الفَرعُ الثَّاني: أنواعُ الشِّرْكِ في الأُلوهِيَّةِ
وهي ثلاثةُ أنواعٍ:
1- اعتقادُ شَريكٍ للهِ تعالى في الأُلوهِيَّةِ.
2- صَرْفُ شَيءٍ مِن العباداتِ لغَيرِ اللهِ تعالى.
3- الشِّرْكُ في الحُكمِ والطَّاعةِ.
النَّوعُ الأوَّلُ: اعتِقادُ شَريكٍ للهِ تعالى في الأُلوهِيَّةِ من اعتَقَد أنَّ غَيرَ اللهِ تعالى يستَحِقُّ العِبادةَ مع اللهِ، أو يستَحِقُّ أن يُصرَفَ له أيُّ نوعٍ مِن أنواعِ العِبادةِ، فقد وقع بهذا الاعتقادِ في شِرْكِ الأُلوهِيَّةِ
[174] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (5/181)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 27)، ((مجموع مؤلفات السعدي)) (8/176). .
النَّوعُ الثَّاني: صَرْفُ شَيءٍ مِن العباداتِ لغَيرِ اللهِ تعالى إنَّ جميعَ العِباداتِ بأنواعِها القلبيَّةِ، والفِعْليَّةِ، والقَوليَّةِ: حَقٌّ للهِ تعالى وَحْدَه، لا يجوزُ أن تُصرَفَ لغَيرِه، فمَن صَرَف شيئًا منها لغَيرِ اللهِ فقد وقَعَ في الشِّرْكِ الأكبَرِ.
قال
صِدِّيق حسن خان: (فكُلُّ ما يُسَمَّى في الشَّرعِ عِبادةً ويَصدُقُ عليه مُسَمَّاها، فإنَّ اللهَ يَستَحِقُّه، ولا استِحقاقَ لغَيرِه فيها، وإن كان مِثقالَ ذَرَّةٍ في السَّمَواتِ والأرضِ، ومَن أشرَكَ فيها أحدًا من دونِ اللهِ فقد جاء بالشِّركِ)
[175] يُنظر: ((الدين الخالص)) (2/37). .
وقال
السعدي: (كُلُّ اعتقادٍ أو قَولٍ أو عَمَلٍ ثبت أنَّه مأمورٌ به من الشَّارعِ، فصَرْفُه لله وَحْدَه توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصَرْفُه لغيرِه شِركٌ وكُفرٌ)
[176] يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 54). .
وهذا النَّوعُ له صُوَرٌ كثيرةٌ، يمكِنُ حَصْرُها في جانِبَينِ:
1- الشِّرْكُ في دُعاءِ المسألةِ.
2- الشِّرْكُ في دعاءِ العبادةِ.
أوَّلًا: الشِّرْكُ في دُعاءِ المسألةِدعاءُ المسألةِ مِن أهَمِّ أنواعِ العِبادةِ، وهو أن يَطلُبَ العَبدُ مِن رَبِّه جَلْبَ مَرغوبٍ، أو دَفْعَ مَرهوبٍ؛ كالاستعانةِ، والاستعاذةِ، والاستغاثةِ وغَيرِها، ويجِبُ صَرْفُه للهِ تعالى وَحْدَه، فمن دعا غيرَ اللهِ فقد وقع في الشِّرْكِ الأكبَرِ
[177] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 354)، ((الاستغاثة)) لابن تيمية (1/210)، ((تجريد التوحيد المفيد)) للمقريزي (ص: 20)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 172)، ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 21)، ((فتح المجيد)) لعبد الرحمن بن حسن (ص: 167)، ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (5/596). .
قال اللهُ تعالى:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .
قال
الشَّوكانيُّ: (قال أكثَرُ المفَسِّرين: المعنى: وَحِّدوني واعبُدوني أتقَبَّلْ عِبادتَكم وأغفِرْ لكم، وقيل: المرادُ بالدُّعاءِ: السُّؤالُ بجَلْبِ النَّفعِ، ودَفْعِ الضُّرِّ. قيل: الأوَّلُ أَولى؛ لأنَّ الدُّعاءَ في أكثَرِ استعمالاتِ الكِتابِ العزيزِ هو العبادةُ. قُلتُ: بل الثَّاني أَولى؛ لأنَّ معنى الدُّعاءِ حقيقةً وشَرعًا: هو الطَّلَبُ، فإن استُعمِلَ في غيرِ ذلك فهو مجازٌ، على أنَّ الدُّعاءَ في نَفْسِه باعتبارِ معناه الحقيقيِّ هو عبادةٌ، بل مُخُّ العبادةِ... ثمَّ صَرَّح سُبحانَه بأنَّ هذا الدُّعاءَ باعتبارِ معناه الحقيقيِّ -وهو الطَّلَبُ- هو من عبادتِه، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ أي: ذليلينَ صاغِرينَ، وهذا وعيدٌ شديدٌ لِمن استكبَرَ عن دعاءِ اللهِ، وفيه لُطفٌ بعِبادِه عَظيمٌ وإحسانٌ إليهم جليلٌ؛ حيث توَعَّد مَن تَرَك طلَبَ الخَيرِ منه، واستدفاعَ الشَّرِّ به، بهذا الوعيدِ البالِغِ، وعاقَبَه بهذه العُقوبةِ العَظيمةِ. فيا عِبادَ اللهِ وَجِّهوا رَغَباتِكم وعَوِّلوا في كُلِّ طلباتِكم على من أمَرَكم بتوجيهِها إليه، وأرشَدَكم إلى التعويلِ عليه، وكَفَل لكم الإجابةَ به بإعطاءِ الطِّلْبةِ، فهو الكريمُ المُطلَقُ الذي يُجيبُ دَعوةَ الدَّاعي إذا دعاه، ويَغضَبُ على من لم يَطلُبْ مِن فَضْلِه العظيمِ ومُلْكِه الواسِعِ ما يحتاجُه من أمورِ الدُّنيا والدِّينِ)
[178] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/ 571). .
وعن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((الدُّعاءُ هو العِبادةُ )) [179] أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (3247)، وابن ماجه (3828)، وأحمد (18352). صححه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (890)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (2/112)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3828)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1177). .
قال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُ أصحابَه الدُّعاءَ فيَحُضُّهم عليه ويأمُرُهم به، ويقولُ: إنَّ الدُّعاءَ هو العبادةُ، ويتلو:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ وقد قالوا: إنَّ الدُّعاءَ مخُّ العبادةِ؛ لأنَّ فيه الإخلاصَ والضَّراعةَ والإيمانَ والخُضوعَ، واللهُ يحِبُّ أن يُسأَلَ؛ ولذلك أمَرَ عِبادَه أن يَسألوه من فَضْلِه، وقد كان لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنواعٌ مِن الدُّعاءِ يواظِبُ عليه ويدعو به)
[180] يُنظر: ((التمهيد)) (12/ 185). .
وقال
ابنُ عبدِ البَرِّ أيضًا: (قال يحيى بنُ أبي كثيرٍ: أفضَلُ العِبادةِ كُلِّها الدُّعاءُ، وروى أبو مُعاويةَ عن هِشامِ بنِ عُروةَ عن
أبيه أنَّه كان يواظِبُ على حِزْبِه من الدُّعاءِ، كما يواظِبُ على حِزْبِه مِن القُرآنِ، وقال
ابنُ مَسعودٍ: لكُلِّ شَيءٍ ثَمَرةٌ، وثَمَرةُ الصَّلاةِ الدُّعاءُ)
[181] يُنظر: ((التمهيد)) (10/ 300). .
وقال ابنُ الملِكِ: (الدُّعاءُ هو العبادةُ؛ لأنَّ المقصودَ الأعظَمَ مِن العبادةِ: الإقبالُ عليه تعالى، والإعراضُ عَمَّا سِواه، بحيثُ لا يُرجى ولا يُخافُ إلَّا إيَّاه، والدُّعاءُ لا ينفَكُّ عن هذه المعاني، فجعَلَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نَفْسَ العِبادةِ)
[182] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (3/ 73). .
وقال
الصَّنعانيُّ: (قَولُه: في حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ:
((الدُّعاءُ هو العِبادةُ ))، وذلك لأنَّ العبادةَ هي غايةُ الخُضوعِ والتذَلُّلِ لله تعالى، وفي الدُّعاءِ الخُضوعُ والتذَلُّلُ، فهو العبادةُ)
[183] يُنظر: ((التحبير)) (4/ 10). .
وعن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له:
((إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ ، وإذا استعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ )) [184] أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (2763) مطولًا. صَحَّحه الترمذي، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، وقال ابن تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (1/182): مِن أصَحِّ ما رُوِيَ عنه. .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ ، وإذا استعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ )) هذا منتَزَعٌ مِن قَولِه تعالى:
إِيَّاَك نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ، فإنَّ السُّؤالَ هو دعاؤُه والرَّغبةُ إليه. والدُّعاءَ هو العبادةُ... فتضَمَّن هذا الكلامُ أن يُسأَلَ اللهُ عَزَّ وجلَّ، ولا يُسأَلَ غَيرُه، وأن يُستعانَ باللهِ دونَ غَيرِه. وأمَّا السُّؤالُ فقد أمَرَ اللهُ بمسألتِه، فقال:
وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32] ... واعلَمْ أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خَلْقِه هو المتعَيِّنُ؛ لأنَّ السُّؤالَ فيه إظهارُ الذُّلِّ مِن السَّائِلِ، والمَسكَنةِ والحاجةِ والافتِقارِ، وفيه الاعترافُ بقُدرةِ المسؤولِ على دَفعِ هذا الضَّرَرِ، ونَيْلِ المطلوبِ، وجَلْبِ المنافِعِ، ودَرْءِ المضارِّ، ولا يَصلُحُ الذُّلُّ والافتقارُ إلَّا للِه وَحْدَه؛ لأنَّه حقيقةُ العبادةِ، وكان
الإمامُ أحمدُ يدعو ويقولُ: اللَّهُمَّ كما صُنْتَ وَجْهي عن السُّجودِ لغَيْرِك فصُنْه عن المسألةِ لغَيْرِك. ولا يقدِرُ على كَشْفِ الضُّرِّ وجَلْبِ النَّفعِ سِواه. كما قال:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107] ، وقال:
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 2] ، واللهُ سُبحانَه يحِبُّ أن يُسأَلَ ويُرغَبَ إليه في الحوائجِ، ويُلَحَّ في سؤالِه ودُعائِه، ويَغضَبُ على من لا يسألُه، ويستدعي من عبادِه سُؤالَه، وهو قادِرٌ على إعطاءِ خَلْقِه كُلِّهم سُؤْلَهم من غيرِ أن يَنقُصَ مِن مُلكِه شَيءٌ، والمخلوقُ بخِلافِ ذلك كُلِّه؛ يَكرَهُ أن يُسأَلَ، ويحِبُّ ألَّا يُسأَلَ، لعَجْزِه وفَقْرِه وحاجتِه)
[185] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 478، 481). .
ومِن أمثلةِ الشِّرْكِ في دُعاءِ المسألةِ:1- أن يُطلَبَ مِن المخلوقِ ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، سواءٌ أكان هذا المخلوقُ حَيًّا أم مَيِّتًا، نبيًّا أم وَلِيًّا، أو مَلَكًا أم جنيًّا أم غيرَهم، كأن يَطلُبَ منه شفاءَ مَريضِه، أو نَصْرَه على الأعداءِ، أو كَشْفَ كُربةٍ، أو أن يُغيثَه، أو أن يُعيذَه، وغيرَ ذلك ممَّا لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، فهذا كُلُّه شِرْكٌ أكبَرُ، مُخرِجٌ مِنَ المِلَّةِ بإجماعِ المسلِمينَ
[186] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/124) (27/72)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/353)، ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 28)، ((منهاج التأسيس والتقديس)) لعبد اللطيف آل الشيخ (ص: 17)، ((السنن والمبتدعات)) لمحمد الشقيري (ص: 262)، ((سيف الله على من كذب على أولياء الله)) لصنع الله الحنفي (ص: 22). .
قال
الخَطَّابي: (قال العُلَماءُ: لا يُستعاذُ بغيرِ اللهِ أو صفاتِه؛ إذ كُلُّ ما سِواه تعالى وصِفاتِه مخلوقٌ؛ ولذلك وُصِفَت كَلِماتُه بالتَّمامِ، وهو الكَمالُ، وما من مخلوقٍ إلَّا وفيه نقصٌ، والاستعاذةُ بالمخلوقِ شِركٌ مُنافٍ لتوحيدِ الخالِقِ؛ لِما فيه من تعطيلِ مُعاملتِه تعالى الواجبةِ على عَبْدِه)
[187] يُنظر: ((التوضيح عن توحيد الخلاق)) (ص: 228)، ((العقد الثمين)) للسويدي (ص: 543). .
وقال
ابنُ عقيل: (لَمَّا صَعُبت التكاليفُ على الجُهَّالِ والطَّغامِ، عَدَلوا عن أوضاعِ الشَّرعِ إلى تعظيمِ أوضاعٍ وَضَعوها لأنفُسِهم، فسَهُلت عليهم؛ إذ لم يدخُلوا بها تحت أمرِ غَيرِهم، وهم كُفَّارٌ عندي بهذه الأوضاعِ، مِثلُ: تعظيمِ القُبورِ وإكرامِها بما نهى الشَّرعُ عنه؛ من إيقادِ النيرانِ وتقبيلِها وتخليقِها، وخِطابِ الموتى بالحوائجِ، وكَتْبِ الرِّقاعِ فيها: يا مولاي افعَلْ بي كذا وكذا، وأخْذِ الترابِ تبركًا، وإفاضةِ الطِّيبِ على القُبورِ وشَدِّ الرِّحالِ إليها، وإلقاءِ الِخَرِق على الشَّجَرِ؛ اقتداءً بمن عَبَد اللَّاتَ والعُزَّى)
[188] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 354)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/352). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (سؤالُ الميِّتِ والغائِبِ نبيًّا كان أو غيرَه: مِن المحَرَّماتِ المنكَرةِ باتِّفاقِ أئمَّةِ المُسلِمين، لم يأمُرِ اللهُ به ولا رَسولُه، ولا فَعَلَه أحَدٌ مِن الصَّحابةِ ولا التابعينَ لهم بإحسانٍ، ولا استحَبَّه أحَدٌ مِن أئمَّةِ المسلِمين. وهذا ممَّا يُعلَمُ بالاضطرارِ من دينِ المسلمين أنَّ أحدًا منهم ما كان يقولُ إذا نَزَلَت به تِرَةٌ أو عرَضَت له حاجةٌ، لمَيِّتٍ: يا سَيِّدي فُلان، أنا في حَسْبِك، أو اقْضِ حاجتي، كما يقولُ بَعضُ هؤلاء المُشرِكينَ لِمن يَدْعونَهم من الموتى والغائبين، ولا أحَدٌ مِن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم استغاثَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد مَوْتِه، ولا بغَيرِه مِن الأنبياءِ، لا عِندَ قُبورِهم، ولا إذا بَعُدوا عنها)
[189] يُنظر: ((الرد على البكري)) (1/448). .
وقال
ابنُ عبدِ الهادي: (ولو جاء إنسانٌ إلى سَريرِ الميِّتِ يدعوه من دونِ اللهِ، ويَستغيثُ به، كان هذا شِرْكًا محرَّمًا بإجماعِ المسلِمينَ)
[190] يُنظر: ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)) (ص: 325). .
وقال البركوي الحنفي: (دعاءُ أصحابِ القُبورِ، والاستعانةُ بهم، وسؤالُهم النَّصرَ والرِّزقَ، والعافيةَ، والوَلَدَ، وقضاءَ الدُّيونِ، وتفريجَ الكُرُباتِ، وإغاثةَ اللَّهَفاتِ، وغيرَ ذلك من الحاجاتِ التي كان عُبَّادُ الأوثانِ يسألونَها من أوثانِهم؛ فليس شيءٌ من ذلك مشروعًا باتِّفاقِ أئمَّةِ المُسلِمين؛ إذ لم يفعَلْه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أحدٌ من الصَّحابةِ والتابعين وسائِرِ أئِمَّةِ الدِّينِ)
[191] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 33). .
وقال أحمد السرهندي: (المتشَبِّثُ بمجموعِ أحكامِ الإسلامِ والكُفرِ مُشرِكٌ؛ والتبرؤُّ مِن الكُفرِ شَرطُ الإسلامِ، والاجتنابُ عن شائبةِ الشِّركِ توحيدٌ، والاستمدادُ من الأصنامِ والطَّواغيتِ في دَفعِ الأمراضِ والأسقامِ -كما هو الشَّائِعُ فيما بين جَهَلةِ أهلِ الإسلامِ- عَينُ الشِّركِ والضَّلالةِ؛ فيَكفُرون من حيث لا يَشعُرون، ونَذْرُ الحيوانِ للمشايخِ وذَبُحه عند قبورِهم داخِلٌ في الشِّركِ، ولا يجوزُ إشراكُ أحدٍ به تعالى في عبادةٍ من العباداتِ، وطَلَبُ الحاجاتِ مِن غيرِ اللهِ عَينُ الضَّلالةِ وتَسويلُ
الشَّيطانِ الرَّجيمِ)
[192] يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) للمعصومي الخجندي (ص: 74)، ((جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية)) لشمس الدين الأفغاني (1/ 154). .
وقال صنع الله الحلبي الحنفي عن القُبوريِّين: (وأمَّا قَولُهم: ويستغاثُ بالأولياءِ في الشَّدائِدِ والبَلِيَّاتِ، وبهِمَمِهم تنكَشِفُ المُهِمَّاتُ، فهذا أقبَحُ مما قَبْلَه وأبدَعُ، وأفظَعُ في الأسماعِ وأشنَعُ؛ لمصادرتِه قَولَه جَلَّ ذِكْرُه:
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل: 62] ،
قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38] ،
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: 17] ، وما هو نحوُ ذلك من الآياتِ؛ فإنَّه جَلَّ ذِكْرُه قَرَّر أنَّه الكاشِفُ للضُّرِّ لا غَيرُه، وأنَّه المتعَيِّنُ لكشَفِ الشَّدائدِ والكُرَبِ، وأنَّه المنفَرِدُ لإجابةِ دُعاءِ المُضطرِّين لا غيرُه، وأنَّه المستغاثُ لذلك كُلِّه، وأنَّه القادِرُ على إيصالِ الخيرِ، فهو المنفَرِدُ بذلك، فإذا تعَيَّن هو جَلَّ ذِكْرُه خرج غيرُه مِن مَلَكٍ ونبيٍّ ووَلِيٍّ وغَيرِه... فمن اعتقد أنَّ لغيرِ اللهِ مِن نبيٍّ أو وليٍّ أو روحٍ أو غيرِ ذلك، في كَشفِ كُربةٍ أو قضاءِ حاجة- تأثيرًا، فقد وقع في وادي جَهلٍ خطيرٍ، فهو على شَفا حُفرةٍ مِنَ السَّعيرِ... فإنَّ ذِكرَ ما ليس من شأنِه النَّفعُ ولا دَفْعُ الضُّرِّ من نبيٍّ وملَكٍ ووليٍّ وغيرِهم على وَجهِ الإمدادِ منه: إشراكٌ مع اللهِ؛ إذ لا قادِرَ على الدَّفعِ غَيرُه، لا خيرَ إلَّا خَيْرُه)
[193] يُنظر: ((سيف الله على من كذب على أولياء الله)) (ص: 46-59). .
وقال حمَدُ بنُ ناصرِ بنِ مَعمَرٍ: (فدُعاءُ العِبادةِ ودُعاءُ المسألةِ كِلاهما عبادةٌ لله، لا يجوزُ صَرْفُ شَيءٍ منهما إلى غيرِه؛ فلا يجوزُ أن يُطلَبَ مِن مخلوقٍ -مَيِّتٍ أو غائبٍ- قضاءُ حاجةٍ، أو تفريجُ كُربةٍ، بل ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ لا يجوزُ أن يُطلَبَ إلَّا ِمن الله، فمن دعا مَيِّتًا أو غائبًا، فقال: يا سيِّدي فُلان، أغِثْني أو انصُرْني، أو ارحَمْني أو اكشِفْ عني شِدَّتي، ونحوَ ذلك؛ فهو كافِرٌ مُشرِكٌ يُستتابُ، فإن تاب وإلَّا قُتِل. وهذا ممَّا لا خِلافَ فيه بين العُلَماءِ؛ فإنَّ هذا هو شِرْكُ المُشرِكينَ الذين قاتلَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[194] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) لمجموعة من علماء نجد (5/596). .
وقال سليمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، والآيةُ نَصٌّ في أنَّ دُعاءَ غيرِ اللهِ والاستغاثةَ به شِركٌ أكبَرُ)
[195] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 195). .
وقال نُعمانُ خير الدين الألوسي: (من نظر بعينِ الإنصافِ، وتجنَّبَ سَبيلَ الاعتسافِ، ونظر إلى ما كان عليه الأوَّلون، وعرف كيف كان شِرْكُهم، وعرف بماذا أُرسِلَ إليهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكيف التوحيدُ، وما معنى الإلهِ والتألُّهِ، وتبَصَّرَ في العباداتِ وأنواعِها- تحقَّقَ أنَّ هذا الالتجاءَ والتوكُّلَ والرَّجاءَ بمثلِ طَلَبِ الشَّفاعةِ: هو الذي نُهِيَ عنه الأوَّلون، وأُرسِلَ لأجْلِ قَمْعِه المُرسَلون، وبذلك نطق الكِتابُ، وبَيَّنَه لنا خيرُ من أُوتيَ الحِكمةَ وفَصْلَ الخِطابِ)
[196] يُنظر: ((جلاء العينين)) (ص: 510). .
وقال
عبدُ الحميد بنُ باديس: (الاستغاثةُ قِسمانِ: استغاثةٌ بما هو في طَوقِ البَشَرِ ودائرةِ الأسبابِ، وهذه تكونُ للمخلوقِ؛ لأنَّها عادةٌ، واستغاثةٌ فيما هو خارجٌ عن طَوقِ البشَرِ ودائرةِ الأسبابِ، وهذه لا تكونُ إلَّا للخالِقِ؛ لأنَّها عبادةٌ...
ثمَّ هذا التقسيمُ الذي ذكَرْنا في الاستغاثةِ هو بنَفْسِه يجري في الدُّعاءِ، وما الاستغاثةُ إلَّا نوعٌ منه... فمن دعا فقد عبَد، ومن دُعِيَ فقد عُبِد؛ ولهذا تواردت نصوصُ الآياتِ والأحاديثِ على النَّهيِ عن دعاءِ غيرِ اللهِ دونَ استثناءٍ لشَيءٍ مِن مخلوقاتِه؛ مِثلُ قَولِه تعالى:
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً،
وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا،
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ،
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ،
فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، وقال عليه وآلِه الصَّلاةُ والسَّلامُ في وَصِيَّتِه ل
ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
((إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ )) [197] أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (2763) مطولًا. صَحَّحه الترمذي، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، وقال ابن تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (1/182): مِن أصَحِّ ما رُوِيَ عنه. [198] يُنظر: ((مجالس التذكير من حديث البشير النذير)) (ص: 249-251). .
وقال المعصومِيُّ الخُجَنْدِيُّ: (لا بدَّ مِن نَفْيِ الشِّركِ في العبادةِ رأسًا، والبراءةِ منه وممَّن فَعَله؛ قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26، 27]، و
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]، فأصلُ دينِ الإسلامِ إنَّما هو عبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، والتَّحريضُ على ذلك، فمن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وهو مع ذلك يفعَلُ الشِّركَ الأكبَرَ، كدُعاءِ الموتى والغائبين، وسؤالِهم قضاءَ الحاجاتِ، وتفريجَ الكُرُباتِ، والتقَرُّبِ إليهم بالنَّذرِ والذَّبائحِ؛ فهذا مُشرِكٌ شاء أم أبى)
[199] يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) (ص: 68). .
وقال أيضًا: (من الشِّركِ أن يستغيثَ بغيرِ اللهِ أو يدعوَ غَيرَه، والاستغاثةُ هي طَلَبُ الغَوثِ، وهو إزالةُ الشِّدَّةِ، كالاستنصارِ: طَلَبُ النَّصرِ، والاستِعانةِ: طَلَبُ العَونِ، فكُلُّ ما قُصِد به غيرُ الله مما لا يقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، كدَعَواتِ الأمواتِ والغائبينَ، فهو من الشِّركِ الذي لا يغفِرُه اللهُ؛ قال الله تعالى
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام: 17] وقال تعالى:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ* وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5-6] ، فأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه لا أضَلَّ ممَّن يدعو أحدًا دونَه كائنًا من كان، فليس لِمن دعا غيرَ اللهِ إلَّا الخَيبةُ والخُسرانُ، فلا يحصُلُ للمُشرِكِ يومَ القيامةِ إلَّا نقيضُ قَصْدِه، وصار المدعوُّ للدَّاعي عدوًّا، فالدَّاعي للغيرِ في غايةِ الضَّلالِ)
[200] يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) (ص: 53). .
وقال أيضًا: (لا شَكَّ أنَّ طَلَبَ الاستِعانةِ مِن أرواحِ الأمواتِ كُفرٌ وشِركٌ، ... إنَّ الاستمدادَ مِن المزاراتِ وأصحابِ الضَّرائحِ والقُبَبِ أو النَّذرُ إليها: عَبَثٌ وشِركٌ)
[201] يُنظر: ((حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد)) (ص: 31). .
وقال
محمَّدُ بنُ إبراهيمَ آل الشَّيخ: (الاستِغاثةُ الشِّركيَّةُ التي أنكَرْناها ... هي الاستغاثةُ بالغائِبِ أو الميِّتِ، أو الحَيِّ الحاضِرِ الذي لا يقدِرُ، وأمَّا الجائزةُ فهي طَلَبُ الحَيِّ الحاضِرِ)
[202] يُنظر: ((شرح كشف الشبهات)) (ص: 119). .
وقال ابنُ قاسمٍ: (كُلُّ استغاثةٍ دُعاءٌ، وليس كُلُّ دُعاءٍ استغاثةً، والمرادُ بيانُ تحريمِ الاستغاثةِ بغَيرِ اللهِ، أو دعاءِ غيرِه من الأمواتِ والغائبينَ، وأنَّه مِنَ الشِّركِ الأكبَرِ)
[203] يُنظر: ((حاشية كتاب التوحيد)) (ص: 113). .
2- أن يجعَلَ بيْنه وبيْن اللهِ تعالى واسِطةً في الدُّعاءِ، معتَقِدًا بأنَّ اللهَ تعالى لا يجيبُ دعاءَه مُباشَرةً، وأنَّه لا بُدَّ مِن واسطةٍ بيْنه وبيْن اللهِ في ذلك
[204] ينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/149)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/104)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي (ص: 50-52)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (5/344). .
قال اللهُ تعالى:
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] .
قال
ابنُ جرير: (قَولُه:
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر: 3] يقولُ تعالى ذِكْرُه: ألا للهِ العبادةُ والطَّاعةُ وَحْدَه لا شريكَ له، خالِصةً لا شِرْكَ لأحَدٍ معه فيها، فلا ينبغي ذلك لأحَدٍ؛ لأنَّ كُلَّ ما دونه مِلْكُه، وعلى المملوكِ طاعةُ مالِكِه لا مَن لا يملِكُ منه شيئًا)
[205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 156). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .
قال
الرازي: (وَضَعوا هذه الأصنامَ والأوثانَ على صُوَرِ أنبيائِهم وأكابِرِهم، وزَعَموا أنَّهم متى اشتَغَلوا بعبادةِ هذه التماثيلِ، فإنَّ أولئك الأكابِرَ تكونُ شُفَعاءَ لهم عندَ اللهِ تعالى، ونظيرُه في هذا الزَّمانِ اشتِغالُ كثيرٍ مِن الخَلْقِ بتعظيمِ قُبورِ الأكابِرِ، على اعتقادِ أنَّهم إذا عَظَّموا قُبورَهم فإنَّهم يكونون شُفَعاءَ لهم عندَ اللهِ)
[206] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/ 227). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (من أثبَتَ وسائِطَ بيْن اللهِ وبيْن خَلْقِه كالوسائِطِ التي تكونُ بيْن الملوكِ والرَّعِيَّةِ، فهو مُشرِكٌ، بل هذا دينُ المُشرِكينَ عُبَّادِ الأوثانِ، كانوا يقولون: إنَّها تماثيلُ الأنبياءِ والصَّالحين، وإنَّها وسائِلُ يتقَرَّبون بها إلى اللهِ، وهو من الشِّرْكِ الذي أنكَرَه اللهُ تعالى على النَّصارى؛ حيث قال:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 31] )
[207] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/134). .
وقال
المقريزي: (توحيدُ الرُّبوبيَّةِ هو الذي اجتمَعَت فيه الخلائِقُ مُؤمِنُها وكافِرُها، وتوحيدُ الإلهيَّةِ مَفْرِقُ الطُّرُقِ بين المؤمنينَ والمُشرِكينَ؛ فتوحيدُ الأُلوهِيَّة هو المطلوبُ من العِبادِ ... فالشِّرْكُ في الإلهيَّةِ والعبادةِ: هو الغالِبُ على أهلِ الإشراكِ، وهو شِرْكُ عُبَّاد الأصنامِ، وعُبَّاد الملائِكةِ، وعُبَّادِ
الجِنِّ، وعُبَّادِ المشايخِ والصَّالحينَ الأحياءِ والأمواتِ، الذين قالوا:
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، ويَشْفَعوا لنا عِندَه، وينالَنا بسَبَبِ قُرْبِهم من اللهِ وكرامتِه لهم قُربٌ وكرامةٌ، كما هو المعهودُ في الدُّنيا من حُصولِ الكرامةِ والزُّلْفى لمن يخدُمُ أعوانَ الملِكِ وأقارِبَه وخاصَّتَه. والكُتُبُ الإلهيَّةُ كُلُّها من أَوَّلِها إلى آخِرِها تُبطِلُ هذا المذهَبَ وتَرُدُّه، وتُقَبِّحُ أهْلَه، وتنُصُّ على أنَّهم أعداءُ اللهِ تعالى، وجميعُ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللهِ عليهم متَّفِقون على ذلك، مِن أوَّلِهم إلى آخِرِهم، وما أهلَكَ اللهُ تعالى من أهلَكَ مِنَ الأُمَمِ إلَّا بسَبَبِ هذا الشِّرْكِ، ومِن أجْلِه)
[208] يُنظر: ((تجريد التوحيد المفيد)) (ص: 8، 14). .
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ:
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80] .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (بَيَّن سُبحانَه: أنَّ اتِّخاذَ الملائكةِ والنبيِّينَ أربابًا كُفرٌ؛ فمن جعل الملائكةَ والأنبياءَ وسائِطَ يدعوهم ويتوكَّلُ عليهم ويسألُهم جَلْبَ المنافِعِ ودَفْعَ المضارِّ، مثلُ أن يسألَهم غُفرانَ الذَّنبِ وهدايةَ القُلوبِ وتفريجَ الكُروبِ وسَدَّ الفاقاتِ: فهو كافِرٌ بإجماعِ المسلِمينَ)
[209] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/124). .
وقال سليمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ مُعَلِّقًا على هذا: (نقَلَه عنه غيرُ واحدٍ مُقَرِّرين له؛ منهم
ابنُ مُفلحٍ في «الفروع»، وصاحِبُ «الإنصاف» المرداويُّ، وصاحِبُ «الغاية» م
رعي الكرمي، وصاحِبُ «الإقناع» الحجاوي، وشارِحُه البهوتي، وغيرُهم، ونَقَلَه صاحب «القواطع»
ابن حجر الهيتمي في كتابه عن صاحِبِ «الفروع».
قلتُ: وهو إجماعٌ صحيحٌ معلومٌ بالضَّرورةِ مِن الدِّينِ، وقد نصَّ العُلَماءُ من أهلِ المذاهِبِ الأربعةِ، وغَيرِهم في بابِ حُكمِ المرتَدِّ: على أنَّ من أشرَكَ باللهِ فهو كافِرٌ، أي: عَبَد مع اللهِ غَيْرَه بنَوعٍ مِن أنواعِ العباداتِ، وقد ثَبَت بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ أنَّ دُعاءَ اللهِ عِبادةٌ له، فيكونُ صَرْفُه لغيرِ اللهِ شِرْكًا)
[210] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 188). .
وقال البركوي الحنفي مُبَيِّنًا بطلانَ شَفاعةِ القُبوريِّين وفسادَ قياسِهم: (قالوا: إنَّ العبدَ إذا تعَلَّقت رُوحُه برُوح ِالوجَيهِ المقَرَّبِ عندَ اللهِ تعالى، وتوجَّه إليه بهِمَّتِه، وعكف بقَلْبِه عليه، صار بينه وبينه اتصالٌ يفيضُ به عليه نصيبٌ مِمَّا يحصُلُ له من الله تعالى! وشَبَّهوا ذلك بمن يخدُمُ ذا جاه وقُربٍ مِن السُّلطانِ، وهو شديدُ التعَلُّقِ به، فما يحصُلُ مِن السُّلطانِ من الإنعامِ والإفضالِ ينالُ ذلك المتعَلِّقَ به من حِصَّتِه بحَسَبِ تعَلُّقِه به! وبهذا السَّبَبِ عَبَدوا القُبورَ وأصحابَها، واتَّخَذوهم شُفَعاءَ على ظَنِّ أنَّ شَفاعتَهم تنفَعُهم عند اللهِ تعالى في الدُّنيا والآخرةِ، والقُرآنُ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه مملوءٌ من الرَّدِّ عليهم وإبطالِ رأيِهم...
فإنَّ اللهَ تعالى عَلَّق الشَّفاعةَ في كتابِه بأمرينِ؛ أحَدُهما: رضاه عن المشفوعِ له، والآخَرُ: إذنُه للشَّافِعِ، فعُلِمَ من هذا أنَّ الشَّفاعةَ لا يمكِنُ حُصولُها ما لم يوجَدْ مجموعُ هذين الأمرينِ.
وقال تعالى:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] ، فبَيَّن سُبحانَه وتعالى أنَّ المتَّخِذين شُفَعاءَ مُشرِكون، وأنَّ الشَّفاعةَ لا تحصُلُ باتِّخاذِ الشُّفَعاءِ، وإنَّما تحصُلُ بإذنِ اللهِ تعالى للشَّافِعِ ورِضاه عن المشفوعِ له.
فمن اتخذ شفيعًا من دونِ اللهِ فهو مُشرِكٌ لا تنفَعُه شفاعتُه ولا يشفَعُ فيه، ومن اتخذ الرَّبَّ تعالى وَحْدَه إلهَه ومعبودَه ومحبوبَه الذي يتقَرَّبُ إليه ويطلُبُ رِضاه ويتجَنَّبُ سَخَطَه، فهو الذي يأذنُ الرَّبُّ تعالى للشَّافِعِ أن يشفَعَ فيه؛ ولهذا كان أولى النَّاسِ بشفاعةِ سَيِّدِ الشُّفَعاءِ يومَ القيامةِ أهلُ التوحيدِ الذين جَرَّدوا توحيدَهم وخَلَّصوه من تعَلُّقاتِ الشِّركِ وشوائِبِه، وأمَّا أهلُ الشِّركِ الذين اتخذوا من دونِ اللهِ تعالى شُفَعاءَ؛ فإنَّه تعالى لا يرضى عنهم، ولا يأذَنُ للشُّفَعاءِ أن يَشفَعوا فيهم.
وسِرُّ ذلك: أنَّ الأمرَ كُلَّه لله وَحْدَه، ليس لأحَدٍ معه من الأمرِ شَيءٌ، وأعلى الخَلْقِ وأفضَلُهم وأكرَمُهم عنده الرُّسُلُ والملائِكةُ المقَرَّبون، وهم مملوكون مربوبون، أفعالُهم وأقوالُهم مُقَيَّدةٌ بأمرِه وإذْنِه، لا يسبِقونَه بالقَولِ، ولا يَفعَلونَ شيئًا إلَّا بإذنِه وأمْرِه، فإذا أشركهم أحدٌ به تعالى واتخذَهم شُفَعاءَ من دونِه ظَنًّا منه أنَّه إذا فعل ذلك يتقَدَّمون بين يديه ويَشفَعون له، فهو من أجهَلِ النَّاسِ بحَقِّه تعالى، وما يجِبُ له وما يمتنِعُ عليه؛ حيث قاسُوا الرَّبَّ تعالى على الملوكِ والكُبَراءِ الذين يتَّخِذون بعضًا من خواصِّهم وأوليائِهم من يشفَعُ لهم عندهم في الحوائِجِ والمهِمَّاتِ، وبهذا القياسِ الفاسِدِ عُبِدَت الأصنامُ، واتُّخِذَت من دونِ اللهِ شُفَعاءَ، وهذا أصلُ شِركِ الخَلْقِ، ومع هذا فهو تنقيصٌ لجانِبِ الرُّبوبيَّةِ وهَضمٌ لحَقِّها)
[211] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 34-36)، ويُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 104). .
وقال حَمَدُ بنُ ناصر بن مَعْمَر: (المقصودُ أنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ دَلَّا على أنَّ من جعل الملائكةَ والأنبياءَ أو
ابنَ عَبَّاسٍ أو أبا طالبٍ أو المحجوب: وسائِطَ بينه وبين اللهِ يَشفَعون له عند اللهِ لأجْلِ قُربِهم من اللهِ -كما يفعَلُ عند الملوكِ-؛ أنَّه كافِرٌ مُشرِكٌ حَلالُ المالِ والدَّمِ، وإن قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، وصلَّى وصام وزعم أنَّه مسلِمٌ، بل هو من الأخسرين أعمالًا، الذين ضَلَّ سَعْيُهم في الحياةِ الدُّنيا وهم يَحسَبون أنَّهم يُحسِنون صُنعًا)
[212] يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/ 298). .
وقال أيضًا: (معلومٌ أنَّ أعلى الخَلْقِ وأفضَلَهم وأكرَمَهم عندَ اللهِ هم الرُّسُلُ، والملائكةُ المقَرَّبون، وهم عبيدٌ مَحْضٌ لا يَسبِقونه بالقَولِ، ولا يتقَدَّمون بين يديه، ولا يفعلون شيئًا إلَّا بعد إذنِه لهم وأَمْرِهم، فيأذَنُ اللهُ سُبحانه لِمن شاء أن يشفَعَ فيه؛ فصارت الشَّفاعةُ في الحقيقةِ إنَّما هي له تعالى، والذي يشفَعُ عنده إنَّما شَفَع بإذنِه له وأمْرِه، بعد شفاعتِه سُبحانَه إلى نَفْسِه، وهي إرادتُه أن يرحَمَ عَبْدَه، وهذا ضِدُّ الشَّفاعةِ الشِّرْكية التي أثبتها المشركِون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها سُبحانَه في كتابِه بقَولِه:
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 123] ، وقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ [البقرة: 254] ؛ ولهذا كان أسعَدُ النَّاسِ بشفاعةِ سَيِّد الشُّفَعاءِ يومَ القيامةِ أهلَ التوحيدِ، كما صَرَّحت بذلك النُّصوصُ)
[213] يُنظر: ((الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب)) (ص: 50). .
وقال عبدُ الله أبا بطين: (لا يَشفَعُ عنده أحَدٌ إلَّا بإذنه، وسَيِّدُ الشُّفَعاءِ -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه- لا يبدأ بالشَّفاعةِ، بل يسجُدُ لرَبِّه ويحمَدُه بمحامِدَ يفتَحُها عليه حتى يقالَ:
((يا محمَّدُ، ارفَعْ رأسَك وسَلْ تُعْطَ واشفَعْ تُشَفَّعْ ))؛ قال تعالى:
مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] ،
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، وهذا من عَظَمتِه سُبحانَه وجلالِه وكِبريائِه؛ ألَّا يتجاسَر أحدٌ أن يشفَعَ عنده حتى يؤذَنَ له، فالقرآنُ صَرَّح بنَفْيِ الشَّفاعةِ في الكُفَّارِ مُطلقًا، ونفاها عن غيرِهم بغير إذنِه، ونحن إنما ننفي الشَّفاعةَ الشِّركيَّةَ التي نفاها القرآنُ، وهو أنَّ أحدًا يشفَعُ عنده بغيرِ إذنِه)
[214] يُنظر: ((الرد على البردة)) (ص: 27). .
وقال محمود شكري الألوسي: (الالتجاءُ بطَلَبِ الشَّفاعةِ ورَجائِها عبادةٌ لا تَصلُحُ إلَّا لله، وهي حَقُّه على خَلْقِه بصِفةِ رُبوبيَّتِه وتفَضُّلِه ورَحمتِه، لا ينبغي أن يُصرَفَ منها شيءٌ لِغَيرِه، ومن صرف شيئًا من حَقِّ الله لغيرِه، فقد أشرك شِرْكَ الأوَّلينَ.
فإن قُلْتَ: إنَّ الأوَّلين كانوا يعبُدونهم، ونحن لا نَعبُدهم؟
فالجوابُ: أنَّ عبادتَهم هي نداءُ الالتجاءِ الذي أنت فيه، وكما أنَّك تدعو النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي بُعِثَ بإخلاصِ الدَّعوِة لله -وحاشاه أن يرضى بذلك، ولا يُرضيه إلَّا ما يُرضي رَبَّه من التوحيدِ، فإنَّه قد أمَرَ ونهى، وحَذَّر وبَصَّر، وأرشد وبلَّغ ونصح الأُمَّةَ، وأزال عنا الغُمَّةَ، فهدانا إلى السَّبيلِ المستقيمِ، والنَّعيمِ المقيمِ- وتدعو غيرَه مُلتَجِئًا إليهم بطَلَبِ الشَّفاعةِ منهم، كذلك الأوَّلون كانوا يَدْعون صالحين وأنبياءَ ومُرسَلين، طالبينَ منهم الشَّفاعةَ عندَ رَبِّ العالَمين، فبهذا الالتجاءِ والتوكُّلِ على هذه الشَّفاعةِ والرَّجاءِ أشرَكوا)
[215] يُنظر: ((فتح المنان)) (ص: 314). .
ثانيًا: الشِّرْكُ في دعاءِ العِبادةِدعاءُ العِبادةِ هو: عبادةُ اللهِ تعالى بأنواعِ العِباداتِ القَلْبيَّةِ، والقَوليَّةِ، والفِعْليَّةِ؛ كالمحبَّةِ، والخَوفِ، والرَّجاءِ، والصَّلاةِ، والصِّيامِ، والذَّبحِ، وقراءةِ القُرآنِ، وغَيْرِها.
وسُمِّيَ هذا النَّوعُ "دعاءً" باعتبارِ أنَّ العابِدَ للهِ قد قام بتلك العباداتِ؛ رجاءً لثَوابِه وخوفًا مِن عِقابِه، وإن لم يكُنْ في ذلك صيغةُ سُؤالٍ وطَلَبٌ صَريحٌ
[216] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/835)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 175)، ((تفسير السعدي)) (ص: 944). .
ومن أمثلةِ الشِّرْكِ في دُعاءِ العِبادةِ: 1- شِرْكُ النيَّةِ والإرادةِ والقَصْدِ:هذا النَّوعُ مِن الشِّرْكِ يَصدُرُ مِن المنافِقِ نِفاقًا أكبَرَ، فيُظهِرُ الإسلامَ وهو غيرُ مُقِرٍّ به في باطِنِه؛ فيكونُ مُرائيًا بأصلِ الإيمانِ.
قال اللهُ تعالى عن هذا الصِّنفِ مِن المنافقينَ:
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة: 14] .
وقد يكونُ مُرائيًا ببعضِ العباداتِ، كالصَّلاةِ.
قال اللهُ سُبحانَه عن المنافِقينَ:
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا الشِّرْكُ في الإراداتِ والنيَّاتِ، فذلك البَحْرُ الذي لا ساحِلَ له، وقَلَّ من ينجو منه. من أراد بعَمَلِه غيرَ وَجْهِ اللهِ، ونوى شيئًا غيرَ التقَرُّبِ إليه، وطَلَبِ الجزاءِ منه؛ فقد أشرَكَ في نيَّتِه وإرادتِه. والإخلاصُ: أن يُخلِصَ للهِ في أفعالِه وأقوالِه وإرادتِه ونيَّتِه)
[217] يُنظر: ((الجواب الكافي)) (ص: 135). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (اعلَمْ أنَّ الرِّياءَ قد أُطلِقَ في كِتابِ اللهِ كثيرًا، ويرادُ به النِّفاقُ الذي هو أعظُمُ الكُفرِ، وصاحِبُه في الدَّركِ الأسفَلِ مِنَ النَّارِ، كما قال تعالى:
كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ... [البقرة: 264] ، وقال تعالى:
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء: 38] ... والفَرْقُ بيْن هذا الرِّياءِ الذي هو النِّفاقُ الأكبَرُ وبيْن الرِّياءِ الذي سَمَّاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِرْكًا أصغَرَ خَفِيًّا هو: حديثُ:
((الأعمالُ بالنِّيَّاتِ))...، فإن كان الباعِثُ على العَمَلِ هو إرادةَ اللهِ والدَّارِ الآخِرةَ، وسَلِمَ مِن الرِّياءِ في فِعْلِه، وكان موافِقًا للشَّرعِ؛ فذلك العمَلُ الصَّالحُ المقبولُ، وإن كان الباعِثُ على العَمَلِ هو إرادةَ غَيرِ اللهِ عَزَّ وجلَّ، فذلك النِّفاقُ الأكبَرُ، سواءٌ في ذلك من يريدُ به جاهًا ورئاسةً وطلَبَ دُنيا، ومن يريدُ حَقْنَ دَمِه وعِصْمةَ مالِه وغيرَ ذلك، فهذان ضِدَّانِ ينافي أحَدُهما الآخَرَ لا محالةَ... وإن كان الباعِثُ على العَمَلِ هو إرادةَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ والدَّارِ الآخِرةِ، ولكِنْ دَخَل عليه الرِّياءُ في تزيينِه وتحسينِه، فذلك هو الذي سَمَّاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الشِّرْكَ الأصغَرَ، وفَسَّرَه بالرِّياءِ العَمَليِّ، وزاده إيضاحًا بقَولِه:
((يقومُ الرَّجُلُ فيُصَلِي فيُزَيِّنُ صلاتَه؛ لِما يرى من نظَرِ رجُلٍ إليه!)) [218] أخرجه ابن أبي شيبة (8489)، وابن خزيمة (937)، والبيهقي (3728) عن محمود بن لبيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس إياكم وشرك السرائر» قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: «يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر» حسنه الألباني في ((الترغيب والترهيب)) (31)، ووثق رجاله شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (39/40) ، وهذا لا يُخرِجُ من المِلَّةِ، ولكِنَّه يَنقُصُ من العَمَلِ بقَدْرِه، وقد يَغلِبُ على العَمَلِ فيُحبِطُه كُلَّه. والعِياذُ باللهِ)
[219] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/492-494). .
2- الشِّرْكُ في الخَوْفِ:هو أن يخافَ مِن مخلوقٍ خَوفًا مُقتَرِنًا بالتعظيمِ مع الخُضوعِ أو المحبَّةِ، فيخافُ أن يُصيبَه بمكروهٍ بمَشيئتِه وقُدرتِه، فهذا من الشِّرْكِ الأكبَرِ؛ لأنَّه صَرْفٌ لعبادةِ الخَوفِ والتَّعظيمِ لغَيرِ اللهِ، ولِما في ذلك من اعتِقادِ النَّفعِ والضُّرِّ في غَيرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. قال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة: 18] .
فالخوفُ المقتَرِنُ بالمحَبَّةِ والتعظيمِ والتذَلُّلِ هو خَوفٌ واجِبٌ للهِ تعالى وَحْدَه، وهو أصلٌ منِ أصولِ العِبادةِ.
وأمَّا الخَوفُ الجِبِلِّيُّ: كالخَوفِ مِن الأعداءِ أو من الحيواناتِ المفتَرِسةِ وغيرِ ذلك، فهذا خوفٌ مُباحٌ إذا وُجِدَت أسبابُه، كما قال اللهُ تعالى عن نبيِّه موسى عليه السَّلامُ:
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص: 21] ، وقال سُبحانَه:
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه: 67] [220] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 292)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 417)، ((القول المفيد)) لابن عثيمين (2/68). .
3- الشِّرْكُ في المَحَبَّةِ:هو أن يُحِبَّ مخلوقًا محبَّةً مُقتَرِنةً بالخُضوعِ والتعظيمِ، فهذه محبَّةُ العُبوديَّةِ التي لا يجوزُ صَرْفُها لغيرِ اللهِ سُبحانَه، فمن صَرَفَها لغَيرِه فقد وَقَع في الشِّرْكِ الأكبَرِ.
قال اللهُ تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: 165] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يذكُرُ تعالى حالَ المُشرِكينَ به في الدُّنيا وما لهم في الدَّارِ الآخِرةِ؛ حيثُ جَعَلوا له أندادًا، أي: أمثالًا ونُظَراءَ يَعبُدونَهم معه ويُحِبُّونَهم كحُبِّه، وهو اللهُ لا إلهَ إلَّا هو، ولا ضِدَّ له ولا نِدَّ له، ولا شريكَ معه. وفي الصَّحيحينِ عن
عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ؟ قال:
((أن تجعَلَ للهِ نِدًّا وهو خلَقَك )) [221] أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86). .
وقَولُه:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ولحُبِّهم للهِ وتمامِ مَعرفتِهم به، وتوقيرِهم وتوحيدِهم له، لا يُشرِكونَ به شيئًا، بل يَعبُدونَه وَحْدَه ويتوكَّلون عليه، ويَلجَؤون في جميعِ أُمورِهم إليه)
[222] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/476). .
فالمحبَّةُ الواجِبةُ هي محبَّةُ اللهِ ومحَبَّةُ ما يحِبُّه اللهُ تعالى.
وأمَّا المحَبَّةُ الطبيعيَّةُ كمَحَبَّةِ الوالِدِ لوَلَدِه، والإنسانِ لصَديقِه وغيرِ ذلك، فينبغي ألَّا تَصِلَ إلى دَرَجةِ محبَّةِ اللهِ ومحَبَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[223] يُنظر: ((قاعدة في المحبة)) لابن تيمية (ص: 69، 87)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 296)، ((تجريد التوحيد)) للمقريزي (ص: 14)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 403). .
قال اللهُ تعالى:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (أمَرَ تعالى رسولَه أن يتوعَّدَ مَن آثَرَ أهْلَه وقَرابتَه وعشيرتَه على اللهِ وعلى رَسولِه، وجِهادٍ في سبيلِه، فقال:
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا أي: اكتسَبْتُموها وحَصَّلْتُموها
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أي: تُحِبُّونَها لطِيْبِها وحُسْنِها، أي: إن كانت هذه الأشياءُ
أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا، أي: فانتَظِروا ماذا يَحُلُّ بكم من عقابِه ونَكالِه بكم؛ ولهذا قال:
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)
[224] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 124). .
وقال
السعديُّ: (هذه الآيةُ الكريمةُ أعظَمُ دَليلٍ على وُجوبِ محبَّةِ اللهِ ورَسولِه، وعلى تقديمِها على محبَّةِ كُلِّ شَيءٍ، وعلى الوعيدِ الشَّديدِ والمقْتِ الأكيدِ، على من كان شيءٌ مِن هذه المذكوراتِ أحَبَّ إليه من اللهِ ورَسولهِ، وجِهادٍ في سبيلِه. وعلامةُ ذلك: أنَّه إذا عُرِضَ عليه أمرانِ أحَدُهما يحِبُّه اللهُ ورَسولُه، وليس لنَفْسِه فيه هَوًى، والآخَرُ تُحِبُّه نَفْسُه وتَشتَهيه، ولكِنَّه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للهِ ورَسولِه، أو يَنقُصُه، فإنَّه إن قَدَّم ما تهواه نَفْسُه على ما يحِبُّه اللهُ، دَلَّ ذلك على أنَّه ظالمٌ، تارِكٌ لِما يجِبُ عليه)
[225] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 332). .
4- الشِّرْكُ في الرَّجاءِ:هو أن يَرجُوَ مِن مخلوقٍ ما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ؛ كالنَّصرِ، والرِّزقِ، والشِّفاءِ، والوَلَدِ، والحِفْظِ، وغيرِ ذلك، فهذا من الشِّرْكِ الأكبَرِ المُخرِجِ مِنَ المِلَّةِ
[226] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 23). .
قال اللهُ تعالى:
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك: 20، 21].
وقال سُبحانَه:
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 79، 80].
وقال عَزَّ وجَلَّ:
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى: 49، 50].
5- الشِّرْكُ في الصَّلاةِ والسُّجودِ والرُّكوعِ:قال اللهُ تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162-163] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: 37] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما ينبغي لأحَدٍ أن يَسجُدَ لأحَدٍ)) [227] أخرجه مطولاً ابن أبي الدنيا في ((النفقة على العيال)) (534) باختلاف يسير، وابن حبان (4162)، وقوام السنة في ((الترغيب والترهيب)) (1521) واللفظ لهما. صححه ابن حبان، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (4162)، وحسن إسناده الألباني في ((إرواء الغليل)) (7/54). .
فمَنْ صَلَّى أو سَجَد أو ركَعَ أو انحنى لمخلوقٍ محبَّةً وخُضوعًا له وتقَرُّبًا إليه، فقد وقع في الشِّرْكِ الأكبَرِ بإجماع ِأهلِ العِلْمِ
[228] يُنظر: ((الشفاء)) لعياض (2/287)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 133)، ((الصارم المنكي)) لابن عبدالهادي (ص: 164)، ((الإعلام بقواطع الإسلام)) لابن حجر الهيتمي (ص: 74). .
قال
البربهاري: (لا نُخرِجُ أحَدًا مِن أهلِ الِقبلةِ من الإسلامِ حتى يَرُدَّ آيةً من كتابِ اللهِ، أو يرُدَّ شيئًا من آثارِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو يذبحَ لغيرِ اللهِ، أو يصلِّيَ لغيرِ الله، فإذا فعل شيئًا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرِجَه من الإسلامِ)
[229] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 64). .
وقال عبد الوهَّابِ بن الحنبلي: (لا يَخرُجُ عن الإسلامِ إلَّا مَن رَدَّ على شيءٍ مِن الأوامِرِ والنَّواهي، وصَلَّى لغيرِ اللهِ، أو ذبح لغيرِ اللهِ)
[230] يُنظر: ((الرسالة الواضحة في الرد على الأشاعرة)) (2/1050). .
وقال القاضي عِياضٌ: (كذلك نُكَفِّرُ بكُلِّ فِعلٍ أجمع المسلمون أنَّه لا يَصدُرُ إلَّا مِن كافرٍ، وإن كان صاحِبُه مُصَرِّحًا بالإسلامِ مع فِعْلِه ذلك الفِعْلَ؛ كالسُّجودِ للصَّنَمِ، وللشمَّس ِوالقَمَرِ، والصَّليبِ والنَّارِ)
[231] يُنظر: ((الشفا)) (2/287). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (كان من أتباعِ هؤلاء من يسجُدُ للشَّمسِ والقَمَرِ والكواكِبِ، ويدعوها كما يدعو اللهَ تعالى، ويصومُ لها، ويَنْسُكُ لها، ويتقَرَّبُ إليها، ثمَّ يقولُ: إنَّ هذا ليس بشِرْكٍ، وإنَّما الشِّرْكُ إذا اعتقَدْتُ أنَّها هي المدَبِّرةُ لي، فإذا جعَلْتُها سببًا وواسِطةً لم أكُنْ مُشرِكًا. ومن المعلومِ بالاضطرارِ مِن دينِ الإسلامِ أنَّ هذا شِرْكٌ)
[232] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/227). .
6- الشِّرْكُ في الذَّبحِ:من ذَبَح تقَرُّبًا إلى مخلوقٍ وتعظيمًا له، فقد وقَعَ في الشِّرْكِ الأكبَرِ
[233] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) للسيوطي (ص: 12)، ((شرح مسلم)) (13/141)، ((الأشباه والنظائر)) لابن نجيم (ص: 25)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي (ص: 55)، ((الدر النضيد)) للشوكاني (ص: 56-57)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/310)، ((شرح الأصول الستة)) لابن عثيمين (ص: 115). .
قال اللهُ تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163]، وقال اللهُ سُبحانَه:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يأمُرُه تعالى أن يخبِرَ المُشرِكينَ الذين يَعبُدونَ غيرَ اللهِ ويَذبَحون لغيرِ اسمِه، أنَّه مخالِفٌ لهم في ذلك؛ فإنَّ صَلاتَه للهِ، ونُسُكَه على اسمِه وَحْدَه لا شريكَ له، وهذا كقَولِه تعالى:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] أي: أخلِصْ له صَلاتَك وذبيحَتَك؛ فإنَّ المُشرِكينَ كانوا يعبُدونَ الأصنامَ ويَذبَحونَ لها، فأمَرَه اللهُ تعالى بمخالفتِهم والانحرافِ عمَّا هم فيه، والإقبالِ بالقَصْدِ والنيَّةِ والعَزمِ على الإخلاصِ لله تعالى؛ قال مجاهِدٌ في قَولِه:
إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي قال: النُّسُكُ: الذَّبحُ في الحَجِّ والعُمْرة.ِ وقال
الثَّوريُّ، عن السُّدِّيِّ عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ:
وَنُسُكِي قال: ذَبْحي. وكذا قال السُّدِّيُّ والضَّحَّاكُ)
[234] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 381). .
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لعَنَ اللهُ من ذَبحَ لغيرِ اللهِ) ) [235] أخرجه مسلم (1978) مطولاً. .
قال
النَّوويُّ: (أما الذَّبحُ لغير الله فالمرادُ به أنْ يذبحَ لغَيرِ اللهِ تعالى؛ كمنَ ذَبَح للصَّنَمِ أو الصَّليبِ، أو لموسى أو لعيسى صلَّى الله عليهما أو للكعبةِ ونحوِ ذلك، فكُلُّ هذا حرامٌ، ولا تحِلُّ هذه الذَّبيحةُ، سواءٌ كان الذابِحُ مُسلِمًا أو نصرانيَّا أو يهوديَّا نصَّ عليه
الشَّافِعيُّ واتفق عليه أصحابُنا فإنْ قَصَد مع ذلك تعظيمَ المذبوحِ له غيرِ اللهِ تعالى، والعبادةَ له؛ كان ذلك كُفرًا، فإن كان الذَّابِحُ مُسلِمًا قَبْلَ ذلك صار بالذَّبحِ مُرتَدًّا)
[236] يُنظر: ((شرح مسلم)) (13/141). .
وقال
البَرْبهاريُّ: (لا نُخرِجُ أحَدًا مِن أهلِ الِقبلةِ من الإسلامِ حتى يَرُدَّ آيةً من كتابِ اللهِ، أو يرُدَّ شيئًا من آثارِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو يذبحَ لغيرِ اللهِ، أو يصلِّيَ لغيرِ الله، فإذا فعل شيئًا من ذلك فقد وجب عليك أن تخرِجَه من الإسلامِ)
[237] يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 64). .
وقال عبد الوهَّابِ بن الحنبلي: (لا يَخرُجُ عن الإسلامِ إلَّا مَن رَدَّ على شيءٍ مِن الأوامِرِ والنَّواهي، وصَلَّى لغيرِ اللهِ، أو ذبح لغيرِ اللهِ)
[238] يُنظر: ((الرسالة الواضحة في الرد على الأشاعرة)) (2/1050). .
وقال
الرازي في تفسيرِ قَولِه تعالى:
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: 173] : (قال العُلَماءُ: لو أنَّ مُسلمًا ذبح ذبيحةً، وقصد بذبحِها التقَرُّبَ إلى غيرِ اللهِ، صار مرتدًّا، وذَبيحَتُه ذَبيحةَ مُرتَدٍّ)
[239] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/ 192). .
وقال الرافعيُّ: (اعلَمْ أنَّ الذَّبحَ للمعبودِ وباسمِه نازِلٌ منزلةَ السُّجودِ له، وكُلُّ واحد منهما نوعٌ من أنواعِ التعظيمِ والعبادةِ المخصوصةِ باللهِ تعالى، الذي هو المستَحِقُّ للعبادةِ؛ فمن ذبح لغيرِه من حيوانٍ، أو جمادٍ كالصَّنَمِ، على وَجهِ التعظيمِ والعبادةِ؛ لم تَحِلَّ ذبيحتُه، وكان ما يأتي به كُفرًا، كمن سجد لغيرِه سَجدةَ عبادةٍ، وكذا لو ذبح له ولغيرِه على هذا الوَجْهِ)
[240] يُنظر: ((العزيز شرح الوجيز)) (12/84). .
وقال البركوي الحنفي واصفًا حالَ القُبوريِّين: (ثمَّ يُقَرِّبون لذلك الوَثَنِ القَرابينَ، وتكونُ صَلاتُهم ونُسُكُهم وقُربانُهم لغيِر رَبِّ العالَمين... والحاصِلُ أنَّهم مناقِضون لِما أمر به الرَّسولُ عليه السَّلامُ ونهى عنه، ومحادُّون لما جاء به)
[241] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 23). .
وقال وليُّ اللهِ الدَّهلويُّ: (من أقسامِ الشِّركِ: أنَّهم كانوا يتقَرَّبون إلى الأصنامِ والنُّجومِ بالذَّبحِ لأجْلِهم، إمَّا بالإهلالِ عند الذَّبائحِ بأسمائِهم، وإمَّا بالذَّبحِ على الأنصابِ المخصوصةِ لهم؛ فنُهُوا عن ذلك)
[242] يُنظر: ((حجة الله البالغة)) (1/ 121). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (اعلَمْ أنَّ مِن أعظَمِ نواقِضِ الإسلامِ عَشَرةً:
الأوَّلُ: الشِّركُ في عبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له، والدَّليلُ قَولُه تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، ومنه الذَّبحُ لغيرِ اللهِ، كمَن يذبَحُ للجِنِّ أو القِبابِ)
[243] يُنظر: ((الرسائل الشخصية)) (ص: 212). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ مُعَلِّقًا على حديثِ مَن قَرَّب ذبابةً لصنَمٍ: (ألا ترى إلى هذا لَمَّا قَرَّب لهذا الصَّنَمِ أرذَلَ الحيوانِ وأخَسَّه -وهو الذُّبابُ- كان جزاؤُه النَّارَ؛ لإشراكِه في عبادةِ اللهِ؛ إذ الذَّبحُ على سَبيلِ القُربةِ والتعظيمِ عِبادةٌ، وهذا مطابِقٌ لقَولِه تعالى:
إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72] )
[244]يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 158). .
وقال السويدي الشافعي بعد نَقْلِه كلامَ مجموعةٍ من العُلَماءِ في الذَّبح ِلغيرِ الله: (تبَيَّنَ لك من هذه النُّقولِ كُلِّها أنَّ ما يُقَرَّبُ لغيرِ اللهِ تقَرُّبًا إلى ذلك الغيرِ ليَدفَعَ عنه ضيرًا أو يجلِبَ له خيرًا؛ تعظيمًا له: من الكُفرِ الاعتقاديِّ والشِّركِ الذي كان عليه الأوَّلون)
[245] يُنظر: ((العقد الثمين في بيان مسائل الدين)) (ص: 539). .
وقال
السَّعْديُّ: (إذا ثَبَت أنَّ الذَّبحَ للهِ من أجَلِّ العباداتِ وأكبَرِ الطَّاعاتِ، فالذَّبحُ لغيرِ اللهِ شِرْكٌ أكبَرُ مُخرِجٌ عن دائرةِ الإسلامِ؛ فإنَّ حَدَّ الشِّركِ الأكبَرِ وتفسيرَه الذي يجمَعُ أنواعَه وأفرادَه: أن يَصرِفَ العَبدُ نوعًا أو فردًا من أفرادِ العبادةِ لغيرِ اللهِ)
[246] يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 54). .
وقال المعصومِيُّ الخُجَنْدِيُّ: (لا بدَّ مِن نَفْيِ الشِّركِ في العبادةِ رأسًا، والبراءةِ منه وممَّن فَعَله؛ قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: 26، 27]، و
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]، فأصلُ دينِ الإسلامِ إنَّما هو عبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، والتَّحريضُ على ذلك، فمن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وهو مع ذلك يفعَلُ الشِّركَ الأكبَرَ، كدُعاءِ الموتى والغائبين، وسؤالِهم قضاءَ الحاجاتِ، وتفريجَ الكُرُباتِ، والتقَرُّبِ إليهم بالنَّذرِ والذَّبائحِ؛ فهذا مُشرِكٌ شاء أم أبى)
[247] يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) (ص: 68). .
وقال
محمَّدُ بنُ إبراهيم آل الشَّيخ: (أمَّا الذَّبحُ لغَيرِ اللهِ فهو شِركٌ أكبَرُ، والعِياذُ باللهِ؛ لأنَّ الذَّبحَ لله عبادةٌ، قال تعالى:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] ، وقال تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ِلِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ له [الأنعام: 162-163] ، فمن صرف شيئًا من هذه العبادةِ لغيرِ اللهِ فهو مُشرِكٌ كافِرٌ)
[248] يُنظر: ((فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ)) (1/105). .
وقال
ابن باز: (من ذَبَح لغيرِ اللهِ فقد أشرَكَ باللهِ، كما لو صَلَّى لغيرِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ سبحانَه جَعَل الصَّلاةَ والذَّبحَ قرينَينِ، وأخبَرَ أنَّهما للهِ وَحْدَه لا شريكَ له، فمن ذَبَح لغيرِ اللهِ مِنَ
الجِنِّ والملائكةِ والأمواتِ وغَيرِهم، يتقَرَّبُ إليهم بذلك، فهو كمَن صَلَّى لغيرِ اللهِ)
[249] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/159). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الذَّبحُ لغيرِ اللهِ ينقَسِمُ إلى قِسمَينِ:
1. أن يُذبَحَ لغيرِ اللهِ تقَرُّبًا وتعظيمًا، فهذا شِركٌ أكبَرُ مخرِجٌ عن المِلَّةِ.
2. أن يُذبَحَ لغيرِ اللهِ فَرَحًا وإكرامًا، فهذا لا يُخرِجُ مِن المِلَّةِ، بل هو من الأمورِ العاديَّةِ التي قد تكونُ مطلوبةً أحيانًا وغيرَ مطلوبةٍ أحيانًا، فالأصلُ أنَّها مباحةٌ)
[250] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/214). .
7- الشِّرْكُ في النَّذْرِ، والزَّكاةِ، والصَّدَقةِ: أوَّلًا: الشِّركُ في النَّذْرِ:النَّذْرُ عبادةٌ مِن العباداتِ التي يُلزِمُ الإنسانُ نَفْسَه بها، فلا يجوزُ صَرْفُه لغيرِ اللهِ تعالى، فمَن نَذَر لمخلوقٍ شيئًا مِن ذلك، كأن يقولَ: لفُلانٍ عليَّ نَذرٌ أن أتصَدَّقَ بكذا إن شُفِيَ مريضي، فقد أجمعَ أهلُ العِلمِ على أنَّ ذلك شِرْكٌ أكبَرُ مُخرِجٌ من المِلَّةِ
[251] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/81، 286)، ((الدين الخالص)) لصديق حسن خان (4/66)، ((السنن والمبتدعات)) لمحمد الشقيري (ص: 176). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (قد اتَّفَق العُلَماءُ على أنَّه لا يجوزُ لأحَدٍ أن يَنذِرَ لغَيرِ اللهِ؛ لا لنبيٍّ ولا لغيرِ نبيٍّ، وأنَّ هذا النَّذرَ شِرْكٌ لا يُوفي به)
[252] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/286). .
وقال أيضًا: (النَّذرُ أعظَمُ مِن الحَلِفِ؛ ولهذا لو نَذَر لغيرِ اللهِ فلا يجِبُ الوفاءُ به باتِّفاقِ المسلِمينَ)
[253] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/81). .
وقال
الأذرعي الشافعي: (أمَّا النُّذورُ للمَشاهدِ التي بُنِيَت على قَبرِ وَلِيٍّ أو شيخٍ، أو على اسمِ مَن حَلَّها مِن الأولياءِ، أو رُئِيَ في تلك البقعةِ مِن الأنبياءِ والصَّالحين... إنْ قَصَد بنَذْرِه -وهو الغالِبُ أو الواقِعُ من قصودِ العاقِدِ- تعظيمَ البقعةِ والمشهَدِ والزَّاويةِ، أو تعظيمَ مَن دُفِنَ بها ممَّن ذكَرْنا أو نُسِبَت إليه أو بُنِيَت على اسمِه؛ فهذا النَّذرُ باطِلٌ غيرُ مُنعَقِدٍ، فإنَّ مُعتَقَدَهم أنَّ لهذه الأماكِنِ خصوصيَّاتٍ لأنفُسِها، ويَرَون أنَّها ممَّا يُدفَعُ به البلاءُ ويُستجلَبُ به النَّعماءُ ويُستشفى بالنَّذرِ لها من الأدواءِ، حتى إنَّهم يَنذِرون لبعض الأحجارِ لَمَّا قيل إنَّه جلس إليها أو استند إليها عبدٌ صالحٌ، ويَنذِرون لبعضِ القُبورِ السُّرُجَ أو الشموعَ والزَّيتَ، ويقولون: القبرُ الفُلانيُّ أو المكانُ الفلانيُّ يَقبَلُ النَّذرَ، يَعْنون بذلك أنَّه يحصُلُ بالنَّذرِ الغَرَضُ المأمولُ؛ من شفاءِ مريضٍ، وقُدومِ غائبٍ، وسلامةِ مالٍ، وغيرِ ذلك من أنواعِ نَذرِ المجازاةِ، فهذا النَّذرُ على هذا الوَجهِ باطِلٌ لا شَكَّ فيه، بل نَذرُ الزَّيتِ والشَّمعِ ونحوِهما للقُبورِ باطِلٌ مُطلقًا، ومن ذلك نَذْرُ الشُّموعِ الكبيرةِ العظيمةِ وغَيرِها لقبرِ الخليلِ عليه السَّلامُ، ولقَبرِ غيرِه من الأنبياءِ والأولياءِ عليهم السَّلامُ؛ فإنَّ النَّاذِرَ لا يقصِدُ بذلك إلا الإيقادَ على القبرِ تبركًا وتعظيمًا، ظانًّا أنَّ ذلك قُربةٌ... فهذا ممَّا لا ريبَ في بطلانِه، والإيقادُ المذكورُ محَرَّمٌ، سواءٌ انتفع به منتَفِعٌ هناك أم لا)
[254] يُنظر: ((قوت المحتاج)) (10/535). .
وقال ابنُ النَّحَّاس الشافعي وهو يَسردُ جملةً من المنكَراتِ والبِدَعِ والمحْدَثاتِ: (ومنها: إيقادُهم السُّرُجَ عند الأشجارِ والأحجارِ والعُيونِ والآبارِ، ويقولونَ: إنَّها تقبَلُ النَّذرَ. وهذه كُلُّها بِدَعٌ شَنيعةٌ، ومُنكَراتٌ قبيحةٌ، يجِبُ إزالتُها ومحوُ أثَرِها؛ فإنَّ أكثَرَ الجُهَّالِ يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفَعُ، وتجلِبُ وتدفَعُ، وتشفي المريضَ، وتَرُدُّ الغائِبَ إذا نَذَر لها، وهذا شِركٌ ومحادَّةٌ للهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... فالواجِبُ على من رأى شيئًا من ذلك أن يُذهِبَ أثَرَه ما قَدَر عليه، ويطفئَ ما وجد عليه من سُرُجٍ وشمعٍ ونحوِ ذلك، ويُبَيِّنَ للنَّاسِ أن هذا مُنكَرٌ وبِدعةٌ واعتقادٌ فاسِدٌ لا يحِلُّ، وأنَّه لا ضارَّ ولا نافعَ إلَّا اللهُ تعالى وَحْدَه. ويجِبُ على العُلَماءِ إذا اشتَهَر شيءٌ من ذلك أن يُبَيِّنوا للنَّاسِ حُكمَ اللهِ فيه ويُنكِروه بما تصِلُ إليه قُدرتُهم، واللهُ يهدي من يشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ)
[255] يُنظر: ((تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين)) (ص: 522-524). .
وقال قاسِمُ بنُ قُطْلُوبَغَا الحَنَفيُّ: (أمَّا النَّذرُ الذي يَنذِرُه أكثَرُ العوامِّ على ما هو مُشاهَدٌ، كأن يكونَ لإنسانٍ غائبٌ أو مريضٌ، أو له حاجةٌ ضَروريَّةٌ، فيأتي بعضُ الصُّلَحاءِ، فيَجعَلُ سُترةً على رأسِه، فيقولُ: يا سيِّدي فُلان، إنَّ رُدَّ غائبي، أو عُوفِيَ مَريضي، أو قُضِيَت حاجتي؛ فلك من الذَّهَبِ كذا، أو مِنَ الفِضَّةِ كذا، أو من الطَّعامِ كذا، أو من الماءِ كذا، أو من الشَّمعِ كذا، أو من الزَّيتِ كذا؛ فهذا النَّذرُ باطِلٌ بالإجماعِ؛ لوُجوهٍ: منها: أنَّه نَذَرَ لمخلوقٍ، والنَّذرُ للمخلوقِ لا يجوزُ؛ لأنَّه عبادةٌ، والعبادةُ لا تكونُ للمَخلوقِ، ومنها أنَّ المنذورَ له مَيِّتٌ، والميِّتُ لا يملِكُ، ومنها إن ظَنَّ أنَّ المَيِّتَ يتصَرَّفُ في الأمورِ دونَ اللهِ تعالى، واعتقادُه ذلك كُفرٌ)
[256] يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/320). .
وقال
الحَصكَفيُّ: (اعلَمْ أنَّ النَّذرَ الذي يقَعُ للأمواتِ مِن أكثَرِ العوامِّ، وما يؤخَذُ من الدَّراهِمِ والشَّمعِ والزَّيتِ ونحِوها إلى ضرائِحِ الأولياءِ الكِرامِ تقَرُّبًا إليهم، فهو بالإجماعِ باطِلٌ وحرامٌ ما لم يَقْصِدوا صَرْفَها لفُقراءِ الأنامِ، وقد ابتُلِيَ النَّاسُ بذلك، ولا سِيَّما في هذه الأعصارِ).
قال ابنُ عابِدينَ شارحًا قولَ
الحَصكفيِّ: (قَولُه: «باطِلٌ وحرامٌ» لوُجوهٍ؛ منها: أنَّه نَذرٌ لمخلوقٍ، والنَّذرُ للمخلوقِ لا يجوزُ؛ لأنَّه عِبادةٌ، والعِبادةُ لا تكونُ لمخلوقٍ. ومنها: أنَّ المنذورَ له مَيِّتٌ، والميِّتُ لا يَملِكُ. ومنها: أنَّه ظَنَّ أنَّ الميِّتَ يتصَرَّفُ في الأمورِ دونَ اللهِ تعالى، واعتقادُه ذلك كُفرٌ)
[257] يُنظر: ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين رد المحتار)) (2/439). .
وقال البركويُّ الحَنَفيُّ: (قال العُلَماءُ: لا يجوزُ أن يُنذَرَ للقُبورِ، لا شَمعٌ ولا زيتٌ ولا غيرُ ذلك؛ فإنَّه نَذرُ معصيةٍ لا يجوزُ الوَفاءُ به بالاتِّفاقِ)
[258] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 11). .
وقال أحمدُ السَّرهنديُّ: (المتشَبِّثُ بمجموعِ أحكامِ الإسلامِ والكُفرِ مُشرِكٌ؛ والتبرؤُّ مِن الكُفرِ شَرطُ الإسلامِ، والاجتنابُ عن شائبةِ الشِّركِ توحيدٌ، والاستمدادُ من الأصنامِ والطَّواغيتِ في دَفعِ الأمراضِ والأسقامِ -كما هو الشَّائِعُ فيما بين جَهَلةِ أهلِ الإسلامِ- عَينُ الشِّركِ والضَّلالةِ؛ فيَكفُرون من حيث لا يَشعُرون، ونَذْرُ الحيوانِ للمشايخِ وذَبُحه عند قبورِهم داخِلٌ في الشِّركِ، ولا يجوزُ إشراكُ أحدٍ به تعالى في عبادةٍ من العباداتِ، وطَلَبُ الحاجاتِ مِن غيرِ اللهِ عَينُ الضَّلالةِ وتَسويلُ
الشَّيطانِ الرَّجيمِ)
[259] يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) للمعصومي الخجندي (ص: 74)، ((جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية)) لشمس الدين الأفغاني (1/ 154). .
وقال
الصَّنعاني: (أمَّا النُّذورُ المعروفةُ في هذه الأزمنةِ على القُبورِ والمشاهِدِ والأمواتِ، فلا كلامَ في تحريمِها؛ لأنَّ النَّاذِرَ يعتَقِدُ في صاحِبِ القبرِ أنَّه ينفَعُ ويضُرُّ، ويجلِبُ الخيرَ ويدفَعُ الشَّرَّ، ويعافي الأليمَ ويَشفي السَّقيمَ، وهذا هو الذي كان يفعَلُه عُبَّادُ الأوثانِ بعَينِه؛ فيَحرُمُ كما يَحرُمُ النَّذرُ على الوَثَنِ، ويحرُمُ قَبْضُه؛ لأنَّه تقريرٌ على الشِّركِ، ويجِبُ النَّهيُ عنه وإبانةُ أنَّه من أعظَمِ المحَرَّماتِ، وأنَّه الذي كان يفعَلُه عُبَّادُ الأصنامِ، لكِنْ طال الأَمَدُ حتى صار المعروفُ مُنكَرًا والمنكَرُ معروفًا، وصارت تُعقَدُ اللِّواءاتُ لقُبَّاضِ النُّذورِ على الأمواتِ، ويُجعَلُ للقادمين إلى محلِّ الميِّتِ الضِّيافاتُ، ويُنحَرُ في بابِه النَّحائِرُ من الأنعامِ، وهذا هو بعينِه الذي كان عليه عُبَّادُ الأصنامِ؛ فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون)
[260] يُنظر: ((سبل السلام)) (4/ 111). .
وقال حُسَين وعبد الله ابنا محمَّدِ بنِ عبد الوهَّاب: (النَّذرُ الذي يكون شِركًا: النَّذرُ لغيرِ اللهِ، كالنَّذرِ لوَليٍّ يُعبَدُ من دونِ اللهِ، أو لقُبَّةٍ، أو لخَدَمَتِها وسَدَنَتِها، فهذا هو الذي يكونُ شِركًا، وهو نذرُ معصيةٍ، لا يجوزُ نذرُه، ولا الوفاءُ به)
[261] يُنظر: ((الدرر السنية)) (7/516). .
وقال أبو السعود السويدي الشافعي: (قال بعضُهم: لو نذر للأنبياءِ أو للأولياءِ، أو للملائكةِ، فلا خلافَ بين من يَعلَمُ ذلك ويتبيَّنُه أنَّه من شِرْكِ الاعتقادِ؛ لأنَّ النَّاذِرَ لم يَنذِرْ هذا النَّذرَ إلَّا لاعتقادِه في المنذورِ له أنَّه يَضُرُّ وينفَعُ، ويُعطي ويمنَعُ، إمَّا بطَبْعِه، وإمَّا بقوَّةِ السَّبَبيَّة فيه، والدَّليلُ على اعتقادِهم هذا الاعتقادَ قَولُهم: وقَعْنا في شِدَّةٍ فنَذَرْنا لفلانٍ؛ فانكَشَفَت شِدَّتُنا! ويقولُ بعضُهم: هاجت علينا الأمواجُ فندَبْتُ الشَّيخَ فلانًا؛ فسَلِمَت سفينتُنا! وبعضُهم يقولُ: خرَجَت علينا الأعداءُ وكِدْنا نُستأسَرُ، فنَدَبتُ فلانًا ونذَرْتُ له الشَّيءَ الفُلانيَّ؛ فسَلِمْنا، وتراهم إذا لم يَفُوا وحصلت لهم بعضُ الآلامِ، قيل للناذِرِ: أوْفِ بنَذْرِك، وإلَّا يُفعَلْ بك كذا وكذا، فيسارِعُ بالوَفاءِ، ولو أنَّه يستدينُ على ذِمَّتِه، ولو كان مديونًا أو مضطرًّا، وربَّما لا يعبَأُ بوفائِه، وربما يموتُ وهو مديونٌ، كُلُّ ذلك خوفًا من المنذورِ له وطلبًا لرضاه، وهل هذا إلَّا من سوءِ اعتقادِه، وقِلَّةِ دينِه وكَسادهِ؟!)
[262] يُنظر: ((العقد الثمين في بيان مسائل الدين)) (ص: 529). .
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخِ: (هذه النُّذورُ الواقِعةُ مِن عُبَّادِ القُبور؛ تقَرُّبًا بها إليهم ليقضُوا لهم حوائِجَهم، وليَشفَعوا لهم، كُلُّ ذلك شِرْكٌ في العبادةِ بلا رَيبٍ. كما قال تعالى:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136] )
[263] يُنظر: ((فتح المجيد)) (1/293). .
وقال عبدُ اللَّطيفِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ بن حَسَن آل الشَّيخِ: (لا يكونُ مُسلِمًا إلَّا إذا تركَ عبادةَ الطَّاغوت، وتباعَدَ عنه، وعَمِلَ لله بمقتضى شهادةِ الإخلاصِ؛ من تسليمِ الوَجهِ له، واجتنابِ الشِّركِ قَولًا وعملًا وتَرْكِ الخُضوعِ والسُّجودِ والذَّبحِ والنَّذرِ لغيرِ اللهِ، وإخلاصِ الدِّينِ في ذلك كُلِّه للهِ)
[264] يُنظر: ((مصباح الظلام)) (3/590). .
وقال
السعديُّ: (إنَّ النَّذرَ عِبادةٌ، مَدَحَ اللهُ الموفِينَ به، وأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالوَفاءِ بنَذرِ الطَّاعةِ، وكُلُّ أمرٍ مَدَحَه الشَّارعُ، أو أثنى على من قام به، أو أمَرَ به؛ فهو عبادةٌ... فهذه إخلاصُها لله إيمانٌ وتوحيدٌ، وصَرْفُها لغيرِ اللهِ شِرْكٌ وتنديدٌ)
[265] يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 61). .
وقال
ابنُ باز: (النُّذورُ التي يتقَرَّبُ بها النَّاسُ إلى أصحابِ القُبورِ والسَّدَنةِ التي على القبورِ كُلُّها باطلةٌ، وكُلُّها شِرْكٌ باللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ النَّذرَ عِبادةٌ، فلا يجوزُ أن يُصرَفَ لغيرِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، فلا يجوزُ أن يُنذَرَ لقَبرِ البَدَويِّ أو الحُسَينِ، أو فُلانٍ أو فلانٍ، لا دراهِمَ ولا شمعًا ولا خبزًا، ولا غيرَ ذلك، كلُّ ذلك مُنكَرٌ لا يجوزُ... قال سبحانه:
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [البقرة: 270] ، يعني: فيُجازيكم عليه، فالنُّذورُ قُرَبٌ وطاعاتٌ، فإن كانت لله فلصاحِبِها ثوابُها، مع أنَّ الرَّسولَ نهى عن النَّذرِ، وقال:
((إنَّه لا يأتي بخيرٍ)) [266] أخرجه مسلم (1639) مطولاً من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ، فلا ينبغي النَّذرُ، لكِنْ لو فَعَل النَّذرَ طاعةً لله، وجَبَ عليه أن يفعَلَ الطَّاعةَ، كما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من نَذَر أن يُطيعَ اللهَ فلْيُطِعْه، ومن نذر أن يعصِيَ اللهَ فلا يَعْصِه)) [267] أخرجه البخاري (6696) باختلاف يسير من حديث عائشة رضي الله عنها ... فإذا نَذَر طاعةً لَزِمَه الوفاءُ، وأجْرُه على اللهِ سُبحانَه وتعالى، ولكِنْ يُنصَحُ ألَّا يعودَ إلى ذلك، فإذا قال: للهِ عليَّ أن أصَلِّيَ ركعتينِ هذه اللَّيلةَ، أو للهِ عليَّ أن أصومَ يومَ الاثنينِ، أو يومَ الخميسِ، أو للهِ عليَّ أن أتصَدَّقَ بكذا وكذا على الفُقَراءِ، أو للهِ عَلَيَّ أن أحُجَّ هذا العامَ، أو عامَ كذا، أو عامَ كذا؛ فهذه كُلُّها نُذورُ عبادةٍ وطاعةٍ، فعليه أن يُوفِيَ بها، أمَّا إذا نَذَر أن يتصَدَّقَ بكذا وكذا للشَّيخِ البَدَويِّ، أو للسَّيِّد حُسَين، أو للشَّيخِ
عبدِ القادِرِ الجيلانيِّ، أو لفلانٍ أو لفلانٍ؛ هذه نذورٌ باطِلةٌ، نُذورٌ شِرْكيةٌ باطِلةٌ)
[268] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (2/ 41 - 43). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (النَّذرُ لغيرِ اللهِ؛ مِثلُ أن يقولَ: لفُلانٍ عليَّ نَذرٌ، أو لهذا القبرِ عليَّ نَذرٌ، أو لجِبريلَ عليَّ نَذرٌ، يريدُ بذلك التقرُّبَ إليهم، وما أشبَهَ ذلك، والفَرْقُ بيْنه وبيْن نَذْرِ المعصيةِ: أنَّ النَّذَر لغيرِ اللهِ ليس لله أصلًا، ونَذْرُ المعصيةِ للهِ، ولكِنَّه على مَعصيةٍ مِن معاصيه، مِثلُ أن يقولَ: للهِ عليَّ نَذرٌ أن أفعَلَ كذا وكذا مِن معاصي اللهِ، فيكونُ النَّذرُ للهِ، والمنذورُ مَعصيةً... وحُكمُ النَّذرِ لغيرِ اللهِ: شِرْكٌ؛ لأنَّه عبادةٌ للمَنذورِ له، وإذا كان عبادةً فقد صَرَفَها لغيرِ اللهِ، فيكونُ مُشرِكًا، وهذا النَّذرُ لغيرِ اللهِ لا ينعَقِدُ إطلاقًا، ولا تجِبُ فيه كَفَّارةٌ، بل هو شِرْكٌ تجِبُ التَّوبةُ منه)
[269] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/245). .
ثانيًا: الشِّركُ في الزَّكاةِ والصَّدَقةِ: قال
ابنُ تيميَّةَ: (أكبَرُ الكبائِرِ الإشراكُ باللهِ، وأن تجعَلَ له نِدًّا وهو خلَقَك، والشِّرْكُ أن تجعَلَ لغَيرِه شِركًا، أي: نصيبًا في عبادتِك وتوكُّلِك واستعانتِك... وكذلك الزكاةُ العامَّةُ مِنَ الصَّدَقاتِ كُلِّها، والخاصَّةُ: لا يُتصَدَّقُ إلَّا للهِ، كما قال تعالى:
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى [الليل: 19، 20]، وقال:
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان: 9]، وقال:
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 265] ، وقال:
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم: 39] ، فلا يجوزُ فِعْلُ ذلك على طريقِ الدِّينِ لا لمَلَكٍ ولا لشَمسٍ ولا لقَمَرٍ ولا لنَبيٍّ ولا لصالحٍ)
[270] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 74). .
وقال
ابنُ باز: (العبادةُ حَقُّ اللهِ وَحْدَه، لا يجوزُ لأحَدٍ أن يَصرِفَها لغَيرِه سُبحانَه وتعالى، والعِبادةُ: اسمٌ جامِعٌ لكُلِّ ما يُحِبُّه اللهُ ويَرْضاه من الأقوالِ والأعمالِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ؛ الصَّلاةُ عبادةٌ، والصَّومُ عبادةٌ، والصَّدَقةُ عبادةٌ...)
[271] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/180). .
8- الشِّرْكُ في الطَّوافِ:الطَّوافُ بالكَعْبةِ عِبادةٌ بَدَنيَّةٌ لا يجوزُ أن تُصرَفَ لغيرِ اللهِ تعالى، ولا يجوزُ أن يُطافَ إلَّا بالكَعبةِ المشَرَّفةِ، وهذا كُلُّه مُجمَعٌ عليه، فمن طاف بقَبرِ نبيٍّ، أو عبدٍ صالحٍ، أو بمنزلٍ مُعَيَّنٍ، أو حتى بالكَعبةِ المشَرَّفةِ؛ تقَرُّبًا إلى غيرِ اللهِ تعالى- فقد وقَعَ في الشِّرْكِ الأكبَرِ بإجماعِ المسلِمينَ
[272] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/308)، ((الصارم المنكي)) لابن عبدالهادي (ص: 288). وينظر ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 133، 135)، ((الدين الخالص)) لصديق حسن خان (2/68)، ((رسالة التوحيد)) للدهلوي (ص: 135)، ((تسهيل العقيدة الإسلامية)) لعبد الله الجبرين (ص: 162). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا الرَّجُلُ الذي طَلَب مِن والِدِه الحَجَّ، فأمَرَه أن يطوفَ بنَفْسِ الأبِ، فقال: طُفْ ببَيتٍ ما فارَقَه اللهُ طَرْفةَ عَينٍ قَطُّ! فهذا كُفرٌ بإجماعِ المسلِمينَ؛ فإنَّ الطَّوافَ بالبَيتِ العتيقِ مِمَّا أمَرَ اللهُ به ورَسولُه، وأمَّا الطَّوافُ بالأنبياءِ والصَّالحين فحرامٌ بإجماعِ المسلِمين، ومن اعتَقَد ذلك دينًا، فهو كافِرٌ، سواءٌ طاف ببَدَنِه أو بقَبْرِه)
[273] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/308). .
النَّوعُ الثَّالِثُ: الشِّرْكُ في الحُكمِ والطَّاعةِقال
الشِّنقيطيُّ: (دَلَّ القُرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ على أنهَّ لا حُكمَ لغيرِ اللهِ، وأنَّ اتِّباعَ تشريعِ غَيْرِه كُفرٌ به)
[274] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 48). .
قال اللهُ تعالى حِكايةً عن قَولِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ لِصاحِبَيه في السِّجْنِ:
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: 40] .
قال
البَغَويُّ: (
إِنِ الْحُكْمُ ما القَضاءُ والأمرُ والنَّهيُ
إِلَّا لِلَّهِ)
[275] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 493). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (أخبَرَهم أنَّ الحُكمَ والتصَرُّفَ والمشيئةَ والمُلْكَ كُلَّه للهِ، وقد أمَرَ عبادَه قاطِبةً ألَّا يَعبُدوا إلَّا إيَّاه، ثمَّ قال:
ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: هذا الذي أدعوكم إليه من توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العَمَلِ له، هو الدِّينُ المستقيمُ، الذي أمَرَ اللهُ به وأنزَلَ به الحُجَّةَ والبُرهانَ الذي يحِبُّه ويَرْضاه،
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أي: فلهذا كان أكثَرُهم مُشرِكينَ.
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] )
[276] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 390). .
وقال الله تعالى:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 31] .
قال
أبو بكر الجَصَّاص: (قَولُه:
أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ قيل: فيه وجهانِ؛ أحَدُهما: أنَّهم كانوا أي: الأحبارُ والرُّهبانُ إذا حَرَّموا عليهم شيئًا حَرَّموه، وإذا أحَلُّوا شيئًا استحَلُّوه... ولَمَّا كان التحليلُ والتحريمُ لا يجوزُ إلَّا من جهةِ العالِمِ بالمصالحِ، ثمَّ قَلَّد هؤلاء أحبارَهم ورُهبانَهم في التحليلِ والتحريمِ، وقَبِلوه منهم، وتركوا أمرَ اللهِ تعالى فيما حَرَّم وحَلَّل، صاروا متَّخِذين لهم أربابًا؛ إذ نَزَّلوهم في قَبولِ ذلك منهم منزلةَ الأربابِ. وقيل: إنَّ معناه أنَّهم عَظَّموهم كتعظيمِ الرَّبِّ؛ لأنَّهم يسُجدون لهم إذا رأَوهم، وهذا الضَّربُ مِن التعظيمِ لا يستحقُّه غيرُ اللهِ تعالى، فلمَّا فَعَلوا ذلك فهم كانوا متَّخِذين لهم أربابًا)
[277] يُنظر: ((أحكام القرآن)) (3/ 134). .
وقال ولي الله الدهلوي: (مِن أقسامِ الشِّركِ: أنَّهم كانوا يتَّخِذون أحبارَهم ورُهبانَهم أربابًا من دونِ اللهِ تعالى، بمعنى أنَّهم كانوا يعتَقِدون أنَّ ما أحَلَّه هؤلاء حلالٌ لا بأسَ به في نَفْسِ الأمرِ، وأنَّ ما حَرَّمه هؤلاء حرامٌ يُؤاخَذون به في نَفْسِ الأمرِ)
[278] يُنظر: ((حجة الله البالغة)) (1/ 121). .
وقال المعصومِيُّ الخُجَنْدِيُّ: (الحاكِمُ الحَقُّ حقيقةً هو اللهُ وَحْدَه، وهو المشَرِّعُ وَحْدَه، وهو المحَلِّلُ وَحْدَه، وهو المحَرِّمُ وَحْدَه، فلا حاكِمَ إلَّا اللهُ، ولا مُشَرِّعَ إلَّا اللهُ، ولا محَلِّلَ إلَّا اللهُ، ولا محَرِّمَ إلَّا اللهُ، فمن حَكَم بحِلِّ شَيءٍ لم يُحِلَّه اللهُ، أو حَكَم بحُرمةِ شيءٍ لم يُحَرِّمْه اللهُ، أو شَرَع ما لم يأذَنْ به اللهُ؛ فقد أشرك باللهِ)
[279] يُنظر: ((مفتاح الجنة لا إله إلا الله)) (ص: 75). .
ومن صُوَرِ الشِّرْكِ في هذا النَّوعِ: 1- اعتِقادُ أنَّ حُكمَ غَيرِ اللهِ أفضَلُ مِن حُكمِ اللهِ أو مِثْلُه.قال اللهُ تعالى:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] .
قال
السمعانيُّ: (قَولُه:
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ يُقرَأُ بالياءِ والتَّاءِ، ومعناهما واحِدٌ، يعني أنَّهم إذا لم يَرْضَوا بحُكمِ اللهِ، وأرادُوا خلافَ حُكمِ اللهِ، فقد طَلَبوا حُكْمَ الجاهِليَّةِ)
[280] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (2/ 44). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (إنْ ظَنَّ أنَّ غيرَ هَدْيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكمَلُ مِن هَدْيِه... فهذا كافِرٌ يجِبُ قَتْلُه بعد استتابتِه)
[281] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (27/ 58). .
وقال
محمَّدُ بنُ إبراهيمَ -في الحُكمِ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ-: (فهو أنواعٌ: ... الثَّاني: ألَّا يجحَدَ الحاكِمُ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ كَوْنَ حُكمِ اللهِ ورَسولِه حَقًّا، لكِنِ اعتَقَد أنَّ حُكمَ غيرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسَنُ مِن حُكْمِه وأتمُّ وأشمَلُ لِما يحتاجُه النَّاسُ من الحُكمِ بيْنهم عند التَّنازُعِ؛ إمَّا مُطلقًا أو بالنِّسبةِ إلى ما استجَدَّ مِن الحوادثِ التي نشأَتْ عن تطَوُّرِ الزَّمانِ وتغَيُّرِ الأحوالِ، وهذا أيضًا لا رَيْبَ أنَّه كُفرٌ؛ لتفضيلِه أحكامَ المخلوقينَ التي هي محضُ زبالةِ الأذهانِ، وصِرْفُ نحاتةِ الأفكارِ، على حُكمِ الحكيمِ الحَميدِ...
الثَّالِثُ: ألَّا يعتَقِدَ كَونَه أحسَنَ مِن حُكمِ اللهِ ورَسولِه، لكنِ اعتقَدَ أنَّه مِثْلُه؛ فهذا كالنَّوعَينِ اللَّذينِ قَبْلَه في كونِه كافِرًا الكُفرَ النَّاقِلَ عن المِلَّةِ؛ لِما يقتضيه ذلك من تسويةِ المخلوقِ بالخالِقِ، والمناقَضةِ والمعاندةِ لِقَولِه عزَّ وجَلَّ:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، ونحوِها مِن الآياتِ الكريمةِ الدَّالَّةِ على تفَرُّدِ الرَّبِّ بالكَمالِ، وتنزيهِه عن مماثَلةِ المخلوقينَ في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأفعالِ، والحُكمِ بيْن النَّاسِ فيما يتنازَعونَ فيه)
[282] يُنظر: (رسالة تحكيم القوانين) ضمن ((فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ)) (12/ 288 - 290). .
وقال
ابنُ باز: (أجمع العُلَماءُ على أنَّ مَن زَعَم أنَّ حُكمَ غيرِ اللهِ أحسَنُ مِن حُكمِ اللهِ، أو أنَّ هَدْيَ غَيرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسَنُ مِن هَدْيِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو كافِرٌ)
[283] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/ 269). .
2- اعتِقادُ جَوازِ الحُكمِ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ.قال اللهُ تعالى:
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
قال
السعديُّ: (أَمَر برَدِّ كُلِّ ما تنازع النَّاسُ فيه من أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه إلى اللهِ وإلى رَسولِه، أي: إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه؛ فإنَّ فيهما الفَصْلَ في جميعِ المسائِلِ الخلافيَّةِ؛ إمَّا بصريحِهما أو عُمومِهما، أو إيماءٌ، أو تنبيهٌ، أو مفهومٌ، أو عمومُ مَعنًى يقاسُ عليه ما أشبَهَه؛ لأنَّ كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه عليهما بناءُ الدِّينِ، ولا يستقيمُ الإيمانُ إلَّا بهما.
فالرَّدُّ إليهما شَرطٌ في الإيمانِ؛ فلهذا قال:
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فدَلَّ ذلك على أنَّ مَن لم يَرُدَّ إليهما مسائِلَ النِّزاعِ، فليس بمؤمنٍ حقيقةً، بل مؤمِنٌ بالطَّاغوتِ، كما ذكَرَ في الآيةِ بَعْدَها
ذَلِكَ أي: الرَّدُّ إلى اللهِ ورَسولِه
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فإنَّ حُكمَ اللهِ ورَسولِه أحسَنُ الأحكامِ وأعدَلُها وأصلَحُها للنَّاسِ في أمرِ دينِهم ودُنياهم وعاقِبَتِهم)
[284] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 184). .
وقال
ابنُ باز: (أجمَعوا على أنَّ مَن زَعَم أنَّه يجوزُ لأحَدٍ مِنَ النَّاسِ الخُروجُ عن شريعةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو تحكيمُ غَيرِها؛ فهو كافِرٌ ضالٌّ)
[285] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/ 269). .
3- الدَّعوةُ إلى تَرْكِ تحكيمِ شَرْعِ اللهِ، وإلى التَّحاكُمِ بالقوانينِ الوَضعِيَّةِ.قال اللهُ تعالى:
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] .
قال
الشِّنقيطيُّ: (الظَّاهِرُ المتبادِرُ مِن سياقِ الآياتِ أنَّ آيةَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ نازِلةٌ في المسلمينَ؛ لأنَّه تعالى قال قَبْلَها مخاطِبًا لمُسلِمي هذه الأمَّةِ:
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [المائدة: 44] ، ثم قال:
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فالخِطابُ للمسلِمينَ كما هو ظاهِرٌ متبادِرٌ مِن سياقِ الآيةِ، وعليه فالكُفرُ إمَّا كُفرٌ دونَ كُفرٍ، وإمَّا أن يكونَ فَعَلَ ذلك مُستَحِلًّا له، أو قاصِدًا به جَحْدَ أحكامِ اللهِ ورَدَّها مع العِلْمِ بها.
أمَّا مَن حَكَم بغَيرِ حُكمِ اللهِ، وهو عالمٌ أنَّه مُرتكِبٌ ذَنبًا، فاعِلٌ قبيحًا، وإنَّما حمله على ذلك الهوى؛ فهو من سائِرِ عُصاةِ المسلمين، وسياقُ القُرآنِ ظاهِرٌ أيضًا في أنَّ آيةَ:
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ في اليَهودِ؛ لأنَّه قال قبلها:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] .
فالخِطابُ لهم؛ لوُضوحِ دَلالةِ السِّياقِ عليه، كما أنَّه ظاهِرٌ أيضًا في أنَّ آيةَ:
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ في النَّصارى؛ لأنَّه قال قبلها:
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة: 47] .
واعلَمْ أنَّ تحريرَ المقامِ في هذا البَحْثِ أنَّ الكُفرَ، والظُّلمَ، والفِسْقَ، كُلُّ واحدٍ منها ربَّما أُطلِقَ في الشَّرعِ مُرادًا به المعصيةُ تارةً، والكُفرُ المُخرِجُ مِن المِلَّةِ أُخرى، ومَنْ لم يحكُمْ بما أنزَلَ اللهُ؛ مُعارضةً للرُّسُلِ، وإبطالًا لأحكامِ اللهِ، فظُلْمُه وفِسْقُه وكُفْرُه، كُلُّها كُفرٌ مُخرِجٌ عن الملَّةِ، ومن لم يحكُمْ بما أنزلَ اللهُ، مُعتَقِدًا أنَّه مرتَكِبٌ حرامًا فاعِلٌ قبيحًا، فكُفْرُه وظُلمُه وفِسْقُه غيرُ مُخرِجٍ عن المِلَّةِ، وقد عَرَفْتَ أنَّ ظاهِرَ القُرآنِ يدُلُّ على أنَّ الأُولى في المسلمين، والثَّانيةَ في اليهودِ، والثَّالِثةَ في النَّصارى، والعِبْرُة بعُمومِ الألفاظِ لا بخُصوصِ الأسبابِ)
[286] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/ 407). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الحَلالُ ما حَلَّله اللهُ ورَسولُه، والحَرامُ ما حَرَّمه اللهُ ورَسولُه، والدِّينُ ما شَرَعَه اللهُ ورَسولُه؛ وليس لأحَدٍ أن يَخرُجَ عن شَيءٍ مِمَّا شَرَعه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الشَّرعُ الذي يجِبُ على وُلاةِ الأمرِ إلزامُ النَّاسِ به... ومتى تَرَك العالِمُ ما عَلِمَه مِن كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه، واتَّبَع حُكمَ الحاكِمِ المخالِفَ لحُكمِ اللهِ ورَسولِه؛ كان مُرتَدًّا كافِرًا يستَحِقُّ العُقوبةَ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ قال تعالى:
المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 1 - 3] )
[287] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/ 372). .
وقال
ابنُ باز: (الحُكَّامُ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ أقسامٌ، تختَلِفُ أحكامُهم بحَسَبِ اعتِقادِهم وأعمالِهم؛ فمَن حَكَم بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ يرى أنَّ ذلك أحسَنُ مِن شَرْعِ اللهِ، فهو كافِرٌ عند جميعِ المسلمينَ، وهكذا من يُحكِّمُ القوانينَ الوضعيَّةَ بَدَلًا مِن شَرْعِ اللهِ، ويرى أن ذلك جائِزٌ، ولو قال: إنَّ تحكيمَ الشَّريعةِ أفضَلُ؛ فهو كافِرٌ؛ لكَونِه استحَلَّ ما حَرَّم اللهُ.
أمَّا مَن حَكَم بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ؛ اتِّباعًا للهوى، أو لرِشْوةٍ، أو لعَداوةٍ بيْنه وبيْن المحكوِم عليه، أو لأسبابٍ أُخرى، وهو يعلَمُ أنَّه عاصٍ للهِ بذلك، وأنَّ الواجِبَ عليه تحكيمُ شَرْعِ اللهِ- فهذا يعتَبَرُ مِن أهلِ المعاصي والكبائِرِ، ويُعتَبَرُ قد أتى كُفرًا أصغَرَ وظُلمًا أصغَرَ وفِسقًا أصغَرَ، كما جاء هذا المعنى عن
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، وعن طاوسٍ، وجماعةٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالحِ، وهو المعروفُ عند أهلِ العِلْمِ)
[288] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (4/ 416). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الحُكمُ بما أنزَلَ اللهُ تعالى: من توحيدِ الرُّبوبيَّةِ؛ لأنَّه تنفيذٌ لحُكمِ اللهِ، الذي هو مقتضى رُبوبيَّتِه، وكَمالُ مُلكِه وتصَرُّفِه؛ ولهذا سَمَّى اللهُ تعالى المتبوعين في غيرِ ما أنزَلَ اللهُ تعالى أربابًا لمتَّبِعيهم، فقال سُبحانَه:
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـهًا وَاحِدًا لَا إِلَـهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، فسَمَّى اللهُ تعالى المتبوعين أربابًا؛ حيثُ جُعِلوا مُشَرِّعين مع اللهِ تعالى، وسَمَّى المتَّبِعين عُبَّادًا؛ حيثُ إنَّهم ذَلُّوا لهم وأطاعوهم في مخالَفةِ حُكمِ اللهِ سُبحانَه وتعالى)
[289] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (6/ 158). .
ومَن كَرِهَ شَرْعَ اللهِ فقد كَفَر؛ لِقَولِه تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 9] [290] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبدالبر (4/226)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/97) (3/267) (7/67-72)، ((تفسير ابن كثير)) (3/131)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/446)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 469)، ((القول المفيد)) لابن عثيمين (2/157)، ((رسالة نواقض الإيمان القولية والعملية)) لعبد العزيز آل عبداللطيف (ص: 294-343). .
قال
الشِّنقيطيُّ: (هؤلاء الذين يَكرَهونَ ما أنزَلَ اللهُ يجِبُ على كُلِّ مُسلمٍ أن يحذَرَ كلَّ الحَذَرِ مِن أن يُطيعَهم في بَعضِ أَمْرِهم؛ لأنَّ ذلك يستلزِمُ نتائِجَ سَيِّئةً متناهيةً في السُّوءِ، كما أوضَحَ تعالى ذلك في قَولِه:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم [محمد: 24-28] ؛ فعلى كُلِّ مُسلمٍ أن يحذَرَ ثمَّ يحذَرَ ثمَّ يحذَرَ كُلَّ الحَذَرِ مِن أن يقولَ للذين كَفَروا، الذين يكرَهونَ ما أنزَلَ اللهُ: سنُطيعكم في بعضِ الأمرِ؛ لأنَّ ذلك يسَبِّبُ له ما ذكَرَه اللهُ في الآياتِ المذكورةِ، ويكفيه زجرًا ورَدْعًا عن ذلك قَولُ رَبِّه تعالى:
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد: 27] إلى قَولِه:
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 28] )
[291] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 63). .
وقال
الشِّنقيطيُّ أيضًا: (اعلَمُوا -أيُّها الإخوانُ- أنَّ الإشراكَ باللهِ في حُكْمِه والإشراكَ به في عبادتِه كِلاهما بمعنًى واحدٍ، لا فَرْقَ بينهما البتَّةَ؛ فالذي يَتْبَعُ نِظامًا غيرَ نِظامِ اللهِ، وتَشريعًا غيرَ ما شَرَعَه اللهُ، وقانونًا مخالِفًا لشَرعِ اللهِ مِن وَضْعِ البشَرِ، مُعرِضًا عن نورِ السَّماءِ، الذي أنزَلَه اللهُ على لِسانِ رَسولِه؛ من كان يفعَلُ هذا: هو ومن يعبُدُ الصَّنَمَ ويَسجُدُ للوَثَنِ لا فَرْقَ بينهما البتَّةَ بوَجهٍ من الوُجوهِ؛ فهُما واحِدٌ، فكِلاهما مُشرِكٌ باللهِ؛ هذا أشرَكَ به في عبادتِه، وهذا أشرَكَ به في حُكْمِه، والإشراكُ به في عبادتِه، والإشراكُ به في حُكْمِه: كلِاهما سواءٌ، وقد قال اللهُ جَلَّ وعلا في الإشراكِ به في عبادتِه:
فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] ، وقال في الإشراكِ به في حُكْمِه أيضًا:
لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 26] ، وفي قراءةِ ابنِ عامرٍ مِنَ السَّبعةِ:
وَلَا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا بصيغةِ النَّهيِ المُطابِقةِ لِقَولِه:
وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] ، فكِلاهما إشراكٌ باللهِ؛ ولِذا بَيَّن النَّبيُّ لعَدِيِّ بنِ حاتمٍ أنَّهم لَمَّا اتَّبَعوا نظامَهم في التحليلِ والتحريمِ، وشَرْعَهم المخالِفَ لشَرعِ اللهِ؛ كانوا عَبَدةً لهم، مُتَّخِذيهم أربابًا. والآياتُ القرآنيَّةُ في المصحَفِ الكريمِ المصَرِّحةُ بهذا المعنى: لا تكادُ تُحصِيها)
[292] يُنظر: ((العذب النمير)) (5/441). .