موسوعة التفسير

سورةُ الانفِطارِ
الآيات (13-19)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

غريب الكلمات:

الْأَبْرَارَ: أي: المؤمنينَ، الصَّادِقينَ في إيمانِهم، المُطيعينَ لرَبِّهم، قيل: أصلُ (برر) هنا: الصِّدْقُ، يُقالُ: يَبَرُّ رَبَّه، أي: يُطيعُه، وهو مِنَ الصِّدقِ. وقيل: لَمَّا كان البَرُّ خِلافَ البحرِ، وتُصُوِّرَ منه التَّوسُّعُ، اشتُقَّ منه البِرُّ، وهو التَّوسُّعُ في فِعلِ الخَيرِ، ويُقالُ: بَرَّ العبدُ ربَّه، أي: توسَّع في طاعتِه، وأصلُ (برر) هنا -على ذلك-: خلافُ البحرِ [101] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/177)، ((المفردات)) للراغب (ص: 114)، ((تفسير البغوي)) (5/189)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 431)، ((تفسير الرسعني)) (8/ 404). وكلمة الأبرارُ قيل: هي جمعُ برٍّ، وقيل: جمعُ بارٍّ، وقيل: هي جمعُ برٍّ -كنَهْرٍ وأنْهارٍ، وجَدٍّ وأجدادٍ-، وجمعُ بارٍّ، كصاحِبٍ وأصحابٍ، وشاهِدٍ وأشْهادٍ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/588)، ((تفسير الراغب الأصفهاني)) (3/1048)، ((تفسير القرطبي)) (19/125)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/537)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/379). .
الْفُجَّارَ: أي: الكفَّارَ، جمعُ فاجِرٍ، وهو المُنْبَعِثُ في المعاصي والمحارِمِ، يُقالُ: فَجَرَ يَفْجُرُ فُجُورًا، فهو فاجِرٌ، والفُجورُ: الانبِعاثُ والتَّفَتُّحُ في المعاصي، وأصلُ (فجر): التَّفَتُّحُ في الشَّيءِ. وقيل: الفَجْرُ: شَقُّ الشَّيءِ شَقًّا واسعًا، والفُجورُ: شَقُّ سِتْرِ الدِّيانةِ [102] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/475)، ((المفردات)) للراغب (ص: 625، 626)، ((تفسير ابن عطية)) (5/447)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/413). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا
يَوْمَ بالفَتحِ، وهي فتحةُ إعرابٍ؛ لإضافتِه إلى فِعلٍ مُعرَبٍ، ونصبُه على المفعوليَّةِ بإضمارِ (أعني) أو (اذكُرْ)، أو مَنصوبٌ على الظَّرفيَّةِ الزَّمانيَّةِ على تقديرِ (يُجازَوْن)، أو (يُدانُونَ). أو هو مَنصوبٌ على البَدَلِ مِن «يَوْمَ» في قَولِه تعالى: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ. وقيل: فَتْحَتُه فتحةُ بناءٍ على رأيِ الكُوفيِّينَ، وحينَئذٍ يكونُ خَبَرَ مُبتدَأٍ محذوفٍ، أي: هو يومَ لا تملِكُ. وبُنيَ لإضافتِه إلى الفِعلِ «تَمْلِكُ» وإنْ كان مُعرَبًا، أو هو مبنيٌّ في محَلِّ رَفعٍ على البَدَلِ مِن «يَوْمُ» الَّذي قَبلَه في قَولِه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [103] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي بن أبي طالب (2/804)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1275)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/713)، ((تفسير الألوسي)) (15/271). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا أحوالَ النَّاسِ يومَ القيامةِ: إنَّ المؤمِنينَ الطَّائِعينَ لَفِي جَنَّةٍ يَتنَعَّمونَ فيها، وإنَّ الكُفَّارَ العُصاةَ لَفِي نارِ الجَحيمِ، يَدخُلونَها ويُقاسُونَ حَرَّها يومَ الحِسابِ والجَزاءِ، وما هم بخارِجينَ منها، بل هم مُلازِمونَ لها أبَدًا.
ثمَّ يقولُ تعالى مبيِّنًا شدَّةَ هَولِ يَومِ القيامةِ: وما أعلَمَك ما يَومُ الحِسابِ والجَزاءِ، ثمَّ ما أعلَمَك بحقيقةِ ذلك اليَومِ العَظيمِ المَهُولِ؟!
ذلك اليَومُ الَّذي لا يَملِكُ فيه أحَدٌ نَفْعًا لِغَيرِه، ولا إنقاذَه مِمَّا هو فيه، والمُلْكُ والتَّصَرُّفُ يومَئذٍ للهِ وَحْدَه.

تفسير الآيات:

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَف تعالى الكِرامَ الكاتِبينَ لأعمالِ العِبادِ؛ ذكَرَ أحوالَ العامِلينَ، وقَسَّمَهم قِسمَينِ [104] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/79)، ((تفسير ابن عادل)) (20/203). .
وأيضًا لَمَّا كانت نتيجةُ حِفظِ الأعمالِ الجَزاءَ عليها؛ أنتَجَ ذلك بيانَ ما كانت الكتابةُ مِن أَجْلِه؛ تفريقًا بيْنَ المحسِنِ والمُسيءِ، الَّذي لا يَصِحُّ في حِكمةِ حَكيمٍ ولا كَرَمِ كَريمٍ غَيرُه، بقَولِه على سبيلِ التَّأكيدِ مِن أجْلِ تكذيبِهم [105] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/306). :
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13).
أي: إنَّ المؤمِنينَ الطَّائِعينَ الملازِمينَ لفِعلِ الخَيراتِ وأعمالِ البِرِّ والإحسانِ: لَفِي جَنَّةٍ يَتنَعَّمونَ فيها [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/182)، ((تفسير ابن عطية)) (5/447)، ((تفسير ابن كثير)) (8/345)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 91). .
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14).
أي: وإنَّ الكُفَّارَ العُصاةَ الَّذين قَصَّروا في حُقوقِ اللهِ تعالى وحُقوقِ عِبادِه: لَفِي نارٍ شَديدةِ التَّوَقُّدِ والتَّأجُّجِ [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/182)، ((تفسير ابن كثير)) (8/345)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/307)، ((تفسير القاسمي)) (9/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 91). .
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان السِّياقُ للتَّرهيبِ؛ وَصَف عَذابَ الفُجَّارِ، فقال [108] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/307). :
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15).
أي: يُغمَسونَ فيها فيُباشِرونَ حرَّها، ويحترِقونَ بنارِها يومَ الحِسابِ والجَزاءِ على الأعمالِ، وهو يومُ القيامةِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/182)، ((الوسيط)) للواحدي (4/439)، ((تفسير ابن كثير)) (8/345)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914). .
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان العَذابُ على ما نَعْهَدُه لا بُدَّ أن يَنقَضِيَ؛ بَيَّن أنَّ عَذابَه على غَيرِ ذلك [110] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/307). ، فقال:
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16).
أي: وما هم بخارِجينَ منها، بل هم مُلازِمونَ لها أبَدًا [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/182)، ((تفسير ابن كثير)) (8/345)، ((تفسير ابن عجيبة)) (7/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/183)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 91). .
كما قال تعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف: 74 - 77] .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عُلِمَ أنَّ الوعيدَ الأعظَمَ يومَ الدِّينِ، هَوَّل أمْرَه بالسُّؤالِ عنه إعلامًا بأنَّه أهلٌ لأن يُصرَفَ العُمُرُ إلى الاعتناءِ بأمرِه، والسُّؤالِ عن حقيقةِ حالِه سؤالَ إيمانٍ وإذعانٍ، لا سؤالَ كُفرانٍ وطُغيانٍ؛ لِيَكونَ أقعَدَ في الوَعيدِ به، فقال [112] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/308). :
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17).
أي: قال اللهُ تعالى مُعَظِّمًا ومُهَوِّلًا شأنَ يومِ القيامةِ: وما أعلَمَك [113] قال الرازي: (الأكثَرونَ: أنَّه خِطابٌ للرَّسولِ، وإنَّما خاطبه بذلك؛ لأنَّه ما كان عالِمًا بذلك قبْلَ الوَحْيِ). ((تفسير الرازي)) (31/80). ومِمَّن قال بأنَّ الخِطابَ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/183)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8109)، ((تفسير العليمي)) (7/307). ومِمَّن قال بأنَّ الخِطابَ عامٌّ لكُلِّ إنسانٍ: الألوسيُّ. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/271). قال القاسمي: (الخِطابُ للإنسانِ المتقَدِّمِ أوَّلَ السُّورةِ). ((تفسير القاسمي)) (9/426). بحقيقةِ ذلك اليومِ الَّذي يُحاسَبُ فيه النَّاسُ على أعمالِهم، ويُجازَونَ بحَسَبِها [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/183)، ((تفسير السمرقندي)) (3/555)، ((تفسير ابن كثير)) (8/345)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/308)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/183). قال السمرقندي: (يعني: كيف تَعلَمُ حقيقةَ ذلك اليومِ ولم تُعايِنْه؟). ((تفسير السمرقندي)) (3/ 555). وقال ابن عاشور: (المقصودُ أنَّه لا تَصِلُ إلى كُنْهِهِ دِرايةُ دارٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/183). ؟!
ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت أهوالُه زائدةً على الحَدِّ؛ كَرَّر ذلك السُّؤالَ لذلك الحالِ [115] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/308). .
ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18).
أي: ثمَّ ما أعلَمَك بحقيقةِ ذلك اليومِ العَظيمِ المَهُولِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/183)، ((تفسير السمرقندي)) (3/555)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/184)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 91). ؟!
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19).
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا.
أي: يومَ لا يَملِكُ فيه أحَدٌ نَفْعًا لِغَيرِه، ولا إنقاذَه مِمَّا هو فيه [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/183)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/308، 309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 91). !
كما قال تعالى: وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166] .
وقال سُبحانَه: يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 254] .
وقال عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [لقمان: 33] .
وقال تبارَكَ وتعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر: 18] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [الدخان: 41] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا بَنِي هاشِمٍ، أنقِذُوا أنفُسَكم مِن النَّارِ، يا بَنِي عبدِ المُطَّلِبِ، أنقِذُوا أنفُسَكم مِنَ النَّارِ، يا فاطِمةُ، أنقِذي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ؛ فإنِّي لا أملِكُ لكم مِنَ اللهِ شَيئً ا)) [118] رواه البخاريُّ (4771)، ومسلمٌ (204) واللَّفظُ له. .
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
أي: المُلْكُ والتَّصَرُّفُ يومَ القيامةِ لله وَحْدَه، لا يُنازِعُه فيه أحَدٌ مِن خَلْقِه، فهو وَحْدَه الَّذي يُحاسِبُ الخلائِقَ، ويُجازيهم بأعمالِهم [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/183)، ((تفسير ابن عطية)) (5/448)، ((تفسير القرطبي)) (19/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/185). .
كما قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] .
وقال سُبحانَه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان: 26] .
وقال تبارك وتعالى: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ مِن طريقةِ القُرآنِ الكريمِ التَّصريحُ بذِكْرِ ثوابِ الأبرارِ والمتَّقينَ، والمُخلِصِين والمحسِنينَ، ومَن رَجَحَتْ حسناتُهم، وبذِكْرِ عِقابِ الكُفَّارِ والفُجَّارِ، والظَّالِمينَ لأنْفُسِهم، ومَن خَفَّتْ موازينُهم، ويَسكُتُ عن القِسْمِ الَّذي فيه شائبتانِ، وله مادَّتانِ؛ هذه طريقةُ القرآنِ، كقولِه تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، وقَولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37 - 41] ، وهذا كثيرٌ في القرآنِ. قالوا: وفي السُّكوتِ عن شأنِ صاحِبِ الشَّائبتَينِ تحذيرٌ عظيمٌ وتخويفٌ له بأنَّ أمْرَه مُرْجَأٌ إلى اللهِ تعالى، وليس له عليه ضَمانٌ، ولا له عِندَه وَعْدٌ، فلْيَحْذَرْ كلَّ الحذرِ، ولْيُبادِرْ بالتَّوبةِ النَّصوحِ الَّتي تُلْحِقُه بالمضمونِ لهم النَّجاةُ والفَلاحُ [120] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 192). .
2- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ تهديدٌ عَظيمٌ للعُصاةِ [121] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/80). .
3- قولُه تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ فيه خِطابُ أعلَمِ الخَلقِ -على قولٍ في التَّفسيرِ- بأنَّه لم يُحِطْ بكُنْهِ ذلك اليَومِ، وكُرِّر ذلك، وأُوثِرَ (ثُمَّ) للتَّراخي رُتبةً؛ إشارةً إلى أنَّه مهما ترَقَّى في العِلمِ لم يَبلُغْ ذلك [122] يُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 345). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ إشارةٌ أنَّ بِرَّ القَلْبِ يُوجِبُ نعيمَ الدُّنيا [123] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (ص: 270). وذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ هذا قد يُقالُ: إنَّه مُرادٌ مِن النَّعيمِ الأكبرِ، وقد يقالُ: إنَّه مفهومٌ بإشارةِ الآيةِ، ثمَّ قال عن الثَّاني: (وهو أظهَرُ). ((المصدر السابق)) (ص: 271). .
2- أنَّ لَفْظَ (الأبرارِ) إذا أُطْلِقَ دَخَلَ فيه كُلُّ تَقِيٍّ مِن السَّابقِينَ والمقتَصِدينَ، وإذا قُرِنَ بالمقَرَّبينَ كان أخَصَّ؛ قال تعالى في الأوَّلِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، وقال في الثَّاني: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [124] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/169). [المطففين: 18 - 21] .
3- لَفظُ البِرِّ إذا أُطْلِقَ تَناوَلَ جميعَ ما أَمَرَ اللهُ به، كما في قَولِه تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وقَولِه: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة: 189] ، وقَولِه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] ، فالبِرُّ إذا أُطلِقَ كان مُسَمَّاه مُسَمَّى التَّقوى، والتَّقوى إذا أُطلِقَت كان مُسَمَّاها مُسَمَّى البِرِّ، ثمَّ قد يُجمَعُ بيْنَهما، كما في قَولِه تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [125] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 133). قال ابن رجب: (وإذا قُرِنَ البِرُّ بالتَّقْوى، كما في قولِه عزَّ وجلَّ: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2] ، فقَدْ يكونُ المُرادُ بالبِرِّ مُعامَلةَ الخَلقِ بالإحسانِ، وبالتَّقْوى: مُعامَلةَ الحقِّ بفعلِ طاعَتِه، واجْتِنابِ مُحَرَّماتِه، وقد يكونُ أُريدَ بالبِرِّ فِعْلُ الواجِباتِ، وبالتَّقْوى: اجْتِنابُ المُحَرَّماتِ). ((جامع العلوم والحكم)) (2/98). [المائدة: 2] .
4- قُلوبُ أهلِ البِدَعِ والمُعْرِضِينَ عن القُرآنِ، وأهلِ الغَفْلةِ عن اللهِ، وأهلِ المعاصي: في جَحيمٍ قبْلَ الجَحيمِ الأكبرِ، وقُلوبُ الأبرارِ في نَعيمٍ قبْلَ النَّعيمِ الأكبَرِ؛ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، وهذا في دُورِهم الثَّلاثِ -الدُّنيا، والبَرْزخِ، والآخرةِ-؛ ليس مختصًّا بالدَّارِ الآخرةِ، وإنْ كان تمامُه وكمالُه وظهورُه إنَّما هو في الدَّارِ الآخِرةِ، وفي البَرزخِ دُونَ ذلك، كما قال تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [الطور: 47]، وقال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النمل: 71-72] ، وفي هذه الدَّارِ دونَ ما في البَرزخِ، ولكِنْ يَمْنَعُ مِن الإحساسِ به الاستِغراقُ في سَكْرةِ الشَّهَواتِ، وطَرحُ ذلك عن القَلبِ، وعدَمُ التَّفَكُّرِ فيه [126] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/423). ؛ فلا تَحسَبْ أنَّ قَولَه تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ مقصورٌ على نعيمِ الآخِرةِ وجَحيمِها فقط، بل في دُورهِم الثَّلاثةِ كذلك، فهؤلاء في نعيمٍ، وهؤلاء في جحيمٍ، وهل النَّعيمُ إلَّا نَعيمُ القَلبِ؟ وهل العَذابُ إلَّا عذابُ القَلْبِ؟ وأيُّ عذابٍ أشَدُّ مِنَ الخَوفِ والهَمِّ والحَزَنِ، وضِيقِ الصَّدرِ، وإعراضِه عن اللهِ والدَّارِ الآخِرةِ، وتعَلُّقِه بغيرِ اللهِ، وانقِطاعِه عن اللهِ، بكُلِّ وادٍ منه شُعبةٌ، وكُلُّ شَيءٍ تعَلَّقَ به وأحَبَّه مِن دونِ اللهِ فإنَّه يَسومُه سُوءَ العَذابِ [127] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 76). .
5- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ إشارةٌ أنَّ فُجورَ القَلبِ يُوجِبُ جَحيمَ الدُّنيا [128] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (ص: 270). وذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ هذا قد يُقالُ: إنَّه مرادٌ مِن الجحيمِ الأكبَرِ، وقد يقالُ: إنَّه مفهومٌ بإشارةِ الآيةِ، ثمَّ قال عن الثَّاني: (وهو أظهَرُ). ((المصدر السابق)) (ص: 271). .
6- أنَّ اسمَ الفاجِرِ في عُرْفِ القُرآنِ والسُّنَّةِ يَتناوَلُ الكافِرَ قَطْعًا، كقَولِه تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [129] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 85). .
7- في قَولِه تعالى: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ دليلٌ مِن أدِلَّةِ خُلودِ الكُفَّارِ في النَّارِ [130] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/451). ، والمرادُ بالفُجَّارِ هنا: المُشرِكونَ؛ فهم لا يَغِيبونَ عن النَّارِ طَرْفةَ عَينٍ، وذلك هو الخُلودُ، ونحن -أهلَ السُّنَّةِ- لا نَعتَقِدُ الخُلودَ في النَّارِ لغيرِ الكافِرِ، فأمَّا عُصاةُ المؤمِنينَ فلا يُخَلَّدونَ في النَّارِ، وإلَّا لَبَطَلَتْ فائدةُ الإيمانِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/182). .
8- قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ كلُّ موضعٍ فى القرآنِ: وَمَا أَدْرَاكَ فقد عُقِّب ببيانِه؛ نحوُ قولِه تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 10-11] ، وكلُّ موضعٍ ذُكِر بلَفظِ: وَمَا يُدْرِيكَ لم يُعقَّبْ ببيانِه، نحوُ قولِه تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [132] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/597). وقال الفَرَّاءُ: (كلُّ ما كان في القرآنِ مِن قولِه: وَمَا أَدْرَاكَ فقد أدراه، وما كان مِن قولِه: وَمَا يُدْرِيكَ فلم يُدْرِه). ((معاني القرآن)) (3/280). وأخرج ابنُ جرير في ((تفسيره)) (23/207) بسندِه عن سُفْيانَ بنِ عُيَيْنةَ، قال: (ما في القرآنِ: وَمَا يُدْرِيكَ فلم يُخبِرْه، وما كان: وَمَا أَدْرَاكَ فقد أخبَرَه). وأخرجه أيضًا ابنُ المُنذِرِ وابنُ أبي حاتم، كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/664). [الشورى: 17] .
9- قال تعالى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وشَيْئًا اسمٌ يدُلُّ على جِنسِ المَوجودِ، والمَعنى: لا تَملِكُ نفْسٌ لِنَفْسٍ شَيئًا يُغْني عنها ويَنفَعُها، أي: ليس في قُدرَتِها شَيءٌ يَنفَعُ نفْسًا أُخْرى، وهذا يُفيدُ تأْييسَ المُشرِكين مِن أنْ تَنفَعَهم أصْنامُهم يَومَئذٍ، كما قال تعالَى: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/185). [الأنعام: 94] .
10- في قَولِه تعالى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ سُؤالٌ: كيف قال ذلك، مع أنَّ النُّفوسَ المقبولةَ الشَّفاعةِ تَملِكُ لِمَن شَفَعَت فيه شيئًا، وهو الشَّفاعةُ؟!
الجوابُ: أنَّ المنفِيَّ ثُبوتُ المُلْكِ بالسَّلْطَنةِ، والشَّفاعةُ ليست بطَريقِ السَّلْطَنةِ؛ فلا تدخُلُ في النَّفْيِ، ويُؤَيِّدُه قَولُه تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه [134] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 602). . فهي لا تَملِكُ ذلك استقلالًا، وإنَّما يكونُ ذلك بعدَ إذْنِ الله ومَشيئتِه.
11- في قَولِه تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه سؤالٌ: أنَّ ظاهِرَ هذه الآيةِ تقييدُ الأمرِ بالظَّرفِ المذكورِ، ولكِنَّ الأمرَ لله في ذلك اليومِ وقبْلَ ذلك اليَومِ، كما في قَولِه تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم: 4] ، وقَولِه: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] أي: يتصَرَّفُ في خَلْقِه بما يَشاءُ مِن أمْرِه لا يَشرَكُه أحَدٌ كما لا يَشرَكُه أحَدٌ في خَلْقِه. فما وَجهُ التَّخصيصِ بيومِ القيامةِ؟
والجوابُ: أنَّ الأمرَ للهِ تعالى في يومِ القيامةِ وفيما قَبْلَه، والمُلْكُ لله في الدُّنيا وفي الآخِرةِ، لكِنَّ ظهورَ مَلَكوتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وأمْرِه في ذلك اليومِ أكثرُ بكثيرٍ مِن ظهورِ ملَكوتِ الله وأمْرِه في الدُّنيا، فلا أمْرَ مع أمْرِه، ولا متقَدِّمَ عليه، حتَّى ولا بكَلِمةٍ، إلَّا مَن أَذِنَ له الرَّحمنُ وقال صَوابًا، وهذا كقَولِه تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] ، فيتبَيَّنُ في ذلك اليومِ أنَّه ليس هناك آمِرٌ في ذلك اليَومِ إلَّا اللهُ عزَّ وجَلَّ [135] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/452)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 92). .
وأيضًا فالأمرُ إذا كان إلى اللهِ وحْدَه في ذلك اليومِ العظيمِ، فما دُونَه أَولى.

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ
- قولُه: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ فُصِلَتْ هذه الجُملةُ عن الَّتي قبْلَها؛ لأنَّها استِئنافٌ بَيانيٌّ جَوابٌ عن سُؤالٍ يَخطُرُ في نفْسِ السَّامِعِ يُثيرُه قولُه: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [الانفطار: 9-10] الآيةَ؛ لتَشوُّفِ النَّفْسِ إلى مَعرِفةِ هذا الجَزاءِ: ما هو؟ وإلى مَعرفةِ غايةِ إقامةِ المَلائكةِ لإحْصاءِ الأعْمالِ: ما هيَ؟ فبَيَّنَ ذلك بقَولِه: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ الآيةَ. وأيضًا تَتضمَّنُ هذه الجُملةُ تَقسيمَ أصحابِ الأعمالِ؛ فهي تَفصيلٌ لجُملةِ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12]، وذلك مِن مُقتضَياتِ فَصْلِ الجُملةِ عن الَّتي قبْلَها [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/181). . فقولُه: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ استِئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ نَتيجةِ الحِفظِ والكِتابِ مِن الثَّوابِ والعِقابِ [137] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/122). .
- وجِيءَ بالكَلامِ مُؤكَّدًا بـ (إنَّ) ولامِ الابتِداءِ؛ ليُساويَ البَيانُ مُبيَّنَه في التَّحقيقِ ودَفْعِ الإنْكارِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/181). .
- والظَّرفيَّةُ مِن قولِه: (فِي نَعِيمٍ) تُفيدُ تَشبيهَ دَوامِ التَّنعُّمِ لهم بإحاطةِ الظَّرفِ بالمَظروفِ بحَيثُ لا يُفارِقُه [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/182). .
- وكُرِّرَ التَّأكيدُ مع الجُملةِ المَعطوفةِ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ؛ للاهتِمامِ بتَحقيقِ كَونِهم في جَحيمٍ، لا يَطْمَعون في مُفارَقتِه [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/182). .
- وفي تَنكيرِ النَّعيمِ والجَحيمِ مِن التَّفخيمِ والتَّهويلِ ما لا يَخْفى [141] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/122). .
- قولُه: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ إمَّا صِفةٌ لـ جَحِيمٍ، أو استِئنافٌ مَبنيُّ على سُؤالٍ نَشَأَ مِن تَهويلِها، كأنَّه قيلَ: ما حالُهم فيها؟ فقيلَ: يُقاسون حَرَّها [142] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/122)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/404). .
- ويَوْمَ الدِّينِ ظَرفٌ لـ يَصْلَوْنَهَا، وذُكِرَ لبَيانِ أنَّهم يَصْلَونها جَزاءً عن فُجورِهم؛ لأنَّ الدِّينَ الجَزاءُ، ويومَ الدِّينِ يومُ الجَزاءِ [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/182). .
- قولُه: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ، أي: لا يَغيبون عنها طَرْفةَ عَينٍ؛ فإنَّ المُرادَ دَوامُ نَفيِ الغَيبةِ، لا نَفيُ دَوامِ الغَيبةِ؛ لأنَّ الجُملةَ الاسميَّةَ المَنفيَّةَ قد يُرادُ بها استِمرارُ النَّفيِ، لا نَفيُ الاستِمرارِ، باعتِبارِ ما تُفيدُه مِن الدَّوامِ والثَّباتِ بعْدَ النَّفيِ لا قبْلَه [144] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/122). ، فجِيءَ بالجُملةِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ اسميَّةً دُون أنْ يُقالَ: (وما يَغيبون عنها)، أو (وما يُفارِقونها)؛ لإفادةِ الاسميَّةِ الثَّباتَ، سَواء في الإثْباتِ أو النَّفيِ؛ فالثَّباتُ حالةٌ للنِّسبةِ الخَبريَّةِ، سَواءٌ كانت نِسبةَ إثْباتٍ أو نِسبةَ نَفيٍ، وزِيادةُ الباءِ لتأكيدِ النَّفيِ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/183). .
- وتَقديمُ عَنْهَا على مُتَعلَّقِه؛ للاهتِمامِ بالمَجرورِ، وللرِّعايةِ على الفاصِلةِ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/183). .
2- قولُه تعالَى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ
- قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ تَفخيمٌ لِشأْنِ وهَوْلِ يومِ الدِّينِ الَّذي يُكذِّبون به، إثْرَ تَفخيمٍ وتَهويلٍ لأمْرِه بعْدَ تَهويلٍ، وكَيْفَما تَصوَّرْتَه فهو فَوقَ ذلك وعلى أضْعافِه [147] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/717)، ((تفسير البيضاوي)) (5/293)، ((تفسير أبي حيان)) (10/423)، ((تفسير أبي السعود)) (9/122)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/404). .
وقيل: الاستِفهامُ الأوَّلُ مُستعمَلٌ كِنايةً عن تَعظيمِ أمْرِ اليَومِ وتَهويلِه، والاستِفهامُ الثَّاني مُستعمَلٌ في معناهُ، أي: سؤالِ سائِلٍ عن حَقيقةِ يومِ الدِّينِ، كما تَقولُ: عَلِمْتَ هلْ زَيدٌ قائمٌ؟ أي: عَلِمْتَ جَوابَ هذا السُّؤالِ، ومِثلُ هذا التَّركيبِ ممَّا جَرى مَجْرى المَثَلِ، فلا يُغيَّرُ لَفْظُه [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/183). .
وقيل: قولُه: ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ تَكريرٌ للتَّهويلِ تَكريرًا يُؤْذِنُ بزِيادتِه، أي: تَجاوُزِه حَدَّ الوَصفِ والتَّعبيرِ، فهو مِن التَّوكيدِ اللَّفْظيِّ [149] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/717)، ((تفسير البيضاوي)) (5/293)، ((تفسير أبي حيان)) (10/423)، ((تفسير أبي السعود)) (9/122)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/184). . وقيلَ: الأوَّلُ للمُؤمِنينَ، والثَّاني للكُفَّارِ [150] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 601). .
- وقَرَنَ هذا بحرفِ (ثُمَّ) الَّذي شأْنُه -إذا عَطَفَ جُملةً على أُخْرى- أنْ يُفيدَ التَّراخيَ الرُّتْبيَّ، أي: تَباعُدَ الرُّتْبةِ في الغَرَضِ المَسوقِ له الكَلامُ، وهي في هذا المَقامِ رُتبةُ العَظَمةِ والتَّهويلِ، فالتَّراخي فيها هو الزِّيادةُ [151] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/308)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/184). .
- وفي قولِه: ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ إظْهارُ يومِ الدِّينِ في مَوقِعِ الإضْمارِ، وهو تَأْكيدٌ لهَوْلِه وفَخامتِه [152] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/123). .
- قولُه: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بَيانٌ إجْماليٌّ لِشأْنِ يَومِ الدِّينِ إثْرَ إبْهامِه وبَيانِ خُروجِه عن عُلومِ الخَلقِ بطَريقِ إنْجازِ الوَعْدِ؛ فإنَّ نفْيَ إدْرائِهم مُشعِرٌ بالوَعْدِ الكَريمِ بالإدْراءِ [153] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/717)، ((تفسير البيضاوي)) (5/293)، ((تفسير أبي السعود)) (9/123). ؛ فهو بَيانٌ للتَّهويلِ العَظيمِ المُجمَلِ الَّذي أفادَه قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار: 17-18]؛ إذ التَّهويلُ مَشعِرٌ بحُصولِ ما يَخافُه المُهَوَّلُ لهم، فأُتبِعَ ذلك بزِيادةِ التَّهويلِ مع التَّأييسِ مِن وُجْدانِ نَصيرٍ أو مُعينٍ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/184). .
- وعُمومُ (نَفْس) الأُولى والثَّانيةِ في سِياقِ النَّفيِ يَقتَضي عُمومَ الحُكمِ في كُلِّ نفْسٍ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/185). .
- قولُه: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ تَذييلٌ [156] التَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86- 88). ؛ والتَّعريفُ في (الأمْر) للاستِغراقِ، والأمرُ هُنا بمَعنى: التَّصرُّفِ والإذْنِ، وهو واحِدُ الأَوامِرِ، أي: لا يأمُرُ إلَّا اللهُ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ الأَمرُ مُرادِفًا للشَّيءِ، فتَغييرُ التَّعبيرِ للتَّفنُّنِ، والتَّعريفُ على كِلا الوَجْهَينِ تَعريفُ الجِنسِ المُستَعمَلُ لإرادةِ الاستِغراقِ، فيَعُمُّ كُلَّ الأُمورِ، وبذلك العُمومِ كانتِ الجُملةُ تَذْييلًا [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/185). .
- أَفادَتْ لامُ الاختِصاصِ في لِلَّهِ -مع عُمومِ الأَمرِ-: أنَّه لا أمْرَ يَومَئذٍ إلَّا للهِ وحْدَه، لا يَصدُرُ مِن غَيرِه فِعلٌ، وليس في هذا التَّركيبِ صِيغةُ حَصْرٍ، ولكنَّه آيِلٌ إلى مَعنى الحَصْرِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/185). .
- وفي هذا الخِتامِ رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ [159] رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ -ويُعرَفُ أيضًا بالتَّصديرِ-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعَيْنِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ، أو المُتجانِسَينِ، أو المُلحَقَينِ بهما في أوَّلِ الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ؛ الأوَّلُ: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصِلةِ آخِرَ كَلِمةٍ في الصَّدرِ؛ كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] ، والثَّاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه؛ كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، والثَّالثُ: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلِماتِه؛ كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514). ؛ لأنَّ أوَّلَ السُّورةِ ابتُدئَ بالخَبَرِ عن بَعضِ أحوالِ يَومِ الجَزاءِ، وخُتِمَتِ السُّورةُ ببَعضِ أحوالِه [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/185). .