المَبحَثُ الأوَّلُ: إنكارُ البَعثِ
إنكارُ البَعثِ بعد الموتِ يومَ القيامةِ مناقِضٌ للإيمانِ، مهما تنوَّعت صُوَرُه وأمثِلَتُه، فقد يكونُ إنكارًا لبعث الأرواحِ والأجسادِ، وقد يكونُ إنكارًا لِمَعاد الأجسادِ مع الاعترافِ بمعادِ الأرواحِ، وتارةً يكونُ إنكارُ البَعثِ بالقَولِ بتناسُخِ الأرواحِ، ونَقْلِها إلى أجسامٍ أخرى، وتارةً أُخرى يكونُ هذا الإنكارُ بإنكارِ مَعادِ النُّفوسِ الجاهِلةِ دون العالِمةِ
[2426] يُنظر: ((الدرة)) لابن حزم (ص: 315)، ((الشفا)) لعياض (2/290). .
ومن أسبابِ جَعلِ إنكارِ البَعثِ من نواقِضِ الإيمانِ:1- أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد أخبر أنَّ إنكارَ البَعثِ كُفرٌ برَبِّ العالَمين، فقال تعالى:
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ [الرعد: 2-5] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وإن تعجَبْ -يا محمَّدُ- من هؤلاء المُشرِكين المتَّخِذين ما لا يَضُرُّ ولا ينفَعُ آلهةً يَعبُدونَها من دوني؛ فعَجَبٌ قَولُهم:
أَئِذَا كُنَّا تُرابًا وبَلِينا فعُدِمْنا
أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أئِنَّا لمجَدَّدٌ إنشاؤنا وإعادتُنا خلقًا جديدًا، كما كُنَّا قبلَ وفاتِنا؟ تكذيبًا منهم بقُدرةِ اللهِ، وجُحودًا للثَّوابِ والعِقابِ والبَعثِ بعد المماتِ... وقَولُه:
أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يقولُ تعالى ذِكْرُه: هؤلاء الذين أنكَروا البَعْثَ وجَحَدوا الثَّوابَ والعِقابَ، وقالوا:
أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ هم الذين جَحَدوا قُدرةَ رَبِّهم وكَذَّبوا رسولَه، وهم الذين في أعناقِهم الأغلالُ يومَ القيامةِ في نارِ جَهنَّمَ، فـ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يقولُ: هم سُكَّانُ النَّارِ يومَ القيامةِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يقولُ: هم فيها ماكِثون أبدًا، لا يموتون فيها، ولا يُخرَجون منها)
[2427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/ 432). .
ولَمَّا قال صاحِبُ الجنَّتَين:
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف: 36] ، قال له صاحِبُه المؤمِنُ:
أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف: 37] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: قال لصاحِبِ الجنَّتَين صاحِبُه الذي هو أقَلُّ منه مالًا وولدًا
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف: 34] يقولُ: وهو يخاطِبُه ويُكَلِّمُه:
أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف: 37] يعني: خَلَق أباك آدَمَ من ترابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [الكهف: 37] يقولُ: ثم أنشأك من نُطفةِ الرَّجُلِ والمرأةِ
ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف: 37] يقولُ: ثمَّ عَدَلَك بشَرًا سَوِيًّا رجلًا، ذكرًا لا أنثى، يقولُ: أكفَرْتَ بمن فعل بك هذا أن يعيدَك خَلْقًا جديدًا بعد ما تصيرُ رُفاتًا؟!)
[2428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/ 263). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 97-98] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى: هذا الذي جازَيْناهم به من البَعْثِ على العَمى والبَكَمِ والصَّمَمِ: جزاؤُهم الذي يستحِقُّونَه؛ لأنَّهم كَذَّبوا «بآياتِنا» أي: بأدِلَّتِنا وحُجَجِنا، واستبعَدوا وقوعَ البَعثِ
وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا باليةً نَخِرةً
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أي: بعد ما صِرْنا إلى ما صِرْنا إليه من البِلى والهلاكِ، والتفَرُّقِ والذَّهابِ في الأرضِ نُعادُ مَرَّةً ثانيةً؟)
[2429] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 123). .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة: 10] .
قال
البغوي: (
وَقَالُوا يعني: مُنكِري البَعْثِ:
أَإِذَا ضَلَلْنَا هلَكْنا في الأرضِ، وصِرْنا ترابًا...
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ استفهامُ إنكارٍ. قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ أي: بالبَعثِ بعد الموتِ)
[2430] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 595). .
2- تضمُّنُ إنكارِ البَعثِ تعطيلًا لأسماءِ اللهِ وصِفاتِه ومُقتَضاها، وإنكارًا لعِلمِ اللهِ تعالى وكمالِ قُدرتِه وحِكْمَتِه.
قال اللهُ تعالى:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115- 116] .
قال
ابنُ القَيِّمِ -مُعَلِّقًا على هذه الآيةِ-: (فجَعَل كَمالَ مُلْكِه، وكَونَه سُبحانَه الحَقَّ، وكونَه لا إلهَ إلَّا هو، وكونَه رَبَّ العَرشِ المُستلزِمَ لربوبيَّتِه لكُلِّ ما دونه- مُبطِلًا لذلك الظَّنِّ الباطِلِ، والحُكمِ الكاذِبِ،... فإنَّ مُلكَه الحَقَّ يَستلزِمُ أَمْرَه ونَهْيَه، وثوابَه وعِقابَه، وكذلك يَستلزِمُ إرسالَ رُسُلِه، وإنزالَ كُتُبِه، وبَعْثَ المعادِ ليومٍ يُجزى فيه المحسِنُ بإحسانِه، والمسيءُ بإساءتِه، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقةَ مُلكِه، ولم يُثبِتْ له المُلْكَ الحَقَّ؛ ولذلك كان مُنكِرُ البَعْثِ كافرًا برَبِّه، وإن زعم أنَّه يُقِرُّ بصانعِ العالَمِ، فلم يؤمِنْ بالملِكِ الحَقِّ الموصوفِ بصِفاتِ الجَلالِ، والمستَحِقِّ لنُعوتِ الكَمالِ)
[2431] يُنظر: ((التبيان في أيمان القرآن)) (ص: 247). .
وقال أيضًا: (هو سُبحانَه يُقَرِّرُ المعادَ بذِكرِ كَمالِ عِلْمِه، وكَمالِ قُدرتِه، وكَمالِ حِكمتِه، فإنَّ شُبَهَ المُنكِرين له كُلُّها تعودُ إلى ثلاثةِ أنواعٍ:
أحَدُها: اختلاطُ أجزائِهم بأجزاءِ الأرضِ على وَجهٍ لا يتمَيَّزُ ولا يحصُلُ معها تميُّزُ شَخصٍ عن شَخصٍ.
الثَّاني: أنَّ القُدرةَ لا تتعَلَّقُ بذلك.
الثَّالثُ: أنَّ ذلك أمرٌ لا فائدةَ فيه، أو إنَّما الحِكمةُ اقتضت دوامَ هذا النَّوعِ الإنسانيِّ شيئًا بعد شيءٍ، هكذا أبدًا كلَّما مات جيلٌ خلَفَه جيلٌ آخَرُ، فأمَّا أن يميتَ النَّوعَ الإنسانيَّ كُلَّه، ثمَّ يحييَه بعد ذلك، فلا حِكمةَ في ذلك؛ فجاءت براهينُ المعادِ في القُرآنِ مَبنيَّةً على ثلاثةِ أُصولٍ:
أحَدُها: تقريرُ كَمالِ عِلمِ الرَّبِّ سُبحانَه، كما قال في جوابِ من قال:
مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 78-79] ،... وقال:
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] .
والثَّاني: تقريرُ كَمالِ قُدرتِه؛ لِقَولِه:
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم [يس: 81] وقَولِه:
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة: 4] ، وقَولِه:
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج: 6] ....
الثَّالثُ: كَمالُ حِكمتِه، كقَولِه:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِـينَ [الدخان: 38] ، وقَولِه:
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ص: 27] ،... وقَولِه:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ...
ولهذا كان الصَّوابُ أنَّ المعادَ معلومٌ بالعَقلِ مع الشَّرعِ، وأنَّ كَمالَ الرَّبِّ تعالى وكَمالَ أسمائِه وصِفاتِه تقتضيه وتوجِبُه، وأنَّه مُنَزَّهٌ عمَّا يقولُه مُنكِروه، كما يُنزَّهُ كَمالُه عن سائِرِ العُيوبِ والنَّقائِصِ)
[2432] يُنظر: ((الفوائد)) (ص: 6). .
وأيضًا: إنكارُ البَعثِ سُوءُ ظَنٍّ باللهِ عزَّ وجَلَّ.قال
ابنُ القَيِّمِ: (ومَن ظنَّ أنَّه لن يجمَعَ عَبيدَه بعدَ مَوتِهم للثَّوابِ والعِقابِ في دارٍ يُجازي المحسِنَ فيها بإحسانِه، والمسيءَ بإساءتِه، ويبيِّنَ لخَلْقِه حقيقةَ ما اختلفوا فيه، ويُظهِرَ للعالَمين كُلِّهم صِدْقَه، وصِدْقَ رُسُلِه، وأنَّ أعداءَه كانوا هم الكاذِبين؛ فقد ظَنَّ به ظَنَّ السَّوءِ)
[2433] يُنظر: ((زاد المعاد)) (3/206). .
وسُوءُ الظَّنِّ باللهِ تعالى ذنبٌ عظيمٌ، وعِقابُه شديدٌ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (ولم يجِئْ في القُرآنِ وعيدٌ أعظَمُ من وعيدِ مَن ظَنَّ به ظَنَّ السَّوءِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] )
[2434] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) (4/1356). .
3- أنَّ إنكارَ البَعثِ تكذيبٌ ظاهِرٌ لآياتِ القُرآنِ الصَّريحةِ في إثباتِ البَعثِ، كما أنَّ هذا الإنكارَ ردٌّ للأخبارِ الصَّحيحةِ في وُقوعِ البَعثِ، وتكذيبٌ لِما اتَّفَقت عليه دَعوةُ الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ، ونزلت به الكُتُبُ السَّماويَّةُ، وقد قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56] .
قال
الشَّوكاني: (المعنى: أنَّها كُلَّما احترَقَت جلودُهم بَدَّلهم اللهُ جُلودًا غَيرَها، أي: أعطاهم مكانَ كُلِّ جِلدٍ محتَرِقٍ جِلدًا آخَرَ غيرَ محترقٍ؛ فإنَّ ذلك أبلَغُ في العذابِ للشَّخصِ؛ لأنَّ إحساسَه لعَمَلِ النَّارِ في الجِلدِ الذي لم يحتَرِقْ أبلَغُ مِن إحساسِه لعَمَلِها في الجِلْدِ المحتَرِقِ)
[2435] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (1/ 554). .
وقال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الحج: 57] .
قال
ابنُ جريرٍ: (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا باللهِ ورسولِه،
وَكَذَّبُوا بآياتِ كِتابِه وتنزيلِه، وقالوا: ليس ذلك من عندِ الله، إنَّما هو إفكٌ افتراه محمَّدٌ، وأعانه عليه قومٌ آخرون
فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِيٌن يقولُ: فالذين هذه صِفتُهم لهم عند اللهِ يومَ القيامةِ عذابٌ مُهينٌ، يعني: عذابٌ مُذِلٌّ في جهنَّمَ)
[2436] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/ 618). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (الإيمانُ بالمعادِ ممَّا دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، والعَقلُ والفِطرةُ السَّليمةُ؛ فأخبر اللهُ سُبحانَه عنه في كتابِه العزيزِ، وأقام الدَّليلَ عليه، وردَّ على مُنكِريه في غالِبِ سُوَرِ القُرآنِ)
[2437] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/589). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((قال اللهُ: كَذَّبَني ابنُ آدَمَ ولم يكُنْ له ذلك، وشتَمَني ولم يكُنْ له ذلك؛ فأمَّا تكذيبُه إيَّاي فقَولُه: لن يُعيدَني كما بدَأَني. وليس أوَّلُ الخَلقِ بأهوَنَ عليَّ من إعادتِه، وأمَّا شَتمُه إيَّاى فقولُه: اتَّخَذ اللهُ ولَدًا. وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ لم ألِدْ ولم أُولَدْ ولم يكُنْ لي كُفْأً أحَدٌ )) [2438] أخرجه البخاري (4974). .
قال
القَسطلانيُّ: (
((قال اللهُ تعالى: كَذَّبني ابنُ آدَمَ)) بتشديدِ الذَّالِ المُعجَمة، أي: بعضُ بني آدَمَ، وهم من أنكر البَعثَ
((ولم يكُنْ له ذلك)) التكذيبُ)
[2439] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (7/ 439). .
وقد أمَرَ اللهُ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقسِمَ برَبِّه عزَّ وجَـلَّ على وقوعِ المَعادِ ووُجودِه في ثلاثةِ مواضِعَ:الموضِعُ الأوَّلُ: في سورةِ يونُسُ في قَولِه تعالى:
وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس: 53] .
الموضع الثَّاني: في سورة سبأٍ في قَولِه تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3] الموضِعُ الثَّالثُ: في سورةِ التغابُنِ في قَولِه تعالى:
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7] [2440] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/495). .
وقد أقسم اللهُ تعالى في مواضِعَ كثيرةٍ على وقوعِ البَعثِ، كقَولِه تعالى:
اللَّهُ لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [النساء: 86] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يعني جَلَّ ثناؤُه بقَولِه:
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ المعبودُ الذي لا تنبغي العبوديَّةُ إلَّا له هو، الذي له عِبادةُ كُلِّ شيءٍ وطاعةُ كُلِّ طائعٍ. وقَولُه:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يقولُ: لَيَبعثَنَّكم من بعدِ مماتِكم، ولَيَحشُرَنَّكم جميعًا إلى موقِفِ الحِسابِ الذي يجازي النَّاسَ فيه بأعمالِهم، ويقضي فيه بين أهلِ طاعتِه ومَعصيتِه، وأهلِ الإيمانِ به والكُفرِ
لَا رَيْبَ فِيهِ يقولُ: لا شَكَّ في حقيقةِ ما أقولُ لكم من ذلك وأخبرِكُم من خَبَري: أني جامِعُكم إلى يومِ القيامةِ بعدَ مماتِكم)
[2441] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 279). .
وذَمَّ سُبحانَه المكَذِّبين بالمعادِ، فقال سُبحانَه:
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاء اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس: 45] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يعني تعالى ذِكْرُه بقَولِه:
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ قد هلك ووكَسَ في بَيعِهم الإيمانَ بالكُفرِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ يعني: الذين أنكروا البَعْثَ بعد المماتِ، والثَّوابَ والعِقابَ والجَنَّةَ والنَّارَ، من مُشرِكي قرُيشٍ ومَن سلَكَ سَبيلَهم في ذلك)
[2442] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/ 214). .
وتوعَّدَهم بالعذابِ والضَّلالِ البعيدِ، فقال تبارك وتعالى:
بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سبأ: 8] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه مخبِرًا عن قيل هؤلاء الذين كَفَروا به، وأنكَروا البَعْثَ بعد المماتِ بعضِهم لبَعضٍ، مُعجَبينَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وَعْدِه إيَّاهم ذلك: أَفْتَرى هذا الذي يَعِدُنا أنَّا بعد أن نُمزَّقَ كُلَّ مُمزَّقٍ في خَلقٍ جديدٍ، على اللهِ كَذِبًا، فتخَلَّقَ عليه بذلك باطِلًا من القَولِ، وتخرَّص عليه قَولَ الزُّورِ
أَمْ بِهِ جِنَّةٌ، يقولُ: أم هو مجنونٌ فيتكَلَّمُ بما لا معنى له!)
[2443] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/ 215). .
4- انعِقادُ الإجماعِ على إثباتِ البَعثِ، كما أجمع عُلَماءُ هذه الأُمَّةِ على تكفيرِ مُنكِري البَعْثِ، وقد حكى هذا الإجماعَ غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العِلمِ:
قال
ابنُ حزم: (اتَّفَقوا أنَّ البَعثَ حَقٌّ، وأنَّ النَّاسَ كُلَّهم يُبعَثون في وقتٍ تَنقَطِعُ فيه سُكناهم في الدُّنيا)
[2444] يُنظر: ((مراتب الإجماع)) (ص: 175). .
وقال: (البَعثُ حَقٌّ، والحِسابُ حَقٌّ،... يجمَعُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ بين الأرواحِ والأجسادِ، كُلُّ هذا إجماعٌ من جميعِ أهلِ الإسلامِ، من خرج عنه خرج عن الإسلامِ)
[2445] يُنظر: ((الدرة)) (ص: 311). .
وقال أيضًا: (فمن قال: إنَّ الأرواحَ أعراضٌ فانيةٌ، أو قال: إنَّها تنتَقِلُ إلى أجسامٍ أُخَرَ؛ فهو منسَلِخٌ من إجماعِ أهلِ الإسلامِ؛ لخلافِه القُرآنَ والسُّنَنَ الثَّابتةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والإجماعَ، ... وهو قَولُ أهلِ التناسُخِ، وهو كُفرٌ بلا خِلافٍ، وكذلك من أنكر إحياءَ العِظامِ والأجسادِ يومَ القيامةِ، أو أنكر البَعثَ؛ فخارِجٌ عن دينِ الإسلامِ بلا خِلافٍ من أحَدٍ مِنَ الأئِمَّةِ)
[2446] يُنظر: ((الدرة)) (ص: 315). .
وقال أيضًا: (اتَّفَق جميعُ أهلِ القِبلةِ -على تنابُذِ فِرَقِهم- على القَولِ بالبَعثِ في القيامةِ، وعلى تكفيرِ مَن أنكَرَ ذلك)
[2447] يُنظر: ((الفصل)) (4/66). .
وقال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (قد أجمع المُسلِمون على أنَّ من أنكر البَعثَ، فلا إيمانَ له ولا شهادةَ، وفي ذلك ما يُغني ويكفي، مع ما في القُرآنِ من تأكيدِ الإقرارِ بالبَعثِ بعد الموتِ؛ فلا وَجْهَ للإنكارِ في ذلك)
[2448] يُنظر: ((التمهيد)) (9/116). .
وقال
الغزاليُّ: (فيَجِبُ تكفيرُ من يغَيِّرُ الظَّاهِرَ بغيرِ بُرهانٍ قاطِعٍ؛ كالذي ينكِرُ حَشْرَ الأجسادِ، وينكِرُ العُقوباتِ الحِسِّيَّةَ في الآخرةِ بظُنونٍ وأوهامٍ، واستبعاداتٍ مِن غيرِ بُرهانٍ قاطِعٍ، فيجِبُ تكفيرُه قطعيًّا؛ إذ لا بُرهانَ على استحالةِ ردِّ الأرواحِ إلى الأجسادِ، وذِكرُ ذلك عظيمُ الضَّرَرِ في الدِّينِ؛ فيجِبُ تكفيرُ كُلِّ من تعَلَّق به)
[2449] يُنظر: (((مجموعة رسائل الإمام الغزالي)) (ص: 246). .
وقال عِياضٌ: (وكذلك نقطَعُ على كُفرِ من قال بتناسُخِ الأرواحِ وانتقالِها أبَدَ الآبادِ في الأشخاصِ، وتعذيبِها أو تنَعُّمِها فيها بحَسَبِ زَكائِها وخُبْثِها)
[2450] يُنظر: ((الشفا)) (2/283). .
وقال أيضًا: (كذلك من أنكر الجنَّةَ أو النَّارَ، أو البَعْثَ أو الحِسابَ أو القيامةَ؛ فهو كافِرٌ بإجماعٍ؛ للنَّصِّ عليه، وإجماعِ الأُمَّةِ على صِحَّةِ نَقلِه مُتواتِرًا، وكذلك من اعترف بذلك، ولكِنَّه قال: إنَّ المرادَ بالجَنَّة والنَّارِ والحَشرِ والنَّشرِ والثَّوابِ والعِقابِ معنًى غيُر ظاهِرِه، وأنَّها لذاتٍ رُوحانيَّةٍ، ومعانٍ باطنةٍ، كقَولِ النَّصارى والفلاسِفةِ والباطِنيَّة وبعضِ المتصَوِّفةِ، وزعم أنَّ معنى القيامةِ الموتُ أو فناءٌ مَحْضٌ وانتقاضُ هيئةِ الأفلاكِ وتحليلُ العالَمِ كقَولِ بَعضِ الفَلاسِفةِ)
[2451] يُنظر: ((الشفا)) (2/290). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (طوائِفُ مِن الكُفَّارِ والمُشرِكين وغيرِهم ينكِرونَ المعادَ بالكُلِّيَّةِ، فلا يُقرُّون لا بمعادِ الأرواحِ ولا الأجسادِ، وقد بيَّن اللهُ تعالى في كتابِه على لسانِ رَسولِه أمْرَ مَعادِ الأرواحِ والأجسادِ، وردَّ على الكافِرين والمنكِرين لشَيءٍ من ذلك بيانًا في غايةِ التَّمامِ والكَمالِ.
وأمَّا المُنافِقون من هذه الأُمَّةِ الذين لا يقرُّون بألفاظِ القُرآنِ والسُّنَّةِ المشهورةِ؛ فإنَّهم يحرِّفون الكَلِمَ عن مواضِعِه، ويقولون: هذه أمثالٌ ضُرِبَت لنَفهمَ المعادَ الرُّوحانيَّ، وهؤلاء مِثلُ القرامِطةِ الباطنيَّةِ الذين قولُهم مؤلَّفٌ من قَولِ المجوسِ والصَّابئةِ، ... وهؤلاء كُلُّهم كُفَّارٌ يجب قَتْلُهم باتِّفاقِ أهلِ الإيمانِ؛ فإنَّ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بيَّن ذلك بيانًا شافيًا قاطعًا للعُذرِ)
[2452] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/313). .
وقال الإيجي: (أجمع أهلُ المِلَلِ عن آخِرِهم على جوازِ حَشرِ الأجسادِ ووُقوعِه، وأنكرهما الفلاسفةُ)
[2453] يُنظر: ((المواقف في علم الكلام)) (3/474). .
وقال
مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (النَّاسُ إذا ماتوا يُبعَثون، والدَّليلُ قَولُه تعالى:
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55] ، وقَولُه تعالى:
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح: 17، 18]. وبَعْدَ البَعثِ محاسَبون ومجزيُّون بأعمالِهم، والدَّليلُ قَولُه تعالى:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31]. ومن كَذَّب بالبَعثِ كَفَر، والدَّليلُ قَولُه تعالى:
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7] )
[2454] يُنظر: ((ثلاثة الأصول)) (ص: 23). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (الحاصِلُ أنَّ هذا أي: المعادَ أمرٌ اتَّفَقت عليه الشَّرائعُ، ونطقت به كتُبُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ سابِقُها ولاحِقُها، وتطابقت عليه الرُّسُلُ أوَّلُهم وآخِرُهم، ولم يخالِفْ فيه أحدٌ منهم، وهكذا اتَّفَق على ذلك أتباعُ جميعِ الأنبياءِ من أهلِ المِلَلِ، ولم يُسمَعْ عن أحدٍ منهم أنَّه أنكر ذلك قَطُّ، ولكِنَّه ظهر رجلٌ من اليهودِ زِنديقٌ، يُقالُ له: موسى بن ميمون اليهوديُّ الأندلسيُّ، فوقع منه كلامٌ في إنكارِ المعادِ، واختلف كلامُه في ذلك؛ فتارةً يُثبِتُه، وتارةً يَنفيه، ثمَّ هذا الزِّنديقُ لم يُنكِرْ مُطلَقَ المعادِ، إنَّما أنكر بعد تسليمِه للمعادِ أن يكونَ فيه لذَّاتٌ حِسِّيَّةٌ جُسمانيَّةٌ، بل لذَّاتٌ عَقليَّةٌ رُوحانيَّةٌ، ثم تلقَّى عنه من هو شبيهٌ به من أهلِ الإسلامِ؛ ك
ابنِ سينا، فقَلَّده، ونقل عنه ما يفيدُ أنَّه لم يأتِ في الشَّرائِعِ السَّابقةِ على الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ إثباتُ المعادِ؛ تقليدًا لذلك اليهوديِّ الملعونِ الزِّنديقِ، مع أنَّ اليهودَ قد أنكَروا عليه هذه المقالةَ ولَعَنوه، وسَمَّوه كافِرًا)
[2455] يُنظر: ((إرشاد الثقات)) (ص: 14). .
وقال
ابنُ باز: (وهكذا لو أنكر البَعْثَ بعد الموتِ، أو أنكر الجَنَّةَ أو أنكر النَّارَ؛ كَفَر بإجماعِ المُسلِمين، ولو قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ؛ لأنَّ إنكارَه لهذه الأمورِ تكذيبٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتكذيبٌ لله فيما أخبَرَ به في كتابِه)
[2456] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/117). .
وقال
ابنُ عثيمين: (من كَذَّب بالبَعْثِ فهو كافِرٌ؛ لقَولِه تعالى:
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: 29، 30]، وقال تعالى:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 10-17]، وقال تعالى:
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان: 11] ، وقال تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [العنكبوت: 23] )
[2457] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) (ص: 145). .
وقال أيضًا: (قد أنكر الكافِرون البَعْثَ بعد الموتِ زاعمين أنَّ ذلك غيرُ ممكِنٍ، وهذا الزَّعمُ باطِلٌ دَلَّ على بُطلانِه الشَّرعُ والحِسُّ والعَقلُ.
أمَّا مِنَ الشَّرعِ فقد قال اللهُ تعالى:
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7] ، وقد اتَّفَقت جميعُ الكُتُب السَّماويَّةِ عليه.
وأمَّا الحِسُّ فقد أرى اللهُ عِبادَه إحياءَ الموتى في هذه الدُّنيا، وفي سورةِ البَقَرةِ خمسةُ أمثلةٍ على ذلك، وهي:
المثالُ الأوَّلُ: قومُ موسى حين قالوا له:
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فأماتهم اللهُ تعالى ثمَّ أحياهم، وفي ذلك يقولُ اللهُ تعالى مخاطِبًا بني إسرائيلَ:
وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [البقرة: 55، 56].
المثالُ الثَّاني: في قِصَّةِ القتيلِ الذي اختصم فيه بنو إسرائيلَ، فأمرهم اللهُ تعالى أن يذبَحوا بَقَرةً فيَضرِبوه ببَعْضِها؛ ليُخبِرَهم بمن قَتَله، وفي ذلك يقولُ اللهُ تعالى:
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة: 72، 73].
المثالُ الثَّالثُ: في قِصَّةِ القَومِ الذين خرجوا من ديارهم فرارًا من الموتِ وهم أُلوفٌ، فأماتهم اللهُ تعالى ثمَّ أحياهم، وفي ذلك يقولُ اللهُ تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُون [البقرة: 243].
المثالُ الرَّابعُ: في قِصَّةِ الذي مرَّ على قريةٍ مَيتةٍ فاستبعد أن يحييَها اللهُ تعالى، فأماته اللهُ تعالى مائةَ سَنةٍ ثمَّ أحياه، وفي ذلك يقولُ اللهُ تعالى:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 259] .
المثالُ الخامِسُ: في قِصَّةِ إبراهيمَ الخليلِ حين سأل اللهَ تعالى أن يُريَه كيف يحيي الموتى، فأمَرَه اللهُ تعالى أن يذبَحَ أربعةً مِن الطَّيرِ، ويُفَرِّقَهنَّ أجزاءً على الجبالِ التي حولَه، ثمَّ يناديهن، فتلتَئِمُ الأجزاءُ بعضُها إلى بعضٍ، ويأتينَ إلى إبراهيمَ سعيًا، وفي ذلك يقولُ اللهُ تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 260] .
فهذه أمثِلةٌ حِسِّيةٌ واقعةٌ تدُلُّ على إمكانِ إحياءِ الموتى، وقد سبق الإشارةُ إلى ما جعله اللهُ تعالى من آياتِ عيسى بنِ مريمَ في إحياءِ الموتى، وإخراجِهم من قبورِهم بإذنِ اللهِ تعالى.
وأمَّا دَلالةُ العَقلِ فمِن وَجهَين:
أحَدُهما: أنَّ اللهَ تعالى فاطِرُ السَّمواتِ والأرضِ وما فيهما، خالِقُهما ابتداءً، والقادِرُ على ابتداءِ الخَلقِ لا يَعجِزُ عن إعادتِه، قال اللهُ تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] ، وقال تعالى:
كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] ، وقال آمِرًا بالرَّدِّ على من أنكر إحياءَ العِظامِ وهي رميمٌ:
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 79] .
الثَّاني: أنَّ الأرضَ تكونُ مَيْتةً هامِدةً ليس فيها شجَرةٌ خَضراءُ، فيَنزِلُ عليها المطَرُ فتهتَزُّ خضراءَ حَيَّةً، فيها من كُلِّ زوجٍ بهيجٍ، والقادِرُ على إحيائِها بعد موتها قادِرٌ على إحياءِ الأمواتِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] ، وقال تعالى:
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9 - 11] )
[2458] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (5/ 131 - 134). .