تاسعًا: طاعةُ اللهِ وتَعظيمُ حُرُماتِه
مِنَ الأدَبِ مَعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: طاعَتُه فيما أمَرَ، والِابتِعادُ عَمَّا نَهى عنه وزَجَرَ، وتَعظيمُ حُرُماتِه
[109]قال العزُّ بنُ عبد السلامِ: (مَن عظَّم الحُرُماتِ هابَها فلم يُقْدِمْ عليها). ((شجرة المعارف)) (ص: 60). وقال ابنُ القَيِّمِ: (أوَّلُ مَراتِبِ تَعظيمِ الحَقِّ عَزَّ وجَلَّ تَعظيمُ أمرِه ونَهيِه، وذلك المُؤمِنُ يَعرِفُ رَبَّه عَزَّ وجَلَّ برِسالَتِه التي أرسَلَ بها رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّاسِ كافَّةً، ومُقتَضاها الِانقيادُ لأمرِه ونَهيِه، وإنَّما يَكونُ ذلك بتَعظيمِ أمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ واتِّباعِه، وتَعظيمِ نَهيِه واجتِنابِه، فيَكونُ تَعظيمُ المُؤمِنِ لأمرِ اللهِ تعالى ونَهيِه دالًّا على تَعظيمِه لصاحِبِ الأمرِ والنَّهيِ). ((الوابل الصيب)) (ص: 10). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ: أ- مِنَ الكتابِ1- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
2- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 20 - 25] .
3- قال تعالى:
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: 51 - 54] .
4- قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد: 33] .
5- قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء: 66 - 70] .
6- قال تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 13-14] .
7- قال تعالى:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] .
8- قال تعالى:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: 23] .
9- قال تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة: 187] ،
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229] ،
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1] .
قال السَّعديُّ: (أمَّا حُدودُ اللهِ فهيَ ما حَدَّه لعِبادِه مِنَ الشَّرائِعِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ التي أمَرَهم بفِعلِها، والمُحَرَّماتِ التي أمَرَهم بتَركِها؛ فالحِفظُ لَها يَكونُ بأداءِ الحُقوقِ اللَّازِمةِ، وتَركِ المُحَرَّماتِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ.
ويَتَوقَّفُ هذا الفِعلُ وهذا التَّركُ على مَعرِفةِ الحُدودِ على وَجهِها؛ ليَعرِفَ ما يَدخُلُ في الواجِباتِ والحُقوقِ، فيُؤَدِّيَها على ذلك الوَجهِ كامِلةً غَيرَ ناقِصةٍ، وما يَدخُلُ في المُحرَّماتِ ليَتَمَكَّنَ مِن تَركِها؛ ولهذا ذَمَّ اللَّهُ مَن لم يَعرِفْ حُدودَ ما أنزَلَ اللهُ على رَسولِه، وأثنى على مَن عَرَف ذلك.
وحَيثُ قال اللهُ تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا كان المُرادُ بها: ما أحَلَّه لعِبادِه، وما فصَّلَه مِنَ الشَّرائِعِ؛ فإنَّه نَهى عن مُجاوزَتِها وأمرَ بمُلازَمتِها.
كَما أمَرَ بمُلازَمةِ ما أحَلَّه مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ واللِّباسِ والنِّكاحِ، ونَهى عن تَعَدِّي ذلك إلى ما حُرِّمَ مِنَ الخَبائِثِ.
وكَما أمَرَ بمُلازَمةِ ما شَرَعَه مِنَ الأحكامِ في النِّكاحِ والطَّلاقِ والعِدَّةِ وتَوابِعِ ذلك، ونَهى عن تَعَدِّي ذلك إلى فِعلِ ما لا يَجوزُ شَرعًا.
وكَما أمَرَ بالمُحافظةِ على ما فصَّلَه مِن أحكامِ المَواريثِ ولُزومِ حَدِّه، ونَهى عن تَعَدِّي ذلك، وتَوريثِ مَن لا يَرِثُ، وحِرمانِ مَن يَرِثُ، وتَبديلِ ما فرَضَه وفصله بغَيرِه.
وحَيثُ قال تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كان المُرادُ بذلك المُحَرَّماتِ؛ فإنَّ قَولَه:
فَلَا تَقْرَبُوهَا نَهيٌ عن فِعلِها، ونَهيٌ عن مُقدِّماتِها وعن أسبابِها الموصِلةِ إليها والموقِعةِ فيها.
كَما نَهاهم عنِ المُحرَّماتِ على الصَّائِمِ، وبَيَّنَ لَهم وقتَ الصِّيامِ، فقال:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187] ... وكَما بَيَّنَ المُحَرَّماتِ في قَولِه:
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32] ،
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام: 152] .
فالخَيرُ والسَّعادةُ والفلاحُ في مَعرِفةِ حُدودِ اللهِ، والمُحافظةِ عليها. كَما أنَّ أصلَ كُلِّ الشَّرِّ وأسبابِ العُقوباتِ الجَهلُ بحُدودِ اللهِ، أو تَركُ المُحافظةِ عليها، أوِ الجَمعُ بَينَ الشَّرَّينِ. واللهُ أعلَمُ)
[110] ((القواعد الحسان)) (ص: 74، 75). .
10- قال تعالى:
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج: 30] .
أي: ومَن يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ، فيَجتَنِبْ ما أمَرَه اللهُ باجتِنابِه؛ تَعظيمًا مِنه لحُدودِ اللهِ أن يواقِعَها أو يَستَحِلَّها- فهو خَيرٌ لَه عِندَ رَبِّه في دينِه ودُنياه وآخِرَتِه
[111] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (18/ 172). قال السَّعديُّ: (تَعظيمُ حُرُماتِ اللهِ مِنَ الأُمورِ المَحبوبةِ للَّهِ، المُقَرِّبةِ إليه، التي مَن عَظَّمها وأجلَّها أثابَه اللهُ ثَوابًا جَزيلًا، وكانت خَيرًا لَه في دينِه ودُنياه وأخراه عِندَ رَبِّه. وحُرُماتُ اللهِ: كُلُّ ما لَه حُرمةٌ، وأُمِر باحتِرامِه بعِبادةٍ أو غَيرِها، كالمَناسِكِ كُلِّها، وكالحَرَمِ والإحرامِ، وكالهَدايا، وكالعِباداتِ التي أمَر اللَّهُ العِبادَ بالقيامِ بها، فتَعظيمُها إجلالُها بالقَلبِ، ومَحَبَّتُها، وتَكميلُ العُبوديَّةِ فيها، غَيرَ مُتَهاوِنٍ، ولا مُتَكاسِلٍ، ولا مُتَثاقِلٍ). ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 537). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ أي: ومَن يَجتَنِبْ مَعاصيَه ومَحارِمَه، ويَكونُ ارتِكابُها عَظيمًا في نَفسِه،
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي: فلَه على ذلك خَيرٌ كَثيرٌ وثَوابٌ جَزيلٌ، فكَما على فِعلِ الطَّاعاتِ ثَوابٌ جَزيلٌ وأجرٌ كَبيرٌ، كذلك على تَركِ المُحرَّماتِ واجتِنابِ المَحظوراتِ)
[112] ((تفسير القرآن العظيم)) (5/ 419). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((لمَّا نَزَلَت على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284] ، قال: فاشتَدَّ ذلك على أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتَوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ بَرَكوا على الرُّكَبِ، فقالوا: أيْ رَسولَ اللهِ، كُلِّفْنا مِنَ الأعمالِ ما نُطيقُ: الصَّلاةَ، والصِّيامَ، والجِهادَ، والصَّدَقةَ، وقد أُنزِلَت عليك هذه الآيةُ ولا نُطيقُها! قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أتُريدونَ أن تَقولوا كما قال أهلُ الكِتابَينِ مِن قَبلِكُم: سَمِعْنا وعَصَينا؟! بَل قولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفرانَك رَبَّنا وإليك المَصيرُ)) قالوا: سَمِعْنا وأطَعْنا، غُفرانَك رَبَّنا وإليك المَصيرُ! فلَمَّا اقتَرَأها القَومُ ذَلَّت بها ألسِنَتُهم، فأنزَلَ اللهُ في إثرِها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ إلى قوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة 285] فلَمَّا فعَلوا ذلك نَسخَها اللهُ تعالى، فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال: نَعَم، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال: نَعَم رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قال: نَعَم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة 286] قال: نَعَم)) [113] أخرجه مسلم (125). .
2- عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((مُرَّ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَهوديٍّ مُحَمَّمًا [114] التَّحميمُ: تَسويدُ الوَجهِ، مِنَ الحَميمِ، جَمعُ: حُمَمةٍ، وهيَ: الفَحمةُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (2/ 117). مَجلودًا، فدَعاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هَكَذا تَجِدونَ حَدَّ الزَّاني في كِتابِكُم؟ قالوا: نَعَم، فدَعا رَجُلًا مِن عُلَمائِهم، فقال: أنشُدُك [115] نَشَدتُ فُلانًا أَنشُدُه نَشدًا: إذا قُلتَ له: نَشَدتُك اللَّهَ، أي: سَألتُك باللهِ، كَأنَّك ذَكَّرتَه إيَّاه فنَشَدَ، أي: تَذَكَّر. ويُقالُ: نَشَدتُك اللَّهَ، وأَنشُدُك اللَّهَ وباللهِ، وناشَدتُك اللَّهَ وباللهِ: أي ذَكَّرتُك به واستَعطَفتُك، أو سَألتُك به مُقسِمًا عليك. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/ 543)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 53)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 605). باللهِ الذي أنزَلَ التَّوراةَ على موسى، أهَكَذا تَجِدونَ حَدَّ الزَّاني في كِتابِكُم؟ قال: لا، ولَولا أنَّك نَشَدتَني بهذا لم أخبِرْك، نَجِدُه الرَّجمَ، ولَكِنَّه كَثُرَ في أشرافِنا، فكُنَّا إذا أخَذنا الشَّريفَ تَرَكناه، وإذا أخَذنا الضَّعيفَ أقَمنا عليه الحَدَّ، قُلنا: تَعالَوا فلنَجتَمِعْ على شَيءٍ نُقيمُه على الشَّريفِ والوضيعِ، فجَعَلنا التَّحميمَ والجَلدَ مَكانَ الرَّجمِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهُمَّ إنِّي أوَّلُ مَن أحيا أمرَك إذ أماتوه، فأمَر به فرُجِمَ، فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة: 41] إلى قَولِه: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ [المائدة: 41] ، يَقولُ: ائتوا مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإن أمرَكُم بالتَّحميمِ والجَلدِ فخُذوه، وإن أفتاكُم بالرَّجمِ فاحذَروا، فأنزَلَ اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ في الكُفَّارِ كلُّها)) [116] أخرجه مسلم (1700). .
3- عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ -وأهوى النُّعمانُ بإصبَعَيه إلى أُذُنَيه-:
((إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَينَهما مُشتَبِهاتٌ لا يَعلَمُهنَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ، فمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استَبرَأ لدينِه وعِرضِه [117] استَبرَأ لدينِه وعِرضِه: أي: حَصَل له البَراءةُ لدينِه مِنَ الذَّمِّ الشَّرعيِّ، وصانَ عِرضَه عن كَلامِ النَّاسِ فيه. والعِرضُ قيل: هو بَدَنُ الإنسانِ ونَفسُه، وقيل: هو مَوضِعُ المَدحِ والذَّمِّ مِن نَفسِه أو سَلفِه أو مَن نُسِبَ إليه، وقيل: ما يَصونُه مِن نَفسِه وحَسَبِه. ومَعنى الحَديثِ: مَن تَرَكَ ما يَشتَبِهُ عليه سَلِمَ دينُه مِمَّا يُفسِدُه أو يَنقُصُه، وعِرضُه مِمَّا يَشينُه ويَعيبُه، فيَسلَمُ مِن عِقابِ اللهِ وذَمِّه، ويَدخُلُ في زُمرةِ المُتَّقينَ الفائِزينَ بثَناءِ اللهِ تعالى وثَوابِه. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (4/ 490)، ((شرح مسلم)) للنووي (11/ 28)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 155). ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحَرامِ [118] قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (قَولُه: «ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ» وذلك يَكونُ بوجهَينِ: أحَدُهما: أنَّ مَن لم يَتَّقِ اللَّهَ تعالى، وتَجَرَّأ على الشُّبُهاتِ، أفضَت به إلى المُحَرَّماتِ بطَريقِ اعتيادِ الجُرأةِ، والتَّساهُلِ في أمرِها، فيَحمِلُه ذلك على الجُرأةِ على الحَرامِ المَحضِ؛ ولهذا قال بَعضُ المُتَّقينَ: الصَّغيرةُ تَجُرُّ إلى الكَبيرةِ، والكَبيرةُ تَجُرُّ إلى الكُفرِ... وهو مَعنى قَولِه تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] . وثانيهما: أنَّ مَن أكثَرَ مِن مواقَعةِ الشُّبُهاتِ أظلمَ عَليه قَلبُه؛ لفِقدانِ نورِ العِلمِ، ونورِ الورَعِ، فيَقَعُ في الحَرامِ، ولا يَشعُرُ به. وإلى هذا النُّورِ الإشارةُ بقَولِه تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر: 22] ، وإلى ذلك الإظلامِ الإشارةُ بقَولِه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزَّمر: 22] ). ((المفهم)) (4/ 493). ، كالرَّاعي يَرعى حَولَ الحِمى [119] الحِمَى: هو المَرعى الذي يَحميه السُّلطانُ مِن أن يَرتَعَ مِنه غَيرُ رُعاةِ دَوابِّه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/ 1892). ، يوشِكُ أن يَرتَعَ [120] يَرتَعَ: مِنَ الرَّتعِ، وهو أكلُ الماشيةِ مِنَ المَرعى، وأصلُه الإقامةُ فيه والتَّبَسُّطُ في الأكلِ والشُّربِ. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (4/ 494)، ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (7/ 304). فيه [121] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه: «كالرَّاعي حَولَ الحِمى يوشِكُ أن يَرتَعَ فيه» هذا مَثَلٌ ضَربَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَحارِمِ اللهِ تعالى. وأصلُه: أنَّ مُلوكَ العَرَبِ كانت تَحمي مَراعيَ لمَواشيها الخاصَّةِ بها، وتُحَرِّجُ بالتَّوعُّدِ بالعُقوبةِ على مَن قَربَها. فالخائِفُ مِن عُقوبةِ السُّلطانِ يبعدُ بماشيَتِه مِن ذلك الحِمى؛ لأنَّه إن قَرُبَ مِنه فالغالِبُ الوُقوعُ وإن كَثُرَ الحَذَرُ؛ إذ قد تَنفرِدُ الفاذَّةُ، وتَشِذُّ الشَّاذَّةُ ولا تَنضَبطُ، فالحَذَرُ أن يَجعَلَ بَينَه وبَينَ ذلك الحِمى مَسافةً بحَيثُ يَأمَنُ فيها مِن وُقوعِ الشَّاذَّةِ والفاذَّةِ. وهَكَذا مَحارِمُ اللهِ تعالى، لا يَنبَغي أن يَحومَ حَولَها؛ مَخافةَ الوُقوعِ فيها على الطَّريقَتَينِ المُتَقدِّمَتَينِ) ((المفهم)) (4/ 493). ، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمى اللَّهِ مَحارِمُه، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضغةً إذا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألا وهيَ القَلبُ)) [122] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) واللفظ له. .
4- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها قالت:
((خَسَفت الشَّمسُ في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ، فقامَ فأطالَ القيامَ، ثُمَّ رَكَعَ فأطالَ الرُّكوعَ، ثُمَّ قامَ فأطالَ القيامَ، وهو دونَ القيامِ الأوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ فأطالَ الرُّكوعَ، وهو دونَ الرُّكوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ فأطالَ السُّجودَ، ثُمَّ فعَلَ في الرَّكعةِ الثَّانيةِ مِثلَ ما فعَلَ في الأولى، ثُمَّ انصَرَف وقدِ انجَلَتِ الشَّمسُ، فخَطَبَ النَّاسَ، فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال: إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيَتانِ مِن آياتِ اللهِ، لا يَخسِفانِ لمَوتِ أحَدٍ ولا لحَياتِه، فإذا رَأيتُم ذلك فادعُوا اللَّهَ وكَبِّروا وصَلُّوا وتَصَدَّقوا.
ثُمَّ قال: يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، واللهِ ما مِن أحَدٍ أغيَرُ مِنَ اللهِ أن يَزنيَ عَبدُه أو تَزنيَ أمَتُه، يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ واللهِ لَو تَعلَمونَ ما أعلَمُ لضَحِكتُم قَليلًا ولبَكَيتُم كَثيرًا)) [123] أخرجه البخاري (1044) واللفظ له، ومسلم (901). .
5- عنِ الحارِثِ بنِ سُوَيدٍ، قال: حَدَّثَنا عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ حَديثَينِ: أحَدُهما عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والآخَرُ عن نَفسِه، قال:
((إنَّ المُؤمِنَ يَرى ذُنوبَه كَأنَّه قاعِدٌ تَحتَ جَبَلٍ يَخافُ أن يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرى ذُنوبَه كَذُبابٍ مَرَّ على أنفِه، فقال به هَكَذا، قال أبو شِهابٍ -أحَدُ الرُّواةِ-: بيَدِه فوقَ أنفِه)) [124] أخرجه البخاري (6308) واللفظ له، ومسلم (2744). .
و(إنَّما كانت هذه صِفةَ المُؤمِنِ لشِدَّةِ خَوفِه مِنَ العُقوبةِ؛ لأنَّه على يَقينٍ مِنَ الذَّنبِ، وليسَ على يَقينٍ مِنَ المَغفِرةِ، والفاجِرُ قَليلُ المَعرِفة باللهِ؛ فلذلك قَلَّ خَوفُه فاستَهانَ بالمَعاصي)
[125] ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 287). .
فـ(المُؤمِنُ يَنظُرُ إلى عَظَمةِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ جَلالُه وعَزَّ سُلطانُه- وغِناه عن خَلقِه وفَقرِ خَلقِه إليه، وأنَّ يَسيرَ المَعصيةِ له جَلَّ جَلالُه ليسَ بيَسيرٍ عِندَ المُؤمِنِ؛ فلذلك يَرى كَأنَّه قاعِدٌ تَحتَ جَبَلٍ مِن خَوفِ ما أتى، وأمَّا الفاجِرُ فلا يَرى مِن ذلك ما يَراه المُؤمِنُ؛ فلذلك يَستَخِفُّ الأمرَ في المَعصيةِ للَّهِ)
[126] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (2/ 42). .
(ودَلَّ التَّمثيلُ الأوَّلُ على غايةِ الخَوفِ والاحتِرازِ مِنَ الذُّنوبِ، والثَّاني على نِهايةِ قِلَّةِ المُبالاةِ والاحتِفالِ بها)
[127] ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (9/ 178). .
(فينبغي لمَن أرادَ أن يَكونَ مِن جُملةِ المُؤمِنينَ أن يَخشى ذُنوبَه، ويَعظُمَ خَوفُه مِنها، ولا يَأمَنَ عِقابَ اللهِ عليها فيَستَصغِرَها؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى يُعَذِّبُ على القَليلِ، وله الحُجَّةُ البالغةُ في ذلك)
[128] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (10/ 81). .
(فكُلَّما عَظَّمَ الإنسانُ ذَنبَه صَغُر عِندَ اللهِ، وإذا احتَقَرَه عَظُم عِندَ اللهِ)
[129] ((شرح سنن أبي داود)) لابن رسلان (11/ 414). .
فَوائِدُ:1- قال ابنُ عَقيلٍ الحَنبَليُّ: (لَقد عَظَّمَ اللهُ -سُبحانَه- الحَيَوانَ، لا سيَّما ابنِ آدَمَ؛ حَيثُ أباحَه الشِّركَ عِندَ الإكراهِ وخَوفِ الضَّرَرِ على نَفسِه، فقال:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106] .
مَن قدَّمَ حُرمةَ نَفسِك على حُرمَتِه، حتَّى أباحَك أن تَتَوقَّى وتُحاميَ عن نَفسِك بذِكرِه بما لا يَنبَغي لَه سُبحانَه: لحَقيقٌ أن تُعَظِّمَ شَعائِرَه، وتُقِرَّ أوامِرَه وزواجِرَه.
وعَصَمَ عِرضَك بإيجابِ الحَدِّ بقَذفِك، وعَصَمَ مالَك بقَطعِ مُسلِمٍ في سَرِقَتِه، وأسقَطَ شَطرَ الصَّلاةِ لأجلِ مَشَقَّتِك، وأقامَ مَسحَ الخُفِّ مَقامَ غَسلِ الرِّجلِ إشفاقًا عليك مِن مَشَقَّةِ الخَلعِ واللُّبسِ، وأباحك المَيتةَ سَدًّا لرَمَقِك، وحِفظًا لصِحَّتِك، وزَجرَك عن مَضارِّك بحَدٍّ عاجِلٍ، ووعيدٍ آجِلٍ، وخَرَق العَوائِدَ لأجلِك، أنزَل الكُتُبَ إليك. أيحسُنُ بك -مَعَ هذا الإكرامِ- أن تُرى على ما نَهاك مُنهَمِكًا، وعَمَّا أمَرَك مُتَنَكِّبًا، وعن داعيه مُعرِضًا، ولسُنَّتِه هاجِرًا، ولداعي عَدوِّك فيه مُطيعًا؟! يُعَظِّمُك وهو هو، وتُهمِلُ أمرَه وأنتَ أنتَ! هو حَطَّ رُتَبَ عِبادِه لأجلِك، وأهبَط إلى الأرضِ مَنِ امتَنَعَ مِن سَجدةٍ يَسجُدُها لَك...
ما أوحَشَ ما تَلاعَبَ الشَّيطانُ بالإنسانِ! بَينا يَكونُ بحَضرةِ الحَقِّ، ومَلائِكةُ السَّماءِ سُجودٌ لَه، تَتَرامى به الأحوالُ والجَهالاتُ بالمَبدَأِ والمآلِ، إلى أن يوجَدَ ساجِدًا لصورةٍ في حَجَرٍ، أو لشَجَرةٍ مِنَ الشَّجَرِ، أو لشَمسٍ أو لقَمَرٍ...! ما أوحَشَ زَوالَ النِّعَمِ، وتَغَيُّرَ الأحوالِ، والحَورَ بَعدَ الكَورِ!
لا يَليقُ بهذا الحَيِّ الكَريمِ الفاضِلِ على جَميعِ الحَيَوانِ أن يُرى إلَّا عابِدًا للهِ في دارِ التَّكليفِ، أو مُجاوِرًا للهِ في دارِ الجَزاءِ والتَّشريفِ. وما بَينَ ذلك فهو واضِعٌ نَفسَه في غَيرِ مَواضِعِها)
[130] نقلا عن ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (1/ 339-341). .
2- قال ابنُ القَيِّمِ: (استِقامةُ القَلبِ بشَيئَينِ:
أحَدُهما: أن تَكونَ مَحَبَّةُ اللَّهِ تعالى تَتَقدَّمُ عِندَه على جَميعِ المَحابِّ...
الأمرُ الثَّاني الذي يَستَقيمُ به القَلبُ: تَعظيمُ الأمرِ والنَّهي، وهو ناشِئٌ عن تَعظيمِ الآمِرِ النَّاهي؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى ذَمَّ مَن لا يُعَظِّمُ أمرَه ونَهيَه، قال سُبحانَه وتعالى:
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح: 13] ، قالوا في تَفسيرِها: ما لَكَمَ لا تَخافونَ للهِ تعالى عَظَمةً.
وما أحسَنَ ما قال شَيخُ الإسلامِ
[131] يعني: أبا إسماعيلَ الهَرَويَّ. يُنظر: ((منازل السائرين)) (ص: 81). في تَعظيمِ الأمرِ والنَّهيِ: "هو ألَّا يُعارَضا بتَرَخُّصٍ جافٍ، ولا يُعَرَّضا لتَشديدٍ غالٍ، ولا يُحمَلا على عِلَّةٍ توهِنُ الِانقيادَ".
ومَعنى كَلامِه أنَّ أوَّلَ مَراتِبِ تَعظيمِ الحَقِّ عَزَّ وجَلَّ تَعظيمُ أمرِه ونَهيِه، وذلك المُؤمِنُ يَعرِفُ رَبَّه عَزَّ وجَلَّ برِسالَتِه التي أرسَلَ بها رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النَّاسِ كافَّةً، ومُقتَضاها الِانقيادُ لأمرِه ونَهيِه، وإنَّما يَكونُ ذلك بتَعظيمِ أمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ واتِّباعِه، وتَعظيمِ نَهيِه واجتِنابِه، فيَكونُ تَعظيمُ المُؤمِنِ لأمرِ اللهِ تعالى ونَهيِه دالًّا على تَعظيمِه لصاحِبِ الأمرِ والنَّهيِ، ويَكونُ بحَسَبِ هذا التَّعظيمِ مِنَ الأبرارِ المَشهودِ لَهم بالإيمانِ والتَّصَدُّقِ وصِحَّةِ العَقيدةِ والبَراءةِ مِنَ النِّفاقِ الأكبَرِ؛ فإنَّ الرَّجُلَ قد يَتَعاطى فِعلَ الأمرِ لنَظَرِ الخَلقِ، وطَلَبِ المَنزِلةِ والجاهِ عِندَهم، ويَتَّقي المَناهيَ خَشيةَ سُقوطِه مِن أعيُنِهم، وخَشيةَ العُقوباتِ الدُّنيَويَّةِ مِنَ الحُدودِ التي رَتَّبَها الشَّارِعُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المَناهي، فهذا لَيسَ فِعلُه وتَركُه صادِرًا عن تَعظيمِ الأمرِ والنَّهيِ، ولا تَعظيمِ الآمِرِ والنَّاهي.
فعَلامةُ التَّعظيمِ للأوامِرِ رِعايةُ أوقاتِها وحُدودِها، والتَّفتيشُ على أركانِها وواجِباتِها وكَمالِها، والحِرصُ على تَحَيُّنِها في أوقاتِها، والمُسارَعةُ إليها عِندَ وُجوبِها، والحُزنُ والكَآبةُ والأسَفُ عِندَ فوتِ حَقٍّ مِن حُقوقِها، كَمَن يَحزَنُ على فوتِ الجَماعةِ، ويَعلَمُ أنَّه لَو تُقُبِّلَت مِنه صَلاتُه مُنفرِدًا فإنَّه قد فاتَه سَبعةٌ وعِشرونَ ضِعفًا!
ولَو أنَّ رَجُلًا يُعاني البَيعَ والشِّراءَ تَفوتُه صَفقةٌ واحِدةٌ في بَلَدِه مِن غَيرِ سَفَرٍ ولا مَشَقَّةٍ قِيمتُها سَبعةٌ وعِشرونَ دينارًا لأكَلَ يَدَيه نَدَمًا وأسَفًا! فكَيف وكُلُّ ضِعفٍ مِمَّا تُضاعَفُ به صَلاةُ الجَماعةِ خَيرٌ مِن ألفٍ، وألفِ ألفٍ، وما شاءَ اللهُ تعالى؟! فإذا فوَّتَ العَبدُ عليه هذا الرِّبحَ قَطعًا -وكَثيرٌ مِنَ العُلَماءِ يقول: لا صَلاةَ له- وهو بارِدُ القَلبِ، فارِغٌ مِن هذه المُصيبةِ، غَيرُ مُرتاعٍ لَها، فهذا مِن عَدَمِ تَعظيمِ أمرِ اللهِ تعالى في قَلبِه، وكذلك إذا فاتَه أوَّلُ الوقتِ الذي هو رِضوانُ اللهِ تعالى، أو فاتَه الصَّفُّ الأوَّلُ الذي يُصَلِّي اللهُ ومَلائِكَتُه على مَيامِنِه، ولَو يَعلَمُ العَبدُ فضيلَتَه لجالَد عليه، ولَكانت قُرعةً، وكذلك فَوتُ الجَمعِ الكَثيرِ الذي تُضاعَفُ الصَّلاةُ بكَثرَتِه وقِلَّتِه)
[132] ((الوابل الصيب)) (ص: 8، 9). .
3- قال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا عَلاماتُ تَعظيمِ المَناهي فالحِرصُ على التَّباعُدِ مِن مَظانِّها وأسبابِها وما يَدعو إليها، ومُجانَبةُ كُلِّ وسيلةٍ تُقَرِّبُ مِنها، كمَن يَهرُبُ مِنَ الأماكِنِ التي فيها الصُّوَرُ التي تَقَعُ بها الفِتنةُ خَشيةَ الِافتِتانِ بها، وأن يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَرًا مِمَّا به بَأسٌ، وأن يُجانِبَ الفُضولَ مِنَ المُباحاتِ خَشيةَ الوُقوعِ في المَكروهِ، ومُجانَبةُ مَن يُجاهرُ بارتِكابِها ويُحَسِّنُها ويَدعو إليها ويَتَهاونُ بها ولا يُبالي ما رَكِبَ مِنها؛ فإنَّ مُخالَطةَ مِثلِ هذا داعيةٌ إلى سَخَطِ اللَّهِ تعالى وغَضَبِه، ولا يُخالِطُه إلَّا مَن سَقَطَ مِن قَلبِه تَعظيمُ اللَّهِ تعالى وحُرُماتِه.
ومِن عَلاماتِ تَعظيمِ النَّهيِ: أن يَغضَبَ للهِ عَزَّ وجَلَّ إذا انتُهِكَت مَحارِمُه، وأن يَجِدَ في قَلبِه حُزنًا وكَسرةً إذا عُصيَ اللهُ تعالى في أرضِه، ولَم يُطَعْ بإقامةِ حُدودِه وأوامِرِه، ولَم يَستَطِعْ هو أن يُغَيِّرَ ذلك.
ومِن عَلاماتِ تَعظيمِ الأمرِ والنَّهيِ: أن لا يَستَرسِلَ مَعَ الرُّخصةِ إلى حَدٍّ يَكونُ صاحِبُه جافيًا غَيرَ مُستَقيمٍ على المَنهَجِ الوسَطِ... فحَقيقةُ التَّعظيمِ للأمرِ والنَّهيِ أن لا يُعارَضا بتَرَخُّصٍ جافٍ، ولا يُعَرَّضا لتَشديدٍ غالٍ؛ فإنَّ المَقصودَ هو الصِّراطُ المُستَقيمُ الموصِلُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ بسالِكِه، وما أمَر اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بأمرٍ إلَّا وللشَّيطانِ فيه نَزغَتانِ: إمَّا تَقصيرٌ وتَفريطٌ، وإمَّا إفراطٌ وغُلوٌّ، فلا يُبالي بما ظَفِرَ مِنَ العَبدِ مِنَ الخَطيئَتَينِ؛ فإنَّه يَأتي إلى قَلبِ العَبدِ فيُشامُّه
[133] فيُشامُّه: أي: يَنظُرُ فيه. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (11/ 297). ، فإن وَجَدَ فيه فُتورًا وتَوانيًا وتَرخيصًا أخَذَه مِن هذه الخُطَّةِ فثَبَّطَه وأقعَدَه وضَرَبَه بالكَسَلِ والتَّواني والفُتورِ، وفتَحَ لَه بابَ التَّأويلاتِ والرَّجاءِ وغَيرِ ذلك، حتَّى رُبَّما تَرَكَ العَبدُ المَأمورُ جُملةً! وإن وَجَدَ عِندَه حَذَرًا وجِدًّا وتَشميرًا ونَهضةً وأَيِسَ أن يَأخُذَه مِن هذا البابِ، أمَرَه بالِاجتِهادِ الزَّائِدِ وسَوَّلَ لَه أنَّ هذا لا يَكفيك، وهِمَّتُك فوقَ هذا، ويَنبَغي لَك أن تَزيدَ على العامِلينَ، وأن لا تَرقُدَ إذا رَقدوا، ولا تُفطِرَ إذا أفطَروا، وأن لا تَفتُرَ إذا فتَرَوا، وإذا غَسَلَ أحَدُهم يَدَيه ووَجهَه ثَلاثَ مَرَّاتٍ فاغسِلْ أنتَ سَبعًا، وإذا تَوضَّأ للصَّلاةِ فاغتَسِلْ أنتَ لَها، ونَحوِ ذلك مِنَ الإفراطِ والتَّعَدِّي، فيَحمِلُه على الغُلوِّ والمُجاوزةِ وتَعَدِّي الصِّراطِ المُستَقيمِ، كَما يَحمِلُ الأوَّلَ على التَّقصيرِ دونَه وأن لا يَقرَبَه، ومَقصودُه مِنَ الرَّجُلَينِ إخراجُهما عنِ الصِّراطِ المسقيمِ: هذا بأن لا يَقرَبَه ولا يَدنوَ مِنه، وهذا بأن يُجاوِزَه ويَتَعَدَّاه!
وقد فُتِنَ بهذا أكثَرُ الخَلقِ، ولا يُنجي مِن ذلك إلَّا عِلمٌ راسِخٌ، وإيمانٌ وقوَّةٌ على مُحارَبَتِه، ولُزومُ الوسَطِ. واللهُ المُستَعانُ.
ومِن عَلاماتِ تَعظيمِ الأمرِ والنَّهيِ: أن لا يَحمِلَ الأمرَ على عِلَّةٍ تُضعِفُ الِانقيادَ والتَّسليمَ لأمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، بَل يُسَلِّمُ لأمرِ اللهِ تعالى وحُكمِه، مُمتَثِلًا ما أُمِرَ به، سَواءٌ ظَهَرَت لَه حِكمتُه أو لم تَظهَرْ، فإن ظَهَرَت لَه حِكمةُ الشَّرعِ في أمرِه ونَهيِه حَمَلَه ذلك على مَزيدِ الِانقيادِ والتَّسليمِ، ولا يَحمِلُه ذلك على الِانسِلاخِ مِنه وتَركِه)
[134] ((الوابل الصيب)) (ص: 13-17). .