الفَرعُ الثَّالثُ: إثباتُ عَمَلِ القَلبِ
جاءت في القرآنِ الكريمِ آياتٌ كثيرةٌ تُبَيِّنُ أعمالَ القَلْبِ وأهميَّتَها في الإيمانِ، ومن ذلك:
1- الوَجَلُ، كما قال تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] .
2- الإخباتُ، كما قال تعالى:
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54] .
3- السَّلامةُ من الشِّركِ، كما قال تعالى:
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء 88، 89].
4- الإنابةُ، كما قال تعالى:
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق: 33].
5- الطُّمَأنينةُ، كما قال تعالى:
أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] .
6- التَّقوى، كما قال تعالى:
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] .
7- الانشِراحُ، كما قال تعالى:
فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [الأنعام:125] .
8- السَّكينةُ، كما قال تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح: 4] .
9- اللِّينُ، كما قال تعالى:
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] .
10- الخُشوعُ، كما قال تعالى:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] .
11- الطَّهارةُ، كما قال تعالى:
ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53] وهي في آيةِ الحِجابِ، فدَلَّت على التلازُمِ بين عَمَلِ القَلبِ وعمَلِ الجوارحِ.
12- الهِدايةُ، كما قال تعالى:
وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] .
13- العَقلُ، كما قال تعالى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج: 46] .
14- التدَبُّرُ، كما قال تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] .
15- الفِقهُ، كما قال تعالى:
لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف: 179] .
16- الإيمانُ، كما قال تعالى:
مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: 41] .
وقال سُبحانَه في الإيمانِ الخاصِّ:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ؛ ولهذا كان فيهم الصِّنفُ الذي سَمَّاه اللهُ:
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60] .
17- السَّلامةُ مِن الغِلِّ للمؤمنِينَ، كما قال تعالى:
وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] .
18- الرِّضا والتسليمُ، كما قال تعالى:
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
ومِمَّا ورد مُسنَدًا إلى قَلبِ غيرِ المؤمِنِ: 1- الإنكارُ، كما قال تعالى:
فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ [النحل: 22] .
2- الكِبرُ، كما قال تعالى:
إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ [غافر: 56] .
3- الإعراضُ واللَّهوُ، كما قال تعالى:
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 2-3] .
4- الاشمئزازُ، كما قال تعالى:
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزمر: 45] .
5- الزَّيغُ، كما قال تعالى:
فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] .
6- العمى، كما قال تعالى:
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
7- القَفلُ، وعَدَمُ الفِقهِ، وعَدَمُ العَقلِ، كما قال تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] .
وقال سُبحانَه:
لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف: 179] .
وقال عَزَّ وجَلَّ:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج: 46] .
8- المرَضُ، كما قال تعالى:
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] .
9- القَسوةُ، كما قال تعالى:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] .
10- الغَمرةُ، كما قال تعالى:
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا [المؤمنون: 63 ].
11- الرَّانُ، كما قال تعالى:
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
12- العَداوةُ للحَقِّ وأهْلِه، كما قال تعالى:
قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118] [43] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (7/672)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/121)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/211) (2/91). .
فإيمانُ القَلبِ ركنٌ في الإيمانِ، ولا يَصِحُّ الإيمانُ بدُونِه، وإذا وُجِدَ سَرَى ذلك إلى الجوارِحِ ولا بُدَّ.
وإيمانُ القَلبِ ليس مجَرَّدَ العِلمِ والمعرفةِ والتصديقِ باللهِ عَزَّ وجَلَّ، وخَبَرِه وخَبَرِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقط، بل لا بُدَّ مع ذلك من الانقيادِ والاستِسلامِ، والخُضوعِ والإخلاصِ؛ مما يدخُلُ تحت عَمَلِ القَلبِ.
قال
المرْوزيُّ: (أصلُ الإيمانِ التصديقُ باللهِ، وما جاء مِن عِنْدِه... وعنه يكونُ الخضوعُ لله؛ لأنَّه إذا صَدَّق باللهِ خَضَع له، وإذا خضع أطاع... ومعنى التصديقِ هو المعرِفةُ باللهِ، والاعترافُ له بالربوبيَّةِ، بوَعْدِه ووعيدِه، وواجِبِ حَقِّه، وتحقيقُ ما صَدَّق به من القَولِ والعَمَلِ... ومن التصديقِ باللهِ يكونُ الخضوعُ للهِ، وعن الخُضوعِ تكونُ الطَّاعاتُ؛ فأوَّلُ ما يكونُ عن خضوعِ القَلبِ لله الذي أوجَبَه التصديقُ مِن عَمَلِ الجوارحِ: الإقرارُ باللِّسانِ)
[44] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/695). .
وقال أيضًا: (المعرفةُ التي هي إيمانٌ: هي معرفةُ تعظيمِ اللهِ، وجَلالِه، وهَيْبتِه... فإذا كان كذلك، فهو المصَدِّقُ الذي لا يجِدُ مَحِيصًا عن الإجلالِ، والخُضوعِ لله بالرُّبوبيَّةِ... فبذلك ثَبَت أنَّ الإيمانَ يُوجِبُ الإجلالَ لله، والتعظيمَ له، والخَوفَ منه، والتسارُعَ إليه بالطَّاعةِ على قَدْرِ ما وجَبَ في القَلْبِ من عظيمِ المعرفةِ)
[45] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/775) .
وقال كذلك: (أصلُ الإيمانِ هو التصديقُ، وعنه يكونُ الخُضوعُ، فلا يكونُ مُصَدِّقًا إلَّا خاضِعًا، ولا خاضِعًا إلَّا مُصَدِّقًا، وعنهما تكونُ الأعمالُ)
[46] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/715). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (الإيمانُ أصلُه الإيمانُ الذي في القَلْبِ، ولا بُدَّ فيه من شيئينِ:
تصديقُ القَلبِ، وإقرارُه ومعرِفتُه. ويقال لهذا: قَولُ القَلبِ.
قال
الجُنَيدُ بنُ مُحمَّدٍ: «التوحيدُ قَولُ القَلبِ، والتوكُّلُ عَمَلُ القَلبِ»، فلا بُدَّ فيه من قَولِ القَلبِ وعَمَلِه، ثمَّ قَولِ البَدَنِ وعَمَلِه، ولا بُدَّ فيه من عَمَلِ القَلبِ، مِثلُ حُبِّ اللهِ ورَسولِه، وإخلاصِ العَمَلِ للهِ وَحْدَه، وتوكُّلِ القَلبِ على اللهِ وَحْدَه، وغيرِ ذلك من أعمالِ القُلوبِ التي أوجبها اللهُ ورسولُه، وجعَلَها من الإيمانِ.
ثمَّ إنَّ القَلبَ هو الأصلُ، فإذا كان فيه معرفةٌ وإرادةٌ سرى ذلك إلى البَدَنِ لا محالةَ، فلا يمكِنُ أن يتخَلَّفَ البَدَنُ عمَّا يريدُه القَلبُ.
قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ألا وإنَّ في الجسَدِ مُضغةً إذا صَلَحت صَلَح لها سائِرُ الجسَدِ، وإذا فسَدَت فَسَد لها سائِرُ الجسَدِ، ألا وهي القَلبُ )) [47] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. ... فإذا كان القَلبُ صالحًا بما فيه من الإيمانِ عِلمًا وعَمَلًا قلبيًّا لَزِمَ ضرورةً صلاحُ الجسَدِ بالقَولِ الظَّاهِرِ، والعَمَلُ بالإيمانِ المطْلَقِ)
[48] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 149). .
وقال أيضًا: (الإيمانُ أصلُه مَعرِفةُ القَلبِ وتصديقُه وقَولُه، والعَمَلُ تابِعٌ لهذا العِلمِ، والتصديقُ ملازِمٌ له، ولا يكونُ العَبدُ مُؤمِنًا إلَّا بهما)
[49] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 296). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الإيمانَ الذي في القَلْبِ مِن التصديقِ والحُبِّ وغيرِ ذلك: يستلزِمُ الأمورَ الظَّاهِرةَ مِن الأقوالِ الظَّاهِرةِ والأعمالِ الظَّاهِرةِ)
[50] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/575). .
فالعِلمُ والمعرِفةُ والتصديقُ (أي: قَولُ القَلبِ)، إنْ لم يصحَبْها الانقيادُ والاستِسلامُ والخضوعُ، (أي: عمَلُ القلبِ والجوارحِ) لم يكُنِ المرءُ مُؤمِنًا، بل تصديقُ هذا شَرٌّ مِن عَدَمِه؛ لأنَّه تَرَك الانقيادَ مع عِلْمِه ومعرفتِه.
ومِنَ الأدِلَّةِ على أنَّ التصديقَ والمَعرِفةَ فقط لا تنفَعُ صاحِبَها:1- قَولُ الله سُبحانَه حاكيًا قَولَ
إبليسَ:
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ [الأعراف: 12] وقَولَه:
فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] ، ف
إبليسُ يَعرِفُ أنَّ اللهَ خَلَقَه، ولكِنَّه لم يخضَعْ لأمْرِه بالسُّجودِ لآدَمَ، فلم تنفَعْه مَعرِفتُه باللهِ.
2- خبَرُ اللهِ عن عُلَماءِ اليَهودِ أنَّهم يعرفون النبَّي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما أُنزِلَ إليهم كما يعرفون أبناءَهم، ولا أحَدَ أصدَقُ شَهادةً على ما في قُلوبِهم من اللهِ؛ قال اللهُ سُبحانَه:
فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة: 89] ، وقال:
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة: 146] ، وقال:
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 146] فشَهِدَ اللهُ سُبحانَه على قُلوبِهم بأنَّها عارِفةٌ عالِمةٌ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يوجِبْ لهم اسمَ الإيمانِ بمعرفتِهم وعِلْمِهم بالحَقِّ؛ إذْ لم يقارِنْ مَعرِفَتَهم الخضوعُ للهِ والتَّصديقُ بالرَّسولِ، والطَّاعةُ للهِ ورَسولِه
[51] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/696، 698). .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (نحن نقولُ: الإيمانُ هو التصديقُ، ولكِنْ ليس التصديقُ مجَرَّدَ اعتِقادِ صِدقِ المخبِرِ دونَ الانقيادِ له، ولو كان مجرَّدُ اعتقادِ التَّصديقِ إيمانًا لكان
إبليسُ، وفِرعَونُ وقَومُه، وقَومُ صالحٍ، واليهودُ الذين عرفوا أنَّ محمَّدًا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما يَعرِفون أبناءَهم- مؤمِنين صادِقينَ)
[52] يُنظر: ((الصلاة وحكم تاركها)) (ص: 50). .
وممَّا يجدُرُ ذِكْرُه أنَّ بَعضَ السَّلَفِ يُطلِقُ التصديقَ أو اعتقادَ القَلْبِ، ويقصِدُ به قَولَ القَلبِ وعَمَلَه جميعًا، أو عمَلَ القَلبِ وَحْدَه.
وجاء في كتابِ السُّنَّةِ للخَلَّالِ: (من زَعَم أنَّ الإيمانَ الإقرارُ، فما يقولُ في المعرفةِ؟ هل يحتاجُ إلى المعرفةِ مع الإقرارِ؟ وهل يحتاجُ أن يكونَ مُصَدِّقًا بما عَرَف؟ فإنْ زَعَم أنَّه يحتاجُ إلى المعرفةِ مع الإقرارِ، فقد زَعَم أنَّه من شيئينِ، وإن زعم أنَّه يحتاجُ أن يكونَ مُقِرًّا ومُصَدِّقًا بما عرف، فهو من ثلاثةِ أشياءَ، وإن جحد وقال: لا يحتاجُ إلى المعرفةِ والتصديقِ فقد قال قَولًا عظيمًا)
[53] يُنظر: ((السنة)) لأبي بكر بن الخلال (4/ 25). .
فالملاحَظُ مِن الكلامِ السَّابِقِ أنَّ المعنيَّ بالتصديقِ عَمَلُ القَلبِ، وأنَّ المرادَ بالمعرفةِ قَولُ القَلبِ، أمَّا الإقرارُ فهو قَولُ اللِّسانِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فأراد
أحمَدُ بالتصديقِ أنَّه مع المعرفةِ به صار القَلبُ مُصَدِّقًا له، تابعًا له، محبًّا له، معظِّمًا له... وهذا أشبَهُ بأن يُحمَلَ عليه كلامُ
الإمامِ أحمدَ)
[54] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/397). .
وقال أبو ثَورٍ إبراهيمُ بنُ خالِدٍ البَغداديُّ لَمَّا سُئِل عن الإيمانِ ما هو: (اعلَمْ -يرحمنا اللهُ وإيَّاك- أنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقَلبِ وقَولٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، وذلك أنَّه ليس بين أهلِ العِلمِ خِلافٌ في رجُلٍ لو قَال: أشهَدُ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ واحِدٌ، وأنَّ ما جاءت به الرُّسُلُ حَقٌّ، وأقَرَّ بجميعِ الشَّرائِعِ، ثمَّ قال: ما عُقِد قلبي على شيءٍ مِن هذا، ولا أُصَدِّقُ به؛ أنَّه ليس بمُسلِمٍ، ولو قَال: المسيحُ هو اللهُ، وجَحَد أمرَ الإسلامِ، قال: لم يعتَقِدْ قلبي على شيءٍ من ذلك؛ أنَّه كافِرٌ بإظهارِ ذلك، وليس بمؤمِنٍ، فلمَّا لم يكُنِ بالإقرارِ إذا لم يكن معه التصديقُ؛ مؤمنًا، ولا بالتصديقِ إذا لم يكُنْ معه الإقرارُ؛ مؤمنًا، حتى يكونَ مُصَدِّقًا بقَلْبِه مُقِرًّا بلسانِه، فإذا كان تصديقٌ بالقَلبِ وإقرارٌ باللِّسانِ، كان عندهم مؤمنًا، وعند بعضِهم لا يكونُ حتى يكونَ مع التصديقِ عَمَلٌ، فيكون بهذه الأشياءِ إذا اجتمعت مؤمنًا)
[55] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (4/ 932). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (وكذلك قَولُ من قال: اعتقادٌ بالقَلْبِ، وقولٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، جَعَل القَولَ والعَمَلَ اسمًا لِما يظهَرُ، فاحتاج أن يضُمَّ إلى ذلك اعتقادَ القَلبِ، ولا بُدَّ أن يدخُلَ في قَولِه: "اعتقادُ القَلبِ" أعمالُ القَلبِ المقارِنةُ لتصديقِه، مِثلُ: حُبِّ اللهِ، وخَشيةِ اللهِ، والتوكُّلِ عليه، ونحوِ ذلك؛ فإنَّ دُخولَ أعمالِ القَلبِ في الإيمانِ أَولى من دُخولِ أعمالِ الجوارحِ، باتِّفاقِ الطَّوائِفِ كُلِّها)
[56] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/506). .
فالخُضوعُ والاستسلامُ والانقيادُ (عمَلُ القَلبِ والجوارح) هو أساسُ دَعوةِ الأنبياءِ والرُّسُلِ، فقضِيَّتُهم مع أقوامِهم ليست قضيَّةَ المعرفةِ والعِلمِ المجَرَّدِ (أي قول القلب).
قال اللهُ تعالى:
فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] .
قال الحَسَنُ: (إنَّ القَومَ قد عَرَفوه، ولكِنَّهم جَحَدوا بعد المعرفةِ)
[57] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (4/1283). .
وقال قتادة: (يعلمون أنَّك رَسولُ اللهِ ويَجحَدونَ)
[58] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (4/1283). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل: 14] . قال قتادةُ: (الجُحودُ لا يكونُ إلَّا من بَعدِ مَعرِفةٍ). وقال: (وقد أيقنَتْها أنفُسُهم؛ أنَّ موسى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[59] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (9/2852). .
فالكُفَّارُ والمنافقِون غالبًا يقرُّون بالربوبيَّةِ والرِّسالةِ، ولكِنْ بسَبَبِ الكِبْرِ والبُغضِ وحُبِّ الرِّياسةِ والشَّهواتِ ونَحْوِها؛ يُعرِضون عن الطَّاعةِ، فلا ينفَعُهم التصديقُ المجَرَّدُ عن الإخلاصِ والخُضوعِ، ولا يُنجِيهم تصديقُهم هذا من عذابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في الآخِرةِ، ولا من سَيفِ المؤمِنين في الدُّنيا.
فإيمانُ القَلْبِ يشتَمِلُ على أصلينِ:
الأوَّلُ: قَولُ القَلبِ.
الثَّاني: عَمَلُ القَلبِ.
وقد ورد عن بَعضِ السَّلَفِ تفسيرُ إيمانِ القَلبِ: بالتصديقِ، أو الإقرارِ، أو الاعتِقادِ.
وبمعرفةِ حقيقةِ هذه المعاني يتَّضِحُ الفَرقُ بين أقوالِ القُلوبِ وأعمالِها، والعلاقةُ بينها، فيَحصُلُ العِلمُ بمرادِ السَّلَفِ مِن عباراتِهم.
المسألةُ الأُولى: تصديقُ القَلبِيُطلَقُ تصديقُ القَلبِ على شيئينِ:
الأوَّلُ: التصديقُ الخبريُّ العِلميُّ الذِّهنيُّ، أي: أن يقَعَ في القَلبِ نِسبةُ الصِّدقِ إلى المخبِرِ والخَبَرِ ذاتِه، مجرَّدًا عَمَّا سِوى ذلك من أعمالِ القُلوبِ، وهذا هو قَولُ القَلْبِ.
الثَّاني: التصديقُ العَمَليُّ، أي: تَصديقُ الخَبَرِ بالامتثالِ والانقيادِ، وهذا هو الذي قصَدَه السَّلَفُ عند إطلاقِ التَّصديقِ. فمن قال مِنَ السَّلَفِ بأنَّ الإيمانَ هو: التصديقُ، فإنَّه يَقصِدُ بذلك المعنيينِ؛ قَولَ القَلبِ وعَمَلَه، أو عَمَلَ القَلبِ المتضَمِّنَ لتصديقِه.
قال
الأوزاعيُّ: (الدِّينُ: هو التصديقُ، وهو الإيمانُ والعَمَلُ)
[60] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (5/955). .
وجاء في اعتقادِ
أبي زُرعةَ وأبي حاتمٍ الرَّازِيَّينِ: (إنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ؛ إقرارٌ باللِّسانِ، وتصديقٌ بالقَلبِ، وعَمَلٌ بالأركانِ)
[61] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/203). .
وقال
الآجُرِّي: (اعلَموا -رحِمَنا اللهُ وإيَّاكم- أنَّ الذي عليه عُلَماءُ المُسلِمين: أنَّ الإيمانَ واجِبٌ على جميعِ الخَلْقِ، وهو تصديقٌ بالقَلبِ، وإقرارٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ)
[62] يُنظر: ((الشريعة)) (2/611). .
وقد دَلَّت الأدِلَّةُ من الكتابِ والسُّنَّةِ ولُغةِ العَرَبِ وأقوالِ السَّلَفِ على أنَّ التصديقَ ليس محصورًا في التصديقِ الخَبَريِّ، بل ورد كذلك في التصديقِ العَمَليِّ، فمن ذلك:
1- قَولُه تعالى:
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 104- 105] ، أي: قد امتثَلْتَ الأمرَ وحقَّقْتَه فكأنَّه قد ذبحَ ابنَه؛ لأنَّ المقصودَ هو عَمَلُ القَلبِ.
قال
البَغَوي: (فإن قيل: كيف قال: صَدَّقْتَ الرُّؤيا، وكان قد رأى الذَّبحَ، ولم يذبَحْ؟ قيل: جعَلَه مُصَدِّقًا؛ لأنَّه قد أتى بما أمكَنَه، والمطلوبُ إسلامُهما لأمرِ اللهِ تعالى، وقد فعلا)
[63] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/38). .
2- قَولُه تعالى:
وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] .
فسَّرها
ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ الصِّدقَ هو شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، فمن جاء من المؤمنين مصدِّقًا بها ومصدِّقًا بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو المتقَّي
[64] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن أبي حاتم (10/3251)، ((تفسير ابن كثير)) (7/99). .
3- قَولُه تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يعني تعالى ذِكرُه بقَولِه:
أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة: 177] من آمَنَ باللهِ واليومِ الآخِرِ، ونعَتَهم النَّعتَ الذي نعَتَهم به في هذه الآيةِ، يقولُ: فمن فَعَل هذه الأشياءَ فهم الذين صَدَقوا اللهَ في إيمانِهم، وحَقَّقوا قَولَهم بأفعالِهم)
([65]يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/92). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: هؤلاء الذين اتَّصَفوا بهذه الصِّفاتِ هم الذين صَدَقوا في إيمانِهم؛ لأنَّهم حَقَّقوا الإيمانَ القلبيَّ بالأقوالِ والأفعالِ)
[66] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/488). .
وبهذا يتَّضِحُ معنى تصديقِ القَلبِ عند السَّلَفِ إذا أُفرِد، وأنَّهم يريدون بذلك التصديقَ الخَبَريَّ المستلزِمَ لعَمَلِ القَلبِ، أو عَمَلِ القَلبِ المتضَمِّنِ لقَولِه، أو هما جميعًا.
ومن الخطَأِ أن يُظَنَّ أنَّ مُرادَهم بالتصديقِ عند الإطلاقِ هو مجَرَّدُ نِسبةِ الصِّدقِ إلى الخَبرِ، أو ما أشبَهَه كالمعرفةِ المجَرَّدةِ، أو العِلمِ المجَرَّدِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الإيمانُ أصلُه الإيمانُ الذي في القَلْبِ، ولا بدَّ فيه من شيئينِ:
تصديقُ القَلبِ، وإقرارُه ومَعرِفتُه، ويقالُ لهذا: قَولُ القَلبِ... ولا بُدَّ فيه من عَمَلِ القَلبِ، مِثلُ: حُبِّ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... وغيرِ ذلك من أعمالِ القُلوبِ، التي أوجَبَها اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجعَلَها من الإيمانِ)
[67] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 149). .
وقال أيضًا: (الإيمانُ وإن كان يتضَمَّنُ التصديقَ، فليس هو مجَرَّدَ التصديقِ، وإنَّما هو الإقرارُ والطُّمَأنينةُ؛ وذلك لأنَّ التصديقَ إنَّما يَعرِضُ للخَبَرِ فقط، فأمَّا الأمرُ فليس فيه تصديقٌ من حيث هو أمرٌ، وكلامُ اللهِ خبَرٌ وأمرٌ، فالخَبَرُ يستوجِبُ تصديقَ المخبِرِ، والأمرُ يَستوجِبُ الانقيادَ له والاستِسلامَ، وهو عمَلٌ في القَلبِ جِماعُه الخضوعُ والانقيادُ للأمرِ وإن لم يُفعَلِ المأمورُ به، فإذا قُوبِلَ الخَبَرُ بالتصديقِ، والأمرُ بالانقيادِ، فقد حَصَل أصلُ الإيمانِ في القَلبِ، وهو الطُّمَأنينةُ والإقرارُ... وذلك إنَّما يحصُلُ إذا استقَرَّ في القَلبِ التصديقُ والانقيادُ)
[68] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/966). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (نحن نقولُ: الإيمانُ هو التصديقُ، ولكِنْ ليس التصديقُ مجَرَّدَ اعتِقادِ صِدقِ المخبِرِ دونَ الانقيادِ له، ولو كان مجرَّدُ اعتقادِ التَّصديقِ إيمانًا لكان
إبليسُ، وفِرعَونُ وقَومُه، وقَومُ صالحٍ، واليهودُ الذين عرفوا أنَّ محمَّدًا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما يَعرِفون أبناءَهم- مؤمِنين مُصَدِّقين... فالتصديقُ إنَّما يتِمُّ بأمرينِ: أحَدُهما: اعتقادُ الصِّدقِ. و
الثَّاني: محبَّةُ القَلبِ وانقيادُه)
[69] يُنظر: ((الصلاة)) (ص: 50). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (من هنا يتبيَّنُ لك أنَّ من قال من أهْلِ السُّنَّةِ في الإيمانِ هو: التصديقُ على ظاهِرِ اللُّغةِ؛ أنَّهم إنَّما عَنَوا التصديقَ الإذعانيَّ المُستلزِمَ للانقيادِ ظاهِرًا وباطِنًا بلا شَكٍّ، لم يَعْنُوا مجرَّدَ التصديقِ؛ فإنَّ
إبليسَ لم يُكذِّبْ في أمرِ اللهِ تعالى له بالسُّجودِ، وإنما أبى عن الانقيادِ كُفرًا واستِكبارًا، واليهودُ كانوا يَعتَقِدون صِدقَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يتَّبِعوه، وفِرعَونُ كان يعتَقِدُ صِدقَ موسى ولم ينقَدْ، بل جَحَد بآياتِ اللهِ ظُلمًا وعُلُوًّا، فأين هذا من تصديقِ من قال اللهُ تعالى فيه:
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] الآيات؟! وأين تصديقُ من قال اللهُ تعالى فيهم:
قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا،
قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [البقرة: 76] من تصديقِ مَن قالوا:
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] ؟!)
[70] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/594). .
والتصديقُ بمعناه الخَبَريِّ، الذي هو مجَرَّدُ أن يَقَعَ في القَلبِ نِسبةُ الصِّدقِ إلى المخبِرِ والخَبَرِ مِن غيرِ إذعانٍ وقَبولٍ؛ يساوي تمامًا عند السَّلَفِ والأئِمَّةِ معنى العِلمِ أو المعرفةِ، إذ لا يُوجَدُ فَرقٌ بين العِلمِ والمعرفةِ والتَّصديقِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (فإنَّ الفَرْقَ بين مَعرِفةِ القَلبِ وبين مجَرَّدِ تصديقِ القَلْبِ الخالي عن الانقيادِ الذي يُجعَلُ قَولَ القَلبِ: أمرٌ دقيقٌ، وأكثَرُ العُقلاءِ يُنكِرونَه، وبتقديرِ صِحَّتِه لا يجِبُ على كُلِّ أحدٍ أن يوجِبَ شيئينِ لا يُتصَوَّرُ الفَرقُ بينهما، وأكثَرُ النَّاسِ لا يتصَوَّرون الفَرْقَ بين مَعرفةِ القَلبِ وتَصديقِه، ويقولون: إنَّ ما قاله ابنُ كُلَّابٍ و
الأشعَريُّ مِن الفَرْقِ: كلامٌ باطِلٌ لا حقيقةَ له، وكثيرٌ من أصحابِه اعتَرَف بعَدَمِ الفَرْقِ،... والمقصودُ هنا أنَّ الإنسانَ إذا رَجَع إلى نَفْسِه عَسُرَ عليه التفريقُ بين عِلْمِه بأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صادِقٌ، وبين تصديقِ قَلْبِه تصديقًا مجَرَّدًا عن انقيادٍ وغَيرِه من أعمالِ القَلبِ بأنَّه صادِقٌ)
[71] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 311). .
والمتتَبِّعُ لبَعضِ تعاريفِ السَّلَفِ للإيمانِ يجِدُ أنَّهم يُعَبِّرون عن التصديِق بالمعرفةِ، وعن المعرفةِ بالتصديقِ، بل ويُعَرِّفون المعرفةَ بأنَّها التصديقُ، والتصديقَ بأنَّه المعرِفةُ.
قال
مالِكُ بنُ أنَسٍ، وشَرِيكٌ، وأبو بَكرِ بنُ عَيَّاشٍ، وعبدُ العزيزِ بنُ أبي سَلَمةَ، وحَمَّادُ بنُ سَلَمةَ، وحمَّادُ بنُ زَيدٍ: (الإيمانُ: المعرفةُ والإقرارُ والعَمَلُ)
[72] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/931). .
وقال
المَرْوزيُّ: (المعرفةُ التي هي إيمانٌ: هي معرفةُ تعظيمِ اللهِ وجَلالِه وهَيبتِه، ... فإذا كان كذلك فهو المصَدِّقُ الذي لا يجِدُ مَحِيصًا عن الإجلالِ لله بالرُّبوبيَّةِ)
[73] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/773). .
وقال أيضًا: (معنى التصديقِ: هو المعرِفةُ باللهِ، والاعترافُ له بالرُّبوبيَّةِ، وبوَعدِه، ووَعيدِه، وواجِبِ حَقِّه، وتحقيقُ ما صَدَّق به من القَولِ والعَمَلِ)
[74] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/695). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (ومن تأمَّلَ ما في السِّيَرِ والأخبارِ الثابتةِ مِن شهادةِ كَثيرٍ مِن أهلِ الكِتابِ والمُشرِكين له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالرِّسالةِ، وأنَّه صادِقٌ، فلم تُدخِلْهم هذه الشَّهادةُ في الإسلامِ- عَلِمَ أنَّ الإسلامَ أمرٌ وراءَ ذلك، وأنَّه ليس هو المعرفةَ فقط، ولا المعرفةَ والإقرارَ فقط، بل: المعرفةُ، والإقرارُ، والانقيادُ، والتزامُ طاعتِه ودِينِه ظاهرًا وباطنًا)
[75] يُنظر: ((زاد المعاد)) (3/558). .
المَسألةُ الثَّانيةُ: اعتِقادُ القَلْبِاعتِقادُ القَلبِ عند السَّلَفِ يتضَمَّنُ رُكنَينِ:
الأوَّلُ: المعرِفةُ والعِلمُ والتصديقُ، ويُطلَقُ عليه قَولُ القَلبِ، وهذا المعنى عندما يقتَرِنُ الاعتقادُ بعَمَلِ القَلبِ
[76] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (1/ 11). .
الثَّاني: الالتِزامُ والانقيادُ والتسليمُ، ويُطلَقُ عليه عَمَلُ القَلبِ.
وبهذا يتبَيَّنُ أنَّ من قال مِنَ السَّلَفِ بأنَّ الإيمانَ اعتِقادٌ بالقَلبِ وقَولٌ باللِّسانِ وعَمَلٌ بالجوارحِ، فمُرادُه بالاعتقادِ هنا قَولُ القَلبِ وعَمَلُه.
وقد بوَّب
ابنُ مَنْدَه في كتابِه
((الإيمان)) بابًا بعُنوان: (ذِكرُ خَبَرٍ يدُلُّ على أنَّ الإيمانَ قَولٌ باللِّسانِ، واعتِقادٌ بالقَلبِ، وعَمَلٌ بالأركانِ، يزيدُ ويَنقُصُ)
[77] يُنظر: ((الإيمان)) (1/ 341). .
وبوَّب
اللَّالَكائيُّ بقَولِه: (سِياقُ ما رُوِيَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الإيمانَ تلَفُّظٌ باللِّسانِ، واعتِقادٌ بالقَلبِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ)
[78] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (4/911)، ويُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (9/243). وعرَّفَ ابنُ عُثيمين في كتابِه ((شرح ثلاثة الأصول)) (ص: 79) الإيمان بأنَّه: (اعتقادٌ بالقَلبِ، وقَولٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ). ، ثمَّ ذَكَر الأدِلَّةَ الدَّالَّةَ على أنَّه اعتقادٌ بالقَلبِ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (وكذلك قَولُ من قال: اعتِقادٌ بالقَلبِ، وقَولٌ باللِّسانِ، وعَمَلٌ بالجوارحِ، جَعَل القَولَ والعَمَلَ اسمًا لما ظهر، فاحتاج أن يَضُمَّ إلى ذلك اعتِقادَ القَلبِ، ولا بُدَّ أن يدخُلَ في قَولِه: "اعتِقادُ القَلبِ" أعمالُ القَلبِ المقارِنةُ لتصديقِه؛ مِثلُ: حُبِّ اللهِ، وخَشيةِ اللهِ، والتوكُّلِ عليه، ونحوِ ذلك؛ فإنَّ دُخولَ أعمالِ القُلوبِ في الإيمانِ أَولى من دُخولِ أعمالِ الجوارحِ، باتِّفاقِ الطَّوائِفِ كُلِّها)
[79] يُنظر: ((الإيمان الأوسط)) (ص: 371). .
وأمَّا إذا ذُكِر الاعتِقادُ مع عَمَلِ القَلبِ، فإنَّه يُرادُ به عند السَّلَفِ قَولُ القَلبِ.
المَسألةُ الثَّالثةُ: إقرارُ القَلْبِإقرارُ القَلبِ يُطلَقُ على شيئينِ:
الأوَّلُ: على قَولِ القَلبِ، وهذا عند ذِكْرِه مع عَمَلِ القَلبِ.
الثَّاني: على عَمَلِ القَلبِ، ويكونُ المرادُ به الالتزامَ، وهذا عند الإطلاقِ، كما في قَولِه تعالى:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] ، فالإقرارُ هنا ليس معناه الخَبَرَ المجَرَّدَ، بل معناه الالتزامُ للإيمانِ، والنُّصرةُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا هو الإيمانُ بما فيه عَمَلُ القَلبِ.
قال ابنُ عَطِيَّةَ: (هذه الآيةُ هي وَصفُ توقيفِ الأنبياءِ على إقرارِهم بهذا الميثاقِ، والتزامِهم له، وأخْذِ عَهدِ اللهِ فيه)
[80] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/466). .
ويقابِلُ الإقرارَ بالمعنى الأوَّلِ: الإنكارُ والجُحودُ، ويقابِلُه بالمعنى
الثَّاني: الإباءُ والامتِناعُ، كما أنَّ الكُفرَ منه كُفرُ إنكارٍ وجُحودٍ، ككُفرِ فِرعَونَ، ومنه كُفرُ إباءٍ وامتناعٍ، ككُفرِ
إبليسَ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (لَفظُ الإقرارِ: يتناوَلُ الالتزامَ والتصديقَ، ولا بُدَّ منهما، وقد يرادُ بالإقرارِ مجَرَّدُ التصديقِ بدونِ التزامِ الطَّاعةِ)
[81] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 310). .
وقد تقَدَّم كلامُ
ابنِ تيميَّةَ أنَّ قَولَ القَلبِ: هو تصديقُه وإقرارُه ومعرفتُه
[82] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 207)، ((مجموع الفتاوى)) (7/644). . وعليه فيُقالُ في الإقرارِ كما قيل في التَّصديقِ والاعتقادِ.
عن إسماعيلَ بنِ سَعيدٍ قال: سألتُ
أحمدَ عن الإسلامِ والإيمانِ؟ فقال: (الإيمانُ: قَولٌ وعَمَلٌ، والإسلامُ: الإقرارُ)
[83] يُنظر: ((السنة)) للخلال (4/14). .
والخُلاصةُ أنَّ التصديقَ والاعتقادَ والإقرارَ يتناوَلُ عند السَّلَفِ:
1- قَولَ القَلبِ فقط، وذلك عند اقترانِها بعَمَلِ القَلبِ.
2- قَولَ القَلبِ المستَلزِمَ لعَمَلِ القَلبِ.
3- عَمَلَ القَلبِ المتضَمِّنَ لقَولِ القَلبِ.
4- قَولَ القَلبِ وعَمَلَه جميعًا.
وكلُّ ذلك بحسَبِ التقييدِ والإطلاقِ، فيتبَيَّنُ بذلك مرادُ السَّلَفِ في عباراتِهم، وأنَّه لا اختِلافَ بينها، وأمَّا مَعرِفةُ القَلبِ فلا إشكالَ في أنَّ المرادَ بها قَولُ القَلبِ فقط
[84] يُنظر: ((أعمال القلوب: حقيقتها وأحكامها عند أهل السنة والجماعة وعند مخالفيهم)) للعتيبي (ص: 141). .