المَطلَبُ الثاني: الهدايةُ والإضلالُ بيَدِ اللهِ تعالى وَحْدَه
هُدى العبدِ أو ضلالُه حقيقةً بيَدِ اللهِ لا يَقدِرُ على ذلك غيرُه. وإنما الدعاةُ إلى الخيرِ أو الشَّرِّ ليس بيَدِهم إلَّا مجرَّدُ توضيحِ الطَّريقِ والبيانِ والدعوةِ إلى الهُدى أو الضَّلالِ.
قال
ابنُ جرير: (الهدايةُ والإضلالُ بيَدِ اللهِ، والمهتدي وهو السَّالِكُ سَبيلَ الحَقِّ الرَّاكِبُ قَصْدَ المحجَّةِ في دينِه مَن هداه اللهُ لذلك، فوفَّقه لإصابتِه، والضَّالُّ من خذله اللهُ فلم يوفِّقْه لطاعتِه، ومن فعل اللهُ ذلك به فهو الخاسِرُ: يعني الهالِكَ)(
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 590). .
وقال أيضًا: (إنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيَدِه دون كُلِّ أحَدٍ سِواه)(
يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 534). .
وقال
الطحاوي: (يهدي من يشاءُ ويَعصِمُ ويُعافي فضلًا، ويُضِلُّ من يشاءُ ويَخذُلُ ويبتلي عدْلًا، وكلُّهم يتقَلَّبون في مشيئتِه بين فَضْلِه وعَدْلِه)(
يُنظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 36). .
وقال
أبو الحسَنِ الأشعريُّ: (أجمعوا على أنَّه عزَّ وجَلَّ غيرُ محتاجٍ إلى شيءٍ ممَّا خلق، وأنَّه تعالى يُضِلُّ من يشاءُ، ويهدي من يشاءُ، ويُعَذِّبُ من يشاءُ، ويُنعِمُ على من يشاءُ، ويُعِزُّ من يشاءُ، ويَغفِرُ لِمن يشاءُ، ويغني من يشاءُ. وأنَّه لا يُسألُ في شيءٍ من ذلك عمَّا يفعَلُ)(
يُنظر: ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 135). .
وقال
ابنُ بطَّة: (البابُ الثاني في ذِكْرِ ما أعلَمَنا اللهُ تعالى في كتابِه أنَّه يُضِلُّ من يشاءُ ويهدي من يشاءُ، وأنَّه لا يهتدي بالمُرسَلين والكُتُبِ والآياتِ والبراهينِ إلَّا من سبق في عِلمِ اللهِ أنَّه يهديه.
قال اللهُ عزَّ وجَلَّ في سورةِ النساءِ:
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] ، وفيها أيضًا:
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 143] ، وقال في سورةِ الأنعامِ:
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 39] ، وفيها:
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 149] ، وفيها:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] ، وفيها:
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111] ، وفيها:
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام: 35] ، وقال في سورةِ الأعرافِ:
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] ، وقال في سورةِ الرعدِ:
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد: 27] ، وقال فيها:
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلٍّ قَوٍمٍ هَادٍ [الرعد: 7] ، قال: أنت المنذِرُ، واللهُ الهادي، وقال فيها:
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا [الرعد: 31] ، وقال فيها:
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد: 33] ، وقال في سورةِ إبراهيمَ:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم: 4] ، وقال في سورةِ النحلِ:
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] ، وقال فيها:
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [النحل: 36، 37]، وقال في بني إسرائيل يعني: سورةَ الإسراءِ:
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ [الإسراء: 97]، وقال في الكهفِ:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف: 17] ، وقال في الحجِّ:
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ [الحج: 16] ، وقال في سورةِ النورِ:
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور: 35] ، ثم قال:
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] ، وفيها أيضًا:
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور: 46] ، وقال في القصص:
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56] ، وقال في الرومِ:
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الروم: 29] ، وقال في سجدةِ لقمان:
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] ، وقال في سورةِ الملائكةِ:
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8] ، وقال في الزمر:
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] ، وقال لنبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذه السُّورةِ:
وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر: 36، 37]، وقال في حم المؤمن:
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر: 33]، وقال في سورةِ المدثرِ:
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [المدثر: 31] .
ففي كُلِّ هذه الآياتِ يُعلِمُ اللهُ عزَّ وجَلَّ عبادَه المؤمنين أنَّه هو الهادي المضِلُّ، وأنَّ الرُّسُلَ لا يهتدي بها إلَّا من هداه اللهُ، ولا يأبى الهدايةَ إلَّا من أضلَّه اللهُ، ولو كان من اهتدى بالرُّسُلِ والأنبياءِ مُهتَدِيًا بغيرِ هدايتِه لكان كُلُّ من جاءهم المُرسَلون مهتدينَ؛ لأنَّ الرُّسُلَ بُعِثوا رحمةً للعالَمين ونصيحةً لِمن أطاعهم من الخليقةِ أجمعين، فلو كانت الهدايةُ إليهم لما ضلَّ أحدٌ جاؤوه؛ أمَا سَمِعتَ ما أخبَرَنا مولانا الكريمُ من نصيحةِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحِرْصِه على إيمانِنا حين يقولُ:
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ، وبالذي أخبَرَنا به عن خطابِ نوحٍ عليه السَّلامُ لقومِه
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود: 34] .
هذا من أحكامِ اللهِ وعَدْلِه الذي لا يجوزُ لأحدٍ أن يتفكَّرَ فيه ولا يظُنَّ فيه برَبِّه غيرَ العَدلِ، وأن يحمِلَ ما جَهِله من ذلك على نَفْسِه، ولا يقول: كيف بعث اللهُ عزَّ وجَلَّ نوحًا إلى قومِه وأمره بنصيحتِهم ودَلالتِهم على عبادتِه والإيمانِ به وبطاعتِه، واللهُ يُغويهم ويَحولُ بينهم وبين قَبولِ ما جاء به نوحٌ إليهم عن رَبِّه، حتى كذَّبوه وردُّوا ما جاء به؟! ولقد حرص نوحٌ في هدايةِ الضَّالِّ مِن ولَدِه، ودعا اللهَ أن ينجِيَه من أهلِه، فما أُجيبَ، وعاتبه اللهُ في ذلك بأغلَظِ العِتابِ حين قال نوحٌ:
رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] ، فقال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود: 46] ؛ وذلك أنَّ ابنَ نوحٍ كان ممن سبقت له من اللهِ الشِّقوةُ، وكُتِب في ديوانِ الضُّلَّالِ الأشقياءِ، فما أغنت عنه نبُوَّةُ أبيه ولا شفاعتُه فيه، فنَحمَدُ رَبَّنا أن خَصَّنا بعنايتِه، وابتَدَأَنا بهدايتِه من غيرِ شَفاعةِ شافعٍ ولا دعوةِ داعٍ، وإيَّاه نسألُ أن يتِمَّ ما به ابتَدَأَنا، وأن يُمسِّكَّنا بعُرى الدِّينِ الذي إليه هَدَانا، ولا يَنزِعَ مِنَّا صالِحًا أعطانا)(
يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (3/ 259-265). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (أهل السُّنَّة مُتَّفِقون على أنَّ غيرَ اللهِ لا يقدِرُ على جَعلِ الهدى أو الضَّلالِ في قَلبِ أحدٍ)(
يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 379). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (قد اتَّفَقت رسُلُ اللهِ، من أوَّلِهم إلى آخِرِهم، وكُتُبُه المنَزَّلةُ عليهم، على أنَّه سُبحانَه يُضِلُّ من يشاءُ، ويهدي من يشاءُ، وأنَّه من يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأنَّ الهدى والإضلالَ بيَدِه لا بيَدِ العَبدِ، وأنَّ العبدَ هو الضَّالُّ أو المهتدي؛ فالهدايةُ والإضلالُ فِعْلُه سُبحانَه وقَدَرُه، والاهتداءُ والضَّلالُ فِعلُ العَبدِ وكَسْبُه)(
يُنظر: ((شفاء العليل)) (ص: 179). .
وقال
ابنُ كثير: (هو الذي يهدي من يشاءُ، ويُضِلُّ من يشاءُ، وله الحِكْمةُ في ذلك، والحُجَّةُ البالغةُ؛ ولهذا قال:
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي: هو عليمٌ بمن يستحِقُّ الهدايةَ ممَّن يستحِقُّ الضَّلالةَ، وهو الذي
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 33] وما ذاك إلَّا لحِكْمَتِه ورحمتِه)(
يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 26). .
وقال
السَّعديُّ في تفسيرِ قَولِه تعالى:
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 93] ، (أي:
لَوْ شَاءَ اللَّهُ لجمعَ النَّاسَ على الهدى وجعَلَهم
أُمَّةً وَاحِدَةً، ولكِنَّه تعالى المنفَرِدُ بالهدايةِ والإضلالِ، وهدايتُه وإضلالُه من أفعالِه التابعةِ لعِلْمِه وحِكْمَتِه، يعطي الهدايةَ من يستحِقُّها فضلًا ويمنَعُها من لا يستحِقُّها عدلًا.
وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خيرٍ وشَرٍّ، فيجازيكم عليها أتمَّ الجزاءِ وأعدَلَه)(
يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 448). .
وقال أيضًا في تفسيرِ قَولِه تعالى:
فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] : (
فَلَمَّا زَاغُوا أي: انصَرَفوا عن الحقِّ بقَصْدِهم
أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عُقوبةً لهم على زَيغِهم الذي اختاروه لأنْفُسِهم ورَضُوه لها، ولم يوفِّقْهم اللهُ للهدى؛ لأنهم لا يليقُ بهم الخيرُ، ولا يَصلُحون إلَّا للشَّرِّ،
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أي: الذين لم يَزَلِ الفِسقُ وصفًا لهم، ليس لهم قَصْدٌ في الهدى، وهذه الآيةُ الكريمةُ تُفيدُ أنَّ إضلالَ اللهِ لعِبادِه ليس ظُلمًا منه، ولا حُجَّةً لهم عليه، وإنما ذلك بسببٍ منهم؛ فإنهم الذين أغلقوا على أنْفُسِهم بابَ الهدى بعد ما عرَفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلالِ والزَّيغِ الذي لا حيلةَ لهم في دَفْعِه وتقليبِ القُلوبِ؛ عقوبةً لهم وعدلًا منه بهم، كما قال تعالى:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] )(
يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 859). .
وإنَّ كَونَ الهِدايةِ والإضلالِ بيَدِ اللهِ تعالى حقيقةً لا يمنَعُ العَبدَ مِن عَمَلِ الصَّالِحاتِ والسَّعيِ للخَيراتِ واكتِسابِ الحَسَناتِ واجتِنابِ السَّيِّئاتِ؛ فإنَّ للهِدايةِ والإضلالِ أسبابًا تؤدِّي إليهما.وممَّا يوضِّحُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى:
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 4 - 10] .
قال
ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ تلك الآياتِ: (كما قال تعالى:
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] ، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ دالَّةٌ على أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يجازي من قَصَد الخيرَ بالتوفيقِ له، ومن قَصَد الشَّرَّ بالخِذْلانِ. وكُلُّ ذلك بقَدَرٍ مُقَدَّرٍ، والأحاديثُ الدَّالَّةُ على هذا المعنى كثيرةٌ)(
يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 417). .
وقال أيضًا: (إنَّ المرءَ يموت غالِبًا على ما كان عليه، ويُبعَثُ على ما مات عليه. وقد أجرى اللهُ الكريمُ عادتَه بأنَّ من قصدَ الخيرَ وُفِّق له ويُسِّرَ عليه، ومن نوى صالحًا ثبت عليه)(
يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 446). .
وقال
السَّعديُّ: (
فَسُنَيِّسُرُهُ لِلْيُسْرَى أي: نُسَهِّلُ عليه أمرَه، ونجعَلُه مُيَسَّرًا له كُلُّ خيرٍ، مُيَسَّرًا له تَركُ كُلِّ شَرٍّ؛ لأنَّه أتى بأسبابِ التيسيرِ، فيسَّر اللهُ له ذلك...
فَسُنَيِّسُرُهُ لِلْعُسْرَى أي: للحالةِ العَسِرةِ، والخِصالِ الذَّميمةِ، بأن يكونَ مُيَسَّرًا للشَّرِّ أينما كان، ومقيَّضًا له أفعالُ المعاصي، نسألُ اللهَ العافيةَ)(
يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 926). .
وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جِنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الأَرْضَ. فَقَالَ:
((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ:
((اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ؛ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى))(
أخرجه البخاري (4949) واللَّفظُ له، ومسلم (2647). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (سُئِلَ
الحسَنُ البَصريُّ عن القَدَرِ، فقال: إنَّ اللهَ خلق الخَلْقَ للابتلاءِ، لم يطيعوه بإكراهٍ منه، ولم يَعْصُوه بغَلَبةٍ، ولم يُهمِلْهم من المملَكةِ، بل كان المالِكَ لِما ملَّكَهم فيه، والقادِرَ لِما قَدَّره عليهم، فإنْ تأثَّمَ العِبادُ بطاعةِ اللهِ لم يكُنْ اللهُ صادًّا عنها ولا مُبَطِّئًا، بل يزيدُهم هُدًى إلى هداهم، وتقوى إلى تقواهم، وإنْ تأثَّم العِبادِ بمعصيةِ اللهِ كان القادِرَ على صَرْفِهم، إن شاء فعل، وإن شاء خلَّى بينهم وبين المعصيةِ فيَكسِبونَها، فمِن بعد الإعذارِ والإنذارِ للهِ الحُجَّةُ البالغةُ، لا يُسأَلُ عمَّا يَفعَلُ وهم يُسأَلون، فلو شاء لهداكم أجمعينَ.
وقال المهلَّبُ: في حديثِ عِمرانَ
((كُلٌّ يعمَلُ لِما خُلِق له))(
أخرجه البخاري (6596). وأخرجه مسلم (2649) بلفظ: ((كل ميسر لما خلق له)) حجةٌ لأهل السُّنَّة على المُجْبِرة من أهلِ القَدَرِ، وذلك قَولُه: «اعملوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِق له»، ولم يقُلْ: فكُلٌّ مُجبَرٌ على ما خُلِقَ له، وإنما أراد لِما خُلِق له من عمَلِه للخَيرِ أو للشَّرِّ)(
يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 300). .
وقال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (حاصِلُ هذا السؤالِ أنَّه إذا وجبت السعادةُ والشقاوةُ بالقَضاءِ الأزَليِّ، والقَدَرِ الإلهيِّ، فلا فائدةَ للتكليفِ، ولا حاجةَ بنا إلى العَمَلِ، فنترُكُه، وهذه أعظَمُ شُبَهِ النَّافين للقدَرِ، وقد أجابهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما لا يبقى معه إشكالٌ، فقال:
((اعملوا؛ فكُلٌّ ميسَّرٌ لِما خُلِق له))، ثم قرأ:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى الآيات، ووجهُ الانفِصالِ: أنَّ اللهَ تعالى أمرنا بالعَمَلِ، فلا بدَّ مِن امتِثالِ أمْرِه، وغيَّب عنا المقاديرَ لقيامِ حُجَّتِه وزَجْرِه، ونَصَب الأعمالَ علامةً على ما سبق في مشيئتِه وحِكْمَتِه وعِزِّه
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لا يبقى معها لقائِلٍ مَقولٌ، وقَهر
وَهُمْ يُسْأَلُونَ يخضَعُ له المتكبِّرون. وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم أنَّ مَورِدَ التكليفِ: فِعلُ الاختيارِ، وأنَّ ذلك ليس مناقِضًا لِما سبقت به الأقدارُ)(
يُنظر: ((المفهم)) (6/ 658). .
قال
مالكٌ: (لم نُؤمَرْ أن نتَّكِلَ على القَدَرِ، وإليه نصيرُ)(
يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/551). .
وقال
أبو المظفر السمعاني: (قد دعا اللهُ الخَلْقَ إلى الوحدانيَّةِ والأقدارِ معًا: فالتوحيدُ لوحدانيَّتِه، والتقديرُ لرُبوبيَّتِه، والإذنُ قُدرتُه، فكما لا يجوزُ إبطالُ وَحدانيَّتِه كذلك إبطالُ رُبوبيَّتِه وقُدرتِه. وهو التقديرُ والإذْنُ...
فنظيرُ الأعمالِ مِنَ الطَّاعاتِ والمعاصي أكسابُ العِبادِ في الدُّنيا، ونظيرُ القَضاءِ والتقديرِ من اللهِ تعالى لأعمالِ العِبادِ قِسمةُ الأرزاقِ بينهم؛ فالأكسابُ مِنَ النَّاسِ في الدُّنيا حاصِلةٌ في أمورِ معاشِهم، والأرزاقُ من اللهِ مقسومةٌ لا تزدادُ ولا تنقُصُ، وأكسابُهم من الأقدارِ أيضًا، فلا بدَّ من وصولِ الأرزاقِ إليهم على ما قَسَمه اللهُ تعالى، كذلك الطَّاعاتُ والمعاصي من الخَلْقِ حاصِلةٌ في أمورِ آخِرَتِهم، والقَضاءُ بأمرِ اللهِ والأقدارُ جاريةٌ عليهم في آخرتهم، وأعمالُ آخِرَتِهم لا يزدادُ عليها شيءٌ، ولا ينتَقِصُ منها شيءٌ، وأعمالهم من الأقدارِ أيضًا، ولا بدَّ مِن مَصيرهم إلى ما قضى اللهُ لهم وعليهم)(
يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) للأصبهاني (2/51-55). .
وأورد
أبو حامدٍ الغزاليُّ إشكالًا، ثم أجاب عنه، فقال: (إنَّ الأمرَ إذا كان مفروغًا منه، ففيم العَمَلُ؟ وقد فَرَغ هو عن سَبَبِ السعادةِ والشقاوةِ؟... فجوابُه قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اعملوا؛ فكُلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلِق له))، ومعناه أنَّ من قُدِّرَت له السعادةُ قُدِّرت بسَبَبٍ، فيتيسَّرُ له أسبابُها، وهو الطاعةُ، ومن قُدِّرت له الشقاوةُ -والعياذُ باللهِ- قُدِّرت بسَبَبٍ، وهو بطالَتُه عن مباشرةِ أسبابِها، وقد يكونُ سَبَبُ بطالَتِه أن يستقِرَّ في خاطِرِه أني إن كنت سعيدًا فلا أحتاجُ إلى العَمَلِ، وإن كنتُ شقيًّا فلا ينفعُني العَمَلُ، وهذا جَهلٌ؛ فإنه لا يدري أنَّه إن كان سعيدًا فإنما يكونُ سعيدًا لأنَّه يجري عليه أسبابُ السَّعادةِ مِن العِلْمِ والعَمَلِ، وإن لم يتيسَّرْ له ذلك ولم يجْرِ عليه فهو أمارةُ شَقاوتِه.
ومثالُه: الذي يتمنَّى أن يكونَ فقيهًا بالغًا درجةَ الإمامةِ، فيقالُ له: اجتَهِدْ وتعَلَّمْ وواظِبْ، فيقولُ: إن قضى اللهُ عزَّ وجَلَّ لي في الأزَلِ بالإمامةِ فلا أحتاجُ إلى الجُهدِ، وإن قضى لي بالجَهلِ فلا ينفَعُني الجُهدُ، فيقال له: إن سُلِّط عليك هذا الخاطِرُ فهذا يدُلُّ على أنَّه قضى لك بالجهلِ، فإنَّ من قضى له في الأزَلِ بالإمامةِ فإنما يقضيها بأسبابِها، فيجري عليه الأسبابُ، ويستعمِلُه بها، ويدفَعُ عنه الخواطِرَ التي تدعوه إلى الكَسَلِ والبطالةِ، بل الذي لا يجتَهِدُ لا ينالُ درجةَ الإمامةِ قطعًا، والذي يجتَهِدُ ويتيسَّرُ له أسبابُها يَصدُقُ رجاؤه في بلوغِها إن استقام على جُهدِه إلى آخِرِ أمْرِه، ولم يستقبِلْه عائِقٌ يقطَعُ عليه الطريقَ، فكذلك ينبغي أن يُفهَمَ أنَّ السعادةَ لا ينالُها إلَّا من أتى اللهَ بقَلبٍ سليمٍ، وسلامةُ القَلبِ صِفةٌ تُكتَسَبُ بالسَّعيِ، كفِقهِ النَّفسِ، وصِفةِ الإمامةِ، مِن غيرِ فَرقٍ)(
يُنظر: ((المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى)) (ص: 96). .
وسُئِلَ
ابن تيميَّةَ: إذا كان سَبَق في عِلمِ اللهِ وتقديرِه سعادةُ هذا أو شقاوةُ ذاك؛ فلا وَجْهَ لإتعابِ النَّفسِ في عَمَلٍ؛ فإنَّ المكتوبَ واقِعٌ لا محالةَ. فقال: (هذه المسألةُ قد أجاب فيها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غيرِ حديثٍ... وقد بيَّن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ ذلك لا ينافي وجودَ الأعمالِ التي بها تكونُ السعادةُ والشقاوةُ، وأنَّ من كان من أهلِ السَّعادةِ فإنَّه يُيَسَّرُ لعَمَلِ أهلِ السَّعادةِ، ومن كان من أهلِ الشَّقاوةِ فإنَّه يُيَسَّرُ لعمَلِ أهلِ الشَّقاوةِ، وقد نهِيَ أن يتَّكِلَ الإنسانُ على القَدَرِ السَّابِقِ ويدَعَ العَمَلَ؛ ولهذا كان من اتَّكَلَ على القَدَرِ السَّابقِ وتَرَك ما أُمر به من الأعمالِ هو من الأخسَرِين أعمالًا، الذين ضَلَّ سَعيُهم في الحياةِ الدُّنيا، وكان تركُهم لِما يجِبُ عليهم من العَمَلِ مِن جُملةِ المقدورِ الذي يُسِّروا به لعَمَلِ أهلِ الشقاوةِ، فإنَّ أهلَ السعادةِ هم الذين يفعلون المأمورَ ويتركون المحظورَ، فمن ترك العَمَلَ الواجِبَ الذي أُمِر به وفَعَل المحظورَ متَّكِلًا على القَدَرِ، كان من جملةِ أهلِ الشقاوةِ المُيَسَّرين لعملِ أهلِ الشقاوةِ... وذلك لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى هو يَعلَمُ الأشياءَ على ما هي عليه، وكذلك يكتُبُها، فإذا كان قد علم أنها تكونُ بأسبابٍ من عَمَلٍ وغيرِه، وقضَى أنها تكونُ كذلك، وقدَّر ذلك، لم يَجُزْ أن يُظَنَّ أن تلك الأمورَ تكونُ بدونِ الأسبابِ التي جعلها اللهُ أسبابًا، وهذا عامٌّ في جميعِ الحوادِثِ. مثالُ ذلك: إذا علم اللهُ وكتب أنَّه سيُولَدُ لهذين ولَدٌ، وجعل اللهُ سُبحانَه ذلك معلَّقًا باجتماعِ الأبوَينِ على النكاحِ، وإنزالِ الماءِ المَهِينِ الذي ينعَقِدُ منه الوَلَدُ، فلا يجوزُ أن يكونَ وجودُ الوَلَدِ بدونِ السَّبَبِ الذي عُلِّق به وجودُ الوَلَدِ)(
يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/272-276). .
وقال
ابنُ عاشورٍ في معنى حديثِ:
((اعْملُوا؛ فكُلٌّ ميَسَّرٌ لِما خُلقَ له)): (خلاصةُ الحديثِ أنَّه بيانٌ للفَرقِ بين تعلُّقِ عِلمِ اللهِ بأعمالِ عِبادِه قبل أن يَعمَلوها، وبين تعَلُّقِ خِطابِه إيَّاهم بشرائِعِه، وأنَّ ما يصدُرُ عن النَّاسِ مِن أعمالٍ ظاهِرةٍ وباطنةٍ إلى خاتمةِ كُلِّ أحدٍ وموافاتِه هو عنوانٌ للنَّاسِ على ما كان قد عَلِمَه اللهُ، ويلتقي المَهْيَعان في أنَّ العَمَلَ هو وسيلةُ الحُصولِ على الجنَّةِ، أو الوقوعِ في جَهنَّمَ)(
يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 386). .