تلك الأوصافَ، ويُبطِلَ ما لا يَصلُحُ أن يَكونَ عِلَّةً، ويَتَعَيَّنُ الباقي مِن الأوصافِ عِلَّةً للحُكمِ، فيُبطِلُ مَثَلًا الكَيلَ؛ لأنَّه لو كان عِلَّةً لما وقَعَ الرِّبا في القَليلِ مِمَّا لا يُكالُ كالحَفنةِ بحَفنَتَينِ، ويُبطِلُ القُوتَ؛ لأنَّه لو كان عِلَّةً لما وقَعَ الرِّبا في المِلحِ، وهو واقِعٌ بنَصِّ الحَديثِ ((المِلحُ بالمِلحِ)) [1335] أخرجه مسلم (1587) ولفظُه: عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلحُ بالمِلحِ، مِثلًا بمِثلٍ، سَواءً بسَواءٍ، يَدًا بيَدٍ، فإذا اختَلفت هذه الأصنافُ فبيعوا كَيف شِئتُم، إذا كان يَدًا بيَدٍ)). ، فلم يَبقَ إلَّا أن يَكونَ الطُّعمُ هو العِلَّةَ. وهذا القِسمُ يُفيدُ الظَّنَّ، فلا يَكونُ حُجَّةً في العَقليَّاتِ، وإنَّما يَكونُ حُجَّةً في الشَّرعيَّاتِ، وهذا إذا لم يَتَعَرَّضِ الإجماعُ على تَعليلِ حُكمِه وعلى حَصرِ العِلَّةِ في الأقسامِ، فإن تَعَرَّضَ لذلك كان تَقسيمًا حاصِرًا، فكان قَطعيًّا [1336] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/218)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 334)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/144). .
شُروطُ صِحَّةِ السَّبرِ:
يُشتَرَطُ لصِحَّةِ السَّبرِ أربَعةُ شُروطٍ:
الأوَّلُ: أن يَكونَ الحُكمُ في الأصلِ مُعَلَّلًا؛ لأنَّه لو كان تَعبُّدًا لامتَنَعَ القياسُ.
الثَّاني: أن يَكونَ مُجمَعًا على تَعليلِ حُكمِ الأصلِ؛ لأنَّه بتَقديرِ أن يَكونَ مُختَلَفًا في تَعليلِه فللخَصمِ إلزامُه التَّعَبُّدَ فيه، فيَبطُلُ القياسُ [1337] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/405). .
الثَّالثُ: أن يَكونَ سَبرُه حاصِرًا لجَميعِ العِلَلِ؛ إذ لو لم يَكُنْ حاصِرًا لجازَ أن يَبقى وصفٌ يَكونُ هو العِلَّةَ في نَفسِ الأمرِ ولم يَذكُرْه، فيَقَعُ الخَطَأُ في القياسِ، ولا يَصِحُّ السَّبرُ [1338] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 311)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/406)، ((المدخل إلى مذهب الإمام أحمد)) لابن بدران (ص: 331). .
الرَّابعُ: أن يَثبُتَ أنَّ الأوصافَ التي أبطَلَها لا تَصلُحُ للتَّعليلِ، وذلك بطَريقَينِ:
أحَدُهما: أن يُبَيِّنَ بَقاءَ الحُكمِ بدونِ ما يَحذِفُه، فيُبَيِّنُ أنَّه ليسَ مِن العِلَّةِ؛ إذ لو كان مِنها لم يَثبُتِ الحُكمُ بدونِه.
الثَّاني: أن يُبَيِّنَ أنَّ ما يَحذِفُه مِن جِنسِ ما عَهِدنا مِن الشَّارِعِ عَدَمَ الالتِفاتِ إليه في إثباتِ الأحكامِ، كالطُّولِ والقِصَرِ، والسَّوادِ والبَياضِ، أو عُهِدَ مِنه الإعراضُ عنه في جِنسِ الأحكامِ المُختَلَفِ فيها كالذُّكوريَّةِ والأُنوثيَّةِ في سرايةِ العِتقِ [1339] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/223). .
حُجِّيَّةُ إثباتِ العِلَّةِ بالسَّبرِ والتَّقسيمِ:
إذا كان حَصرُ الأوصافِ وإبطالُ ما يَبطُلُ مِنها قَطعيًّا، فإنَّ هذا يَكونُ مُفيدًا للعِلِّيَّةِ قَطعًا بغَيرِ خِلافٍ بَينَ الأُصوليِّينَ، ولكِنَّ هذا قَليلٌ في الشَّرعيَّاتِ [1340] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2387)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/1959)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3355)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/146). .
وأمَّا إذا كان الحَصرُ ظَنِّيًّا، أو السَّبرُ ظَنِّيًّا، أو كِلاهما ظَنِّيًّا: فإنَّه يَكونُ مُفيدًا للعِلِّيَّةِ ظَنًّا.
وهو حُجَّةٌ مُطلقًا، أي: للنَّاظِرِ لنَفسِه، والمُناظِرِ لغَيرِه، وهذا قَولُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ [1341] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 148). ، وصَحَّحه زَكَريَّا الأنصاريُّ [1342] يُنظر: ((غاية الوصول)) (ص: 127). .
الدَّليلُ على إثباتِ العِلَّةِ بالسَّبرِ والتَّقسيمِ:
أنَّ الحُكمَ لا بُدَّ له مِن عِلَّةٍ، وهذا المَسلَكُ يُثيرُ غَلَبةَ الظَّنِّ، وما كان كذلك يَجِبُ العَمَلُ به [1343] يُنظر: ((الاجتهاد في مناط الحكم)) للزبيدي (ص: 209). .
والسَّبرُ إنَّما يَكونُ مُفيدًا لمَعرِفةِ العِلَّةِ بناءً على مُقدِّماتٍ [1344] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 398)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/411). :
الأولى: أنَّ الأصلَ في الأحكامِ التَّعليلُ، فمَهما أمكَنَ جَعلُ الحُكمِ مُعَلَّلًا لا يُجعَلُ تَعبُّدًا.
الثَّانيةُ: أنَّ الأصلَ في وَصفِ الحُكمِ أن يَكونَ مُناسِبًا، فمَتى أمكَنَ إضافتُه إلى المُناسِبِ لا يُضافُ إلى غَيرِه.
الثَّالثةُ: أنَّه لا يُناسِبُ إلَّا الوَصفَ الباقيَ بَعدَ السَّبرِ.
فوجَبَ كونُه عِلَّةً بهذه المُقدِّماتِ.
وقيل: إنَّه ليسَ بحُجَّةٍ مُطلقًا؛ لجَوازِ بُطلانِ الباقي. وهو المَشهورُ عِندَ الحَنَفيَّةِ [1345] يُنظر: ((جامع الأصول)) للسمرقندي (2/210)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/196). ، وحَكاه إمامُ الحَرَمَينِ عن بَعضِ الأُصوليِّينَ [1346] يُنظر: ((البرهان)) (2/36). .
وقيل: إنَّه حُجَّةٌ للنَّاظِرِ والمُناظِرِ، بشَرطِ الإجماعِ على تَعليلِ الحُكمِ في الأصلِ؛ حَذَرًا مِن أداءِ بُطلانِ الباقي إلى خَطَأِ المُجمِعينَ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [1347] يُنظر: ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 127). ، وبه قال إمامُ الحَرَمَينِ [1348] يُنظر: ((البرهان)) (2/36). .
وقيل: إنَّه حُجَّةٌ للنَّاظِرِ لنَفسِه دونَ المُناظِرِ لغَيرِه؛ لأنَّ ظَنَّه لا يَقومُ حُجَّةً على خَصمِه. وهو قَولٌ لبَعضِ الأُصوليِّينَ [1349] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/410)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 127). ، واختارَه الآمِديُّ [1350] يُنظر: ((منتهى السول)) (ص: 210)، ((الإحكام)) (3/266). .
سابعًا: الدَّوَرانُ
الدَّوَرانُ لُغةً: مَصدَرُ دار يَدورُ دَورًا ودَوَرانًا: إذا تَحَرَّكَ حَرَكةً دَوريَّةً، وهيَ التي تَنتَهي إلى مَبدَئِها، يُقالُ: دَوَرانُ الفُلكِ: أي: تَواتُرُ حَرَكاتِه بَعضِها إثرَ بَعضٍ مِن غَيرِ ثُبوتٍ ولا استِقرارٍ، ومِنه قَولُهم: دارَت المَسألةُ، أي: كُلَّما تَعَلَّقَت بمَحَلٍّ توقَّف ثُبوتُ الحُكمِ على غَيرِه، فيُنقَلُ إليه، ثُمَّ يَتَوقَّفُ على الأوَّلِ، وهَكَذا [1351] يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (ص: 202)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/412). .
والدَّورانُ اصطِلاحًا: هو اقتِرانُ ثُبوتِ الحُكمِ مَعَ ثُبوتِ الوَصفِ، وعَدَمُه مَعَ عَدَمِه [1352] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 396). .
وقيل هو: تَرَتُّبُ الحُكمِ على الوَصفِ وُجودًا وعَدَمًا [1353] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1297). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:
مَعنى الاقتِرانِ: المُقارَبةُ والجَمعُ، يُقالُ: اقتَرَنَ الشَّيءُ بالشَّيءِ: أي: قارَبَه وداناه، كأنَّهما مَقرونانِ في قَرَنٍ، وقَرَنَ بَينَ الحَجِّ والعُمرةِ، أي: جَمَعَ بَينَهما بنيةٍ واحِدةٍ، وتَلبيةٍ واحِدةٍ، وإحرامٍ واحِدٍ، وطَوافٍ واحِدٍ، وسَعيٍ واحِدٍ [1354] يُنظر: ((شمس العلوم)) للحميري (8/5466)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/52). .
والمَعنى هنا: أن يوجَدَ الحُكمُ عِندَ وُجودِ الوَصفِ، ويُعدَمَ عِندَ عَدَمِه، فيُعلَمَ أنَّ ذلك الوَصفَ عِلَّةُ ذلك الحُكمِ [1355] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3351)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 705)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/367). .
ولذلك يُسَمَّى بالدَّورانِ الوُجوديِّ والعَدَميِّ، وبالدَّورانِ المُطلَقِ [1356] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (8/3351)، ((الفائق في أصول الفقه)) (2/277) كلاهما لصفي الدين الهندي. .
ويُعَبِّرُ المُتَقدِّمونَ مِن الأُصوليِّينَ عن الدَّورانِ بـ "الجَرَيانِ"، وبـ "الطَّردِ والعَكسِ" [1357] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1297)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/308)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/197). .
حُكمُ إثباتِ العِلَّةِ بالدَّوَرانِ:
الدَّوَرانُ حُجَّةٌ في إفادةِ العِلِّيَّةِ ظَنًّا، بشَرطِ عَدَمِ المُزاحِمِ؛ لأنَّ العِلَّةَ الشَّرعيَّةَ لا توجِبُ الحُكمَ بذاتِها، وإنَّما هيَ عَلامةٌ مَنصوبةٌ، فإذا دارَ الوصفُ مَعَ الحُكمِ غَلَبَ على الظَّنِّ كونُه مُعَرِّفًا له، ويُنزَّلُ بمَنزِلةِ الوَصفِ المومَأِ إليه بأن يَكونَ عِلَّةً وإن خَلا عن المُناسَبةِ.
وكَونُ الدَّوَرانِ يُفيدُ ظَنَّ العِلِّيَّةِ هو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [1358] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3352)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2377)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/309). ، وعامَّةِ الفُقَهاءِ [1359] قال ابنُ التِّلِمسانيِّ: (هذا قَولُ عامَّةِ الفُقَهاءِ: الشَّافِعيُّ، ومالِكٌ، وأبو حَنيفةَ). ((شرح المعالم)) (2/362). ، وبه قال أكثَرُ المالكيَّةِ [1360] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 396). واحتَجَّ المالِكيَّةُ به على طَهارةِ عَينِ الكَلبِ والخِنزيرِ بقياسِهما على الشَّاةِ الحامِلِ؛ بجامِعِ الحَياةِ، وبَيانُ أنَّ الحَياةَ عِلَّةُ الطَّهارةِ: هو أنَّ الشَّاةَ إذا ماتَت وفي بَطنِها جَنينٌ حَيٌّ حَكَمنا على جَميعِ أجزائِها بالنَّجاسةِ، وعلى ذلك الجَنينُ بالطَّهارةِ، فلمَّا دارَت الطَّهارةُ مَعَ الحَياةِ وُجودًا وعَدَمًا عَلِمنا أنَّ الحَياةَ عِلَّةُ الطَّهارةِ. يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 706). ، والشَّافِعيَّةِ [1361] يُنظر: ((الحاصل)) للأرموي (2/896)، ونقله ابنُ السَّمعانيِّ في ((قواطع الأدلة)) (2/161) عن العِراقيِّينَ مِن الشَّافِعيَّةِ، فقال: ولأصحابِنا العِراقيِّينَ شَغَفٌ عَظيمٌ بهذا، ولعَلَّ بَعضَهم يَقولُ: لا دَليلَ فوقَ هذا. ، وأكثَرُ الحَنابلةِ [1362] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/412)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1297)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 149). .
أدِلَّةُ إفادةِ الدَّوَرانِ للعِلِّيَّةِ:
1- مِن القُرآنِ الكَريمِ:
قَولُ اللهِ تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة: 32] ، فالآيةُ تُفيدُ أنَّ العِلَّةَ تُستَفادُ بالدَّورانِ [1363] يُنظر: ((الإشارات الإلهية)) للطوفي (ص: 215). .
قال الطُّوفيُّ: (اعلَمْ أنَّ العِلَّةَ الشَّرعيَّةَ تارةً تُستَفادُ مِنَ النَّصِّ عليها، وتارةً بالإيماءِ إليها، وتارةً بالسَّبرِ والتَّقسيمِ، وتارةَ بالدَّورانِ بالنَّصِّ، كَما في هذه الآيةِ، وبها يُستَشهَدُ في ذلك، نَحوُ: فعَلتُ كَذا لكَذا، أو مِن أجلِ كَذا، أو لعِلَّةِ كَذا، ونَحوِه) [1364] ((الإشارات الإلهية)) (ص: 215). .
2- مِن السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ:
قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما بالُنا نَستَعمِلُ أقوامًا، فيَجيءُ أحَدُهم فيَقولُ: هذا لكم وهذا لي. ألا جَلسَ في بَيتِ أبيه وأُمِّه حتَّى تَأتيَه هَديَّتُه إن كان صادِقًا؟!)) [1365] أخرجه البخاري (6979)، ومسلم (1832) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي حَميد السَّاعِديّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((استَعملَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَجُلًا على صَدَقاتِ بَني سُلَيمٍ يُدعى ابنَ اللُّتَبيَّةِ، فلمَّا جاءَ حاسَبَه، قال: هذا مالُكم وهذا هَدِيَّةٌ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فهَلَّا جَلَستَ في بَيتِ أبيك وأُمِّك حتَّى تأتيَك هَدِيَّتُك إن كُنتَ صادِقًا! ثُمَّ خَطَبَنا فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أمَّا بَعدُ؛ فإنِّي أستَعمِلُ الرَّجُلَ منكم على العَمَلِ ممَّا ولَّاني اللهُ، فيَأتي فيَقولُ: هذا مالُكم وهذا هَديَّةٌ أُهدِيَت لي، أفلا جَلَسَ في بَيتِ أبيه وأُمِّه حتَّى تَأتيَه هَدِيَّتُه؟! واللهِ لا يَأخُذُ أحَدٌ منكم شَيئًا بغيرِ حَقِّه إلَّا لَقِيَ اللهَ يَحمِلُه يَومَ القِيامةِ، فلَأَعرِفَنَّ أحَدًا منكم لَقِيَ اللهَ يَحمِلُ بَعيرًا له رُغاءٌ، أو بقَرةً لها خُوارٌ، أو شاةٌ تَيعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيه حتَّى رُئِيَ بَياضُ إبْطَيه، يقولُ: اللَّهُمَّ هل بَلَّغتُ، بَصْرَ عَيْني وسَمْعَ أُذُني)). ، فهذا عَينُ الاستِدلالِ بالدَّوَرانِ، أي: إنَّا إذا استَعمَلناك أُهدِيَ لك، وإذا لم نَستَعمِلْك لم يُهدَ لك؛ فعِلَّةُ الهَديَّةِ لك استِعمالُنا إيَّاكَ، فثَبَتَ بهذا أنَّه يوجِبُ ظَنَّ العِلِّيَّةِ [1366] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/414)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/309). .
3- أنَّ اقتِرانَ الوُجودِ بالوُجودِ والعَدَمِ بالعَدَمِ يَحمِلُ على غَلَبةِ الظَّنِّ بأنَّ المَدارَ عِلَّةٌ للدَّائِرِ، بَل قد يَحصُلُ القَطعُ بذلك في بَعضِ الصُّورِ؛ وذلك أنَّ مَن نادَيناه باسمٍ فغَضِبَ، ثُمَّ سَكَتنا عنه فزال غَضَبُه، ثُمَّ نادَيناه بذلك الاسمِ فغَضِبَ كذلك مِرارًا كثيرةً، حَصَل لنا الظَّنُّ الغالِبُ بأنَّ عِلَّةَ غَضَبِه إنَّما هيَ ذلك الاسمُ الذي نادَيناه به؛ ولذلك جَزَمَ الأطِبَّاءُ بالأدويةِ بسَبَبِ وُجودِ تلك الآثارِ عِندَ وُجودِ تلك العَقاقيرِ وعَدَمِها عِندَ عَدَمِها. ومِن هنا فالدَّوَرانُ أصلٌ كبيرٌ في أُمورِ الدُّنيا والآخِرةِ، فإذا وُجِدَ بَينَ الوَصفِ والحُكمِ جَزَمنا بعِلِّيَّةِ الوَصفِ للحُكمِ [1367] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 397)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/370). .
أمثِلةُ الدَّوَرانِ:
قد يَكونُ الدَّوَرانُ في صورةٍ واحِدةٍ، وقد يَكونُ في صورَتَينِ:
أوَّلًا: مِثالُ ما كان في صورةٍ واحِدةٍ
أنَّ عَصيرَ العِنَبِ قَبلَ أن يَصيرَ خَمرًا لم يَكُنْ مُسكِرًا ولا حَرامًا، فقد اقتَرَنَ العَدَمُ بالعَدَمِ، فلمَّا صارَ خَمرًا صارَ حَرامًا، فاقتَرَنَ الثُّبوتُ بالثُّبوتِ، فلمَّا زالت الخَمريَّةُ وصارَ خَلًّا لم يَبقَ مُسكِرًا ولا حَرامًا، فقد اقتَرَنَ العَدَمُ بالعَدَمِ، فلمَّا دارَ التَّحريمُ مَعَ الإسكارِ وُجودًا وعَدَمًا، عَلِمنا أنَّ عِلَّةَ التَّحريِم الإسكارُ، وهذا هو الدَّوَرانُ في صورةٍ واحِدةٍ، وهيَ الخَمرُ [1368] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/363)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 396)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 705). .
ثانيًا: مِثالُ ما كان في صورَتَينِ
قَولُ الحَنَفيِّ في وُجوبِ الزَّكاةِ في الحُليِّ المُتَّخَذِ لاستِعمالٍ مُباحٍ: الموجِبُ لوُجوبِ الزَّكاةِ في النَّقدَينِ كونُهما أحَدَ الحَجَرَينِ: الذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ لأنَّ وُجوبَ الزَّكاةِ دار مَعَ كونِه أحَدَ الحَجَرَينِ وُجودًا وعَدَمًا، أمَّا وُجودًا ففي صورةِ المَسكوكِ، فإنَّه أحَدُ الحَجَرَينِ، والزَّكاةُ واجِبةٌ فيه، وأمَّا عَدَمًا ففي صورةِ العَقارِ؛ فإنَّه ليسَ أحَدَ الحَجَرَينِ، فلا تَجِبُ الزَّكاةُ فيه [1369] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/363)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 396). .
وقيل: الدَّورانُ يُفيدُ العِلِّيَّةَ قَطعًا، وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1370] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/309). .
وقيل: لا يُفيدُ العِلِّيَّة مُطلقًا، لا قَطعًا ولا ظَنًّا. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1371] يُنظر: ((جامع الأصول)) لركن الدين السمرقندي (2/165)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (3/197)، ((فواتح الرحموت)) لللكنوي (2/354). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1372] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3352). .
وقيل: إن تَكَرَّر أفادَ العِلِّيَّةَ قَطعًا، وإلَّا أفادَها ظَنًّا. واختَارهُ بَعضُ الأُصوليِّينَ [1373] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (5/370). .
ثامِنًا: تَنقيحُ المَناطِ
التَّنقيحُ لُغةً: التَّخليصُ والتَّهذيبُ، يُقالُ: نَقَّحتُ العَظمَ: إذا استَخرَجتَ مُخَّه، وتَنقيحُ الشَّعرِ: تَهذيبُه [1374] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/413)، ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص:881). ويُنظر أيضًا: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/237)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2006)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 313). .
والمُرادُ بالتَّنقيحِ هنا: أن يَكونَ المَناطُ مَذكورًا مَعَ غَيرِه فيما لا مَدخَلَ له في التَّأثيرِ، فيُنَقَّحُ حتَّى يُمَيَّزَ الصَّحيحُ مِن غَيرِه [1375] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (3/22). .
والمَناطُ: ما نيطَ به الحُكمُ، أي: عُلِّقَ به، وهو: العِلَّةُ التي رُتِّبَ عليها الحُكمُ في الأصلِ [1376] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/233)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/199). .
والتَّعبيرُ عن العِلَّةِ بالمَناطِ مِن بابِ تَشبيهِ المَعقولِ بالمَحسوسِ؛ لأنَّ الحُكمَ لمَّا عُلِّقَ بها كان كالشَّيءِ المَحسوسِ الذي تَعَلَّق بغَيرِه، وصارَ ذلك في اصطِلاحِ الفُقَهاءِ بحَيثُ لا يُفهَمُ عِندَ الإطلاقِ غَيرُه [1377] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/322). . فتَنقيحُ المَناطِ: إسقاطُ ما لا مَدخَلَ له في العِلِّيَّةِ [1378] يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 313). .
وتَنقيحُ المَناطِ اصطِلاحًا: أن يَكونَ الوَصفُ المُعتَبَرُ في الحُكمِ مَذكورًا مَعَ غَيرِه في النَّصِّ؛ فيُنَقَّحُ بالاجتِهادِ؛ حتَّى يُمَيَّزَ ما هو مُعتَبَرٌ مِمَّا هو مُلغًى [1379] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (5/19). .
وعَرَّفه بَعضُ الأُصوليِّينَ بأنَّه: النَّظَرُ والاجتِهادُ في تَعيينِ ما دَلَّ النَّصُّ على كونِه عِلَّةً مِن غَيرِ تَعيينٍ بحَذفِ ما لا مَدخَلَ له في الاعتِبارِ مِمَّا اقتَرَنَ به مِن الأوصافِ [1380] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/ 303). .
وعَرَّفه آخَرونَ بأنَّه الاجتِهادُ في تَحصيلِ المَناطِ الذي رَبَطَ به الشَّارِعُ الحُكمَ، فيَبقى مِن الأوصافِ ما يَصلُحُ، ويُلغى ما لا يَصلُحُ [1381] ((التحبير شرح التحرير)) للمرداوي (7/ 3333). .
شَرحُ التَّعريفِ:
الحُكمُ لا بُدَّ له مِن عِلَّةٍ، ولمَّا كانت العِلَّةُ مَنصوصًا عليها، ولكِنَّها تَختَلطُ بغَيرِها احتاجَت إلى ما يُمَيِّزُها؛ ولذلك سُمِّيَ بتَنقيحِ المَناطِ، بأن يَدُلَّ الظَّاهرُ على التَّعليلِ بوصفٍ مَذكورٍ مَعَ غَيرِه مِمَّا لا مَدخَلَ له في التَّأثيرِ؛ لكَونِه طَرديًّا أو مُلغًى، فيُنَقَّحُ حتَّى يُمَيَّزَ المُعتَبَرُ، ويَجتَهِدَ في تَعيينِ السَّبَبِ الذي أناطَ الشَّارِعُ الحُكمَ به، وأضافه إليه بحَذفِ غَيرِه مِن الأوصافِ عن دَرَجةِ الاعتِبارِ [1382] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/322). .
فحاصِلُه أنَّه اجتِهادٌ في الحَذفِ والتَّعيينِ بأن توجَدَ أوصافٌ في مَحَلِّ الحُكمِ، فيُحذَفَ بَعضُها عن الاعتِبارِ بالاجتِهادِ؛ لعَدَمِ صَلاحيتِها للاعتِبارِ في العِلَّةِ، ويُناطَ الحُكمُ الشَّرعيُّ بالباقي [1383] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/237)، ((البدر الطالع)) للمحلي (2/255). وذَكَرَ القَرافيُّ أنَّ تَنقيحَ المَناطِ عِندَ الغَزاليِّ هو إلغاءُ الفارِقِ، نَحوُ: لا فارِقَ بَينَ الأُمَّةِ والعَبدِ في سَرايةِ العِتقِ، ولا فرقَ بَينَ الذَّكَرِ والأُنثى في مَفهومِ الرِّقِّ وتَشطيرِ الحَدِّ؛ فوجَبَ استِواؤُهما فيه، وقد ورَدَ النَّصُّ بذلك في الإماءِ ونَحوِ ذلك. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 388). قال الطُّوفيُّ: (لا بَأسَ بتَسميةِ إلغاءِ الفارِق تَنقيحًا؛ إذ التَّنقيحُ هو التَّخليصُ والتَّصفيةُ، وبإلغاءِ الفارِق يَصفو الوَصفُ، ويَخلُصُ للعِلِّيَّةِ، فلا يَكونُ هذا قَولًا ثانيًا في تَنقيحِ المَناطِ، كما قال القَرافيُّ، بَل يَكونُ إلغاءُ الفارِقِ ضَربًا مِن تَنقيحِ المَناطِ). ((شرح مختصر الروضة)) (3/244). .
مِثالُه: حَديثُ المُواقِعِ زَوجَتَه في نَهارِ رَمَضانَ [1384] أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فقد عُلمَ أنَّ الحُكمَ لا يَختَصُّ بهذا السَّائِلِ، وعُلمَ أنَّ كونَه أعرابيًّا أو عَرَبيًّا أو المَوطوءةَ زَوجَتُه، لا أثَرَ له في الحُكمِ، فلو وطِئَ المُسلِمُ العَجَميُّ سُرِّيَّتَه كان الحُكمُ كذلك.
ولكِن هل المُؤَثِّرُ في الكَفَّارةِ كونُه مُجامِعًا في رَمَضانَ، أو كونُه مُفطِرًا؟
فالأوَّلُ: مَذهَبُ الشَّافِعيِّ وأحمَدَ في المَشهورِ عنه [1385] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (6/329)، ((المغني)) لابن قدامة (4/372). ؛ فقد حَذَفا عن الاعتِبارِ مِن أوصافِ المَحَلِّ كونَ الواطِئِ أعرابيًّا، وكَونَ المَوطوءةِ زَوجةً، وكَونَ الوَطءِ في القُبُلِ، وأناطا الكَفَّارةَ بالجِماعِ.
والثَّاني: مَذهَبُ أبي حَنيفةَ ومالِكٍ [1386] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/97)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/433). ؛ فقد حَذَفا خُصوصَ الجِماعِ عن الاعتِبارِ، وأناطا الكَفَّارةَ بالمَعنى الأعَمِّ الذي هو إفسادُ الصَّومِ بمُطلَقِ الإفطارِ، فأوجَبا الكَفَّارةَ بالأكلِ والشُّربِ [1387] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/15)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/336)، ((البدر الطالع)) للمحلي (2/255)، وقال الطُّوفيُّ: (أوصافُ العِلَّةِ على ثَلاثةِ أقسامٍ: أحَدُها: ما اتُّفِقَ على مُناسَبَتِه للحُكمِ، كوِقاعِ المُكَلَّفِ هاهنا. الثَّاني: ما اتُّفِقَ على طَرديَّتِه وعَدَمِ مُناسَبَتِه، ككَونِ الواطِئِ أعرابيًّا لزَوجةٍ في ذلك الشَّهرِ. الثَّالثُ: ما اختُلِف في مُناسَبَتِه؛ لتَرَدُّدِه بَينَ الطَّرديِّ والمُناسِبِ، أو لكَونِه مُناسِبًا مِن وجهٍ دونَ وجهٍ، ككَونِ الفِعلِ إفسادًا للصَّومِ وهو وَصفٌ عامٌّ، أو جِماعًا وهو خاصٌّ؛ ولهذا وقَعَ النِّزاعُ بَينَ الأئِمَّةِ في وُجوبِ الكَفَّارةِ بالأكلِ والشُّربِ في نَهارِ رَمَضانَ، فقال به أبو حَنيفةَ ومالِكٌ، وخالف به الشَّافِعيُّ وأحمدُ، فقالوا: لا كَفَّارةَ إلَّا بخُصوصِ الجِماعِ). ((شرح مختصر الروضة)) (3/240). .
فالاتِّفاقُ بَينَ الأئِمَّةِ على أصلِ التَّنقيحِ، وإنَّما الخِلافُ في صِحَّةِ الحَذفِ؛ فإنَّ طَريقَ الحَذفِ قد يَكونُ قَطعيًّا بأن يَكونَ المَحذوفُ طَردًا مَحضًا لا عِبرةَ به في الأحكامِ؛ لكَونِه عربيَّا أو عَجَميًّا.
وقد يَكونُ مَظنونًا كحَذفِ خُصوصِ الجِماعِ؛ فإنَّ الشَّافِعيَّ يَرى أنَّ له حَظًّا في شَرعِ الكَفَّارةِ؛ فإنَّها تَتَضَمَّنُ مَعنى الزَّجرِ، وداعي النِّكاحِ قد لا يَنزَجِرُ عنه عِندَ هَيَجانِ الشَّهوةِ بمُجَرَّدِ التَّحريمِ، بَل لا بُدَّ مِن وازِعٍ وصارِفٍ أقوى؛ ولذلك أناطَ الشَّرعُ بجِنسِه الحَدَّ، ويُكتَفى في المَنعِ مِن الأكلِ والشُّربِ بالتَّحريمِ وإيجابِ القَضاءِ؛ لضَعفِ الدَّاعي؛ ولهذا المَعنى أوجَبَ الشَّارِعُ الحَدَّ في شُربِ يَسيرِ الخَمرِ، ولم يوجِبْه في شُربِ البَولِ؛ اكتِفاءً بالتَّحريمِ؛ لضَعفِ الدَّاعي، وقوَّةِ الصَّارِفِ الطَّبيعيِّ [1388] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/336). .
أمَّا الحَنَفيَّةُ فيَرَونَ أنَّ كفَّارةَ الإفطارِ على الأعرابيِّ الذي جامَعَ امرَأتَه في نَهارِ رَمَضانَ ثَبَتَت عليه بالنَّصِّ، وعلى غَيرِه بدَلالةِ النَّصِّ بالإجماعِ.
فكذلك تَجِبُ بالأكلِ والشُّربِ بدَلالةِ النَّصِّ؛ لأنَّ الجِماعَ أوجَبَها بالإجماعِ لا بمَعناه وُقوعًا على المَرأةِ، وهو اقتِضاءُ شَهوةِ الفَرجِ، والكَفَّارةُ كفَّارةُ فِطرٍ، ومَعنى الإفطارِ عامٌّ تَعَلَّقَ به وبالأكلِ والشُّربِ على حَدٍّ سَواءٍ؛ لأنَّ الصَّومَ كان صَومًا للكَفِّ عن اقتِضاءِ شَهوةِ البَطنِ والفرجِ، فلمَّا استَويا في قيامِ الصَّومِ بالكَفِّ عنهما استَويا في انتِقاضِه بفِعلِهما ضَرورةً، وذلك هو الإفطارُ [1389] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 134). .
وإنَّما قيل: إنَّ هذه الأوصافَ لا أثَرَ لها لعَدَمِ مُناسَبَتِها؛ إذ الوصفُ الذي تَظهَرُ مُناسَبَتُه كَونُه وِقاعَ مُكَلَّفٍ هُتِكَت به حُرمةُ عِبادةِ الصَّومِ المَفروضِ، وما سِوى ذلك مِن التَّعييناتِ والأوصافِ لاغٍ [1390] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/239). .
فائِدةٌ:
تَنقيحُ المَناطِ قد يَشتَبِهُ مَعَ تَحقيقِ المَناطِ وتَخريجِ المَناطِ، وقد يَشتَبِهُ بَعضُها ببَعضٍ خُصوصًا على المُبتَدِئِ في النَّظَرِ، فتَحقيقُ الفَرقِ بَينَهم مُهمٌّ [1391] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/243). .
وقد تَقدَّم بَيانُ تَنقيحِ المَناطِ، وأمَّا تَحقيقُ المَناطِ فهو: إثباتُ العِلَّةِ في آحادِ صُوَرِها، بأن يَجيءَ إلى وصفٍ دَلَّ على عِلِّيَّتِه نَصٌّ أو إجماعٌ أو غَيرُهما مِن الطُّرُقِ، ولكِن يَقَعُ الاختِلافُ في وُجودِه في صورةِ النِّزاعِ، فيُحَقَّقُ وُجودُها فيه [1392] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/203). .
ومِثالُه: تَحقيقُ أنَّ النَّبَّاشَ -وهو مَن يَنبُشُ القُبورَ ويَأخُذُ الأكفانَ- سارِقٌ أمْ أنَّه غيرُ سارقٍ؟ بأنَّه وُجِدَ مِنه أخذُ المالِ خُفيةً، وهو السَّرِقةُ، فيُقطَعُ، خِلافًا للحَنَفيَّةِ، فلا يُقطَعُ عِندَهم؛ لعَدَمِ وُجودِ الحِرزِ [1393] يُنظر: ((البدر الطالع)) للمحلي (2/255). .
وأمَّا تَخريجُ المَناطِ فهو: استِخراجُ وَصفٍ مُناسِبٍ يُحكَمُ عليه بأنَّه عِلَّةُ ذلك الحُكمِ [1394] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/202). .
ومُناسَبةُ التَّسميةِ في الثَّلاثةِ ظاهِرةٌ؛ لأنَّه أوَّلًا استَخرَجَها مِن مَنصوصٍ في حُكمٍ مِن غَيرِ نَصٍّ على عِلَّتِه، ثُمَّ جاءَ في أوصافٍ قد ذُكِرَت في التَّعليلِ، فنَقَّحَ النَّصَّ ونَحوَه في ذلك، وأُخِذَ مِنه ما يَصلُحُ عِلَّةً، وألغى غَيرَه [1395] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/203) قال ابن تيمية في هذه الأنواع الثلاثة: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط: (هي جماع الاجتهاد). ((مجموع الفتاوى)) (22/329). .
أنواعُ تَنقيحِ المَناطِ:
تَنقيحُ المَناطِ نَوعانِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: وهو الأشهَرُ: أن يَرِدَ وَصفٌ قد عُلِّقَ به حُكمٌ، لكِن ظَهَرَ بالاجتِهادِ أنَّ خُصوصَ ذلك الوصفِ لا يَصلُحُ للعِلِّيَّةِ؛ فيَتَعَيَّنُ أن يَكونَ ما فيه مِن العُمومِ هو العِلَّةَ.
مِثالُه: ما فعَله أبو حَنيفةَ ومالِكٌ في حَديثِ المُجامِعِ زَوجَتَه في نَهارِ رَمَضانَ حيثُ اجتَهَدا فحَذَفا خُصوصَ الجِماعِ، وأناطا وُجوبَ الكَفَّارةِ بما فيه مِن عُمومِ الإفطارِ؛ فإنَّه إذا بَطَل الخُصوصُ يَبقى العُمومُ [1396] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2006). .
النَّوعُ الثَّاني: أن يَدُلَّ لفظٌ ظاهرٌ على التَّعليلِ بمَجموعِ عِدَّةِ أوصافٍ، فيُحذَفَ بَعضُها عن دَرَجةِ الاعتِبارِ، إمَّا لأنَّه طَرديٌّ، أو لثُبوتِ الحُكمِ على بَقيَّةِ الأوصافِ بدونِه، ويُناطَ بالباقي، فهو بمَنزِلةِ لفظٍ عامٍّ أُخرِجَ بَعضُه، وبُيِّنَ المُرادُ به بالاجتِهادِ.
كتَعَيُّنِ هذه الأوصافِ في حَديثِ الأعرابيِّ: كَونُ المَجامِعِ أعرابيًّا، وكَونُه زَيدًا، وكَونُ المُجامَعةِ زَوجةً أو أَمَةً، أو في قُبُلِها، وكَونُه في شَهرٍ مُعَيَّنٍ في تلك السَّنةِ المُعَيَّنةِ. وهيَ كُلُّها مُلغاةٌ؛ لأنَّها طَرديَّةٌ سِوى الوِقاعِ في نَهارِ رَمَضانَ بجِماعٍ أفسَدَ به صَومَه [1397] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2008). .
الفَرقُ بَينَ تَنقيحِ المَناطِ وبَينَ مَسلَكِ السَّبرِ والتَّقسيمِ:
أوَّلًا: أنَّ تَنقيحَ المَناطِ يَختَصُّ بالأوصافِ التي دَلَّ عليها ظاهرُ النَّصِّ.
وأمَّا السَّبرُ والتَّقسيمُ فإنَّه يَختَصُّ بالأوصافِ المُستَنبَطةِ الصَّالحةِ للعِلِّيَّةِ؛ حَيثُ لا يوجَدُ نَصٌّ يَدُلُّ على مَناطِ الحُكمِ صَراحةً أو إيماءً [1398] قال العَطَّارُ: (الفَرقُ بَينَ المَسلَكِ بهذا المَعنى ومَسلَكِ السَّبرِ: أنَّ السَّبرَ يَجِبُ فيه حَصرُ الأوصافِ الصَّالحةِ للعِلِّيَّةِ، ثُمَّ إلغاؤُها ما عَدا ما ادُّعِيَ عَلِّيَّتُه، وتَنقيحُ المَناطِ بالمَعنى المَذكورِ إنَّما يُلاحَظُ فيه الأوصافُ التي دَلَّ عليها ظاهِرُ النَّصِّ، وإن كان الحَصرُ فيه أيضًا مَوجودًا لكِنَّه غَيرُ مُلاحَظٍ فهو حاصِلٌ غَيرُ مَقصودٍ، وحينَئِذٍ فلا يُقالُ مَعَ عَدَمِ الحَصرِ: لا يَتَأتَّى مَعرِفةُ الصَّالِحِ للعِلِّيَّةِ مِن غَيرِه حتَّى يُحذَفَ غَيرُ الصَّالِحِ عن الاعتِبارِ). ((حاشيته على شرح المحلي)) (2/337). .
ثانيًا: أنَّ تَنقيحَ المَناطِ لا يَجِبُ فيه تَعيينُ العِلَّةِ، ولكِنَّ ضابطَه أنَّه لا يَحتاجُ إلى التَّعَرُّضِ للعِلَّةِ الجامِعةِ، بَل يَتَعَرَّضُ للفارِقِ، ويُعلَمُ أنَّه لا فارِقَ إلَّا كذا، ولا مَدخَلَ له في التَّأثيرِ، وذلك بأن يُقالَ: هذا الحُكمُ لا بُدَّ له مِن عِلَّةٍ، وهيَ إمَّا الوَصفُ الجامِعُ المُشتَرَكُ بَينَ الأصلِ والفَرعِ، أو المُختَصُّ بالأصلِ. والثَّاني باطِلٌ؛ لأنَّ الفارِقَ مُلغًى، فيَتَعَيَّنُ الأوَّلُ، فيَلزَمُ ثُبوتُ الحُكمِ في الفرعِ؛ لثُبوتِ عِلَّتِه فيه.
وأمَّا السَّبرُ والتَّقسيمُ فلا بُدَّ فيه مِن تَعيينِ الجامِعِ، والاستِدلالِ على العِلَّةِ [1399] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 306)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2397)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2008). .
حُكمُ إثباتِ العِلَّةِ بتَنقيحِ المَناطِ:
قال به أكثَرُ الأُمَّةِ [1400] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (3/23). ، ونَقل الغَزاليُّ الاتِّفاقَ على القَولِ به [1401] يُنظر: ((شفاء الغليل)) (ص: 414). .
قال عبدُ العَليِّ اللَّكْنَويُّ: (هو مَقبولٌ عِندَ الكُلِّ مِن أهلِ المَذاهِبِ مِن أهلِ الحَقِّ، إلَّا أنَّ الحَنَفيَّةَ لم يَصطَلِحوا على هذا الاسمِ وإن سَلَّموا مَعناه، كما لم يَضَعوا اسمَ "تَخريجِ المَناطِ" للنَّظَرِ في تَعريفِ العِلَّةِ المُستَنبَطةِ وتَمييزِها مِن بَينِ سائِرِ الأوصافِ، وكَما لم يَضَعوا اسمَ "تَحقيقِ المَناطِ" للنَّظَرِ في تَعَرُّفِ تَحَقُّقِها وإعلامِ هذا التَّحَقُّقِ في الجُزئيَّاتِ للعِلَّةِ مَعَ الاتِّفاقِ في المُسَمَّى وتحَقُّقِه) [1402] ((فواتح الرحموت)) (2/350)، فالحَنَفيَّةُ يُسَمُّونَه بـ"الاستِدلالِ"، ويُفرِّقونَ بَينَه وبَينَ القياسِ: بأن يَخُصُّوا اسمَ القياسِ بما يَكونُ الإلحاقُ فيه بذِكرِ الجامِعِ الذي لا يُفيدُ إلَّا الظَّنَّ، والاستِدلالَ بما يَكونُ الإلحاقُ فيه بإلغاءِ الفارِقِ الذي يُفيدُ القَطعَ، حتَّى أجرَوه مَجرى القَطعيَّاتِ في النَّسخِ به ونَسخِه، فجوَّزوا الزِّيادةَ على النَّصِّ به، ولم يُجَوِّزوا نسخَه بخَبَرِ الواحِدِ. يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 134)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3381)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (6/2396)، ((البحر المحيط)) للزركشي (7/322). .
وذَهَبَ بَعضُ الأُصوليِّينَ إلى أنَّ تَنقيحَ المَناطِ خارِجٌ عن بابِ القياسِ، وهو راجِعٌ إلى نَوعٍ مِن تَأويلِ الظَّواهِرِ، حتَّى إنَّ أبا حَنيفةَ يُنكِرُ القياسَ في الكَفَّاراتِ، وقد استَعمَل تَنقيحَ المَناطِ فيها، وسَمَّاه استِدلالًا، وقال: إنَّ الكَفَّارةَ تَتَرَتَّبُ على الأكلِ، وليسَ ذلك بقياسٍ. وإنَّما المُمتَنِعُ عِندَه فيها تَحقيقُ المَناطِ [1403] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (3/23)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/241)، ((الموافقات)) للشاطبي (5/21). قال ابنُ تَيميَّةَ: (هذا بابٌ واسِعٌ، وهو مُتَناوِلٌ لكُلِّ حُكمٍ تَعَلَّق بعَينٍ مُعَيَّنةٍ، مَعَ العِلمِ بأنَّه لا يَختَصُّ بها، فيَحتاجُ أن يُعرَفَ المَناطُ الذي يَتَعَلَّقُ به الحُكمُ، وهذا النَّوعُ يُسَمِّيه بَعضُ النَّاسِ قياسًا، وبَعضُهم لا يُسَمِّيه قياسًا؛ ولهذا كان أبو حَنَيفةَ وأصحابُه يَستَعمِلونَه في المَواضِعِ التي لا يَستَعمِلونَ فيها القياسَ، والصَّوابُ: أنَّ هذا ليسَ مِن القياسِ الذي يُمكِنُ فيه النِّزاعُ). ((مجموع الفتاوى)) (22/328). .
تاسِعًا: الشَّبَهُ
الشَّبَهُ لُغةً: الشِّينُ والباءُ والهاءُ: أصلٌ واحِدٌ يَدُلُّ على تَشابُهِ الشَّيءِ لونًا ووصفًا، والشَّبَهُ: المُشارَكةُ بَينَ اثنَينِ في أمرٍ مِن الأُمورِ حِسِّيًّا كان أو مَعنَويًّا [1404] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/243)، ((لسان العرب)) لابن منظور (13/503). .
الشَّبَهُ اصطِلاحًا: هو الوَصفُ الذي لا تَظهَرُ فيه المُناسَبةُ بَعدَ البَحثِ التَّامِّ مِمَّن هو أهلُه، ولكِن أُلِفَ مِنَ الشَّارِعِ الالتِفاتُ إليه في بَعضِ الأحكامِ [1405] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/296)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 330)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/1993)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3425). . وهذا هو التَّعريفُ المُختارُ، وقد نَقَله الآمِديُّ عن أكثَرِ المُحَقِّقينَ [1406] يُنظر: ((الإحكام)) (3/296). .
وقيل: الشَّبَهُ هو الذي لا يَكونُ مُناسِبًا للحُكمِ، ولكِن عُرِف اعتِبارُ جِنسِه القَريبِ في الجِنسِ القَريبِ [1407] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/296). .
ويُسَمِّيه بَعضُ الفُقَهاءِ "الاستِدلالَ بالشَّيءِ على مِثلِه"، وهو عامٌّ أُريدَ به خاصٌّ؛ إذ الشَّبَهُ يُطلَقُ على جَميعِ أنواعِ القياسِ؛ لأنَّ كُلَّ قياسٍ لا بُدَّ فيه من كَونِ الفَرعِ شَبيهًا بالأصلِ، بجامِعٍ بَينَهما، إلَّا أنَّ الأُصوليِّينَ اصطَلحوا على تَخصيصِ هذا الاسمِ بنَوعٍ مِن الأقيِسةِ. وهو مِن أهَمِّ ما يَجِبُ الاعتِناءُ به، والفَرقُ بَينَه وبَينَ الطَّردِ [1408] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (7/293). ؛ ولهذا قال إمامُ الحَرَمَينِ: (مِن أهَمِّ ما يَجِبُ الاعتِناءُ به تَصويرُ قياسِ الشَّبَهِ، وتَمييزُه عن قياسِ المَعنى والطَّردِ) [1409] ((البرهان)) (2/53). .
وقال الأبياريُّ: (لستُ أرى في مَسائِلِ الأُصولِ مَسألةً أغمَضَ مِن هذه) [1410] ((التحقيق والبيان)) (3/250). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ:
الوَصفُ المُعَلَّلُ به لا يَخلو: إمَّا أن تَظهَرَ فيه المُناسَبةُ، أو لا تَظهَرَ فيه المُناسَبةُ.
فإن ظَهَرَت فيه المُناسَبةُ بوُقوفِ مَن هو أهلٌ لمَعرِفةِ المُناسَبةِ عليها فهو القياسُ المُناسِبُ، كالسُّكرِ مَعَ التَّحريمِ.
وإن لم تَظهَرْ فيه المُناسَبةُ بَعدَ البَحثِ التَّامِّ مِمَّن هو أهلُه، فلا يَخلو مِن حالينِ:
إمَّا أن يَكونَ مَعَ ذلك مِمَّا لم يُؤلَفْ مِن الشَّارِعِ الالتِفاتُ إليه في شَيءٍ مِن الأحكامِ، أو أن يَكونَ مِمَّا أُلِف مِن الشَّارِعِ الالتِفاتُ إليه في بَعضِ الأحكامِ [1411] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/296)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3342)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 330). .
الحالُ الأولى: الوصفُ الذي لم تَظهَرْ فيه المُناسَبةُ بَعدَ البَحثِ التَّامِّ مِمَّن هو أهلُه، ولم يُؤلَفْ مِن الشَّارِعِ الالتِفاتُ إليه في شَيءٍ مِن الأحكامِ، فهو الوَصفُ الطَّرديُّ، وذلك كالطُّولِ والقِصَرِ، والسَّوادِ والبَياضِ، ويُطلقُ عليه قياسُ الطَّردِ [1412] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/296)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3342). .
والرَّاجِحُ: أنَّ الطَّردَ ليسَ بحُجَّةٍ في إثباتِ العِلَّةِ، وإثباتُ العِلَّةِ به مَردودٌ، وهو مَنقولٌ عن الأئِمَّةِ الأربَعةِ [1413] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (7/3447)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (4/198). ، وبه قال جُمهورُ الأُصوليِّينَ [1414] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/2004)، ((البدر الطالع)) للمحلي (2/253)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 407). .
مِثالُه: استِدلالُ المالِكيِّ مَثَلًا على جَوازِ الوُضوءِ بالماءِ المُستَعمَلِ بقَولِه: إنَّه مائِعٌ، تُبنى القَنطَرةُ على جِنسِه، فيَجوزُ الوُضوءُ به؛ قياسًا على الماءِ في النَّهرِ. فإنَّ بناءَ القَنطَرةِ على الماءِ ليسَ مُناسِبًا لكَونِه طَهورًا أو مُستَلزِمًا له [1415] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 330). .
وكأن يَقولَ قائِلٌ: الخَلُّ مائِعٌ لا يَجوزُ إزالةُ النَّجاسةِ به قياسًا على الدُّهنِ بجامِعِ أنَّه لا تُبنى عليه القَناطِرُ، ولا يُصطادُ فيه السَّمَكُ، ولا تَجري فيه السُّفُنُ، بخِلافِ الماءِ. فإنَّ هذا الوَصفَ طَرديٌّ لا مُناسَبةَ بَينَه وبَينَ الحُكمِ الشَّرعيِّ؛ حَيثُ إنَّ الشَّارِعَ لم يَعتَبِرْه، ولم يَلتَفِتْ إليه [1416] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/296). .
الحالُ الثَّانيةُ: الوَصفُ الذي لم تَظهَرْ فيه المُناسَبةُ بَعدَ البَحثِ التَّامِّ، لكِن أُلِفَ مِن الشَّارِعِ الالتِفاتُ إليه في بَعضِ الأحكامِ، وهو الوَصفُ الشَّبَهيُّ.
وسُمِّي شَبَهًا؛ لأنَّه أشبَهَ الوَصفَ الطَّرديَّ مِن جِهةٍ، وأشبَهَ الوَصفَ المُناسِبَ مِن جِهةٍ أُخرى؛ فإنَّه مِن حَيثُ عَدَمُ الوُقوفِ على المُناسَبةِ فيه بَعدَ البَحثِ رُبَّما يَجزِمُ المُجتَهدُ بعَدَمِ مُناسَبَتِه. ومِن حَيثُ إنَّه أُلِفَ مِن الشَّارِعِ الالتِفاتُ إليه في بَعضِ الأحكامِ يوجِبُ تَوقُّفَ المُجتَهدِ عن الجَزمِ بعَدَمِ مُناسَبَتِه، فالوَصفُ الشَّبَهيُّ مُشابِهٌ للمُناسِبِ في أنَّه غَيرُ مَجزومٍ بنَفيِ المُناسَبةِ عنه، ومُشابهٌ للطَّرديِّ في أنَّه لم تَظهَرِ المُناسَبةُ فيه. فهو مَرتَبةٌ بَينَ المُناسِبِ والطَّردِ، وهو دونَ المُناسِبِ وفَوقَ الطَّردِ، وفيه شَبَهٌ مِن كُلٍّ مِنهما [1417] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/296)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3342)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 330)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/1993)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3425). .
مِثالُه: قَولُ بَعضِهم في الاستِدلالِ في مَسألةِ إزالةِ النَّجاسةِ: طَهارةٌ تُرادُ لأجلِ الصَّلاةِ، فلا تَجوزُ بغَيرِ الماءِ؛ قياسًا على طَهارةِ الحَدَثِ؛ بجامِعِ كَونِ كُلٍّ مِنهما طَهارةٌ لأجلِ الصَّلاةِ، ومُناسَبةُ الطَّهارةِ لتَعيينِ الماءِ فيها بَعدَ البَحثِ التَّامِّ غَيرُ ظاهرةٍ، لكِنْ عُهِدَ التِفاتُ الشَّارِعِ إليها في بَعضِ الأحكامِ، كمَسِّ المُصحَفِ، والصَّلاةِ، والطَّوافِ، وذلك يوهمُ اشتِمالَها على المُناسَبةِ [1418] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/296)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3342)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 330)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (5/1993). .
حُكمُ إثباتِ العِلَّةِ بالشَّبَهِ:
يُعتَبَرُ الوصفُ الشَّبَهيُّ طَريقًا مِن طُرُقِ ثُبوتِ العِلَّةِ. وهو حُجَّةٌ.
وهو مَنقولٌ عن الشَّافِعيِّ [1419] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (3/237)، ((المنخول)) (ص: 378)، ((شفاء الغليل)) (ص: 311) كلاهما للغزالي، ((جمع الجوامع)) لابن السبكي (ص: 94). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [1420] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1326)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/243)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 149). ، وهو مَذهَبُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ مِن المالكيَّةِ [1421] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (2/635). ، والشَّافِعيَّةِ [1422] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/165)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/369). ، والحَنابلةِ [1423] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1294)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 149)، ((التحبير)) للمرداوي (7/3429). .
الأدِلَّةُ على جَوازِ إثباتِ العِلَّةِ بالشَّبَهِ:
الدَّليلُ الأوَّلُ: حَديثُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ أعرابيًّا أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((إنَّ امرَأتي ولدَت غُلامًا أسودَ، وإنِّي أنكَرتُه. فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَل لك مِن إبِلٍ؟ قال: نَعَم، قال: فما ألوانُها؟ قال: حُمرٌ، قال: هَل فيها مِن أورَقَ؟ قال: إنَّ فيها لَوُرقًا، قال: فأنَّى تَرى ذلك جاءَها؟ قال: يا رَسولَ اللهِ، عِرقٌ نَزَعَها، قال: ولعَلَّ هذا عِرقٌ نَزعَه، ولم يُرَخِّصْ له في الانتِفاءِ مِنه)) [1424] أخرجه البخاري (7314) واللفظ له، ومسلم (1500). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه: "عَسى أن يَكونَ نَزَعَه عِرقٌ"، أي: جَذبَه إلى الشَّبَهِ بمَن خَرَجَ شَبيهًا به، يُقالُ: نَزَعَ إليه في الشَّبَهِ: إذا أشبَهَه. والعِرقُ: الأصلُ، كأنَّه نَزَعَ في الشَّبَهِ إلى أجدادِه مِن جِهةِ الأبِ أو الأُمِّ [1425] يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (3/344). .
وقد حَكَم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ الولَدَ للفِراشِ، ولم يَجعَلْ خِلافَ الشَّبَهِ واللَّونِ دَلالةً يَجِبُ الحُكمُ بها، ورَدَّ أمرَ الآدَميِّينَ مِن اختِلافِ الخَلقِ والألوانِ إلى ألوانِ الحَيَوانِ، فضَرَبَ له المَثَلَ بما يوجَدُ مِن اختِلافِ الألوانِ في الإبِلِ، وفَحلُها ولِقاحُها واحِدٌ، وفي هذا إثباتُ أنَّ المُتَشابِهَينِ حُكمُهما مِن حَيثُ اشتَبَها واحِدٌ [1426] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (3/272). .
الدَّليلُ الثَّاني: أنَّ اقتِرانَ الحُكمِ بالشَّبَهِ يُفيدُ ظَنَّ العِلِّيَّةِ، فيَكونُ دَليلًا على كَونِ الوَصفِ عِلَّةً.
وبَيانُ ذلك: أنَّ الحُكمَ إذا كان ثابتًا في مَحَلٍّ، ولم يُعلَمْ هناكَ وصفٌ مُناسِبٌ، بَل عُلمَ حُصولُ الوَصفِ الشَّبَهيِّ مَعَ أوصافٍ أخَرَ طَرديَّةٍ، فلا يَخلو: إمَّا أن يَكونَ الحُكمُ ثابتًا لمَصلحةٍ، أو لا لمَصلَحةٍ.
والثَّاني باطِلٌ؛ لأنَّ الحُكمَ الشَّرعيَّ لا يَخلو عن مَصلَحةٍ، فلم يَبقَ غَيرُ الأوَّلِ، وهو أنَّه ثابتٌ لمَصلَحةٍ، وهذه المَصلَحةُ لا تَخلو: إمَّا أن تَكونَ في ضِمنِ الوَصفِ الشَّبَهيِّ، أو في ضِمنِ الوَصفِ الطَّرديِّ؛ لعَدَمِ ما سِواهما؛ إذ لا يُعلمُ هناكَ وصفٌ مُناسِبٌ مُستَقِلٌّ بَعدَ البَحثِ التَّامِّ عنه.
ولا يَخفى أنَّ اشتِمالَ الوَصفِ الشَّبَهيِّ على المَصلَحةِ أغلَبُ على الظَّنِّ مِن اشتِمالِ الطَّرديِّ عليها؛ لأنَّ الطَّرديَّ مَجزومٌ بنَفي مُناسَبَتِه، والشَّبَهيُّ مُتَرَدَّدٌ فيه.
وإذا كان ذلك هو الغالِبَ على الظَّنِّ، فالظَّنُّ مَعمولٌ به في الشَّرعيَّاتِ [1427] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/297)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (8/3343). .
وقيل: لا يُعتَبَرُ الوَصفُ الشَّبَهيُّ طَريقًا لثُبوتِ العِلَّةِ. وهو ليسَ حُجَّةً.
وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ [1428] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1326)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/243). ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ [1429] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 573)، ((أصول الفقه)) للمشي (ص: 186)، ((جامع الأسرار)) للكاكي (4/1027). ، وبَعضِ المالكيَّةِ كالباقِلَّانيِّ [1430] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 395). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ كالصَّيرَفيِّ، وأبي إسحاقَ المَروَزيِّ [1431] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (3/236)، ((المنخول)) للغزالي (ص: 378)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (6/2361). ، والشِّيرازيِّ [1432] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/813). ، ونَسَبَه لأبي الطَّيِّبِ الطَّبَريِّ.
الأشباهُ التي يُغَلَّبُ بها:
اختَلف القائِلونَ بالتَّعليلِ بالشَّبَهِ في الأشباهِ التي يُغَلَّبُ بها:
الأوَّلُ: اعتِبارُ المُشابَهةِ في الحُكمِ فقَط دونَ الصُّورةِ، أي: أنَّه إذا تَرَدَّدَ فرعٌ بَينَ أصلينِ، قد أشبَهَ أحَدَهما في الحُكمِ، والآخَرَ في الصُّورةِ، فالمُعتَبَرُ هو المُشابَهةُ في الحُكمِ. وهو مَنقولٌ عن الشَّافِعيِّ؛ ولهذا أُلحِقَ العَبدُ المَقتولُ بسائِرِ المملوكاتِ في لُزومِ قيمَتِه على القاتِلِ وإن زادَت على الدِّيةِ؛ بجامِعِ أنَّ كُلًّا مِنهما يُباعُ ويُشتَرى [1433] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (2/814)، ((المحصول)) للرازي (5/202). .
الثَّاني: اعتِبارُ المُشابَهةِ في الصُّورةِ، كقياسِ الخَيلِ على البِغالِ والحَميرِ في سُقوطِ الزَّكاةِ بصورةِ الشَّبَهِ، أو كقياسِ الخَيلِ -عندَ مَنْ يُحرِّمُ أكلَ لحمِها- على البِغالِ والحَميرِ في حُرمةِ اللَّحمِ، كقَولِ القائِلِ: ذو حافِرٍ أهليٌّ [1434] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (2/166)، ((السرج الوهاج)) للجاربردي (2/916). .
الثَّالثُ: اعتِبارُ الشَّبَهِ فيما غَلبَ على الظَّنِّ أنَّه مَناطُ الحُكمِ، بأن يُظَنَّ أنَّه مُستَلزِمٌ لعِلَّةِ الحُكمِ. فمَتى كان كذلك صَحَّ القياسُ، سَواءٌ كانت المُشابَهةُ في الصُّورةِ أو المَعنى. وهو قَولُ الرَّازيِّ [1435] يُنظر: ((المحصول)) (5/203). ، والبَيضاويِّ [1436] يُنظر: ((منهاج الوصول)) (ص: 206). ، والطُّوفيِّ [1437] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (3/435). .
ومَثَّل له الرَّازيُّ بالعَبدِ المَقتولِ خَطَأً؛ فإنَّه يُشبِهُ الأحرارَ في كونِه عاقِلًا مُكَلَّفًا، ومُقتَضى قَتلِه مِن هذا الاعتِبارِ وُجوبُ القيمةِ. إلَّا أنَّ الشَّارِعَ أجرى فيه أحكامَ الأموالِ أكثَرَ مِمَّا أجرى فيه أحكامَ النُّفوسِ، والكَثرةُ دَليلُ الغَلَبةِ، فيَغلِبُ على الظَّنِّ أنَّ إلحاقَه بالأموالِ أَولى [1438] يُنظر: ((المعالم)) (ص: 167). .

انظر أيضا: