موسوعة الآداب الشرعية

سابعَ عشرَ: كَثرةُ ذِكرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ


مِنَ الأدَبِ مَعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: دَوامُ ذِكرِه على كُلِّ حالٍ؛ باللِّسانِ والقَلبِ، والعَمَلِ والحالِ [213] الذِّكرُ نَوعانِ: الأولُ: ذِكرُ أسماءِ الرَّبِّ تَبارَكَ وتعالى وصِفاتِه، والثَّناءُ عليه بهما، وتَنزيهُه وتَقديسُه عَمَّا لا يَليقُ به تَبارَكَ وتعالى. وهذا نَوعانِ؛ أ- إنشاءُ الثَّناءِ عليه بها مِنَ الذَّاكِرِ، وهذا النَّوعُ هو المَذكورُ في الأحاديثِ، نَحوُ: سُبحانَ اللَّهِ، والحَمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللَّهُ، واللَّهُ أكبَرُ، وسُبحانَ اللَّهِ وبحَمدِه، ولا إلهَ إلَّا اللَّهُ وَحدَه لا شَريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ وهو على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، ونَحو ذلك. ب- الخَبَرُ عنِ الرَّبِّ تعالى بأحكامِ أسمائِه وصِفاتِه، نَحوُ قَولِك: اللهُ عَزَّ وجَلَّ يَسمَعُ أصواتَ عِبادِه ويَرى حَرَكاتِهم، ولا تَخفى عليه خافيةٌ مِن أعمالِهم، وهو أرحَمُ بهم مِن آبائِهم وأُمَّهاتِهم، وهو على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ، وهو أفرَحُ بتَوبةِ عَبدِه مِنَ الفاقِدِ راحِلتَه... ونَحو ذلك. وهذا النَّوعُ ثَلاثةُ أنواعٍ: حَمدٌ، وثَناءٌ، ومَجدٌ؛ فالحَمدُ للهِ الإخبارُ عنه بصِفاتِ كَمالِه سُبحانَه وتعالى مَعَ مَحَبَّتِه والرِّضاءِ به، فلا يَكونُ المُحِبُّ السَّاكِتُ حامِدًا ولا المُثني بلا مَحَبَّةٍ حامِدًا حتَّى تَجتَمِعَ له المَحَبَّةُ والثَّناءُ، فإن كَرَّرَ المَحامِدَ شَيئًا بَعدَ الشَّيءِ كانت ثَناءً، فإن كان المَدحُ بصِفاتِ الجَلالِ والعَظَمةِ والكِبرياءِ والمُلكِ، كان مَجدًا، وقد جَمَعَ اللهُ تعالى لعَبدِه الأنواعَ الثَّلاثةَ في أوَّلِ الفاتِحةِ، فإذا قال العَبدُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال اللهُ تعالى: حَمِدَني عَبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال: أثنى عليَّ عَبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مَجَّدَني عَبدي. [أخرجه مسلم (395) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه]. الثَّاني: ذِكرُ أمرِه ونَهيِه وأحكامِه، وهو أيضًا نَوعانِ؛ أ- ذِكرُه بذلك إخبارًا عنه: أمَرَ بكَذا ونَهى عن كَذا وأحَبَّ كَذا وسَخِطَ كَذا ورَضيَ كَذا. ب- ذِكرُه عِندَ أمرِه فيُبادِرُ إليه، وعِندَ نَهيِه فيَهرُبُ مِنه؛ فذِكرُ أمرِه ونَهيِه شَيءٌ، وذِكرُه عِندَ أمرِه ونَهيِه شَيءٌ آخَرُ، فإذا اجتَمَعَت هذه الأنواعُ للذَّاكِرِ فذِكرُه أفضَلُ الذِّكرِ وأجَلُّه وأعظَمُه. فهذا الذِّكرُ مِنَ الفِقهِ الأكبَرِ، وما دُونَه أفضَلُ الذِّكرِ إذا صَحَّت فيه النِّيَّةُ. ومِن ذِكرِه سُبحانَه وتعالى: ذِكرَ آلائِه وإنعامِه وإحسانِه وأياديه ومَواقِعِ فَضلِه على عَبيدِه، وهذا أيضًا مِن أجَلِّ أنواعِ الذِّكرِ. فهذه خَمسةُ أنواعٍ، وهيَ تَكونُ بالقَلبِ واللِّسانِ تارةً، وذلك أفضَلُ الذِّكرِ، وبالقَلبِ وَحدَه تارةً، وهيَ الدَّرَجةُ الثَّانيةُ، وباللِّسانِ وَحدَه تارةً، وهيَ الدَّرَجةُ الثَّالثةُ، فأفضلُ الذِّكرِ ما تواطأَ عليه القلبُ واللِّسانُ. يُنظر: ((الوابل الصيب)) (ص: 87-89).  ((مجموع الفتاوى)) (15/ 19). .

الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152] .
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 41 - 43] .
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِه: اُذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41] يَقولُ: (لا يَفرِضُ على عِبادِه فريضةً إلَّا جَعَلَ لَها حَدًّا مَعلومًا، ثُمَّ عَذَرَ أهلَها في حالِ عُذرٍ، غَيرَ الذِّكرِ؛ فإنَّ اللَّهَ لَم يَجعَلْ له حَدًّا يَنتَهي إليه، ولَم يَعذِرْ أحَدًا في تَركِه إلَّا مَغلوبًا على عَقلِه، قال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103] ، باللَّيلِ والنَّهارِ، في البَرِّ والبَحرِ، وفي السَّفَرِ والحَضَرِ، والغِنى والفَقرِ، والسَّقَمِ والصِّحَّةِ، والسِّرِّ والعَلانيةِ، وعَلى كُلِّ حالٍ، وقال: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 42] ، فإذا فعَلتُم ذلك صَلَّى عليكُم هو ومَلائِكَتُه؛ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] ) [214] ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (19/ 124). .
3- قال تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35] .
4- قال تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45] و[الجمعة: 10] .
5- قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190-191] .
6- قال تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد: 27 - 29] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ الذي يَذكُرُ رَبَّه والذي لا يَذكُرُ، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ)) [215] أخرجه البخاري (6407). .
وفي رِوايةٍ: ((مَثَلُ البَيتِ الذي يُذكَرُ اللَّهُ فيه، والبَيتِ الذي لا يُذكَرُ اللَّهُ فيه، مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ)) [216] أخرجها مسلم (779). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يقولُ اللهُ تعالى: أنا عند ظَنِّ عَبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرَني؛ فإنْ ذكَرَني في نَفسِه ذكَرتُه في نفسي، وإن ذكَرَني في ملأٍ ذكَرتُه في ملأٍ خَيرٍ منه، وإن تَقَرَّبَ إليَّ بشِبرٍ تَقَرَّبتُ إليه ذِراعًا، وإن تَقَرَّبَ إليَّ ذِراعًا تَقَرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يَمشي أتَيتُه هَرولةً [217] الهَرولةُ: مَشيٌ سَريعٌ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لإبراهيم الحربي (2/ 684). ويُنظر أيضًا: ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السقاف (ص: 360-362). ) [218] أخرجه البخاري (7405) واللفظ له، ومسلم (2675). .
3- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ يَقولُ: أنا مَعَ عَبدي إذا هو ذَكَرَني وتَحَرَّكَت بي شَفَتاه)) [219] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قَبل حَديث (7524) باختلافٍ يسيرٍ، وأخرجه مَوصولًا ابنُ ماجه (3792)، وأحمد (10968) واللَّفظُ لهما. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (815)، وابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (12/448)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3792)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (10968). .
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسيرُ في طَريقِ مَكَّةَ، فمَرَّ على جَبَلٍ يُقالُ له جُمْدانُ، فقال: سيروا، هذا جُمْدانُ، سَبَقَ المُفَرِّدونَ [220] يُقالُ: فَرَّدَ الرَّجُلُ، بشَدِّ الرَّاءِ: إذا تَفقَّهَ، واعتَزَل النَّاسَ، وخَلا بنَفسِه وحدَه، مُراعيًا للأمرِ والنَّهيِ، وفَرَّد الرَّجُلُ في رَأيِه وأفرَدَ وفرَّدَ واستَفرَدَ: كُلُّه بمَعنًى، أي: استَقَلَّ به، وتَخَلَّى بتَدبيرِه، والمُرادُ به: الذينَ تَفرَّدوا بذِكرِ اللهِ تعالى. وقيل: همُ الذينَ هَلكَ لِداتُهم وأقرانُهم مِنَ النَّاسِ وبَقُوا هم يَذكُرونَ اللَّهَ تعالى. وقيل: همُ المُتَخَلُّونَ عنِ النَّاسِ بذِكرِ اللهِ لا يَخلِطونَ به غَيرَه. وقيل: الموحِّدونَ الذينَ لا يَذكُرونَ إلَّا اللَّهَ، أخلَصوا له كُلِّيَّتَهم وعِبادَتَهم. ويُقالُ: مَعناه مِثلُ قَولِه: فنيَ فلانٌ في طاعةِ اللهِ، أي: لم يَزَلْ مُلازِمًا لها حتَّى فَنِي بالهَرَمِ وذَهابِ القوَّةِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/ 322)، ((الزاهر)) لابن الأنباري (2/ 204)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (6/ 128)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (5/ 211، 212)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 476). ، قالوا: وما المُفَرِّدونَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: الذَّاكِرونَ اللهَ كَثيرًا والذَّاكِراتُ)) [221] أخرجه مسلم (2676). .
5- عن عَبدِ اللهِ بنِ بُسرٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((جاءَ أعرابيَّانِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال أحَدُهما: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قال: مَن طالَ عُمُرُه، وحَسُنَ عَمَلُه، وقال الآخَرُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ شَرائِعَ الإسلامِ قد كَثُرَت عليَّ، فمُرْني بأمرٍ أتَثبَّتُ به، فقال: لا يَزالُ لسانُك رَطْبًا مِن ذِكرِ اللهِ)) [222] أخرجه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)، وأحمد (17698) واللفظ له. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (814)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3375)، وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (3/66)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/39)، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (1846)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17680). .
6- عن ابنِ أبي أَوْفَى رضيَ الله عنه، قال: ((كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُكثِرُ الذِّكْرَ، ويُقِلُّ اللَّغْوَ، ويُطيلُ الصَّلاةَ، ويقصِّرُ الخُطبةَ، ولا يأنَفُ ولا يَستكثِرُ أن يَمشيَ مع الأرملةِ والمسكينِ فيَقضيَ له حاجتَه)) [223] أخرجه النسائي (1414)، والدارمي (74)، وابن حبان (6424). صححه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (4277)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1414)، وحسنه البخاري كما في ((العلل الكبير)) للترمذي (360) .
7- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ لله مَلائِكةً يطوفون في الطُّرُقِ يلتَمِسون أهلَ الذِّكْرِ، فإذا وجدوا قومًا يَذكُرون اللهَ تنادَوا: هَلُمُّوا إلى حاجتِكم، فيَحُفُّونهم بأجنِحَتِهم [224] يحفُّونهم بأجنِحَتِهم، أي: يَدنونَ بأجنِحَتِهم حَولَ الذَّاكِرينَ ويَطوفونَ بهم، ويَدورونَ حَولهم مِن جَوانِبهِم. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (4/ 471)، ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 212). إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيسألُهم رَبُّهم وهو أعلَمُ منهم، ما يقولُ عبادي؟ قالوا: يقولون: يُسَبِّحونك ويُكَبِّرونك ويحمَدونَك ويمجِّدونك، فيقولُ: هل رأَوني؟ فيقولون: لا واللهِ ما رأَوك، فيقول: وكيف لو رأَوني؟! يقولون: لو رأوك كانوا أشَدَّ لك عبادةً، وأشَدَّ لك تمجيدًا وتحميدًا، وأكثَرَ لك تسبيحًا، يقولُ: فما يسألوني؟ قال: يسألونَك الجنَّةَ، يقولُ: وهل رأوها؟ يقولونَ: لا واللهِ يا رَبِّ ما رأَوها، يقول: فكيف لو أنَّهم رأَوها؟! يقولون: لو أنَّهم رأوها كانوا أشَدَّ عليها حِرصًا، وأشَدَّ لها طلَبًا، وأعظَمَ فيها رغبةً، قال: فمِمَّ يتعوَّذون؟ يقولون: من النَّارِ، يقولُ: وهل رأوها؟ يقولون: لا واللهِ يا رَبِّ ما رأوها، يقول: فكيف لو رأوها؟! يقولون: لو رأوها كانوا أشَدَّ منها فِرارًا، وأشَدَّ لها مخافةً، فيقولُ: فأُشهِدُكم أنِّي قد غفَرْتُ لهم، يقولُ مَلَكٌ من المَلائِكةِ: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنَّما جاء لحاجةٍ! قال: هم الجُلَساءُ لا يشقى بهم جَليسُهم)) [225] أخرجه البخاري (6408) واللفظ له، ومسلم (2689). .
فوائِدُ:
1- قال ابنُ الصَّلاحِ: (إذا واظَبَ على الأذكارِ المَأثورةِ المُثبَتةِ صَباحًا ومَساءً وفي الأوقاتِ والأحوالِ المُختَلفةِ في لَيلِ العَبدِ ونَهارِه -وهيَ مُبَيَّنةٌ في كِتابِ عَمَلِ اليَومِ واللَّيلةِ- كان مِنَ الذَّاكِرينَ اللهَ تَبارَكَ وتعالى كَثيرًا، وقِراءةُ القُرآنِ أفضَلُ مِن سائِرِ الأذكارِ [226] قال ابنُ تَيميَّةَ: (وهنا أصلٌ يَنبَغي أن نَعرِفَه، وهو أنَّ الشَّيءَ إذا كان أفضَلَ مِن حَيثُ الجُملةُ لم يَجِبْ أن يَكونَ أفضَلَ في كُلِّ حالٍ ولا لكُلِّ أحَدٍ، بَل المَفضولُ في مَوضِعِه الذي شُرِعَ فيه أفضَلُ مِنَ الفاضِلِ المُطلَقِ، كَما أنَّ التَّسبيحَ في الرُّكوعِ والسُّجودِ أفضَلُ مِن قِراءةِ القُرآنِ، ومِنَ التَّهليلِ والتَّكبيرِ، والتَّشَهُّدُ في آخِرِ الصَّلاةِ والدُّعاءُ بَعدَه أفضَلُ مِن قِراءةِ القُرآنِ). ((مجموع الفتاوى)) (24/ 236). وقال ابنُ عُثَيمين: (قد يَعرِضُ للمَفضولِ ما يَجعَلُه أفضَلَ مِنَ الفاضِلِ، مِثالُه: قِراءةُ القُرآنِ مِن أفضَلِ الذِّكرِ، والقُرآنُ أفضَلُ الذِّكرِ، فلو كان رَجُلٌ يَقرَأُ وسَمِعَ المُؤَذِّنَ يُؤذِّنُ فهَل الأفضَلُ أن يَستَمِرَّ في قِراءَتِه أو أن يُجيبَ المُؤَذِّنَ؟ هنا نَقولُ: إنَّ الأفضَلَ أن يُجيبَ المُؤَذِّنَ، وإن كان القُرآنُ أفضَلَ مِنَ الذِّكرِ، لكِنَّ الذِّكرَ في مَكانِه أفضَلُ مِن قِراءةِ القُرآنِ؛ لأنَّ قِراءةَ القُرآنِ غَيرُ مُقَيَّدةٍ بوقتٍ، مَتى شِئتَ فاقرَأْ، لكِنَّ إجابةَ المُؤَذِّنِ مَربوطةٌ بسَماعِ المُؤَذِّنِ، كذلك أذكارُ الصَّلواتِ الخَمسِ التي بَعدَ الفرائِضِ لو قال قائِلٌ: أنا أُريدُ مِن حينِ أن أُسَلِّمَ أن أقرَأ َالقُرآنَ، فهَل الأفضَلُ أن أقرَأَ القُرآنَ، أو أن أقولَ الذِّكرَ الوارِدَ؟ فالجَوابُ: الأفضَلُ الذِّكرُ الوارِدُ، بَل إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: "ألَا وإنِّي نُهِيتُ أن أقرَأَ القُرآنَ راكِعًا أو ساجِدًا" [أخرجه مسلم (479) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما]، مَعَ أنَّ قِراءةَ القُرآنِ مِن أفضَلِ الأعمالِ، لكِن نَقولُ: إذا كُنتَ راكِعًا فأنتَ مَنهيٌّ عن قِراءةِ القُرآنِ، وكذلك إذا كُنتَ ساجِدًا فإنَّك مَنهيٌّ عن قِراءةِ القُرآنِ، بَل تَقولُ: سُبحانَ رَبِّي العَظيمِ في الرُّكوعِ، وسُبحانَ رَبِّي الأعلى في السُّجودِ... وخُلاصةُ الجَوابِ أن نَقولَ: الأعمالُ لها مَراتِبُ بَعضُها أفضَلُ مِن بَعضٍ، ولكِن قد يَعرِضُ للمَفضولِ ما يَجعَلُه أفضَلَ مِنَ الفاضِلِ). ((لقاء الباب المفتوح)) (اللقاء رقم: 12). [227] ((الفتاوى)) (1/ 150). .
2- قال ابنُ تيميَّةَ: (مِمَّا هو كالإجماعِ بَينَ العُلَماءِ باللهِ وأمرِه: أنَّ مُلازَمةَ ذِكرِ اللهِ دائِمًا هو أفضَلُ ما شَغلَ العَبدُ به نَفسَه في الجُملةِ، وعلى ذلك دَلَّ حَديثُ أبي هُرَيرةَ الذي رَواه مُسلِمٌ: ((سَبَقَ المُفَرِّدونَ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ومَنِ المُفَرِّدونَ؟ قال: الذَّاكِرونَ اللهَ كَثيرًا والذَّاكِراتُ [228] أخرجه مسلم (2676) بلفظ: ((سَبَقَ المُفَرِّدونَ. قالوا: وما المُفَرِّدونَ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: الذَّاكِرونَ اللَّهَ كَثيرًا والذَّاكِراتُ)). ... والدَّلائِلُ القُرآنيَّةُ والإيمانيَّةُ بَصَرًا وخَبَرًا ونَظَرًا على ذلك كَثيرةٌ.
وأقَلُّ ذلك أن يُلازِمَ العَبدُ الأذكارَ المَأثورةَ عن مُعَلِّمِ الخَيرِ وإمامِ المُتَّقينَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كالأذكارِ المُؤَقَّتةِ في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرِه، وعِندَ أخذِ المَضجَعِ، وعِندَ الاستيقاظِ مِنَ المَنامِ، وأدبارَ الصَّلَواتِ، والأذكارُ المُقَيَّدةُ مِثلُ ما يُقالُ عِندَ الأكلِ والشُّربِ واللِّباسِ والجِماعِ، ودُخولِ المَنزِلِ والمَسجِدِ والخَلاءِ والخُروجِ مِن ذلك، وعِندَ المَطَرِ والرَّعدِ، إلى غَيرِ ذلك، وقد صُنِّفَت له الكُتُبُ المُسَمَّاةُ بعَمَلِ اليَومِ واللَّيلةِ.
ثُمَّ مُلازَمةُ الذِّكرِ مُطلَقًا، وأفضَلُه: "لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ". وقد تَعرِضُ أحوالٌ يَكونُ بَقيَّةُ الذِّكرِ، مِثلُ: "سُبحانَ اللهِ، والحَمدُ للهِ، واللهُ أكبَرُ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ" أفضَلَ مِنه.
ثُمَّ يعلمُ أنَّ كُلَّ ما تَكَلَّم به اللِّسانُ وتَصَوَّره القَلبُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلى اللهِ مِن تَعلُّمِ عِلمٍ وتَعليمِه، وأمرٍ بمَعروفٍ ونَهيٍ عن مُنكَرٍ، فهو مِن ذِكرِ اللهِ؛ ولهذا مَنِ اشتَغَل بطَلَبِ العِلمِ النَّافِعِ بَعدَ أداءِ الفرائِضِ، أو جَلسَ مَجلسًا يَتَفقَّهُ أو يُفقِّهُ فيه الفِقهَ الذي سَمَّاه اللَّهُ ورَسولُه فِقهًا، فهذا أيضًا مِن أفضَلِ ذِكرِ اللهِ [229] عن عَطاءٍ الخُراسانيِّ، قال: (مَجالِسُ الذِّكرِ هيَ مَجالِسُ الحَلالِ والحَرامِ؛ كَيف تَشتَري وتَبيعُ، وتُصَلِّي وتَصومُ، وتَنكِحُ وتُطلِّقُ، وتَحُجُّ، وأشباهُ هذا). أخرجه الخَطيبُ في ((الفقيه والمتفقه)) (1/ 94)، وأخرجه مقتصرًا على الفقرة الأولى: الطبراني في ((مسند الشاميين)) (2299)، وعنه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (5/ 195). .
وعلى ذلك إذا تَدَبَّرتَ لم تَجِدْ بَينَ الأوَّلينَ في كَلماتِهم في أفضَلِ الأعمالِ كَبيرَ اختِلافٍ) [230] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 660، 661). .
3- قال ابنُ القَيِّمِ: (الذِّكْرُ مَنشورُ الوِلايةِ، الذي مِن أُعطِيَه اتَّصَلَ، ومَن مُنِعَه عُزِل، وهو قوتُ قُلوبِ القَومِ الذي مَتى فارَقَها صارَتِ الأجسادُ لَها قُبورًا، وعِمارةُ ديارهمُ التي إذا تَعَطَّلَت عنه صارَت بورًا، وهو سِلاحُهمُ الذي يُقاتِلونَ به قُطَّاعَ الطَّريقِ، وماؤُهمُ الذي يُطفِئونَ به التِهابَ الطَّريقِ، ودَواءُ أسقامِهم الذي مَتى فارَقَهمُ انتَكَسَت مِنهمُ القُلوبُ، والسَّبَبُ الواصِلُ والعَلاقةُ التي كانت بَينَهم وبَينَ عَلَّامِ الغُيوبِ.
إذا مَرِضنا تَداوَينا بذِكرِكُمُ
فنَترُكُ الذِّكرَ أحيانًا فنَنتَكِسُ
به يَستَدفِعونَ الآفاتِ، ويَستَكشِفونَ الكُرُباتِ، وتَهونُ عليهم به المُصيباتُ، إذا أظَلَّهمُ البَلاءُ فإليه مَلجَؤُهم، وإذا نَزَلَت بهمُ النَّوازِلُ فإليه مَفزَعُهم، فهو رياضُ جَنَّتِهمُ التي فيها يَتَقَلَّبونَ، ورؤوسُ أموالِ سَعادَتِهمُ التي بها يتَّجِرون، يَدَعُ القَلبَ الحَزينَ ضاحِكًا مَسرورًا، ويوصِلُ الذَّاكِرَ إلى المَذكورِ، بَل يَدَعُ الذَّاكِرَ مَذكورًا.
وفي كُلِّ جارِحةٍ مِنَ الجَوارِحِ عُبوديَّةٌ مُؤَقَّتةٌ، والذِّكرُ عُبوديَّةُ القَلبِ واللِّسانِ، وهيَ غَيرُ مُؤَقَّتةٍ، بَل هم مَأمورونَ بذِكرِ مَعبودِهم ومَحبوبِهم في كُلِّ حالٍ قيامًا وقُعودًا وعلى جُنوبِهم، فكَما أنَّ الجَنَّةَ قيعانٌ وهو غِراسُها، فكذلك القُلوبُ بُورٌ وخَرابٌ، وهو عِمارَتُها وأساسُها.
وهو جِلاءُ القُلوبِ وصِقالُها، ودَواؤُها إذا غَشيَها اعتِلالُها، وكُلَّما ازدادَ الذَّاكِرُ في ذِكرِه استِغراقًا ازدادَ المَذكورُ مَحَبَّةً إلى لقائِه واشتياقًا، وإذا واطَأ في ذِكرِه قَلبُه للِسانِه نَسيَ في جَنبِ ذِكرِه كُلَّ شَيءٍ، وحَفِظَ اللهُ عليه كُلَّ شَيءٍ، وكان لَه عِوضًا مِن كُلِّ شَيءٍ.
به يَزولُ الوَقرُ عنِ الأسماعِ، والبَكَمُ عنِ الألسُنِ، وتَنقَشِعُ الظُّلمةُ عنِ الأبصارِ، زَيَّنَ اللَّهُ به ألسِنةَ الذَّاكِرينَ كَما زَيَّنَ بالنُّورِ أبصارَ النَّاظِرينَ؛ فاللِّسانُ الغافِلُ كالعَينِ العَمياءِ، والأُذُنِ الصَّمَّاءِ، واليَدِ الشَّلَّاءِ.
وهو بابُ اللهِ الأعظَمُ المَفتوحُ بَينَه وبَينَ عَبدِه ما لم يُغلِقْه العَبدُ بغَفلَتِه.
قال الحَسَنُ البَصريُّ رَحِمَه اللهُ: تَفَقَّدوا الحَلاوةَ في ثَلاثةِ أشياءَ: في الصَّلاةِ، وفي الذِّكرِ، وقِراءةِ القُرآنِ، فإن وجَدتُم وإلَّا فاعلَموا أنَّ البابَ مُغلَقٌ!
وبالذِّكرِ يَصرَعُ العَبدُ الشَّيطانَ كَما يَصرَعُ الشَّيطانُ أهلَ الغَفلةِ والنِّسيانِ.
وهو رُوحُ الأعمالِ الصَّالِحةِ، فإذا خَلا العَمَلُ عنِ الذِّكرِ كان كالجَسَدِ الذي لا رُوحَ فيه) [231] ((مدارج السالكين)) (2/ 395، 396). .
4- قال ابنُ القَيِّمِ: (كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكمَلَ الخَلقِ ذِكرًا للهِ عَزَّ وجَلَّ، بَل كان كَلامُه كُلُّه في ذِكرِ اللهِ وما والاه، وكان أمرُه ونَهيُه وتَشريعُه للأُمَّةِ ذِكرًا مِنه للَّهِ، وإخبارُه عن أسماءِ الرَّبِّ وصِفاتِه، وأحكامِه وأفعالِه، ووَعدِه ووعيدِه: ذِكرًا مِنه له، وثَناؤُه عليه بآلائِه، وتَمجيدُه وحَمدُه وتَسبيحُه: ذِكرًا مِنه له، وسُؤالُه ودُعاؤُه إيَّاه، ورَغبَتُه ورَهبَتُه: ذِكرًا مِنه له، وسُكوتُه وصَمتُه: ذِكرًا مِنه له بقَلبِه؛ فكان ذاكِرًا للهِ في كُلِّ أحيانِه، وعلى جَميعِ أحوالِه، وكان ذِكرُه للهِ يَجري مَعَ أنفاسِه، قائِمًا وقاعِدًا وعلى جَنبِه، وفي مَشيِه ورُكوبِه، ومَسيرِه ونُزولِه، وظَعنِه وإقامَتِه) [232] ((زاد المعاد)) (2/ 332). .
5- ذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ أنَّ الذِّكرَ في القُرآنِ على عَشَرةِ أوجُهٍ:
الأوَّلُ: الأمرُ به مُطلَقًا ومُقَيَّدًا، كقَولِه تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 41 - 43] ، وقَولِه تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً [الأعراف: 205] . وفيه قَولانِ؛ أحَدُهما: في سِرِّك وقَلبِك، والثَّاني: بلسانِك بحَيثُ تُسمِعُ نَفسَك.
الثَّاني: النَّهيُ عن ضِدِّه مِنَ الغَفلةِ والنِّسيانِ، كقَولِه: وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] ، وقَولِه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحَشر: 19] .
الثَّالثُ: تَعليقُ الفَلاحِ باستِدامَتِه والإكثارِ مِنه، كقَولِه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10] .
الرَّابعُ: الثَّناءُ على أهلِه والإخبارُ بما أعَدَّ اللهُ لَهم مِنَ الجَنَّةِ والمَغفِرةِ، كقَولِه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ [الأحزاب: 35] ، إلى قَولِه: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35] .
الخامِسُ: الإخبارُ عن خُسرانِ مَن لَها عنه بغَيرِه، كقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9] .
السَّادِسُ: أنَّه سُبحانَه جَعَلَ ذِكرَه لَهم جَزاءً لذِكرِهم له، كقَولِه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152] .
السَّابعُ: الإخبارُ أنَّه أكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ، كقَولِه تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] ، أي: أنَّ ذِكرَ اللهِ أكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ، فهو أفضَلُ الطَّاعاتِ؛ لأنَّ المَقصودَ بالطَّاعاتِ كُلِّها إقامةُ ذِكرِه؛ فهو سِرُّ الطَّاعاتِ ورُوحُها. وذلك على أحدِ الأقوالِ.
قال ابنُ القيمِ: (وسَمِعتُ شَيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّةَ رَحِمَه اللهُ يَقولُ: مَعنى الآيةِ: أنَّ في الصَّلاةِ فائِدَتَينِ عَظيمَتَينِ؛ إحداهما: نَهيُها عنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ، والثَّانيةُ: اشتِمالُها على ذِكرِ اللهِ وتَضَمُّنُها له، ولَمَا تَضَمَّنَته مِن ذِكرِ اللهِ أعظَمُ مِن نَهيِها عنِ الفَحشاءِ والمُنكَرِ) [233] ((مدارج السالكين)) (2/ 398). .
الثَّامِنُ: أنَّه جَعَلَه خاتِمةَ الأعمالِ الصَّالحةِ كما كان مِفتاحَها، كما خَتَمَ به عَمَلَ الصِّيامِ بقَولِه: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185] ، وخَتَمَ به الحَجَّ في قَولِه: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200] . وخَتَمَ به الصَّلاةَ، كقَولِه: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء: 103] ، وخَتَمَ به الجُمُعةَ، كقَولِه: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10] .
ولهذا كان خاتِمةَ الحَياةِ الدُّنيا، وإذا كان آخِرَ كَلامِ العَبدِ أدخَلَه اللهُ الجَنَّةَ.
التَّاسِعُ: الإخبارُ عن أهلِه بأنَّهم هم أهلُ الانتِفاعِ بآياتِه، وأنَّهم أولو الألبابِ دونَ غَيرِهم، كقَولِه تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 190-191] .
العاشِرُ: أنَّه جَعَلَه قَرينَ جَميعِ الأعمالِ الصَّالحةِ ورُوحَها، فمَتى عَدِمَته كانت كالجَسَدِ بلا رُوحٍ، فإنَّه سُبحانَه قَرنَه بالصَّلاةِ، كقَولِه: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ، وقَرَنه بالصِّيامِ وبالحَجِّ ومَناسِكِه، بَل هو رُوحُ الحَجِّ ولُبُّه ومَقصودُه.
وقَرنَه بالجِهادِ وأمَرَ بذِكرِه عِندَ مُلاقاةِ الأقرانِ ومُكافحةِ الأعداءِ، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45] ... قال ابنُ تيميَّةَ: المُحِبُّونَ يَفتَخِرونَ بذِكرِ مَن يُحِبُّونَه في هذه الحالِ... وهذا كَثيرٌ في أشعارِهم، وهو مِمَّا يَدُلُّ على قوَّةِ المحبَّةِ؛ فإنَّ ذِكرَ المُحِبِّ مَحبوبَه في تلك الحالِ التي لا يُهِمُّ المَرءَ فيها غَيرُ نَفسِه يَدُلُّ على أنَّه عِندَه بمَنزِلةِ نَفسِه أو أعَزُّ مِنها، وهذا دَليلٌ على صِدقِ المحَبَّة) [234] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (2/ 396-400) بتصرف. وقد ذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ ثَلاثًا وسَبعينَ فائِدةً مِن فوائِدِ الذِّكرِ في كِتابِه: ((الوابل الصَّيِّب من الكَلِم الطَّيِّب)) (ص: 41-82). .
5- قال العزُّ ابنُ عبدِ السَّلامِ: (ذِكرُ اللهِ بأوصافِ الجَمالِ موجِبٌ للمَحَبَّةِ، وبأوصافِ الكَمالِ موجِبٌ للمَهابةِ، وبالتَّوحُّدِ بالأفعالِ موجِبٌ للتَّوكُّلِ، وبسَعةِ الرَّحمةِ موجِبٌ للرَّجاءِ، وبشِدَّةِ النِّقمةِ موجِبٌ للخَوفِ، وبالتَّفرُّدِ بالإنعامِ موجِبٌ للشُّكرِ؛ ولذلك قال: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41] .
فذِكرُ اللهِ أصلُ العِباداتِ، وأُسُّ المُعامَلاتِ؛ لأنَّ ذِكرَ هذه الأوصافِ موجِبٌ للأحوالِ السَّنيَّةِ، والأقوالِ والأعمالِ المَرضيَّةِ، وذلك موجِبٌ للدَّرَجاتِ في جِوارِ خالقِ البَريَّةِ، في العيشةِ الهنَيَّةِ) [235] ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 74). .

انظر أيضا: