المَبحَثُ الرَّابعُ: أُصولُ التَّفسيرِ عِندَ الطُّوسيِّ والطَّبَرسيِّ
تَقَدَّم ذِكرُ نَماذِجَ مِن أهَمِّ تَفاسيرِ غُلاةِ الشِّيعةِ في القَرنِ الثَّالثِ والرَّابعِ الهجريَّينِ، ثُمَّ جاءَ بعدَهم في القَرنَينِ الخامِس والسَّادِسِ:
الطُّوسيُّ والطَّبَرسيُّ، وهما يُمثِّلانِ شَيئًا مِنَ الاعتِدالِ عِندَ مُفسِّري الشِّيعةِ الإماميَّةِ، فأوَّلُهما: شَيخُ الطَّائِفةِ
أبو جَعفرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ الطُّوسيُّ المُتَوفَّى سَنةَ 460 هجريَّة
[2217] يُنظر: ((هدية العارفين)) للباباني (2/72)، ((معجم المؤلفين)) لكحالة (9/202). .
وثانيهما: أبو عَليٍّ الفضلُ بنُ الحَسَنِ الطَّبَرسيُّ المُتَوفَّى سَنةَ 548 هجريَّة
[2218] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (5/148)، ((هدية العارفين)) للباباني (1/820). .
وتَفسيرُ
الطُّوسيِّ اسمُه: (التِّبيانُ في تَفسيرِ القُرآنِ).
قال
الطُّوسيُّ: (اعلَمْ أنَّ الرِّوايةَ ظاهرةٌ في أخبارِ أصحابِنا بأنَّ تَفسيرَ القُرآنِ لا يجوزُ إلَّا بالأثَرِ الصَّحيحِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعنِ الأئِمَّةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، الذينَ قَولُهم حُجَّةٌ كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ القَولَ بالرَّأيِ فيه لا يجوزُ، والذي نَقولُ في ذلك: إنَّه لا يجوزُ أن يكونَ في كلامِ اللهِ تعالى وكلامِ نَبيِّه تناقُضٌ وتضادٌّ. وقد قال اللهُ تعالى:
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] ، وقال:
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195] ، وقال:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] ، وقال:
تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ،
مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، فكيف يجوزُ أن يصِفَه بأنَّه عَرَبيٌّ مُبينٌ، وأنَّه بلسانِ قَومِه، وأنَّه بَيانٌ للنَّاسِ، ولا يُفهَمُ بظاهرِه شَيءٌ؟! وهل ذلك إلَّا وصفٌ له باللُّغزِ والمُعَمَّى الذي لا يُفهَمُ المُرادُ به إلَّا بَعدَ تَفسيرِه وبَيانِه؟! وذلك مُنَزَّهٌ عنه القُرآنُ، وقد مَدَحَ اللهُ أقوامًا على استِخراجِ مَعاني القُرآنِ، فقال:
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 38] ، وقال في قَومٍ يذُمُّهم حَيثُ لم يتَدَبَّروا القُرآنَ ولم يتَفكَّروا في مَعانيه:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] ... والذي نَقولُ به: إنَّ مَعانيَ القُرآنِ على أربَعةِ أقسامٍ:
أحَدُها: ما اختَصَّ اللهُ تعالى بالعِلمِ به، فلا يجوزُ لأحَدٍ تَكلُّفُ القَولِ فيه، ولا تَعاطي مَعرِفتِه، وذلك مِثلُ قَولِه تعالى:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] ، ومِثلُ قَولِه تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] إلى آخِرِها. فتَعاطي مَعرِفةِ ما اختَصَّ اللهُ تعالى به خَطَأٌ.
وثانيها: ما كان ظاهِرُه مطابقًا لمَعناه، فكُلُّ مَن عَرفَ اللُّغةَ التي خوطِبَ بها عَرَف مَعناها، مِثلُ قَولِه تعالى:
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام: 151] ، ومِثلُ قولِه تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وغيرِ ذلك.
وثالثُها: ما هو مُجمَلٌ لا يُنبئُ ظاهرُه عنِ المُرادِ به مُفصَّلًا، مِثلُ قَولِه تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43] ، ومِثلُ قَولِه تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ،
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] ، وقولِه:
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعلُومٌ [المعارج: 24] ، وما أشبَهَ ذلك؛ فإنَّ تَفصيلَ أعدادِ الصَّلاةِ وعَدَدِ رَكعاتِها، وتَفصيلَ مَناسِكِ الحَجِّ وشُروطِه، ومَقاديرِ النِّصابِ في الزَّكاةِ، لا يُمكِنُ استِخراجُه إلَّا ببَيانِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووحيٍ مِن جِهةِ اللهِ تعالى؛ فتَكلُّفُ القَولِ في ذلك خَطَأٌ مَمنوعٌ مِنه، يُمكِنُ أن تَكونَ الأخبارُ مُتَناوِلةً له.
ورابعُها: ما كان اللَّفظُ مُشتَرَكًا بَينَ مَعنَيينِ فما زادَ عنهما، ويُمكِنُ أن يكونَ كُلُّ واحِدٍ مِنهما مرادًا، فإنَّه لا ينبَغي أن يُقدِمَ أحَدٌ به فيقولَ: إنَّ مُرادَ اللهِ فيه بَعضُ ما يحتَمِلُ لأُمورٍ، وكُلُّ واحِدٍ يجوزُ أن يكونَ مرادًا على التَّفصيلِ، واللهُ أعلمُ بما أرادَ. ومَتى كان اللَّفظُ مُشتَرَكًا بَينَ شَيئَينِ أو ما زادَ عليهما، ودَلَّ الدَّليلُ على أنَّه لا يجوزُ أن يُريدَ إلَّا وجهًا واحدًا، جازَ أن يُقالَ: إنَّه هو المُرادُ)
[2219] ((التبيان في تفسير القرآن)) (1/4 - 6). .
وقال أيضًا: (ينبَغي لمَن تَكلَّمَ في تَأويلِ القُرآنِ أن يرجِعَ إلى التَّاريخِ، ويُراعيَ أسبابَ نُزولِ الآيةِ على ما رُويَ، ولا يقولَ على الآراءِ والشَّهَواتِ)
[2220] ((التبيان في تفسير القرآن)) (9/325). .
وقال مُحَمَّد هادي معرفة في تَعريفِه بهذا التَّفسيرِ: (هو تَفسيرٌ حافِلٌ جامِعٌ وشامِلٌ لمُختَلِفِ أبعادِ الكلامِ حَولَ القُرآنِ لُغةً وأدَبًا، قِراءةً ونَحوًا، تفسيرًا وتأويلًا، فقهًا وكلامًا... بحَيثُ لم يترُكْ جانبًا مِن جَوانِبِ هذا الكلامِ الإلهيِّ الخالدِ إلَّا وبَحَثَ عنه بحثًا وافيًا في وجازةٍ وإيفاءِ بَيانٍ.
يبدو مِن إرجاعاتِ الشَّيخِ في تَفسيرِه إلى كُتُبِه الفِقهيَّةِ والأُصوليَّةِ والكلاميَّةِ أنَّه كَتَب التَّفسيرَ متأخِّرًا عن سائِرِ كُتُبِه في سائِرِ العُلومِ؛ ومِن ثَمَّ فإنَّ هذا الكِتابَ يحظى بقوَّةٍ ومَتانةٍ وقُدرةٍ عِلميَّةٍ فائِقةٍ، شَأنُ أيِّ كِتابٍ جاءَ تَأليفُه في سِنينَ عاليةٍ مِن حَياةِ المُؤَلِّفِ، وبحَقٍّ فإنَّ هذا التَّفسيرَ حازَ قَصَبَ السَّبقِ مِن بَينِ سائِرِ التَّفاسيرِ التي كانت دارِجةً لحَدِّ ذاك الوقتِ، والتي كانت أكثَرُها مُختَصَراتٍ تَعالِجُ جانبًا مِنَ التَّفسيرِ دونَ جَميعِ جَوانِبه؛ مِمَّا أوجَبَ أن يكونَ هذا التَّفسيرُ جامِعًا لكُلِّ ما ذَكرَه المُفسِّرونَ مِن قَبلُ، وحاويًا لجَميعِ ما بَحَثَه السَّابقونَ عليه)
[2221] ((التفسير والمفسرون)) (2/851). .
وقال مُحَمَّد عَلي إيازي: (هو تَفسيرٌ كامِلٌ للقُرآنِ، تَعَرَّض الشَّيخُ فيه لعُلومِ القُرآنِ في شَتَّى المَجالاتِ، كالقِراءةِ واللُّغةِ والإعرابِ، وأسبابِ النُّزولِ، والنَّظمِ، والنَّاسِخِ والمَنسوخِ، والمُحكَمِ والمُتَشابِهِ وغَيرِها بأُسلوبٍ عِلميٍّ، وهو أوَّلُ تَفسيرٍ شيعيٍّ جامِعٍ بَينَ النَّقلِ والعَقلِ، وبَينَ الرِّوايةِ والدِّرايةِ فيما أعلَمُ.
قد اعتَمَدَ عليه كثيرٌ مِنَ المُفسِّرينَ مِن بَعدِه؛ مِنهمُ الطَّبَرسيُّ في مَجمَعِ البَيانِ، وهو يشرَحُ مَذهَبَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ ويُدافِعُ عن عَقيدَتِهم، ويُكثِرُ النَّقلَ عن أئِمَّةِ أهلِ البَيتِ)
[2222] ((المفسرون حياتهم ومنهجهم)) (1/351). .
وأمَّا الطَّبَرسيُّ فله عِدَّةُ تَفاسيرَ أوَّلُها وهو أكبَرُها: (مَجمَعُ البَيانِ).
قال عنه مُحَمَّد عَلي إيازي: (ينقُلُ الطَّبَرسيُّ المَأثوراتِ الوارِدةَ عن طَريقِ أهلِ البَيتِ، ومِن كُتُبِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وكانت طَريقَتُه في تَفسيرِ آياتِ الأحكامِ هي: ذِكرُ أقوالِ المُفسِّرينَ والفُقَهاءِ حَولَ الآيةِ، ثُمَّ بَيانُ مَوقِفِ الشِّيعةِ مِنها، والاستِدلالُ له مِن دونِ تَبسيطٍ في نَقلِه واستِدلالِه، أوِ التَّعَصُّبِ والتَّعييرِ لمُخالفيه.
والخُلاصةُ: كان التَّفسيرُ مِن أحسَنِ التَّفاسيرِ البَيانيَّةِ والأدَبيَّةِ، يعتَني بذِكرِ حُجَجِ اللُّغَويِّينَ والنَّحويِّينَ، وعَرضِ الأدِلَّةِ في مَسائِلِ الخِلافِ بَينَ الشِّيعةِ والسُّنَّةِ)
[2223] ((المفسرون حياتهم ومنهجهم)) (3/1033). .
وثانيها: وهو أصغَرُها: (الكاف الشَّاف) وهو خُلاصةٌ لتَفسيرِ الزَّمَخشَريِّ (الكشَّاف).
وثالثُها: وهو أوسَطُها: (جَوامِع الجامِعِ) جَمع فيه بَينَ الكِتابَينِ السَّابقَينِ مَعَ الزِّيادةِ عليهما، وذلك على نَحوٍ وسَطٍ بَينَ الإطنابِ والاختِصارِ
[2224] يُنظر: ((جمع الجوامع)) للطبرسي (1/27). ، وقال عنه مُحَمَّد عَلي إيازي: (هو تَفسيرٌ وجيزٌ خَفيفُ الحَجمِ كثيرُ الغُنمِ يكثُرُ مَعناه وإن قَلَّ لَفظُه، شامِلٌ لجميعِ آياتِ القُرآنِ، يُستَفادُ مِنه في الحَوزاتِ الدِّينيَّةِ الشِّيعيَّةِ سابقًا، وهو مِنَ الكُتُبِ الدِّراسيَّةِ في الحَوزةِ العِلميَّةِ بقُمٍّ. جَمَعَ إلى البَحثِ اللُّغةَ والإعرابَ وبَيانَ النَّظْمِ، ثُمَّ فصَّل المَعنى تَفصيلًا لم يكُنْ فيه إطنابٌ مُمِلٌّ، ولا اختِصارٌ مُخِلٌّ، ولكِنَّه غَيرُ مُبَوَّبٍ، كما كان في مَجمَعِ البَيانِ، ولم يُخَصِّصْ كُلَّ فصلٍ بمَوضوعٍ خاصٍّ، مِثلُ اللُّغةِ والإعرابِ، والقِراءةِ والمَعنى، بل ذَكرَها كُلَّها في ذَيلِ الآيةِ)
[2225] ((المفسرون حياتهم ومنهجهم)) (2/741). .
قال الطَّبَرسيُّ في مُقدِّمةِ تَفسيرِه الكبيرِ: (قد خاضَ العُلماءُ قديمًا وحَديثًا في عِلمِ تَفسيرِ القُرآنِ، واجتَهَدوا في إبرازِ مَكنونِه، وإظهارِ مَصونِه، وألَّفوا فيه كُتُبًا جَمَّةً، غاصوا في كثيرٍ مِنها إلى أعماقِ لُجَجِه، وشَقَّقوا الشِّعرَ في إيضاحِ حُجَجِه، وحَقَّقوا في تَفتيحِ أبوابِه، وتَغَلغُلِ شِعابِه، إلَّا أنَّ أصحابَنا رَضِيَ اللهُ عنهم لم يُدَوِّنوا في ذلك غَيرَ مُختَصَراتٍ، نَقَلوا فيها ما وصَل إليهم في ذلك مِنَ الأخبارِ، ولم يُعنَوا ببَسطِ المَعاني وكشفِ الأسرارِ، إلَّا ما جَمَعَه الشَّيخُ الأجَلُّ السَّعيدُ
أبو جَعفرٍ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ الطُّوسيُّ، قدَّسَ اللهُ رُوحَه، مِن كِتابِ (التِّبيان)؛ فإنَّه الكِتابُ الذي يُقتَبَسُ مِنه ضياءُ الحَقِّ، ويلوحُ عليه رواةُ الصِّدقِ، قد تَضَمَّنَ مِنَ المَعاني الأسرارَ البَديعةَ، واحتَضَنَ مِنَ الألفاظِ اللُّغةَ الوسيعةَ، ولم يَقنَعْ بتَدوينِها دونَ تَبيينِها، ولا بتَنميقِها دونَ تَحقيقِها، وهو القُدوةُ أستَضيءُ بأنوارِه، وأطَأُ مَواقِعَ آثارِه، غَيرَ أنَّه خَلطَ في أشياءَ مِمَّا ذَكرَه في الإعرابِ والنَّحوِ الغَثَّ بالسَّمينِ، والخاثِرَ بالزَّبادِ، ولم يُمَيِّزْ بَينَ الصَّلاحِ مِمَّا ذَكرَه فيه والفسادِ، وأدَّى الألفاظَ في مَواضِعَ مِن مُتَضَمَّناتِه قاصِرةً عنِ المُرادِ، وأَخَلَّ بحُسنِ التَّرتيبِ وجَودةِ التَّهذيبِ، فلم يقَعْ لذلك مِنَ القُلوبِ السَّليمةِ الموقِعَ المَرضيَّ، ولم يَعْلُ مِنَ الخَواطِرِ الكريمةِ المَكانَ العَليَّ... شَمَّرتُ عن ساقِ الجِدِّ، وبَذَلتُ غايةَ الجُهدِ والكَدِّ، وأسهَرتُ النَّاظِرَ وأتعَبتُ الخاطِرَ، وأطَلتُ التَّفكيرَ، وأحضَرتُ التَّفاسيرَ، واستَمدَدتُ مِنَ الله سُبحانَه التَّوفيقَ والتَّيسيرَ، وابتَدَأتُ بتَأليفِ كِتابٍ هو في غايةِ التَّلخيصِ والتَّهذيبِ، وحُسنِ النَّظمِ والتَّرتيبِ، يجمَعُ أنواعَ هذا العِلمِ وفُنونَه، ويحوي نُصوصَه وعُيونَه، مِن عِلمِ قِراءَتِه وإعرابِه، ولُغاتِه وغَوامِضِه ومُشكِلاتِه، ومَعانيه وجِهاتِه، ونُزولِه وأخبارِه، وقِصَصِه وآثارِه، وحُدودِه وأحكامِه، وحَلالِه وحَرامِه، والكلامِ على مَطاعِنِ المُبطِلينَ فيه، وذِكرِ ما يتَفرَّدُ به أصحابُنا رَضِيَ اللهُ عنهم مِنَ الاستِدلالاتِ بمَواضِعَ كثيرةٍ مِنه على صِحَّةِ ما يعتَقِدونَه مِنَ الأُصولِ والفُروعِ، والمَعقولِ والمَسموعِ، على وَجهِ الاعتِدالِ والاختِصارِ فوقَ الإيجازِ ودونَ الإكثارِ)
[2226] ((مجمع البيان)) (1/22). .
والنَّاظِرُ في تَفسيرِ
الطُّوسيِّ يُلاحِظُ موافقَتَه لجُمهورِ المُفسِّرينَ مِن حَيثُ الجُملةُ، إلَّا أنَّه جَعَل للأئِمَّةِ المَعصومينَ عِندَ الشِّيعةِ ما للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ أنَّ أكثَرَ المَرويِّ عنهم غَيرُ صَحيحٍ، ولم يعتَمِدْ في تَفسيرِه على الصَّحابةِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهمُ الذينَ تَلقَّوا العِلمَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!
والنَّاظِرُ في تَفسيرِ الطَّبَرسيِّ يجِدُ أنَّه تَأثَّرَ بتَفسيرِ
الطُّوسيِّ إلى حَدٍّ كبيرٍ، وتَمَيَّز بإكثارِه مِن ذِكرِ تَفاسيرِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وينقُلُ في تَفسيرِه عن أئِمَّةِ اللُّغةِ كالفَرَّاءِ وأبي عُبَيدةَ و
المُبَرِّدِ وثَعلَبٍ و
الزَّجَّاجِ، وينقُلُ مِن تَفسيرِ
الطَّبَريِّ والثَّعلبيِّ والواحِديِّ والزَّمَخشَريِّ؛ فهو لذلك أكثَرُ فائِدةً مِن تَفسيرِ
الطُّوسيِّ، لكِنَّه في بَعضِ المَواضِعِ أكثَرُ غُلوًّا في التَّشَيُّعِ مِنَ
الطُّوسيِّ، وإن كان تَفسيراهما قد تَضمَّن ضَلالاتٍ، إلَّا أنَّهما أقَلُّ ضَلالًا مِن تَفسيرَي القُمِّيِّ والعَيَّاشيِّ.
والخُلاصةُ أنَّ تَفسيرَيِ
الطُّوسيِّ والطَّبَرسيِّ يمثِّلانِ جانِبَ الاعتِدالِ النِّسبيِّ عِندَ مُفسِّري الشِّيعةِ الإماميَّةِ إلَّا أنَّهما لم يَسلَما مِنَ التَّأثُّرِ بعَقيدَتِهما الشِّيعيَّةِ لا سيَّما في الإمامةِ، والغُلوِّ في آلِ البَيتِ، وذَكرا في تَفسيرَيهما كثيرًا مِنَ الأحاديثِ المَوضوعةِ، والرِّواياتِ الباطِلةِ، والقِراءاتِ الغَريبةِ، والأقوالِ الفاسِدةِ
[2227] يُنظر: ((التفسير والمفسرون)) للذهبي (2/78). .
أمثلةٌ مِن تَفسيرِ الطُّوسيِّ وتَفسيرِ الطَّبَرسيِّ:1- في قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3].
قال
الطُّوسيُّ: (وأمَّا الغَيبُ فحُكيَ عنِ
ابنِ عَبَّاسٍ أنَّه قال: ما جاءَ مِن عِندِ اللهِ، وقال جَماعةٌ مِنَ الصَّحابةِ كابنِ مَسعودٍ وغَيرِه: إنَّ الغَيبَ ما غابَ عنِ العِبادِ عِلمُه مِن أمرِ الجَنَّةِ والنَّارِ والأرزاقِ والأعمالِ وغَيرِ ذلك، وهو الأَولى؛ لأنَّه عامٌّ ويدخُلُ فيه ما رَواه أصحابُنا مِن زَمانِ الغَيبةِ ووقتِ خُروجِ المَهديِّ عليه السَّلامُ، وقال قَومٌ: الغَيبُ هو القُرآنُ، حُكي ذلك عن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، وذَكَر البَلخيُّ أنَّ الغَيبَ كُلُّ ما أُدرِك بالدَّلائِلِ والآياتِ مِمَّا تَلزَمُ مَعرِفتُه، وقال الرُّمَّانيُّ: الغَيبُ خَفاءُ الشَّيءِ عنِ الحِسِّ قَرُبَ أو بَعُدَ، إلَّا أنَّه قد كثُرَت صِفةُ الغائِبِ على البَعيدِ الذي لا يظهَرُ للحِسِّ، وأصلُ الغَيبِ مِن غابَ، يقولونَ: غابَ فُلانٌ يغيبُ، وليس الغَيبُ ما غابَ عنِ الإدراكِ؛ لأنَّ ما هو مَعلومٌ وإن لم يكُن مُشاهَدًا لا يُسَمَّى غَيبًا، والأَولى أن تُحمَلَ الآيةُ على عُمومِها في جَميعِ مَن يُؤمِنُ بالغَيبِ)
[2228] ((التبيان في تفسير القرآن)) (9/ 255). .
2- في قَولِ اللهِ تعالى:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37] قال
الطُّوسيُّ: (الكَلِماتُ التي تَلقَّاها آدَمُ قال الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقتادةُ، وابنُ زَيدٍ: رَبَّنا ظَلَمْنا أنفُسَنَا وإنْ لم تَغفِرْ لنا وتَرحَمْنا لنَكونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ؛ فإنَّ في ذلك اعتِرافًا بالخَطيئةِ، ولذلك وقَعَت مَوقِعَ النَّدَمِ، وحَقيقَتُه الإنابةُ، وحُكي عن مُجاهدٍ أنَّه قال: "هو قَولُ آدَمَ: اللهمَّ لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبحانَك وبحَمدِك، رَبِّ إنِّي ظَلمتُ نَفسي فاغفِرْ لي إنَّك خَيرُ الغافِرينَ، اللَّهمَّ لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبحانَك وبحَمدِك، رَبِّ إنِّي ظَلمتُ نَفسي فارحَمني، إنَّك أنتَ خَيرُ الرَّاحِمينَ، اللَّهمَّ لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبحانَك وبحَمدِك، رَبِّ إنِّي ظَلمتُ نَفسي، فتُبْ عَلَيَّ إنَّك أنتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ" ورُويَ مِثلُ ذلك عن أبي جَعفرٍ عليه السَّلامُ، وحُكيَ عنِ
ابنِ عَبَّاسٍ: أنَّ آدَمَ قال لرَبِّه إذ عَصاه: أرَأيتَ إن تُبتُ وأصلَحتُ؟ فقال له تعالى: إنِّي راجِعُك إلى الجَنَّةِ، وكانت هذه الكَلِماتِ.
ورُوي في أخبارِنا: أنَّ الكلماتِ هي تَوسُّلُه بالنَّبيِّ عليه السَّلامُ وأهلِ بَيتِه، وكُلُّ ذلك جائِزٌ)
[2229] ((التبيان في تفسير القرآن)) (1/ 169). .
وقال الطَّبَرسيُّ: (قيل -وهي رِوايةٌ تَختَصُّ بأهلِ البَيتِ عليهمُ السَّلامُ-: إنَّ آدَم رَأى مكتوبًا على العَرشِ أسماءً مُعَظَّمةً مُكرَّمةً، فسأل عنها، فقيل له: هذه أسماءُ أجَلِّ الخَلقِ مَنزِلةً عِندَ اللهِ تعالى، والأسماءُ: مُحَمَّدٌ، وعَليٌّ، و
فاطِمةُ، والحَسَنُ، والحُسَينُ، فتَوسَّل آدَمُ عليه السَّلامُ إلى رَبِّه بهم في قَبولِ تَوبَتِه ورَفعِ مَنزِلتِه)
[2230] ((مجمع البيان)) (1/ 89). !
3- في قَولِ اللهِ سُبحانَه:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] ذَكرَ الطَّبَرسيُّ في المُرادِ بحَبلِ اللهِ ثَلاثةَ أقوالٍ: أحَدُها: أنَّه القُرآنُ، وثانيها: أنَّه دينُ الإسلامِ، وثالثُها: أنَّه أئِمَّةُ الجَعفريَّةِ، ثُمَّ قال: (والأَولى حَملُه على الجَميعِ)
[2231] ((مجمع البيان)) (2/ 482). أمَّا الطُّوسيُّ فلم يذكُرِ القولَ الثَّالِثَ. يُنظر: ((التبيان في تفسير القرآن)) (2/ 545). .
4- في قَولِ اللهِ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] ، قال الطَّبَرسيُّ: (قَولُه: وأولي الأمرِ مِنكم، للمُفسِّرينَ فيه قَولانِ:
أحَدُهما: أنَّهمُ الأُمَراءُ، عن أبي هُرَيرةَ، و
ابنِ عَبَّاسٍ في إحدى الرِّوايتَينِ، ومَيمونِ بنِ مِهرانَ، والسُّدِّيِّ، واختارَه
الجُبَّائيُّ، والبَلخيُّ، و
الطَّبَريُّ.
والآخَرُ: أنَّهمُ العُلماءُ، عن
جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ، و
ابنِ عَبَّاسٍ في الرِّوايةِ الأُخرى، ومُجاهدٍ، والحَسَنِ، وعَطاءٍ، وجَماعةٍ، وقال بَعضُهم: لأنَّهمُ الذينَ يُرجَعُ إليهم في الأحكامِ، ويجِبُ الرُّجوعُ إليهم عِندَ التَّنازُعِ دونَ الوُلاةِ.
وأمَّا أصحابُنا فإنَّهم رَوَوا عنِ الباقِرِ والصَّادِقِ عليهما السَّلامُ أنَّ أُولي الأمرِ همُ الأئِمَّةُ مِن آلِ مُحَمَّدٍ، أوجَبَ اللهُ طاعَتَهم بالإطلاقِ، كما أوجَبَ طاعَتَه وطاعةَ رَسولِه، ولا يجوزُ أن يوجِبَ اللهُ طاعةَ أحَدٍ على الإطلاقِ إلَّا مَن ثَبَتَت عِصمَتُه، وعُلِم أنَّ باطِنَه كظاهِرِه، وأُمِن مِنه الغَلَطُ، والأمرُ بالقَبيحِ، وليس ذلك بحاصِلٍ في الأُمَراءِ ولا العُلماءِ سِواهم، جَلَّ اللهُ عن أن يأمُرَ بطاعةِ مَن يعصيه، أو بالانقيادِ للمُختَلفينَ في القَولِ والفِعلِ، لأنَّه مُحالٌ أن يُطاعَ المُختَلفونَ، كما أنَّه مُحالٌ أن يجتَمِعَ ما اختَلفوا فيه.
ومِمَّا يدُلُّ على ذلك أيضًا أنَّ اللهَ تعالى لم يقرُنْ طاعةَ أولي الأمرِ بطاعةِ رَسولِه، كما قَرَنَ طاعةَ رَسولِه بطاعَتِه إلَّا وأولو الأمرِ فوقَ الخَلقِ جَميعًا، كما أنَّ الرَّسولَ فوقَ أولي الأمرِ، وفوقَ سائِرِ الخَلقِ. وهذه صِفةُ أئِمَّةِ الهدى مِن آلِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ، الذينَ ثَبَتَت إمامَتُهم وعِصمَتُهم، واتَّفقَتِ الأُمَّةُ على عُلوِّ رُتبَتِهم وعَدالتِهم)
[2232] ((مجمع البيان)) (3/114). ويُنظر: ((التبيان في تفسير القرآن)) للطوسي (3/ 236)، ((جوامع الجامع)) للطبرسي (ص: 89). .
5- في قَولِ اللهِ سُبحانَه:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور: 55] ، قال
الطُّوسيُّ: (في هذه الآيةِ وعدٌ مِنَ اللهِ تعالى للذينِ آمَنوا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وعَمِلوا الصَّالحاتِ، بأن يستَخلِفَهم في الأرضِ، ومَعناه يورِثُهم أرضَ المُشرِكينَ مِنَ العَرَبِ والعَجَمِ، كما استَخلَفَ الذينَ مِن قَبلِهم، يعني: بَني إسرائيلَ بأرضِ الشَّامِ بَعدَ إهلاكِ الجَبابرةِ بأن أورَثَهم ديارَهم وجَعَلهم سُكَّانَها. وقال
الجُبَّائيُّ: استَخلف الذينَ مِن قَبلِهم يعني في زَمَنِ داوُدَ وسُليمانَ. وقال النَّقَّاشُ: يُريدُ بالأرضِ أرضَ مَكَّةَ؛ لأنَّ المُهاجِرينَ سألوا ذلك، والأوَّلُ قَولُ المِقدادِ بنِ الأسوَدِ، وروى عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه أنَّه قال: "لا يبقى على الأرضِ بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا ويَدخُلُه الإسلامُ بعِزِّ عَزيزٍ أو ذُلِّ ذَليلٍ". وفي ذلك دَلالةٌ على صِحَّةِ نُبوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه؛ لأنَّه أخبَرَ عن غَيبٍ وقَعَ مُخبَرُه على ما أخبَرَ، وذلك لا يعلمُه إلَّا اللهُ تعالى. وليُمكِنَنَّ لهم دينَهم الذي ارتَضى لهم، يعني: يُمكِّنُهم مِن إظهارِ الإسلامِ الذي ارتَضاه دينًا لهم. وليُبَدِّلنَّهم مِن بَعدِ خَوفِهم أَمنًا، أي: نَصرَهم بَعدَ أن كانوا خائِفينَ بمَكَّةَ وقتَ غَلَبةِ المُشرِكينَ، آمِنينَ بقوَّةِ الإسلامِ وانبساطِه. ثُمَّ أخبَرَ عنِ المُؤمِنينَ الذينَ وصَفهم بأنَّهم يعبُدونَ اللهَ تعالى وحدَه لا يُشرِكونَ بعِبادَتِه سِواه مِنَ الأصنامِ والأوثانِ وغَيرِهما. ويجوزُ أن يكونَ مَوضِعُه الحالُ، ويجوزُ أن يكونَ مُستَأنَفًا)
[2233] ((التبيان في تفسير القرآن)) (7/454). .
وقال الطَّبَرسيُّ: (اختُلِف في الآيةِ؛ فقيل: إنَّها وارِدةٌ في أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلمَ. وقيل: هي عامَّةٌ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ، عنِ
ابنِ عَبَّاسٍ ومُجاهدٍ. والمَرويُّ عن أهلِ البَيتِ عليه السَّلامُ: أنَّها في المَهديِّ مِن آلِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ. ورَوى العَيَّاشيُّ بإسنادِه عن عَليِّ بنِ الحُسَينِ عليه السَّلامُ أنَّه قَرَأ الآيةَ، وقال: هم واللهِ شِيعَتُنا أهلَ البَيتِ. يفعَلُ اللهُ ذلك بهم على يدَي رَجُلٍ مِنَّا، وهو مَهديُّ هذه الأُمَّةِ، وهو الذي قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ: "لو لم يَبْقَ مِنَ الدُّنيا إلَّا يومٌ واحِدٌ لطوَّل اللهُ ذلك اليومَ حتَّى يليَ رَجُلٌ مِن عِترَتي، اسمُه اسمي، يملأُ الأرضَ عَدلًا وقِسطًا كما مُلئَت ظُلمًا وجَورًا". ورُوي مِثلُ ذلك عن أبي جَعفرٍ عليه السَّلامُ، و
أبي عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ؛ فعلى هذا يكونُ المُرادُ بـ الذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ: النَّبيَّ وأهلَ بَيتِه، صَلواتُ الرَّحمَنِ عليهم.
وتَضَمَّنَتِ الآيةُ البشارةَ لهم بالاستِخلافِ، والتَّمَكُّنِ في البلادِ، وارتِفاعِ الخَوفِ عنهم عِندَ قيامِ المَهديِّ عليه السَّلامُ مِنهم، ويكونُ المُرادُ بقَولِه: كما استَخلف الذينَ مِن قَبلِهم، هو أنْ جَعلَ الصَّالحَ للخِلافةِ خَليفةً مِثلَ آدَمَ وداودَ وسُليمانَ عليهم السَّلامُ. ويدُلُّ على ذلك قَولُه:
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] ، و
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] ، وقَولُه:
فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمً [النساء: 54] . وعلى هذا إجماعُ العِترةِ الطَّاهرةِ، وإجماعُهم حُجَّةٌ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ: "إنِّي تارِكٌ فيكم الثَّقَلينِ: كِتابَ اللهِ، وعِترَتي أهلَ بَيتي، لن يفتَرِقا حتَّى يَرِدَا عليَّ الحَوضَ". وأيضًا فإنَّ التَّمكينَ في الأرضِ على الإطلاقِ لم يتَّفِقْ فيما مَضى، فهو مُنتَظَرٌ؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ اسمُه لا يُخلِفُ وَعدَه)
[2234] ((مجمع البيان)) (7/267). .
6- في قَولِ اللهِ سُبحانَه:
وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب: 25] ، قال
الطُّوسيُّ: (أخبَرَ تعالى أنَّه رَدَّ المُشرِكينَ مِنَ الأحزابِ عن قِتالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه بغَيظِهمُ الذي جاؤوا به وخَيبتِهم، لم ينالوا خَيرًا أمَّلوه مِنَ الظَّفَرِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وبالمُؤمِنينَ، وكفى اللهُ المُؤمِنينَ القِتالَ عِندَ رُجوعِهم، وقيل: وكفى اللهُ المُؤمِنينَ القِتالَ بالرِّيحِ والمَلائِكةِ. وقيل: وكفى اللهُ المُؤمِنينَ القِتالَ بعَليٍّ عليه السَّلامُ، وهي قِراءةُ ابنِ مَسعودٍ، وكذلك هو في مُصحَفِه، في قَتلِه عَمرَو بنَ عَبدِ وُدٍّ، وكان ذلك سَبَبَ هَزيمةِ القَومِ)
[2235] ((التبيان في تفسير القرآن)) (8/331). .
7- في قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] ، ذَكرَ
الطُّوسيُّ سَبَبَ النُّزولِ فقال: (رُوي عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال يومًا لعَليٍّ: لولا أنِّي أخافُ أن يُقالَ فيك ما قالتِ النَّصارى في عيسى لقُلتُ فيك قولًا لا تَمُرُّ بمَلأٍ إلَّا أخَذوا التُّرابَ مِن تَحتِ قدَمَيك، فأنكرَ ذلك جَماعةٌ مِنَ المُنافِقينَ وقالوا: لم يرضَ أن يضرِبَ له مثلًا إلَّا بالمَسيحِ، فأنزَل اللهُ الآيةَ)
[2236] ((التبيان في تفسير القرآن)) (9/209). .
وذَكرَ الطَّبَرسيُّ سببًا آخَرَ وهو: (ما رَواه سادةُ أهلِ البَيتِ عن عليٍّ عليهم أفضَلُ الصَّلواتِ أنَّه قال: جِئتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم يومًا فوجَدتُه في مَلأٍ مِن قُرَيشٍ، فنَظَرَ إليَّ ثُمَّ قال: يا عَليُّ، إنَّما مَثَلُك في هذه الأُمَّةِ كمَثَلِ عيسى بنِ مَريمَ؛ أحَبَّه قَومٌ فأفرَطوا في حُبِّه فهَلَكوا، وأبغَضَه قَومٌ فأفرَطوا في بُغضِه فهَلَكوا، واقتَصَدَ فيه قَومٌ فنَجَوا؛ فعَظُمَ ذلك عليهم فضَحِكوا وقالوا يُشَبِّهُه بالأنبياءِ والرُّسُلِ! فنَزَلتِ الآيةُ)
[2237] ((مجمع البيان)) (9/ 53). ويُنظر: ((جوامع الجامع)) للطبرسي (ص: 436). .
8- في قَولِ اللهِ سُبحانَه:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد: 26] ، قال الطَّبَرسيُّ: (المَرويُّ عن أبي جَعفرٍ و
أبي عَبدِ اللهِ عليهما السَّلامُ أنَّهم بَنو أُمَيَّةَ كرِهوا ما نَزَّل اللهُ في وِلايةِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ عليه السَّلامُ)
[2238] ((مجمع البيان)) (9/ 176). .
9- في تَفسيرِ سورةِ عَبَسَ رَفَض
الطُّوسيُّ ما ذَكرَه جَميعُ المُفسِّرينَ مِن نُزولِها في قِصَّةِ ابنِ أُمِّ مَكتومٍ الأعمى رَضِيَ اللهُ عنه حينَ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يدعو بَعضَ صَناديدِ قُرَيشٍ، فعَبَسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأعرَضَ عنه انشِغالًا بدَعوةِ ذلك المُشرِكِ
[2239] قال الرَّازيُّ: (أجمع المُفَسِّرون على أنَّ الذي عَبَس وتولَّى هو الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأجمعوا على أنَّ الأعمى هو ابنُ أمِّ مكتومٍ). ((تفسير الرازي)) (31/53). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/211)، ((فتح القدير)) للشوكاني (5/462). .
قال
الطُّوسيُّ: (اختَلفوا فيمَن وصَفه اللهُ تعالى بذلك، فقال كثيرٌ مِنَ المُفسِّرينَ وأهلِ الحَشوِ: إنَّ المُرادَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه، قالوا: وذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه كان مَعَه جَماعةٌ مِن أشرافِ قَومِه ورُؤَسائِهم قد خَلا بهم، فأقبَل ابنُ أُمِّ مَكتومٍ ليُسلِمَ، فأعرضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه عنه كراهيةَ أن يكرَهَ القَومُ إقبالَه عليه، فعاتَبَه اللهُ على ذلك. وقيل: إنَّ ابنَ أُمِّ مَكتومٍ كان مُسلِمًا، وإنَّما كان يُخاطِبُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وهو لا يعلمُ أنَّ رَسولَ اللهِ مَشغولٌ بكلامِ قَومٍ، فيقولُ: يا رَسولَ اللهِ. وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه قد أجَلَّ اللهُ قدْرَه عن هذه الصِّفاتِ، وكيف يصِفُه بالعُبوسِ والتَّقطيبِ، وقد وصَفَه بأنَّه
عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ وقال:
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159] ؟ وكيف يُعرِضُ عَمَّن تَقدَّم وصفُه مَعَ قَولِه تعالى:
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] ؟ ومَن عَرَف النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وحُسنَ أخلاقِه وما خَصَّه اللهُ تعالى به مِن مَكارِمِ الأخلاقِ وحُسنِ الصُّحبةِ حتَّى قيل: إنَّه لم يكُنْ يُصافِحُ أحَدًا قَطُّ فيَنزِعُ يدَه مِن يدِه حتَّى يكونَ ذلك الذي ينزِعُ يدَه مِن يدِه. فمَن هذه صِفتُه كيف يُقَطِّبُ في وجهِ أعمى جاءَ يَطلُبُ الإسلامَ؟ على أنَّ الأنبياءَ عليهمُ السَّلامُ مُنَزَّهونَ عن مِثلِ هذه الأخلاقِ وعَمَّا هو دونَها؛ لِما في ذلك مِنَ التَّنفيرِ عن قَبولِ قَولِهم والإصغاءِ إلى دُعائِهم، ولا يُجوِّزُ مِثلَ هذا على الأنبياءِ مَن عَرَف مقدارَهم وتَبَيَّنَ نَعتَهم.
وقال قَومٌ: إنَّ هذه الآياتِ نَزَلت في رَجُلٍ مِن بَني أُميَّةَ كان واقِفًا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه، فلمَّا أقبَل ابنُ أُمِّ مَكتومٍ تنَفَّر منه، وجَمع نَفسَه وعَبَسَ في وجهِه وأعرَض بوجهِه عنه، فحَكى اللهُ تعالى ذلك وأنكرَه؛ مُعاتَبةً على ذلك)
[2240] ((التبيان في تفسير القرآن)) (10/ 268). .
10- أورَدَ الطَّبَرسيُّ رِوايةً تُبَيِّنُ أنَّ أبا الدَّحداحِ هو المُرادُ مِن قَولِ اللهِ تعالى:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى [الليل: 5] ، مع أنَّ الآيةَ مَكِّيَّةٌ، وعامَّةُ المفسِّرين على أنَّها نزلت في
أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللهُ عنه
[2241] قال القُرطبيُّ: (قولُه تعالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى قال ابنُ مَسْعودٍ: "يَعْني: أبا بَكْرٍ رضيَ اللهُ عنه"، وقالَه عامَّةُ المُفَسِّرينَ) ((تفسير القرطبي)) (20/82). ، ثُمَّ قال الطَّبَرسيُّ: (عنِ
ابنِ الزُّبَيرِ قال: إنَّ الآيةَ نَزَلت في
أبي بكرٍ؛ لأنَّه اشتَرى المَماليكَ الذينَ أسلَموا مِثلُ بلالٍ وعامِرِ بنِ فُهَيرةَ وغَيرِهما، وأعتَقَهم، والأَولى أن تَكونَ الآياتُ مَحمولةً على عُمومِها في كُلِّ مَن يُعطي حَقَّ اللهِ مِن مالِه، وكُلِّ مَن يمنَعُ حَقَّه سُبحانَه)
[2242] ((مجمع البيان)) (10/ 501 - 502). ، أمَّا
الطُّوسيُّ فإنَّه حَمل الآيةَ على العُمومِ، فقال: (مَعناه: مَن أعطى حَقَّ اللهِ واتَّقى مَحارِمَ اللهِ. ذَكرَه قتادةُ)
[2243] ((التبيان في تفسير القرآن)) (10/363)، وحَملُ الآياتِ على عمومِها لا ينفي سَبَبَ النُّزولِ، فكما هو معلومٌ أنَّ العِبرةَ بعُمومِ اللَّفظِ لا بخُصوصِ السَّبَبِ، وشتَّانَ بَيْنَ موقِفِهما هنا وموقِفِهما من الآياتِ التي وضع المفترون أسبابًا لنزولِها تتَّصِلُ بأئمَّتِهم، ولم يُقَرِّرا أنَّ العبرةَ بعُمومِ اللَّفظِ! قال ابنُ عطيَّةَ: (لم يختَلِفْ أهلُ التَّأويلِ أنَّ المرادَ بالأتقى إلى آخرِ السُّورةِ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، ثمَّ هي تتناوَلُ كُلَّ مَن دخل في هذه الصِّفاتِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/ 492). ويُنظر: ((الإجماع في التفسير)) للخضيري (ص: 460). .
فهذه بَعضُ الأقوالِ في تَفسيرِ
الطُّوسيِّ والطَّبَرسيِّ، وهما مِن أكثَرِ الشِّيعةِ اعتدالًا، وأقَلِّهم غُلوًّا، ويبدو البَونُ شاسعًا عِندَ المُقارَنةِ بَينَهما وبَينَ ما سَبَقَهما مِنَ التَّفاسيرِ ذاتِ النَّزعةِ الغاليةِ، كتَفسيرِ القُمِّيِّ، والعَيَّاشيِّ، أو مَن جاءَ بعدَهما مِن مُتَأخِّري الشِّيعةِ الإماميَّةِ، كالفيضِ الكاشانيِّ، والبَحرانيِّ.